الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الارتياب السني

عباس بوصفوان
(Abbas Busafwan)

2024 / 4 / 4
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


الفصل الثامن من كتاب: "البحرين 1923: نقدٌ منهجيٌ للسّرديّة السّائدة عن عِشرينيّات القرْن العِشرين" لـ عباس بوصفوان

الفصل الثامن:
الارتياب السني

أوّلاً: الاعتراضات السنيّة

بحسب المستندات المتاحة، فإنّ "وثيقة أكتوبر" السنيّة لم تطالب برحيل الإنجليز، ولم تطالب بتقليص العلاقة معهم، ولم تدع إلى عودة الإقطاع، ولم ترفض تعيين حَمَد حاكماً، لكنها دعمت بوضوح استمرار النظام الظالم للغوص، وهو أمر وافق عليه الإنجليز، بيْد أنّ ذلك لن يمنع البريطانيين، الذي عيّنوا حاكماً جديداً، من معاقبة المعارضين القدماء لـ "إصلاحات" الجمارك، مثل عبدالوهاب الزياني وأحمد بن لاحج، فالإنجليز هم الذين يحددون نوعيّة التدخل وحدوده.

وسبق للزياني وبن لاحج، اللذين شكّلا واجهة لابن علي، وشخصيات خليفيّة وسنيّة أخرى، أن دعوا إلى "سحب اختصاصات السلطات البريطانية من دائرة الجمارك، لأنها أضرّت بمصالحهم التجاريّة، وفي المقابل فتحت المجال واسعاً أمام التجار الهنود" ، وها هم يعبّرون بصوت عال عن دعم عيسى بن علي بعد نزع صلاحياته، رغم تأييد وثيقة 26 أكتوبر للحاكم الجديد.

نميل إلى القول بأن اعتقال الزياني وبن لاحج في شهر نوفمبر، والذي وضع حداً للاعتراضات السنية على إجراءات الإنجليز، أتى لعدم التزامهما بالوثيقة المذكورة، والتي نفترض أنّ العائلة الحاكمة والإنجليز كانا طرفاً في الإعداد لها، والتي قبلت بحَمَد حاكما، وأكّدت حق الإنجليز في الإدارة والسيطرة، وبعد صدور الوثيقة التي أعطت الإنجليز أهم ما أرادوا، أصبح المعارضون لأهم ما ورد فيها مُتمرّدين، فالعقاب في رأينا يتصل بعدم التزام الزياني وبن لاحج بنتائج اجتماع ووثيقة أكتوبر، سواء كانا يدركان ما وقّعا عليه أم لا.

وليس من المفاجئ أن تصوّر الأجهزة البريطانيّة المُهيمنة وجهة نظرهما المعلنة، على أنهما مُحرّضان ضد الحاكم الجديد والإنجليز، وأنهما يجمعان الأموال ويعدّون العُدة للقيام بعمليات أمنيّة وتخريبية، لقد كانا إضافة إلى ما سبق درسا لغيرهم، وسيكون من الصعب الاعتقاد خلو الشارع الشيعي من معارضين نخبويين لإجراءات نوكس، لكن لا علم لي عن وجود توثيق مفصل لهذا المشهد. وموقف الرجلين المذكورين مختلف عن الدواسر، فهؤلاء منحوا ضوءاً أخضر من قبل الحاكم المعزول بشن هجمات على بعض القرى الشيعيّة.

ثانياً: الانتصار للحاكم المتولّي أم المُنَحَّى

تختلف حدة الرّفض الخليفي - السُّني للإجراءات البريطانيّة من بند إلى آخر، وإذا أخذنا مفردة تعيين حاكم جديد، فقد تمسّكت بعض الأطراف الخليفية والسّنية بعيسى بن علي حاكما، من الناحية الكلامية، فيما بايعت الأغلبية الكاسحة من تلك النخبة الشيخ حَمَد، ووضعوا ثقلهم في سلته.

على أي حال، تشدد "وثيقة أكتوبر" السنية، على "أهمية المحافظة على الروابط والعلاقات البريطانية"، في ظل النقاش بشأن تعيين حاكم بآخر، وتنتهي إلى قبول الحاكم المُنصّب صراحة لا ضمنا، ذلك أن الموقعين على الوثيقة لا يعترضون على تسلم حَمَد مقاليد الحُكم في حال "أراد الشيخ عيسى بن علي أن ينيب ابنه الشيخ حَمَد فلنا عليه ما لنا على والده" ، إنه تأييد علني لأحد أهم المراسيم التي أصدرها الإنجليز.


على الأرجح، فإن الشعارات المتصلة برفض إحالة الحاكم ابن علي للتقاعد رفعت عنوانا للمواجهة، بيد أنّها لم تكن على قمة الأولويات للحكم ومواليه، فقد احتفظ عيسى بن علي بمسماه شيخ البحرين، دون صلاحيات، حتّى وفاته في 1932، فيما كان نجله، الحاكم الجديد، يعمل بصفته مفوضاً عن أبيه، وجرى التفاهم حول ذلك داخل الدّائرة الضيقة للحكم، بقيادة ولي العهد حَمَد، وأخوه عبدالله الذي كان يُصنّفُ متشدداً ضد الإجراءات، وهذه تصنيفات يجدر التعاطي معها بحذر بالغ، ومعرفة منابع التشدد والاعتدال وغيرها من التوصيفات المعلبة.

من ناحية أخرى، دفعت المطالبة السّنية المعتدلة والمحدودة، بإبقاء ابن علي في منصبه، البحارنة لتجديد تأييدهم لحَمَد حاكماً، وهذا مكسب إنجليزي وخليفي كبير.


ثالثاً: السُّنة بين خليفة بن سلمان وعيسى بن علي

في محاولة لفهم سلوك النخبة السنيّة في العام 1923، سأقارن وباقتضاب شديد، موقف تلك النخبة من التغييرات التي تمت في العام 2001، والتي قادها الملك حَمَد، الذي وصل إلى السلطة في 1999، مع ملاحظة أن أغلبيّة الموالاة من السّنة، وأغلبيّة المعارضة من الشيعة، تماما وفق ما رسمه نوكس، ذلك أنّه من غير المنطقي توقع عدم وجود شخصيات بحرانية مؤيدة للحكم حتى في ذروة الحقبة الأكثر سوداوية التي سبقت إزاحة ابن علي، أو عدم وجود شخصيّات سُنية، وقتئذ، داعمة لإقامة نظام صالح ويراعي مصالح الأمّة بتنوعاتها.

فإذا كان لي أن أصف سلوك النّخبة السُّنية القلقة مما كانت تظنه مستقبلاً ضبابياً بعد "إعلان نوكس" وإزاحة ابن علي، فيمكن تشبيهه بالإرباك والتوتر وانعدام اليقين التي سيْطر على تفكير الموالين تزامنا مع تدشين الحاكم الجديد، حَمَد بن عيسى آل خليفة، مشروعه السياسي في فبراير 2001.

حينها بدت الأطراف السنيّة الفاعلة، من اخوان مسلمين وسلفيين وليبراليين ونخبة تجارية وعوائل نافذة، قلقة من تشكيل حَمَد تحالفاً مع المعارضة، يخل بالتوازنات القديمة التي وضعها نوكس.

كان القادم الجديد إلى القصر يلتقي جميع الأطراف الوطنيّة، ويتحدث بحرارة عن عودة دستور 1973، وإطلاق الحريّات الصحافيّة، والحق في التنظيم النقابي والسياسي، وإقامة برلمان منتخب يحوز صلاحية واسعة في التشريع والرقابة، وبالتالي فقد يكون الرّجل جاداً في مقولاته المجاملة للمعارضة، ووعوده الباذخة عن "أجمل الأيام التي لم نعشها بعد"، والتي رفعها إبّان إعداد "ميثاق العمل الوطني"، والشهور التالية، أي بين ديسمبر 2000 ـ يناير 2002، هذا الموقف المرتاب هو أقرب ما يكون عليه حال النخبة السُّنية في العِشرينيّات من القرن الماضي.

وأظن أنه يصحُّ تشبيه تموضع رئيس الوزراء السابق خليفة بن سلمان (1935- 2020) إبّان مرحلة 2001 والسنوات التي تلتها، بحال عيسى بن علي وموقفه، في مرحلة العِشرينيّات، وكل منهما كان قابضاً على السّلطة وممسكاً بزمام المبادرة لسنوات طويلة، وكلاهما ساير الإجراءات التي قادها الملك حَمَد في الألفية الجديدة، والإنجليز قبل ذلك، لكن تلك الإجراءات لم تكن خيارهما المفضل، ثم أفضت إلى إبعادهما من موقع القرار.

وفي الحالتين، تحالفت النخبة السنيّة كلامياً مع خليفة بن سلمان وعيسى بن علي، وفعلياً تحالفوا مع الحاكميْن الجديديْن.

رابعاً: "تحالف" الشيعة مع الحَمَدين في 2001 و1923

بدا الشيعة في حال من النشوة مع إعلان الحَمَدين، مشاريعهم السياسية، في 1923، وفي 2001، وفي الحالتين انتهى الزّواج المؤقت إلى نزاع حاد، فقد تحالف الحَمَدان مع الشيعة في بداية الأمر، كي يحصلا على الشرعيّة، ويحدثا توازنا مع الطرف السني القلق، ثم انقلبَ الحَمَدان على داعميهم، وعادا إلى الحِلْف التقليدي الخليفي - السني، وهكذا استمرت قواعد نوكس تحكُم المشهد.

لقد عمَّ الارتياح النخبة السنية الموالية بعد صدور دستور مملكة البحرين (فبراير 2002)، وقد هشم نصه الرديء والأحادي العلاقة بين القصر والمعارضة، وزاد من سوء الظنون بينهما، مع اتضاح أبعاد المناورة التي كان يقوم بها الملك، فقد استهدفت إجراءاته إعادة هيكلة السلطة وتركيزها في يديه، وليس حول رئيس الوزراء السابق، خليفة بن سلمان، (شغل منصبه بين 1971- 2020)، أو حول المؤسسة التشريعية كما تمنّت المعارضة، الأمر الذي يذكّر بما سعت إليه إجراءات العِشرينيّات من إعادة هيكلة السلطة وجعلها في يد حكومة المُعتَمَد السياسي، وواجهتها الخليفية، بقيادة الشيخ حَمَد، بينما تمنى الشيعة أن تُحدث الإجراءات، في الحالتين، فارقاً جوهرياً في تركيبة النظام السياسي، وتسمح للشيعة بالعمل السياسي كشركاء كاملي الأهليّة كغيرهم من مواطني الجُزُر.

خامساً: السُّنة ومعارضة الحَمَدين

مع وصول حَمَد إلى السلطة، في 1923، قام الإنجليز، أولاً، بتفتيت مراكز القوى الخليفيّة والسنيّة المُلتَفّة حول الحاكم المعزول. ثم قاموا، ثانياً، بإعادة تركيبها لتكون موالِية للحاكم الجديد، وهذا ما كان عليه الحال مع الملك حمد، في 1999، وما بعدها. وفي جميع الحالات، لم يتم الاعتماد على البحارنة في الدوائر الضيّقة للحُكم.

أما في المراحل الفترة الانتقاليّة، في 1923، أو 2001، وحتى في مطلع السبعينيّات، فعادة ما تعمل الأسرة الحاكمة على تعزيز التواصل مع الشيعة، ريثما يعزز الحاكم سطوته، وريثما يتم إعادة اصطفاف القوى السنيّة، وجعلها متمركزة حول الحاكم الجديد، أو المرحلة الجديدة.

إذاً، يصح الحديث عن قلق سني من تداعيات "ميثاق العمل الوطني"، وقد قاموا بتحركات نشطة لضمان مصالحهم، بيد أنه لا يستقيم القول بأنّهم وقفوا ضد إجراءات الملك حَمَد على الملأ، بالنظر إلى العلاقات المديدة بين القصر والموالين، الحريصين على استمرار العلاقة مع القادم الجديد للسلطة.

وكذلك الوضع في 1923م، فالأغلبية من النخبة السنية سايرت إجراءات نوكس، لكنها كانت من دون شك قلقة من مآلاتها، ولم تقف مكتوفة اليد إزاء ذلك، لكنها كانت حريصة على عدم تصدع الحِلْف مع الأسرة الحاكمة التي حسمت أمرها بمبايعة حَمَد وخلع عيسى.

وفي نهاية خطابه، يكتب نوكس، الملاحظة التالية: "رُحّب بهذا الخطاب، وبدا الشيخ حَمَد حقا مسروًرا به، على الرغم من أنّه قد يكون مستاًء من بعض هذا الكلام الصريح والعلني. وحتى يوسف بن أحمد كانو، ناقدنا اللاذع، قد تحّمس، وقال إنّه كان ينبغي على حَمَد أن يقّبل يدي وجبيني للنصيحة التي قدمتها باللغة العربية" .

سادساً: البريطانيّون وتهدئة المخاوف السّنيّة

عَمِلَ المُقيم السّياسي، نوكس، على تهدئة روع النخبة السّنيّة من التغييرات المعلنة في مايو 1923، وأبدى تفهما لشعورهم بالأسى "لغياب حاكم سُنيّ حكم لسنواتٍ طويلة"، وقدم تطمينات مدعومة من قبل المُعتَمَد السّياسي، ديلي، والشيخ حَمَد، وأخوه عبدالله بأنّ "الإجراءات والتدابير الإصلاحية المتخذة ستقود إلى "ارتقاء المجتمع السُّني وتقدّمه"، و"التطلع إلى مستقبلٍ سعيد ومشرق" لأبنائه، الذين عليهم، كما على الحاكم الجديد تفادي "العُزلة، وعدم البُعد عن المجتمعات الأخرى"، كي لا يصبحوا "متخلفّين عن الأجانب" الذين زادت أعدادهم وثرواتهم بشكل ملحوظ، وقتئذ ، ومصطلح العزلة هذا يحتاج إلى تفكيك ودرس.

وبشكل عام، فإن الولاء السُّني للحكم الخليفي ليس مجانياً، وعلى الأسرة الحاكمة منحهم مكاسب سياسية واقتصادية كي تضمن استدامة ولائهم .
لاحقاً، في عقود لثلاثينيات وما تلاها، وخصوصاً في الخمسينيات، ومع المد القومي، تحوّل عدد من الرموز السّنية إلى قيادات في الحركة الوطنية المطالبة بالإصلاح السّياسي.

هذا يكشف، أنّ تنفيذ الإنجليز لخططهم لم تكن مهمة سهلة، بيْد أنّ الأطراف المتنافسة، الخليفيّة والسّنية، كانت دائما حريصة على الالتزام بالسّقف الإنجليزي، مع ما يتيحه من مساحة مناورة.

فيما الجدل الدّاخلي محتدم بشأن تفاصيل يراها أهل الجُزُر مهمة، تم تغييب المرامي البريطانيّة الكبرى، وفي تحويل الجُزُر إلى مستعمرة، وفي كل ما سبق يجد الإنجليز مزيداً من التبريرات لتدعيم قبضة النظام القبلي بدعوى الخشية من الانفلات الأمني، والقلق من البديل الشيعي غير المُختبر وغير المفكر فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها