الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا السَّاخرَ مِنْ أَنَاهُ

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2024 / 4 / 5
الادب والفن


وَسْطَ هذا الكَمِّ المَهولِ مِنَ القَتلِ تُسائِلُنا ذَوَاتُنا، وذَواتُ غَيْرِنا، المُساءلةَ نَفسَها التي تُقامُ كُلَّما نَزَلتْ بِأُمَّةٍ إحدى النَّازِلاتِ الثَّقيلِ نُزُولُها بِنا والطَّويلِ مكُوثُها فينا: «أَنَّى لَنَا، وَسْطَ كُلِّ هذا القَتلِ، أَنْ نَجِدَ سَبيلًا لأنْ نَسْخَرَ؟!». لستُ أَعْتِبُ على المُسَائِلِ في مُساءَلَتِه، إذْ ليسَ لي، أنا السَّاخرَ مِنْ أَناهُ، أنْ أَعتِبَ أبدًا، فالعَتَبُ مِنْ سُنَنِ الآخِذينَ الدُّنيا بِجِدٍّ هوَ أقربُ إلى الهَزْلِ لِشِدَّةِ جِدِّيَّتِه. بيدَ أنِّي أجِدُ في نَفسي حَرَجًا مِنْ أَنْ أكونَ ساخِرًا إلى هذا الحدِّ فلا أجِدُ بُدًّا مِنْ إعادةِ تبريرِ سُخريتَي، لنَفسي، تبريرًا مَهما بَلَغَ في قُبْحِه يبقى أَقَلَّ قُبحًا مِنَ «الذنب»، فأقولُ وأنا بكاملِ سُخريَتي:

بل لأنَّنا في وَسْطِ هذا الكَمِّ المَهولِ مِنَ القَتلِ نَسْخَرُ! نَسْخَرُ مِمَّا حولَنا ومِمَّا في أَنفُسِنا؛ مِنْ حياتِنا وموتِنا؛ مِنْ ماضينا ومُستقبلِنا؛ مِنْ طُغاتِنا وأعدائنا؛ مِنْ إرادَتِنا وقَدَرِنا، بل مِنَ الإرادةِ والقَدَرِ أحيانًا؛ مِنَ الإنسانِ والشَّيطانِ؛ مِنَ الجِدِّ والهَزْلِ؛ مِنَ الحُبِّ واللَّامُبالاة؛ مِنَ الرَّحمةِ والكراهيةِ؛ مِنَ المَشاعرِ والأفكارِ؛ مِنَ السُّخْرِيَةِ نَفسِها؛ نَسْخَرُ مِنْ كُلِّ شيءٍ تقريبًا، وعلى وَجْهِ الخُصوصِ مِنْ كُلِّ هذه الثُّنائيَّاتِ التي تُشكِّلُ رُوحيَّةَ الحياةِ خاصَّتِنا، لأنَّ الذي صِرنا إليه هو واقعٌ أَقصوِيٌّ في أُحادِيَّتِهِ لا مكانَ فيه لِما يُشكِّلُ مَثنويَّةً مَعَهُ؛ واقعٌ هو أقصى وأقسى ما يُمكنُ أنْ نَكُونَه، مِنْ حيثُ أنَّنا حَشْدٌ غَفيرٌ مِنْ بَني «الإنسان». كأنَّ السُّخرِيَةَ صارتْ سَبيلَنا الوَحيدَةَ للتَّفاعُلِ معَ الكارثةِ في حَضرَةِ عَجْزِنا المَهولِ الذي يَعْدِلُ في كارِثِيَّتِه الكَارثَةَ نَفسَها.

الأمرُ يُشبِه العَزْفَ في الجَنائزِ والحَديثَ إلى المَوتى؛ يُشبِهُ الكِتابةَ، الشِّعرَ، الرَّسْمَ، التَّصويرَ الفوتوغرافيَّ، الأفلامَ التَّاريخيَّةَ، وغَيرِ هذا مِنْ أنواعِ الفَنِّ التي تُبقي لَنَا مِساحةً واسعةً للتَّصَرُّفِ بالواقعِ كما نَتَخيَّلُه! بلى، ليسَ كما نراهُ، بل كما نَتَخيَّلَهُ. كُلُّ هذا محاولةٌ مِنَ الرُّوحِ فينا لتُعبِّرَ عَنْ أَبَدِيَّتِها؛ عَنْ آلامِها وآمالِها؛ عَنْ حقيقتِها المَسجونةِ خلفَ الوَهْمِ. وفي سبيلِ مُحاولةٍ جديرةٍ كهذه لا تَجِدُ الرُّوحُ مِنْ حَرَجٍ في تَكليفِ الجَسَدِ فَوْقَ وُسْعِه في كِفاحٍ دائمٍ للهَرَبِ مِنَ الفَنَاءِ؛ كِفاحٍ لا ننتصرُ فيه إلَّا حينَ نموتُ ويَبقى كِفاحُنا، لا لشيءٍ إلَّا لأنَّ الفَوْزَ والهَزيمةَ لا يَتِمُّ وجودُهُما قبلَ انتهاءِ اللُّعبة. هكذا هي سُخريَّتُنا مِنْ ذواتِنا وما يَتَعلَّقُ بها؛ هي سبيلُنا الوَحيدةُ لنَبقى؛ لِنَمضي في طَريقٍ كُلُّنا يَعرفُ أنَّ المُضِيَّ فيها عَمَلٌ شاقٌّ عَليْنا لأنَّها طَريقُ البَقاءِ على قَيْدِ الحَياةِ لا على قَيْدِ العَيْشِ. نَسْخَرُ لأنَّنا عاجزونَ عَنْ أيِّ عَمَلٍ مُضادٍّ لكُلِّ ما يُرتَكَبُ فينا مِنْ مَقَاتِلَ في كَرْنَفالِ الجُنونِ الدَّموَيِّ الذي تُقيمُه، على أشلائنا، حِفْنَتَانِ حَقيرَتانِ مِنَ المُجرِمينَ الذين يَتصارعونَ «مِنْ أَجْلِنا» وبِنا وعَلَيْنا في آنٍ واحدٍ. هذا الكَرنَفالُ الذي لا يُحِبُّ إلَّا دَمَنا ورائحةَ أجسادِنا المُحترِقَةِ بالزِّفتِ والنَّفْطِ. أَسْتَغْفِرُ الحقيقةَ؛ ليسَ الكَرنفالُ مَنْ يُحِبُّ هذا، بل أولئكَ المُجرِمونَ الذين لا نُحِبُّ أنْ نَتْرُكَ حَيِّزًا ضَئِيلًا دونَ أَنْ نُمطِرَهُم فيه بأَفتِكِ أسلحتِنا، نحنُ العاجزينَ، وأَمضَاها قَتلًا لَهم ولنا على حدٍّ سَواءٌ؛ إنَّها السُّخرِيَةُ، سُخرِيَّتُنا مِنْهُم ومِنَّا!

أَشْعُرُ أنَّني أعيشُ في مَسْلَخٍ للُّحومِ البَشَرِيَّةِ؛ أُراقِبُ مَنْ يُذَبَّحُ مِنْ «إخْوَتي» وأَنتَظِرُ دَوْري! لَكنِّي مِنْ فَرْطِ عَجزي عن أيِّ شيءٍ قد يُفعَلُ إزاءَ ذلكَ أجِدُني أسْخَرُ مِنَ القَتْلِ والقتَّالِ إلى الحَدِّ الذي أُشْفِقُ فيه على قَاتِلي لِفَرْطِ جِدِّيَّتِه؛ مِسكينٌ أنتَ يا قاتِلي، أكُلُّ هذا الجِدِّ مِنْ أَجْلِ قَتْلِي؟! لو أنَّكَ، يا مِسكينُ، وَظَّفْتَ جِدَّكَ هذا في الدِّعايةِ والدَّعوةِ إلى الإنتحارِ لكُنتُ انتحرتُ وكَفَيْتُكَ جُهْدَ قَتلي. أما تَدْري أنِّي عَرَبيٌّ مُنذُ أكثرَ مِنْ مِئةِ سَنَة؟! على أيِّ حالٍ؛ أَجَادٌّ أنتَ في قَتْلِكَ أم أنَّكَ قاتِلٌ في جِدِّيَّتِكَ؟!

السُّخْرِيَةُ مِنَ الكارثةِ، الواقعةِ أو المُتوقَّعةِ، تُشعرُنا بأنَّنا أقوى مِنها، أو على وَجْهِ الدِّقَّةِ تُشْعِرُنا بأنَّ الذي نَسخَرُ مِنه أَضعَفُ مِنَّا، فنُعوِّضُ بذلكَ عَنْ النَّقْصِ المُتولِّدِ مِنْ عَجْزِنا. لكنَّ البائسَ في الأمر أنَّنا في حالةِ سُخريةٍ دائمةٍ إذْ يُولدُ أحدُنا ساخِرًا ويَموتُ ساخِرًا ويُقْبَرُ في حَشْدٍ يَضِجُّ بالسَّاخِرينَ مِنَ المَوْتِ، وأحيانًا مِنَ المَيِّتِ!

ما هذا الجُنونُ؟! ما هذه الأمَّةُ السَّاخرةُ مِنْ كوارثِها؟! مَتى نُدركُ أنَّ تَبريرَ سُخْرِيَةِ الأُمَّةِ مِنْ آلامِها وَهْمٌ قَتَّالٌ؛ قاتلٌ مِنْ نوعٍ خاصٍّ جِدًّا؛ قاتلٌ يُخدِّرُ القَتيلَ حتَّى يَنامَ ثُمَّ يَقتلُه على مَهْلٍ. لِماذا نأخذُ كُلَّ شيءٍ ساخرين به ومِنْه؟! مَتى نَعي أنَّ السُّخريةَ مِنَ الكَوارثِ التي كُرِثْنا بها ليستْ دَالَّةً على عَجْزِنا وحسب، بل أيضًا على وَعْدٍ مُرعبٍ بطُولِ العَجزِ واستحكامِه فينا؟! أليسَ يَكْفِينا أنَّنا تَحوَّلْنَا مِنْ أُمَّةٍ ساخرةٍ إلى أُمَّةٍ مَسخورٍ مِنْها؟!

أظنُّ أنِّي نسيتُ تَعريفَ ما أقصِدُه مِنَ السُّخريَةِ!يا لَلسُّخرِيَة! في الحالِ التي صِرنا إليها اليومَ لا أظنُّ أنَّ السُّخْرِيَةَ تَعني سوى لامُبالاتِنا وحِيادِنا تِجاهَ أزماتِنا؛ إذَّاكَ تُصبِحُ السُّخريَةُ هذه جريمَتَنا التي لا نَتَرَدَّدُ في ارتكابِها ساخِرين مِنْها ومِنَّا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي


.. الأسطى عزيز عجينة المخرج العبقري????




.. الفنانة الجميلة رانيا يوسف في لقاء حصري مع #ON_Set وأسرار لأ