الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح الذات: كانَ شتاءً كئيباً

دلور ميقري

2024 / 4 / 5
الادب والفن


1
قبل ليلة الكريسماس بنحو أسبوع، وجدَ نفسه، مرة أخرى، في عاصمة البلاشفة. موسكو، كانت حينئذٍ تتخلص من ذكرياتها المنكودة، بإصرار وبسرعة مذهلة. كانَ قد مضى زهاء سبع سنوات على مغادرة دارين لها، هيَ مَن كانت حينئذٍ تحبو على أرجل البيرسترويكا والغلاسنوست. الإصلاح والصراحة، كانا مبدأ ذلك الرجل، الذي سيغيّر خريطة العالم السياسية؛ عالم، على أبواب الألفية الجديدة. في المقابل، وجدَ دارين روسيا الجديدة وهيَ تطفو على بحيرةٍ من العوز والبؤس والفاقة والإضطرابات العرقية. مخازن العاصمة والمدن الأخرى، خوت من المواد التموينية، وجيوش من المتسولين والمتشردين غطوا الشوارع الأنيقة، المجللة بالثلوج، فيما عمد المتقاعدون إلى بيع حاجاتهم الشخصية كي لا يهلكوا جوعاً. وكانت هذه فرصة للرأسمالية العالمية، لقنص أرباح هائلة في الإستثمار ببلد غنيّ بالطاقة والموارد، تتحكم بإقتصاده طغمة من الفاسدين. حتى صعاليك الدول النامية، ممن صاروا يعرفون ب " تجّار الحقيبة "، أملوا هنا بالإرتقاء إلى مصافي التجار الكبار. أما الحقيبة نفسها، فإن دارين عاين محتوى أمثالها حينَ أخذوه من المطار إلى شقةٍ، أقامت فيها شقيقته مع أطفالها الثلاثة.
الشقة، كانت مكوّنة من حجرتيّ نوم وصالة، وجميعها على نفس الحجم الضئيل. مالك الشقة، وكان من ريف دمشق، رفضَ أخذ أيّ إيجار طالما أن هذه الأسرة موعودة قريباً بالوصول إلى السويد عن طريق المهربين. بهذه الأريحية، كأنما الرجلُ يكفّرُ عن إثم إستيلائه على الشقة. ولنقل أولاً، أنه بحسب النظام الشيوعيّ، لم يكن أحدٌ يمتلك مسكنه؛ وإنما هوَ مشاعٌ تمنحه الدولة لمن ترى أنه يستحقه. وعادةً، فأكثر من عائلة تقيم بنفس الشقة. وربما تجد فتاةً وحيدة ( أو عجوزاً ما )، مستأثرة بحجرة نوم، فيما الحجرة الأخرى والصالة يقطنهما عائلة غريبة من عدة أفراد. بمجرد بدء إنهيار هذا النظام، سارعَ المستأجرون لتثبيت ملكية مساكنهم. بل إن جرائم غامضة سجّلت في تلك الآونة، وغالبيتها للتخلّص من المستأجرين غير المرغوبين. " السيد فارس "، وكان قد إفتتح للتو مكتب إستيراد وتصدير، أغرى شاباً مدمناً على الكحول ببيع شقة مسجّلة باسم عمته. لقد عرضَ عليه مبلغاً خيالياً بالعملة الروسية ( وهيَ أوراق غير ذات قيمة )، جعله يوافق على الفور. بعد بضعة أيام، أبلغ أحدهم الشابَ أن ذلك المبلغ لا يُعادل أكثر من ثلاثة آلاف دولار. على ذلك، أخذ يتردد على الشقة كي يبتز بعض الروبلات من المالك الجديد لصرفها على الكحول. عندما حلّت شقيقة دارين في الشقة، كانَ المطلوب منها أن توهم ذلك السكّير بأنها المالكة الجديدة. بهذه الطريقة، إرتاح السيد فارس من الإبتزاز. الميزة الوحيدة للشقة، أنها لا تبعد عن مركز موسكو سوى ببضع محطات مترو. بعد زهاء عقدين، إرتفع سعر هكذا شقة إلى نحو مليون دولار.
في حقيقة الأمر، أنه في حالة شقيقة دارين، لم يكن ثمة حاجة لمهربين؛ وإنما لموظفٍ مرتشٍ في مطار موسكو الدوليّ. لأن دارين وصل للمطار وفي جيب سترته أربع باسبورتات سويدية تخصّ شقيقته الكبرى وأولادها الثلاثة. إن الشقيقتين على شبهٍ لافت، أما الأطفال فمسألة حظ؛ لو لم يتم تأمين الموظف المطلوب. حدثٌ طريف، جدّ في مطار موسكو، وفي المقابل، كانَ بمثابة شؤم. فإن دارين عوضاً عن تسليم باسبورته عند الكنترول، إذا به يسحبُ باسبورتَ شقيقته. تلافى فوراً ذلك الخطأ الخطير، فيما الموظفُ يطبع على شفتيه إبتسامة ساخرة.
صديقُ دارين، المدعو " سينو "، هوَ من تعهّد له من قبل بتدبير الموظف المرتشي حينما كانا يتواصلان عن طريق الهاتف. هذا الصديق، كانَ بدَوره قد أسسَ مكتب إستيراد وتصدير في قلب العاصمة؛ وتحديداً في أحد أجنحة " دار التقدم "، المشهورة بطباعة الكتب الروسية المترجمة إلى اللغة العربية. إنه بنفسه يحملُ دكتوراه بالصحافة، من جامعة موسكو، وكانَ يعدّ نفسه ليكون كاتباً. ولم يكن بلا مغزى، أن مساعده في المكتب كانَ فيما مضى سفيرَ الإتحاد السوفييتي في دمشق والقاهرة. كانَ المساعدُ رجلاً خمسينياً ذا شَعر أشيب، يُشبه نبلاء قصص تورغينيف؛ وقد وظف إبنتيه الشابتين في المكتب. في اليوم التالي لوصول دارين إلى موسكو، صادفَ أن كانَ في حجرة إستقبال المكتب، ثمة أينَ تواجد أيضاً بعضُ الضيوف. جيء عندئذٍ ذكرُ " مكرمة السيد الرئيس "، بمنح المغترب شهراً لزيارة سورية حتى لو كانَ متخلّفاً عن أداء الخدمة العسكرية. علّقَ دارين بالقول، متهكّماً: " يا له من قرارٍ حكيم وكريم! تصوروا أن المواطن السوريّ، يحق له تمضية شهر كامل في سورية فيما السائح يُمكن أن يبقى ما طابت له الإقامة! "
" بالطبع، بالطبع.. فكل الدول تلاحق من لا يؤدي الخدمة العسكرية "، قالها سينو متلجلجاً غامزاً صديقه. هذا الأخير، إنتبه عند ذلك لأحد الضيوف وهوَ ينظر إليه شزراً. سيعرفُ لاحقاً أنه موظفٌ مرموق في السفارة السورية، وعضو بارز في حزب البعث الحاكم. لسوء الحظ، أنه هوَ من كانَ قد إلتزم أمام سينو بمساعدة شقيقة دارين في مطار موسكو، كونه يعرف أحد الموظفين الكبار هناك.

2
فيما جدد سينو تعهّده بمساعدة شقيقة دارين، بتدبّر وساطة أخرى، فإنه دعاه مساءً للذهاب إلى دار النقابات، بغية السهر هناك. المكان، كانَ يُعرف قبلاً بدار الأعمدة، وعادةً ما يسجى فيه جثامين قادة الدولة السوفييتية لإلقاء النظرة الأخيرة عليهم من جموع المشيعين. أمام إستغراب صديقه من الدعوة الغريبة، أوضحَ سينو ضاحكاً: " لقد تحول المكان إلى أكبر دار قمار في المدينة، بعدما إشتراه ملياردير من لاس فيغاس الأمريكية ". لم يفاجأ دارين كثيراً عندئذٍ. فإنه في الطائرة، القادمة من ستوكهولم إلى موسكو، تباهى أمام جاره الروسيّ بمعرفته العميقة لأدب دستويفسكي. فقال له الرجل، الذي كان يعمل سابقاً حارساً لإحدى الغابات وأضحى مع الإنفتاح مساعداً لرجل أعمال: " لم يعُد ثمة في روسيا من قيمة، إلا للدولار ". وكرر الكلمة الأخيرة، كما لو أن بها سحرٌ أو تجلب جنيّ القمقم.
ثمة في مدخل قاعة القمار، وبموجب الأنظمة، إستعار كل منهما سترة فراك ذات ذيل، وأودعا معطفيهما الثقيلين في الأمانات. كانت هيَ المرة الأولى، يرى فيها دارين القاعة الرحبة، المزينة بعشرات الأعمدة الخشبية الملونة، وكلّ منها ذات نقوش مختلفة. كان هناك جمعٌ غفير من ذوي السترات السوداء، توزعوا على مناضد القمار العديدة؛ من بوكر وبلاك جاك وروليت. إلى هذه اللعبة الأخيرة، مضى سينو بصديقه كونهما من أشد المعجبين بأدب دستويفسكي؛ وبالطبع، روايته " المقامر "، التي كتبها بأقل من شهر. منضدة الروليت، كانت تديرها فتاة ذات ملامح جدّية ومهارة في العمل. على كرسيّ عال، يُشبه أمثاله عند كنتوار البار، تجلسُ فتاة أخرى تراقب اللعب. هذه الفتاة، شأن زميلاتها الأخريات، كانت ذات حُسن باهر؛ بحيث أن المرء يتهيّب من التمعّن في تفاصيله. وسينو للحق، كانَ بعيداً عن أي علاقة خارج إطار الزواج. كذلك صديقه، إلى حدّ ما. بقيَ الأول ينثر الدولارات على مذبح الروليت، إلى أن خسرها جميعاً. لكنه كانَ ما زال في أوج الرغبة بمواصلة اللعب، فذهب ليستدين من معارف كانَ قد تبادل التحية مع بعضهم حينَ دخل القاعة في بداية السهرة. شاهد دارين صديقه المقامر وهو يكتبُ إيصالاتٍ بالدَيْن، فأسفَ لما وصل إليه من إدمان المقامرة. إلا أن دهشته ستتعاظم، لما عرفَ بين أولئك الدائنين المسئولَ السابق لمنظمة الحزب الشيوعي السوري في الإتحاد السوفييتي. وقد عاد الرجلُ معهما في السيارة، فاستعادوا ذكريات الإجتماعات والإحتفالات والمكائد والإنشقاقات. سأله المسئول السابق، الذي ترجع أصوله لجبل الأكراد في اللاذقية: " أما زلتَ ترسم الكاريكاتير؟ ". ردّ دارين، بأنه إبتعد عن هذا المجال من الرسم، كون السياسة لم تعُد تثير إهتمامه. ضحك الرجل، قبل أن يقول: " أذكرُ الإحتفال بعيد الجلاء، عندما إحتج الطلبة البعثيون على بعض رسومك، المنددة بالطائفية، وكيفَ تدخل ضابط أمن السفارة لسحبها من المعرض. أتدري أن ذلك الموظف، قد أضحى وزيراً حين عاد إلى سورية؟ "
" ولِمَ العجب، وأنت نفسك تحولتَ من الشيوعية إلى نقيضها؟ "، تساءل دارين مبتسماً. هنا، أبدى سينو هذا الرأي الطائش: " من لم يكن شيوعياً قبل سنّ الثلاثين، فإنه حمارٌ. ومن يقيَ شيوعياً بعد الثلاثين، فإنه أيضاً حمارٌ! ". شاركه الصديقان شعور المرح، ومن ثم تواعدوا على اللقاء في صالة القمار في الليلة التالية.
في صباح اليوم التالي، بكّرَ دارين بالذهاب إلى مكتب صديقه. بين الضيوف، كانَ ثمة شابٌ ثلاثينيّ، يتميّز بلحية فاتحة اللون وعين حولاء. فعرفَ فيه طالباً بكلية الفنون بدمشق، يُدعى " هيمو "، أصله من إحدى بلدات الشمال الكرديّ. آنذاك، كان دارين يُقدم المساعدة لمُحْتَرف زوجٍ من الفنانين مقابل نفحات قليلة من المال. طالبُ الفنون، كانَ قد طلبَ وساطته للعمل بنفس المحترف، بما أنّ صاحبته جارة في الزقاق. إلا أنها إعتذرت عن ذلك، لأن طاقم المساعدين لديها كانَ كاملاً. والآنَ، حينما قدّم سينو لدارين ذلك الرسام، فإن هذا الأخير ردد بلهجةٍ عدائية وبصوته المُحتَضِر: " أعرفه، أعرفه..! ". غيّرَ لهجته سريعاً، حينما علمَ أنه يقيم في السويد ويسعى حالياً لتهريب شقيقته وأولادها إلى ذلك البلد. ثم زادَ شحنة الود، بأن أعطاه عنوان الشقة، التي كان يستأجرها في موسكو.
لبّى دارين الدعوة، بعد ذلك ببضعة أيام، لما شاء مرافقة صديقه التاجر في سيارته. تعرّفَ ثمة على شريك الشقة، وكانَ يُدعى " نبو "؛ وهوَ مفكّرٌ من طراز جورج لوكاش، إلا أن إنتاجه ما فتأ يتخمّرُ في ذهنه. كذلك كانَ ثمة ضيفة، تدرس في موسكو، تُسمع نبذة من قصائدها العاطفية لمواطنها هيمو. الخلاصة، كان الجو فكرياً مع بعض الشذرات الرومانسية. رنّ جرسُ الهاتف، وإذا هوَ أحمي يتكلم من ستوكهولم. على الفور، ذكرَ له هيمو أن " صديقنا " موجودٌ في الشقة.. قال ذلك بنبرة تهكّم، مومئاً برأسه إلى ناحية دارين. ثم أعطى سماعة الهاتف لهذا الأخير، ليسمع الصوتَ من الخط الآخر: " قربان! قدّم ما تستطيع من مساعدة لهيمو، بالأخص أنكما من جماعة الفن ". أيضاً، تخللت الجملة الأخيرة رنّة من السخرية. وضعَ دارين السماعة، ثم سأل المعنيّ عما يأمله من مساعدة، فيما نظره يحط على عددٍ من الحقائب المفتوحة، المتخمة بالملابس والعطور، التي تجلب من سورية لتباع في موسكو. ردّ هيمو بالقول، مُستعيداً نبرة التذلل: " كل المطلوب أن تعيرني باسبورتك، للوصول إلى السويد "
" هل دبّرتَ أحدَ محترفي التزوير، ليغيّر صورتي على الباسبورت؟ "
" لا نحتاج ذلك، لأنني أشبهك بملامح الوجه! "، أجابَ هيمو بنبرة اليقين. ثم أضافَ هذه المكرمة: " وما عليك بعد وصولي إلى مطار ستوكهولم، إلا الذهاب للسفارة السويدية للإبلاغ عن فقدان باسبورتك كي تحصل على آخر جديد ".
تلك، كانت الزيارة الوحيدة للشقة. لقد داهمها بعد بضعة أيام عصابةٌ من المافيا الروسية، فاستولت على كل ما وجد من بضائع ومال. المفكّر نبو، سبقَ أن تعرّف في أحد البارات على فتاة فاتنة، ووعدته من ثم بالمجيء إلى شقته كي تستأنس بأفكاره عن علم الجمال. إلا أنها أرسلت عصابة المافيا، ولم تعُد لتظهر أبداً في ذلك البار. حينما ألتقاه دارين لاحقاً في المكتب التجاريّ، كانَ يُردد بحسرة حنين إلى تلك الفتاة: " يا الله، لم يمر عليّ هكذا جمال في حياتي! ".
أما بقية القصة، فإن دارين سمعها على لسان زورو، عقبَ عودته إلى السويد: " كلاهما عديمُ الشرف. وأنا أرتكبتُ خطأ فادحاً بالوثوق بهما، فأرسلت لهما مبلغَ خمسة آلاف دولار بضمانة من صديقنا المشترك، أحمي. لقد خدعاني بكذبة نيتهما العمل في التجارة بموسكو، فيما هما قد خططا لإستعمال المال بغية الوصول إلى السويد "
" لعلمك، فإنّ صاحبك أحمي كان على علم بالأمر منذ البداية "، قال له دارين ثم سردَ واقعة المكالمة الهاتفية. تميّز زورو بالغيظ أشد من ذي قبل، ودمدمَ بالقول: " ليتني إستشرتك في الأمر قبل إرسالي المال لذينك المحتالين، الذين يتبخترا الآنَ في شوارع بروكسيل ". ثم إستطردَ بصوتٍ مُصم: " لكنني سأعرفُ كيف أسترد مبلغ الخمسة آلاف دولار، مع الفوائد أيضاً! ".

3
لدى وصول دارين إلى موسكو، كانَ هناك ثلة من الشباب قد إتخذوا من إحدى الشقق مأوىً وفي الآن نفسه مركزاً لحقائب التجارة. كانوا ثلاثة شبان، ينضم إليهم أحياناً من هوَ أفضل منهم خبرة بتصريف البضائع. إحدى هذه الحقائب، في حقيقة الحال، أمانة قد وضعها أحدهم قبل سفره إلى مولدافيا، التي أشيعَ أن فرصَ العمل فيها أفضل من موسكو، المكتظة بالتجار والبوليس والمافيا. " محسن "، كانَ المتحمّل وزرَ تلك الأمانة، فيغرف كل مرّةٍ لكي يجرّب حظه في بيع ما تيسّرَ منها. إنه قزمٌ تقريباً، غامقُ السمرة، تَحْوَلّ عيناه عندما يسكر. وبالطبع كانَ سكّيراً، لكنه ماهرٌ بإيجاد المال حتى من المجاري الصحية. وقد وجدَ مجرىً أكثر نقاءً، حينما راحت شقيقة دارين تعطيه الدولارات كي يحولهم إلى روبلات. مع أنه قريبها من ناحية الأم، لم يتورّع عن سلبها؛ بمبررات مختلفة أو بصفاقة مجرّدة. إحتياطاً من إحتمال إقتحام المافيا للشقة، التي يسكن فيها مع الشباب، كانَ قد زرع دولاراته في أصص النباتات؛ لأنها برأيه لن تجلب النظرَ. عندما أتى دارين من السويد، حقد عليه هذا القزمُ لأنه حرمه من مورد السلب. وكانَ من المُفترض أن ينشط على الأثر، لكنه كانَ يفيقُ عند الظهر لمعاودة إحتساء الفودكا. بكلمةٍ أخرى، كانَ عالة.
في تلك الشقة ذات الأبعاد المُقتصَدة، كانَ " رهيف " يعدّ نفسه ضيفاً. إنه شابٌ طريفُ الطبع، معتدلُ الطول ورشيقٌ، لكنه مبتلٍ بإدمان الكحول. ما أن يستيقظ صباحاً ( أو ظهراً بالأحرى )، إلا ويتفقّد آخرَ زجاجةٍ من الفودكا لو بقيَ فيها رمقٌ من سهرة الأمس. عندما يجدها فارغة، كانَ يُعاتب برفق ذلك السكّير الآخر: " لو طلبنا منك أن تذهب لشراء زجاجة أخرى، لصدّعت رأسنا بالشكوى ". وكانَ رهيف، بحَسَب قوله، يسلو تعاسته بالشرب؛ خصوصاً، أنه ترك إمرأة روسية وطفلهما في المدينة الجميلة، المطلة على البحر الأسود. لقد أنهى دراسة الطب البشري في أوديسا، وينتظرُ منذ عامين منحة جديدة لإكمال الإختصاص. الأصدقاء من التجار الكبار، نظير سينو، كانوا في البداية يعدونه بالمساعدة ثم أضحوا مؤخراً يتهربون منه. كان بحاجةٍ إلى مبلغ ثلاثة آلاف دولار، رشوة لعميد جامعة الطب الموسكوفية، زائد جهاز كمبيوتر جديد للإبن الوحيد للعميد. لكن الرجل أظهرَ شهامةً غير متوقعة، وذلك حينَ وقع الطبيبُ في ورطةٍ مع المافيا. جرت الحادثة أولاً عند البازار ( الرينك )، وكانَ رهيف برفقة قريبه، " سعيد "، الممتلك سيارة صغيرة من نوع لادا. كانَ هذا يُحاول الخروج من الصف، لما صدَمَ بشكلٍ هيّن سيارةً أخرى، تبيّنَ أن راكبيها من رجال المافيا. لم يقبلوا أي مساومة، سوى الدفع فوراً. وكانَ المبلغ المطلوب، ثلاثة آلاف دولار؛ كأنه كيدٌ بالطبيب التعس. إزاء المسدس المصوّب لرأسه، إدعى رهيف أنه وضعَ نفس المبلغ في صندوق الجامعة لحين أن يُقبل فيها كطالب. فشحنوه مع قريبه إلى مدخل الجامعة، ومن ثم هددوه إن لم يعُد بالمبلغ فسينسفون رأسَ هذا الأخير. ما أن علمَ عميدُ الجامعة بجلية الأمر، إلا وإتصل بفرقة مكافحة الإرهاب، التي وصلت سريعاً وألقت القبض على أولئك الرجال قبل أن يتم لهم فرصة الخروج من السيارة.
عقبَ تلك الحادثة، عاشَ الأصدقاءُ في رعبٍ مُقيم، مردّه إحتمال أن يكون أفرادُ العصابة قد أخذوا رقمَ سيارة سعيد. وهذا الشاب، أنهى دراسةً ما في موسكو، لم يعُد يتذكّر ماهيّتها في حقيقة الأمر. لقد غدا بدَوره تاجراً مرموقاً، ويقيم في شقةٍ مع صديقته الروسية. وكانَ لا يكف عن تعداد مناقب صديقته من الناحية الجنسية، مؤكّداً أنه كانَ ليتزوجها لو كانت عربية. بعد بضعة أعوام، عرفَ دارين من أحدهم أن هذا التاجر ترك روسيا نهائياً وعاد كي يتزوج من فتاةٍ من ريف الساحل، تحمل رتبة نقيب في قوى الأمن الداخليّ.
حينَ إلتقى سعيد مع دارين أول مرة في موسكو، قدّمَ له نصيحةً ثمينة. وإنها نصيحة، إستفاد منها دجلة في واقع الحال. إذ طلبَ هذا الأخير من دارين أن يسعى عند دار نشر روسية، رخيصة، بهدف طباعة المجلة الأدبية. سينو، وعده عندئذٍ بطبع المجلة في دار التقدم، بسعر تكلفة رمزيّ. إلا أن سعيد حذّر دارين من مغبة التعامل مع الروس، قائلاً أنهم سكّيرون جشعون لا يُؤمن جانبهم. وضربَ مثلاً على ذلك، بما جرى معه عند إنتهائه من الدراسة. فإن القانون السوفييتي، كان يسمح للخريج الجامعيّ الأجنبيّ باستحواذ غرفة نوم كاملة مجاناً، ومن ثم شحنها إلى بلده بطريقةٍ ما: " لقد أضطررتُ لدفع نفحاتٍ مالية متواصلة للحمالين والسائقين من موسكو إلى أوديسا، وهناك في الميناء إستلمني زملاؤهم وكانوا أكثر طمعاً. إلى أن وصلت الحمولة إلى ميناء اللاذقية، ومنها إلى دمشق. عندما تفقّدنا أخيراً أجزاءَ غرفة النوم، كانت كلها تقريباً متآكلة الأطراف أو مخلخلة أو محطمة، وذلك بسبب سوء نقلها وشحنها "، قالها سعيد مُنهياً مأساته الصغيرة.
شابٌ آخر، كانَ صاحبَ نصيحةٍ أثمن. إنه ثالثُ المقيمين في تلك الشقة، وكانَ اسمه " جمال ". كان فارع القوام وقويّ البنية، قسماته المتنافرة كانت تغدو أليفة، بالنظر لطيبته ومعدنه الأصيل. كانَ يتيمَ الأب منذ الصغر، والدته أوصلت نفسها إلى السويد مؤخراً بمساعدة عراقيين كانوا مستأجرين الدور الأرضيّ من مسكنها. كانت كردية من حي الصالحية، شأن رهيف وسعيد. أكثر من مرة، طلبت التكلم مع دارين هاتفياً كي توصيه بمساعدة إبنها. وكان لها إبنٌ آخر في موسكو، اسمه " ناصر "، يكبر جمال بنحو عقدٍ من الأعوام. نتيجة صعوبة طبع هذا الكبير، إنتقل الشقيقُ الأصغر للعيش في شقة الشباب. وربما كانَ ذلك من تدبير إمرأته الروسية، التي تحمل شهادة الهندسة المدنية. ناصر، في المقابل، لم يكن يحمل سوى الشهادة الإعدادية. ولتلافي هذه الهوّة العلمية مع إمرأته، سعى إلى شراء شهادة دكتوراه فلسفة من جامعة موسكو. لكنّ " الدكتور " كان كريماً، وكذلك زوجته، مثلما لحظ دارين الذي دُعيَ إلى عدّة ولائمٍ سخية في مسكنهما. وقد حاولَ أكثر من مرةٍ، عبثاً، أن يُصلح علاقة الشقيقين. ذات يوم، عاد ناصر مع زوجته من زيارةٍ للطبيب. فما أن أبصرَ شقيقه وضيفه الآخر، إلا وذكرَ خلفية الزيارة: " قال الطبيبُ أن إمرأتي تعاني من إلتهاب في المبيضين، سببه كثرة الجماع ". عندما علّقَ دارين والشقيق الأصغر على الخبر، عبسَ الرجلُ الفحل. ثم ما عتمَ أن دفع إمرأته إلى حجرة النوم، قائلاً بالعربية: " أدخلي يا عزيزتي، فقد إشتغلَ أكلُ الخراء! ".
جمال، لاحَ أنه فكّرَ ملياً في مسألة تهريب شقيقة دارين، التي غدت شائكة للسبب المعلوم. كانَ يأملُ أن يحملَ المهرّبَ على إيصاله أيضاً للسويد، في مقابل وعدٍ بتسديد المال لاحقاً من لدُن والدته. لكن لم يظهر أيّ مهرب في الأفق، وكانَ قد مضى خمسة أيام على وجود دارين في موسكو. ذاتَ صباح، كانَ مع هذا الأخير لوحدهما في الشقة، بالنظر لسفر رهيف إلى أوديسا لقضاء عطلة الميلاد ورأس السنة مع عائلته. أما العالة، محسن، فإن المروءة النادرة دفعته للذهاب إلى السوق كي يصرّف بعضَ البضائع. وإذا جمال يقفز من مكانه، مع المفردة السحرية؛ " وجدتها! ". ثم ما عتمَ أن أخذ بشرح طريقةٍ، قد تساعد شقيقة دارين وأطفالها في الوصول للسويد دونما حاجةٍ إلى مهرّب: " ستُبرز هيَ أولاً الباسبورت السوري للكنترول الروسيّ في القطار، إلى أن تصل إلى نقطة الحدود الأستونية. عندئذٍ تخرجان أنتما معاً الباسبورت السويديّ، لدرء أي شبهة. فإذا لم يفطنوا أن باسبورتها ملفّق، فإنهم لاحقاً في كنترول السفينة المتجهة إلى السويد سيرون أن دخولها إلى أستونيا كانَ نظامياً ". قال ذلك، ثم أضافَ: " وعلى أية حال، يجب أن نعتمد على حُسن الحظ ".

4
قلنا، أن جمال ظهرَ في ذلك الظرف العصيب، بمثابة المنقذ. ثمة جانب إيجابي آخر في وجوده مع القافلة المُهرَّبة، ألا وهوَ معرفته للطريق؛ كونه مضى فيه ذهاباً وإياباً أكثر من مرّة. نهضَ الجميعُ ذات صباح للملمة الحوائج، بما في ذلك صغرى البنتين، التي لا يتجاوز عُمرها أربع سنوات، وتميّزت بالذكاء واللسان الذرب. إذا العالة، يرفع رأسَهُ عن الأريكة العتيقة، المحشوة بالبق، ليقول بصوته المخمور: " سأرافقكم إلى تالين، لكي أقضي عملاً هناك! ". وبطبيعة الحال، فإن عمله لن يكون سوى ملاحقة الفتيات البائسات، اللواتي يُمكن لبعضهن فتح سيقانهن مقابل وجبة من ماكدونالدز. إعترضَ دارين، بصرامة، على مجيء العالة. إلا أنّ شقيقته، المصابة بالوسواس القهريّ مذ وطئت أرض هذه البلاد، إنتحت به إلى جانب: " ليأتِ الأرعن معنا، حتى نتجنّب شرّه ". ثم أضافت، موضّحةً قصدها: " أخشى أن يسبقنا إلى تالين، وهناك يُخبر السلطات بأمرنا ". كانت مخاوفها مبالغاً بها. مع ذلك، وافقوا على أخذ ذاك المخلوق، الذي يفوقُ البقَ طفيليةً وقرفاً. فتحوّلَ حالاً إلى شخصٍ وديع، يُداعب الأطفالَ وينثر النصائحَ والمواعظ. لكنه كانَ يؤوبُ كل مرةٍ إلى زجاجة فودكا، تخصّ جمال، ليأخذ من فمها جرعةً. السُكر، شوّه سحنته بشكلٍ متزايد إلى أن غدا أشبه بالمسوخ. ثم أضفى على ذاته شيئاً من الأهمية، لما تناول مفتاحَ الشقة من يد أم الأطفال: " لقد أوصاني السيد فارس بأخذ المفتاح، كونه سيعمدُ قريباً إلى البدء بترميم الشقة وتغيير الأثاث "، قالها برصانة.
رحلة القطار، ستكون على ثلاث مراحل؛ الأولى من موسكو إلى بطرسبورغ، والثانية من هذه الأخيرة إلى نارفا على الحدود الأستونية، ومن ثم ركوب قطار آخر إلى تالين. ثمة في محطة موسكو، إستأجروا حجرتين في القطار، كانت إحداهما للعائلة ودارين. بعد نحو ساعة من إنطلاق القطار، إرتفع صوتُ العالة من الحجرة الأخرى وهوَ يدندنُ أغنية، تقولُ مقدمتها: " كنت بزماني، سلطان زماني! ". مُروّعةً من شدّة القلق والفرَق، طلبت أم الأطفال من شقيقها أن يُسكت ذلك الناعق: " وإلا سيلفت إلينا الأنظار أو يُدخلنا بمشكلة مع البوليس، كون وثائقنا سورية ". هدّأ دارين مخاوفها، قائلاً أنهم بعدُ في رحلةٍ داخلية عادية. حينما أبدلوا القطار في محطة بطرسبورغ، كانَ السكّيرُ يمشي مترنحاً، فلم يصل إلى الكابينة حتى إنطرح على السرير كالجثة. في خلال الطريق، حضرَ موظفُ التذاكر مع شرطيين، ومرّ كل شيءٍ بسلام. بالرغم من عتمة السماء الدامسة، كانت الفيافي مضاءةً بالثلوج، فتبدو كأنها رمالٌ بيض لصحراء لا متناهية.
ثم حانَ ميقاتُ الإمتحان الصعب، لما وصلوا إلى نارفا. كان ثمة مركزٌ كبير، فيه أكشاك الموظفين نساءً ورجالاً. إنتظمَ دارين مع العائلة، وطلبَ من شقيقته أن تبدو منطلقة الأسارير. حينَ جاء دورهم، بدأت الموظفة تقلّبُ وثائقَ السفر. وإذا بها تصرخ في دارين، بالروسية: " ماهذا؟ باسبورتك منتهي وقت صلاحيته! ". فابتسم في وجهها، ثم فتح الباسبورت على صفحة داخلية، تفيد بتجديده. فإعتذرت الموظفة، وأضافت فيما تدقق في وثائق الأم والأطفال: " أنتم عائلة واحدة، أليسَ كذلك؟ ". ألقت نظرة على كل طفل، ثم أعادت وثائق السفر لوالدتهم وهيَ تتمنى للجميع عطلة رأس سنة سعيدة. في أثناء ذلك، كان العالة قد إستعاد وعيه غبّ إغفاءته لعدة ساعات. حين سمعَ زعيقَ الموظفة، قبل قليل، كادَ أن يفرّ من المركز. لكنه في قاعة إنتظار القطار القادم، راحَ يتبجّحُ بسهولة إجتياز الكنترول؛ وكأنما هوَ صاحبُ المأثرة: " قلتُ لكِ منذ البداية، أن المهم هوَ نقطة التفتيش في نارفا وليسَ هنا في السفينة! "، قال للأم متفلسفاً.
ثمة في تالين، حجزوا حجرتين في فندق من الدرجة الجيدة. أمام مكتب الإستعلامات، كانَ هناك رجلٌ بدينٌ، متوسط العُمر، قد نال منه الشراب. لما رأى الموظف يأخذ الباسبورت من يد دارين، فإنه خاطبَ الأخيرَ بالسويدية: " أأنتم من ستوكهولم أم من أوبسالا؟ ". رطانته، بيّنت أنه فنلنديّ. أجابه دارين: " بل من أوبسالا ". العالة، تكلم مع الرجل بالروسية، لكنه لم يلقَ أي جواب أو إهتمام. كان الوقتُ عند منتصف الليل، فأوت العائلة إلى الفراش من فورها. بقيَ دارين مع جمال في البهو، يتبادلان الحديث بصوتٍ منخفض. وكان العالة ما ينفكّ يدورُ كالكلب بالقرب من الرجل الفنلنديّ، علّه يصيبُ عظمةً. ألقى عليه الرجلُ أخيراً نظرةَ إحتقار، وما لبثَ أن ذهبَ إلى حجرته.
في صباح اليوم التالي، حينما كانَ دارين متجهاً مع العائلة لتناول الفطور، أوقفه موظفُ الإستعلاماتٍ: " زميلي، شكى بأن أحدكم كانَ يُصدر ضجيجاً حتى ساعة متأخرة من ليلة أمس. عليكم إحترام النظام، لو سمحتم ". على مائدة الفطور، حينَ وُبّخ الأخرقُ على سوء سلوكه، كاد هذا أن يُحوّل الأمر إلى مشادة. لكنهم غافلوه ظهراً عندما كانَ يغط بالنوم وينخر كالخنزير، فتوجهوا إلى الميناء. ثمة، أمنّوا تذاكر للعائلة وسارَ كل شيءٍ على ما يرام مجدداً. في السادسة مساءً، إنطلقت السفينة إلى ستوكهولم. فيما بعد، عرف دارين بما جرى عند الكنترول. الموظف، قال لشقيقته: " وثائقُ السفر هذه، ليست لكم! ". بعد قليل، حضرت إمرأة من البوليس السويديّ وتكلمت مع الأم باللغة السويدية: " أبلغني الموظف أن صورتك على الباسبورت لا تشبهك؟ ". فردت عليها الأم: " كنتُ حبلى في أوان أخذي للصورة ". عندئذٍ، أشارت الشرطية إلى الموظف بأن الشبهة مُنتفية. شقيقة دارين، كانت قد إلتجأت إلى السويد في نهاية السبعينات، لكنها بعد سنتين من ذلك رافقت زوجها إلى السعودية ومن ثم فقدت حق الإقامة السويدية.
عندما عادَ دارين وجمال إلى الفندق، أوقفهما موظفُ إستعلامات اليوم المنصرم: " صديقكم، أحدث جلبة هنا في البهو وتحرّشَ أيضاً بالزائرات ". فطمأنه دارين بالقول، أنهم سيغادرون الفندق غداً صباحاً بعدما ودّعوا أقاربهم العائدين إلى السويد. في الحجرة، لما نقل جمال شكوى الموظف، قال العالة بإستهتار: " الزائرات كنّ قحبتين، جاءتا لأجل ذلك الرجل الفنلنديّ. لكنه كان من الثمالة ألا يعي ما حوله، فأوقفتُ الفتاتين وساومتهما لمجرد التسلية! طلبتا مبلغاً مرتفعاً جداً بالدولار، بالرغم من أنهما روسيتان ". عندما علمَ أنهم سيتركون الفندق في الغد، قال أنه يرغب بقضاء رأس السنة في موسكو: " ثمة، أين في الوسع الحصول على أجمل فتاة بمقابل عشرة آلاف روبل! ".
قبل توجهه إلى محطة القطار، طلبَ العالة من دارين مبلغَ مائة دولار، زاعماً أنه دينٌ بذمة شقيقته. ردّ عليه دارين بضحكة هازئة، وقال: " أطلبْ دينك من صاحبته، وهيَ سترسل لك حوالة من السويد ". لكنه غبّ وصوله إلى موسكو، أخذ خمسين دولاراً من سينو؛ وكان المبلغ عبارة عن دين، إستلفه هذا الأخير من دارين في إحدى جولات القمار. اللص الصفيق، كانَ قد ذكرَ لصديقهما التاجر، كذباً بالطبع، أن دارين مُدينٌ له بهذا المبلغ.
إهتدى الصديقان بسهولة لفندقٍ ذي سعر معتدل، بالنظر لوقوعه في قلب المدينة، وشموخه بأدواره العشرة. لكنهما إرتكبا هفوة فادحة، حينما لم يبادرا بتجديد الإقامة. إعتقدا أنه سيكون عذراً مقبولاً، القول للسلطات بأنهما لم يتمكّنا من ذلك بسبب عطلة رأس السنة. موظفُ الإستعلامات في الفندق، أخبرهما مع بسمةٍ مرسومة بأناقة: " لدينا صالة ديسكو وبار، ثمة في الدور الأرضيّ ". إلا أنهما فضلا التسكّع في المدينة القديمة، وعادا إلى الفندق في ساعةٍ متأخرة ليلاً.
في مساء اليوم التالي، عقبَ نيل كل منهما دوشاً، وإرتداء بذة مناسبة، كانت العتمة قد زحفت حثيثاً وحانَ وقتُ المرح. إستعملا المصعدَ في النزول رأساً إلى صالة الرقص، ليتبيّن لهما من ثم أنها قاعة واسعة جداً، بحجم ملعبٍ صغير. عتمة زرقاء، شملت المكان، تخللها بصيصُ أنجم المصابيح الصغيرة الملونة، المشكوكة في السقف المنيف. ثمة كواكبُ سَنِية، كانت تتنقل بخفة في ملابسها الخفيفة، البراقة. لكن الصديقين شاءا أولاً إلقاء نظرة على البار، كون الكواكب يتدفقن إليه، والبعض منهن يخرجن بصُحبة الرجال. كانَ الهرجُ يسود البار، المزدحم بأولائي الفتيات، اللواتي كانَ واضحاً أنهن مومسات. دعا دارين صديقه للجلوس على الكونتوار، ومن ثم طلبَ كل منهما قدحاً صغيراً من الكونياك الفرنسيّ. الموسيقا كانت مُصمّة، فإنشغلا عن الحديث بتأمل أسراب الحوريات؛ وأكثرهن من ذوات الجمال الروسيّ، المميّز. سرعانَ ما تعرّفَ دارين على جاره، وكانَ شاباً فنلندياً في أواخر الثلاثين، أنيقاً ورصيناً. تكلم معه باللغة السويدية، فعرفَ أنه صاحبُ شركة ولديه أعمال في تالين. ثم إقترحَ الرجلُ على دارين أن يذهبا إلى الصالة، لأنها أقل إزدحاماً وأكثر هدوءاً. جمال، كانَ في الأثناء يتحدث بالروسية مع إحداهن.
" سألحق بكما بعد قليل "، قال جمال لصديقه وهوَ يغمز بعينه. تركه دارين ومن ثم تأثّر خطى ذلك الفنلنديّ، الذي إنتقى منضدة مسندودة بجدار القاعة. هنيهة أخرى، وتلقى الرجلُ إتصالاً على موبايله، المُسترخي على المنضدة. بعدما أنهى المكالمة، سأل دارين لو كانَ يودّ إستعمال الجهاز. شكره هذا الأخير، وما لبث أن تكلّم مع شقيقته الكبرى. طمأنته بأن شقيقتهما وأولادها قد وصلوا إلى ستوكهولم: " زوجي، كان بإنتظارهم في الميناء بسيارته. لقد عاتبها لأنها لم تتخلص من الباسبورتات، وهيَ في السفينة. لكن من حسن الحظ، أنهم في الكنترول لم يدققوا في وثائق السفر ". ما أن سلّم الموبايل للرجل، إلا وكانَ جمال فوق رأسه. كانَ بصُحبة فتاتين، وإحداهما رمقت دارين باسمةً حينَ جلست. نادى الفنلنديّ الكريمُ على النادل، وطلب للضيوف شراباً. دقائق أخرى، ثم إستدعى النادل من جديد كي يدفع الحساب: " المعذرة، لديّ عملٌ في الصباح الباكر "، قال لدارين. غبّ ذهابه، نهضت الفتاتان بَدورهما ولكن للطلب من الصديقين مرافقتهما لحلبة الرقص. إلا أنهما تخلصا من الفتاتين بلباقة، آنَ شرعتا بالمساومة المعهودة. هكذا عادتا إلى البار، فيما الصديقان خرجا إلى الهواء الطلق في جولة قصيرة على الأقدام.
مرة أخرى، ظهرت حوريتان للصديقين، الذين إبتعدا بمسافة جيدة عن الفندق. كان الثلج تحت أقدامهما مختلطاً بالوحل، شأن الفضيلة والرذيلة في هذا العالم، الذي هبط إليه آدم من علو شجرة الخير والشر. لكنّ جنة الله، على الأرجح، لا يمّر فيها سوى فصل الربيع. والسويد تشبّه بالفردوس، بالرغم من أشهر الشتاء الطويلة والثقيلة. في المقابل، لا يُمكن للمقيم في ذلك الفردوس أن يحنّ لنعمائه سوى لو إبتعد عنه ولو ساعة واحدة في الطائرة. وكانَ حرياً بدارين أن ينتابه هكذا شعور، لولا أنّ حنينه لذكريات الدراسة في موسكو كانَ أقوى. أساساً، فإن رغبته في البقاء غلبت ما عداها؛ وكانت على خلفية ذلك الحنين. حتى لحظة بزوغ الفكرة الموفّقة لتهريب عائلة شقيقته، كانَ يؤجل ذهابه إلى المسكن الجامعيّ، أينَ أختزنَ في أروقته تلك الذكريات.

5
من السهل تقريباً القول عن أيّ فتاة روسية، أنها أشبه بالحوريات. لكن " ناستيا " كانَ جمالها قاهراً، بل صاعقاً بحق. قوامها المائل إلى الطول، كانَ أهيفَ عند الخصر ومسجوراً عند الصدر والردفين. وجهها الرهيف القسمات، تنطقُ فيه غمازتان على جانبيّ الفم وشامة حُسن على الوجنة اليسرى. شعرها الذي بلون العقيق، جعلَ وجهها الناصع يتوهّجُ في العتمة. وشأن الكثير من بنات جنسها، حظيت بإيمائةٍ ساحرة. كانت تعبّر عن شعورها بالبرد، بمسك ساعديها بيديها. هيئتها الرثة، وخاصة المعطف العتيق، دلّت ولا جدال على أنها بعيدة تماماً عن مهنة بنات الليل. عندما تعارفا، قالت له أنها وصديقتها تجولتا في المتاجر، المفتوحة حتى ساعةٍ متأخرة بسبب موسم التخفيضات عشية رأس السنة. فكرة طارئة، خطرت على الأثر لذهنه ومن ثم نقلها إلى جمال: " أرغبُ بشراء معطف مناسب لهذه الفتاة، التي ترتعشُ من البرد "
" مهلاً يا صديقي، فإننا بالكاد تعرفنا عليهما "، علّق صديقه. تأجيل تنفيذ الفكرة إلى اليوم التالي، راودت دارين بعدئذٍ لكي لا تظن الفتاة أن المعطفَ سيكون ثمناً لمطارحة الحب. لم تمانع هيَ وصديقتها في مرافقتهما إلى حجرتهما في الفندق، وذلك بعدما تشاورتا همساً. في كشك على الطريق، حصلوا على مؤونة من زجاجتيّ فودكا وليكيور مع المازة. ثمة في الحجرة، بالكاد تمكن دارين من كبت إهتياج داخله حينَ خلعت الفتاة معطفها، ليتجلى جسدها بأطرافه الشهية. رداً على سؤال الفتاة، زعمَ دارين أنه موجودٌ في موسكو لأجل العمل التجاريّ: " وجئت مع صديقي إلى تالين، لقضاء رأس السنة ". لم يشأ ذكر إقامته في السويد، لسبب يمتّ لنفس موضوع مطارحة الغرام. قبل إنقضاء ساعة من الوقت، خاطبَ دارين صديقه مع غمزةٍ خفية: " لِمَ لا تأخذ فتاتك إلى البار، وسنلحق بكما تواً ". لم تعترض المعنية على الفكرة، فنهضت وهيَ ترشقُ بدَورها صديقتها بغمزة من عينها. عقبَ ذهابهما، قالت ناستيا بشيءٍ من الخجل: " أود الإغتسال في الحمّام، لأنني أنهيتُ اليوم الدورة الشهرية ". غبّ سماعه صوت الدوش، وبحجّة سؤالها عما لو إحتاجت لغرضٍ ما، أطل عليها خِلَل باب الحمّام الموارب. كانت عندئذٍ ما زالت في جوربيها الشفافين، المنتهيين عند خصرها؛ ولم تكن ترتدي سروالاً داخلياً تحتهما. كان وجهها إلى ناحية الدوش، تختبر بيدها حرارة مياهه، ليبرز كفلها العظيم، الملكيّ، وهوَ منسدلٌ على حافة المغطس. هذه المرة، لم يستطع كبح جماح نفسه، فاندفع إلى الداخل.
في أصيل اليوم التالي، إلتقوا في بهو الفندق وفقَ موعدٍ مسبق، وما لبثَ دارين أن مضى إلى السوق مع صديقته. بهذا التصرّف المبيّت، كانَ يُخلي الحجرة لجمال ورفيقته، وفي الآن نفسه، لا يُحرَج عند شرائه المعطف الجديد لفتاته. مساءً، ظهرت ناستيا بهذا المعطف، قبيل الدخول إلى قاعة الرقص بغية الإحتفال بليلة رأس السنة. كانت الحفلة صاخبة، رفرفت فيها الحورياتُ بأجنحةٍ على شكل الدولار الأمريكي. وقد لمحَ دارين ذلك الفنلنديّ الكريم، وكانت برفقته فتاةٌ هيفاء، فرفعَ له كأسه نخبَ المناسبة السعيدة. مراتُ عدّة، طُلبت صديقة دارين للرقص من لدُن الرجال الأجانب، المتأنقين، الذين يستثمرون أموالهم في هذا البلد الحديث الإستقلال عن روسيا. الجميعُ، حتى تجار الحقيبة، يتوقون للإغتناء السريع في " جمهوريات الموز " الجديدة، المنبثقة على أثر تفكك الإتحاد السوفييتي.
في اليوم التالي، حدثَ ما لم يكن في الحسبان. حينما راجع دارين وصديقه الإدارة المختصة بمنح الفيزا، قالت لهما الموظفة بغضب أنهما خالفا القانون. ولم تأبه بحجتهما، أن تأشيرة إقامتهما تنتهي في يوم عطلة. تركتهما ينتظران لنحو ساعة، ثم جاءت سيارة بوليس ومضت بهما رأساً إلى نارفا؛ نقطة الحدود. لم يدعوهما يمران على الفندق، لأخذ حقيبتيهما. ثم أتى القطار، المتجه إلى بطرسبورغ، فدفعوهما إلى إحدى الحجرات. كان برفقتهما فتىً وسيمٌ ونحيل، ربما ما زالَ في عُمر المراهقة. كانَ يهودياً روسياً، اسمه " ساشا "، تأخّر أيضاً عن موعد إنتهاء إقامته في أثناء زيارته لشقيقته في تالين. حين توقف القطارُ بعد نحو خمس دقائق عند الحدود مع روسيا، كانَ الفتى قد أقنعَ الشابين الأجنبيين بالنزول معه: " سنجتازُ النهرَ في خلال دقائق قليلة، ومن ثم نجد أنفسنا في أستونيا من جديد ". تحمّسَ جمالُ بشدّة للفكرة، وكانَ لديه أملٌ غامض بركوب السفينة، المتجهة إلى ستوكهولم. أما دارين، فإنه لم يشأ أن يخيّبَ أملَ ناستيا عندما تأتي إلى الفندق ولا تجده.
بتلك الآمال اليائسة، دلفوا من عربة القطار وكانَ الظلامُ قد خيّمَ على المكان. الفتى الدليلُ، سارَ في المقدمة بخطواتٍ واثقة، يتبعه الصديقان بحذر على الأرض الجليدية، الزلقة. السماءُ، كانت منارة بقمرٍ بارد، كئيب. لحين أن وصلوا إلى وهدةٍ، أشبه بالوادي، تتلألأ فيها المياه في بقعٍ متناثرة. لما همّ الدليلُ بالإنحدار، سأله دارين: " لا أرى جسراً، يُمكن أن نجتاز عبْرَهُ النهرَ؟ "
" لا ترفع صوتك، لكي لا يشعر بنا حرسُ الحدود "، قال ساشا بصوتٍ هامس. ثم أجابَ على السؤال، بالقول: " سأقفزُ على كتل الجليد، وأنتما تتأثران خطوي ". كان النهرُ هنا في غاية الضيق، فلم يصعب عليهم إجتيازه. كانوا الآن يرتقون ممراً، تحف به الصخور، لما صرخَ بهم صوتٌ قويّ بالروسية: " قفوا ولا تتحركوا! ". وتبعَ ذلك صوتُ تلقيم بندقية. صاحَ ساشا بدَوره: " أرجوك لا تطلق النار! ". بانَ شبحُ حارس الحدود، وكانَ متسمّراً بأعلى الممر. ما أن إنتهوا إلى موقفه، إلا وظهرَ عددٌ آخر من الحراس. كانوا جميعاً من الروس، وتكلموا بشيءٍ من الود مع مواطنهم الفتيّ، الذي منحهم علبة سجائر. قادوهم إلى نقطة الحدود في نارفا، وهناك تسلّمهم رجالُ البوليس. في قاعةٍ فسيحة، يحفّ بها بضعة أكشاك كانت فارغة من شاغليها، وجد الثلاثة أنفسهم أمام ضابط شاب قصير القامة، كشّر عن إبتسامة مقيتة: " ألا تعلمون أن التسلل عبر الحدود جريمة، يُعاقب عليها بالسجن لمدة سبع سنين؟ "، قال لهم بالروسية مع رطانة أستونية. ثم ما لبثَ أن توجّه بالكلام إلى الشابين الأجنبيين، طالباً تسليم ما معهما من دولارات. لحُسن الحظ، أن دارين كانَ في الصباح قد دفعه شعورٌ مبهم لإخفاء المال تحت الجلدة الداخلية لإحدى فردتيّ حذائه؛ وكانَ عبارة عن عشرين ورقة من فئة المائة دولار. بدأ بالكلام، فيما يُخرج محفظة النقود: " لا أملك سوى هذا المبلغ من العملات الروسية والأستونية ". وإذا أحدهم يضرب قدميه من الخلف، فيُمسيان أشبه بالمقص. ثم شرعَ بالتفتيش بعدما أمره بخلع حذائه، جاساً الجوربين بدقة. في الأثناء، خضعَ جمال لنفس الإجراء. سُمح لكل منهما الإحتفاظ بمحفظة نقوده، ومن ثم سيقا إلى خارج القاعة عبرَ ممر داخليّ. حجرة الحجز، كان فيها نحو عشرة أشخاص وبينهم ثلاث فتيات، إحداهن يمنية مع شابين من مواطنيها. ثلاثة رجال روس، إنتحوا في زاوية وهم يتناولون السمك المدخّن مع الفودكا. دعوا القادمين الجدد إلى الوليمة، فلم يلبِ منهم سوى ساشا. حين أدخلهم رجالُ البوليس إلى الحجرة، طلبوا من الفتاتين الروسيتين الخروجَ. رفضتا ذلك، فتركوهما وشأنهما وهم يضحكون. أكبرُ الرجال سناً بين أولئك الذين يتناولون العشاء، هوّنَ على دارين وصديقه وَضْعِهما، بالقول في إقتضاب: " سيكتفون غداً برميكم إلى الحدود الروسية ". لم يُغمض لهما جفنٌ حتى بزغَ نورُ الفجر في نحو الساعة الثامنة، ومن ثم مجيء رجال البوليس لسوق الجميع خارجاً. غادرَ الموكبُ نقطةَ التفتيش، ووجهتهم الجسر القائم على نهر نارفا، أين تبدأ الحدود الروسية. قطعوا الجسرَ مشياً على الأقدام، ولم يولهم حرسُ الحدود الروس أي إلتفاتة. قاد ساشا رفيقيه إلى موقف الحافلات، المتجهة إلى بطرسبورغ، قائلاً: " القطارُ سيتأخر كثيراً ". لكنهم فيما بعد وجدوا القطارَ بإنتظارهم، ثمة في محطة عاصمة القياصرة، فسارعوا إلى ركوبه دونَ أن يلحقوا شراءَ التذاكر. كونهم لم يتبلّغوا شيئاً منذ الصباح، فإنهم إنتقلوا فوراً إلى مطعم القطار؛ فلم ينتبه موظف التذاكر لأمرهم. نادلُ المطعم، وكان أذربيجانياً، ما لبثَ أن طلب منهم بفظاظة أن يخلوا أماكنهم طالما أنهم إنتهوا من تناول الغداء. في محطة موسكو، آنَ أزفَ وقتُ الإفتراق عن ساشا، أخرج دارين ما معه من الأوراق المالية الروسية والأستونية ومدّها له؛ فإمتنع عن تناولها. عندئذٍ دسّ دارين المالَ في جيب معطف الفتى، ومن ثم تعانقا بمودّة.
بقية الأيام، التي قضاها دارين في موسكو، كانت رتيبة ومضجرة. باستثناء أحد الأيام، شاء أن يمضيه في المسكن الجامعيّ، الذي عاش فيه حينَ كانَ طالباً. إستأجرَ ثمة حجرة لليلة واحدة، كون معظم دور البناء تستخدم كفندق. وكانَ دارين قد إنتقل للإقامة في شقة الشباب، فشغلها مع جمال غالباً. فمحسن، لحق صاحبه إلى مولدافيا كي يعيش عالة عليه ـ كمألوف العادة. أما رهيف، فإنه يئسَ من وعود الأصدقاء بشأن إقراضه المال ليواصل دراسة الإختصاص؛ فلم يعُد من أوديسا. كذلك إتسمت بالبرود علاقة دارين بسينو، وذلك على خلفية ما أبداه من لامبالاة بخصوص تهريب شقيقته وعائلتها. ثم أبدى هذا الأخير عجزه أيضاً عن تمديد فيزا الإقامة لصديقه، ما منعه من العودة إلى السويد عن طريق مطار موسكو. إلى الأخير، سافر دارين إلى ريغا، ومن هناك ركب السفينة، المتجهة إلى ستوكهولم. كانَ قد تمنى السفرَ عبرَ تالين، لكي يلتقي مع ناستيا. إلا أنهم وضعوا على وثيقة سفره وشماً بعدم دخول أستونيا، لمدة خمسة أعوام، لمخالفته قانون الإقامة. وأساساً، لم يكن قد إحتفظ برقم هاتف صديقته. ذلك الشتاءُ الكئيب، كانَ آخرَ عهده بتلك البلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب


.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز




.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم