الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جِئنا لنُخَلّصكُم مِن صَدام، فخَلّصناه مِنكم!

مصطفى القرة داغي

2024 / 4 / 5
الادب والفن


عِبارة عَميقة وذات دَلالة، قالها ضابط أمريكي في إجتماع مَع العِراقيين، بَعد أسابيع مِن دُخولِهم للعِراق، نقَلَها لي صَديق أثِق بكلامِه، يا حَبّذا لو تَحَلّى العراقيون بشَجاعة الإعتِراف أن فيها الكثير مِن الحَقيقة،. أتذكرها دائِماً في ذِكرى إحتلال الأمريكان للعِراق ودُخولهم بغداد، التي تَمُر علينا سَنَوياً بين شَهري مارس وأبريل، حينَ أعلن الرئيس بوش بَدء عَملية ما أسماه "تَحرير العراق"، قاصِداً تَحرير العراقيين مِن صَدام، والتي ظَنّ بغَباء أنها ستكون كعَملية تَحرير الالمان مِن هتلر، لنكتشِف ويَكتشِف الأمريكان بَعد فترة بأنّهُم قد حَرّروا صَدام مِن العِراقيين، وليسَ العَكس!

قد يَرى البَعض في هذا الكلام ظُلماً للعراقيين، وتَبرِأة لصَدام مِن جَرائِمه، وهؤلاء أغلبهم مُغَيّبين ومَأخوذين بعِزّة الإثم، ومُصِرّين على إنكار الواقِع، والإستِمرار بتَصديق بروبَغَندا شِعارات تَعظيم ومَسكَنة شَعبهم، التي رَوّجَتها أحزابه القومية والشيوعية ورَسّخَتها على مَدى عُقود. لكن مَن شَخّصَ حَقيقة المُجتمَع العِراقي مُبَكِّراً بثَمانينات وتسعينات القَرن الماضي دون فَلتَرة، أو صُدِمَ به بَعد 2003 على الطَبيعة، يَعلم بأنه ليسَ هُنالِك مِحنة أشَد مِن العَيش بَين العِراقيين كمُجتمَع، نَعَم كأفراد فيهم أناس طيّبون جداً، لكِنّهُم نُدرة وفي طَريقهم الى الإنقِراض! أما صَدام فلا خِلاف على كونِه مُجرِم، لأنّه إفراز حَقيقي لمُجتمَعِه، يَحمِل كل عُقدِه النفسِيّة وتناقُضاتِه الفِكرية وتشَوّهاته القِيَمِيّة، ولهذا نجَحَ في حُكمِه لأكثَر مِن ثلاثة عُقود.

كان صَدام إنعكاساً لشَعبه ومِرآة له، فإجرامه ورُعونته وجَشَعِه للسُلطة، هو إنعكاس لمَفاهيم ومَشاعر مُتجَذِّرة في المُجتمَع العراقي وتركيبة أفراده، لم يَكُن صَدام مُتفرداً بها. فأغلب العراقيين كانوا سَيَفعلون ما فََعَل ورُبما أفظَع، لو تَوَفّرَت لهُم فُرصُه وإمكانياته. بدليل ما حَصَل بعد2003، حين رأينا أصغَر موَظّف يَستقتِل على المَنصِب، وجَشَعه للمال لا حُدود له، ويُعَيّن وفق القَرابة بَدَل التخَصّص! كنا نتعَجّب كيف يُمكِن لشَخص أن يَفعَل ما فعَله صَدام مَع رفاقه وأصدقاءه في مَجزرة قاعة الخُلد، لكن ما عِشناه مع العراقيين فيما بَعد أثبت لنا أن قِيَم الزَمالة والصَداقة لدى العراقيين، إلا ما نَدَر، سَطحية ولا تصمُد أمام مَفاهيم أخرى كالطائفية والعُنصرية! ولا أظن أن هناك عِراقياً بمَحَل صَدام كان سَيَتوانى عَن فِعل ما فَعَله تجاه أبناء عُمومته وأزواج بَناته لو فَعلوا ما فَعَله حسين وصَدام كامل! أما الكويت فلا يوجَد عِراقي، إلا ما رَحِم رَبّي، لا يَطمَع بإبتلاعِها! فَرهود اليَهود، وقتل العائلة المالكة والتَمثيل بجُثثهم وإهداء أجزائها، وغيرَها مِن الفضائِع، لم يَفعلها صدام، بَل العراقي البَسيط الذي يَصِفونه بأبو الطيبة والغيرة، والعِراقي الشيوعي الذي يَدّعي الإنسانية، والمُتَديّن الذي يَدّعي التقوى!

تَصَوّر أن صَدام الذي قام بجَريمة الكويت، وعِزة الدوري الذي حَرّضَه عليها، إعتذَروا عَنها، وإعتبروها خطأً تأريخياً وجَريمة، في حين أن حَوالي ثلثي العراقيين مازالوا يَرونَها فِعل صائِب يَحلُمون بتكراره، لأنهم يُعانون هَلوَسة أن الكويت جُزء مِن وِرث أجدادهم! وتَخَيّل أن صَدام يَقول بإجتِماع مُغلق مُوَثّق رَأياً حَول القضية الكردية لا يَزال الى اللحظة مُتقدِّماً على أغلب العراقيين، بضِمنِهِم مَن يَحكُمون اليوم الذين كان الأكراد يَعتبرونَهُم حُلفائَهم ضِد صَدام! إذ قال بمَعرَض إجابَتِه على تعليقات رِفاقه حَول المَوقِف تِجاه القضِيّة الكُردية مِن قِبل العراق وتركيا وإيران: "نحنُ مُستَعِدّون لِبَحثِها الى أبعَد الحُدود، حَتى لو أرادوا أن يُصبِحوا دَولة ليَكُن، فلا يُمكِن أن تُجبِر أحَداً على العَيش مَعك خِلافاً لِرَغبته". مُشيراً لما واجَهَه مِن تَحَدّيات لإقناع رفاقه للإعتِراف بالأكراد كشَعَب، ومَنحِهِم حُكماً ذاتياً. في حين أن أغلب العِراقيين، ومِنهم مَن يَدّعون التمَدّن والإيمان بحَق المَرء بتقرير مَصيره، قامَت قيامَتهُم وقيامة أجدادهُم الذين عارَضوا تشكيل دَولة العراق الحَديثة، التي ساهَم الأكراد بتأسيسها، لمُجَرّد قيامهم بإستِفتاء غير مُلزِم حَول الإستقلال، ونَعَتوهُم بالإنفِصاليين والنِزِل، وطَعَنوا بوَطنيتهم ووَطنية مَن تَعاطَف مَعَهُم وإحتَرَم خَيارَهُم ولم يُصادِر رَأيَهُم! فمَن الأسوَء، صَدام أم هؤلاء؟

شَخص كان يَعتبِر العراقيين شَعب عَظيم، ويُرَدِّد هذه الجُملة على مَسامِعنا ليل نَهار، حَتى صَدّقها كثير مِن العراقيين، لأنه على الأغلب مؤمِن بها، فهو نَفسه كأغلب العِراقيين كان مُصاباً بداء العَظَمة، لذا سَعى لحٌكمِهم وتمَسّك به، وإن كان على جُثث رفاقه وأقرَب الناس له. هكذا شَخص لا بُد أنه كانت لدَيه طاقة تحَمّل غير عادية جَعَلته قادِراً على تحَمّل وحُكم شَعَب بمُجرد أن مُنِح له هامِش حُرية، إنفَلَت عِقال عَقله وضَميره، ففَرهَد دوائِره وقَتَل بَعضَه بَعضاً وباعَ بلادَه برُخص التُراب.

"جئنا لنُخَلّصكُم مِن صَدام، فخَلّصناه مِنكم" لم تكن مَقولة إعتبارية، بل تحَقّقت على أرض الواقِع. فحين أمسَك الأمريكان بَصَدام الذي أرّقهُم لعُقود، تعامَلوا مَعه بحِرَفية بَعيداً عَن روح الإنتِقام، ولو كان العِراقيون هُم مَن أمسَكوا به لقَطّعوه إرباً وسَحلوا جُثّته ومَثّلوا بها، كما فعَلوا بالوَصي والباشا وقاسم. وفي الوَقت الذي أرادَ له الأمريكان مُحاكمة قانونية، أرادَها العراقيون سَلق بَيض وصورية، فَساسة أحَد المُكوّنات أرادوا إعدامَه بأي شَكل، لذا لم يُعجبهم تعامُل بعض القُضاة مَعَه بحِرَفية، وإستبدَلوهُم بمَن حَقّقوا لهُم غايَتهُم. وحين صَدَر قرار إعدامه سارَعوا لتنفيذه بطريقة إستعراضِية هستيرية صَباح أوّل أيام العيدَ، بَعد أن رَوّجوا بأن الأمريكان بالتعاون مَع بَعض الساسة كانوا يَسعَون لتهريبه!

العِراقيون لم يَرتاحوا بتَحريرهم مِن صَدام، لأنه لم يَكن وَحدَه المُشكِلة التي كانت تؤَرِّق راحَتهُم، بَل هو جُزء مِنها، لأنه جُزء مِن العِراقيين الذين هُم كشَعَب لُب المُشكِلة. فهُم لا يَسعون للراحة والفَرَح والحَياة والسَلام، بل يَبحَثون عَن المَشاكِل والحُروب والحُزن والمَوت، ِشعارهم "المَوت لنا عادة وكرامَتنا مِن الله الشَهادة، ويَتَحَيّنون الفرصة لإحتلال هذه الدولة أو رَمي تلك في البَحَر، بَدَلاً مِن السَعي لحَياة مُرَفّهة كريمة. لِذا إنتَخَبوا بَعد رَحيله مَن ضاعَفوا بؤسَهُم، وحَوّلوهُم لِمُرتزقة في مليشيات يَسوقها خامِنئي عِبر غِلمانه كسُليماني. بالتالي صَدام هو مَن إرتاح بتَخليصِه مِن العراقيين، سَواء بالمَوت أو قبلها في السِجن، فالمَوت لِمِثلِه بكُل الأحوال راحة أبَدِيّة، حَتى لو ذَهَب إلى جَهَنّم، فجَهَنّم رَب العالمين قَد تكون أهوَن مِن جَهَنّم العراقيين، وحَتى السِجن الذي كان له فيه حَديقة يَجلس فيها ليفطر ويَقرأ الجَريدة ويُدخِّن سيجاره الذي كان يَجلبُه له الأمريكان بَعيداً عَن هَم وغَم العِراقيين، كان أرحَم له مِن حُكمِهم، وما كان ليَراه ولا حَتى في الحُلُم لو وَقَع بأيديهِم!

قد يُهاجِم البَعض المَقال، إذا قرَأه بسَطحِيّة، لأنه سَيَعتبره ترَحّماً على صَدام، رَغم ما فيه مِن نَقد له ولِعَهدِه، لكونِه يَنتقِدَهُم ويَنتقِد مُجتمعَهم ويُشَخِّص بَعضاً مِن أمراضه، ويُعَرّي مَن جائوا بَعدَه، الذين هُم كصَدّام أيضاً، أبناء وتربية هذا الشَعَب ويَحملون عُقد وأمراضَه بشَكل أكثر تجَذّراً وَوضوحاً مِن صَدام. لذا هُم أسوَء مِنه بكل المقاييس، فيهم إجرامه وتَرَيّفه لكن بأضعاف، وزادوا عليها بطائِفيّتهم وعُنصُريّتهم التي لم تكن لديه، رَغم أنّهُم يَرمونه بها، لكن نَحن مَن عِشنا عَصرَه، ولم نلمَسهُما فيه كما هي فيهم بشَكل صارِخ، وهُم لا يُنكرونَها. لذا قضوا على الحَد الأدنى مِن شَكل الدولة الذي كان في عَهدِه، لأنهُم لا يُؤمِنون بها كفِكرة، كما أن حُكم مُكوّنَهم الذي يَعلمون عُقدِه ويَعرفون كيف يُدغدِغونها ليَستَغفِلوه ويُسَيّروه كيفَما وأينما يُريدون، أسهَل مِن حُكم شَعَب مِن مُكوّنات مختلفة أو مُتنافرة. فيما حافَظ هو على هذا الحَد الأدنى مِن شَكل الدولة، ليسَ بالضَرورة حُباً بالعراق، بل لأنه أراد أن يَحكُم شَعباً مُتماسِكاً خَوفاً لا قناعة، ولو بالظاهِر ليَسهل التَحَكّم به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشعوب لا تتحمل مسؤولية واقعها
د. لبيب سلطان ( 2024 / 4 / 6 - 11:45 )
اخي العزيز القرداغي
احيي فيك دوما كتاباتك الانيقة ذات التحليل الرصين والصدق في الطرح وحرية الفكر ولكني اجد صعوبة الاتفاق معك بهذه المقالة كما هو صعب ايضا رفض كل مافيها ..وهناك امرا لابد من استيعابه وهو ان الشعوب لا تتحمل وحدها مسؤولية واقعها السيئ او جرائم ترتكب كالسحل والتمثيل والنهب والفرهود ..وما يثبت ذلك ان مثل هذه العمليات واسوء منها وقعت في في كل الامم ومنها المتحضرة مثل المانيا وحرائم النازية فهل كان يعقل ان يرتكب الالماني المتعلم المتحضر جرائم ابادة مثلا لمدنيين ..
ربما لايتفق معي ايضا كثيرون ان قلت ان الشعوب كالعجينة يمكن قولبتها كيفما تشاء السلطات والاحزاب والحركات بادواتها ودعايتها وبطشها ...نفس الشعب العراقي الذي تعيرونه انه لايعترف للاكراد بحق تقرير المصير كان خرج بمئات الالاف عام 61 تضامنا مع الشعب الكردي..ونفس هذا الشعب الذي نهب ممتلكات دوائر الدولة عام 2003 كان يحرسها ويصونها في العهد الملكي، ونفس هذا الشعب مارس التحضر والاخاء .وهو اليوم يمارس الطائفية ..وبالتالي فهو كالعجينة يصنع الاسطة منه مايشاء وحسب مايتطلب منه ومنهجه ..الشعب ضحية كضحاياه عندما يقع تحت سلطات القمع


2 - (1) ! احكام متسرعة تفتقد الدقة... ورؤية بالمقلوب
محمد ناجي ( 2024 / 4 / 6 - 22:16 )
1- الاستاذ المحترم لا استغرب مما تفضلت بكتابته هنا تحديدا ، فهو النهج والأسلوب السائد منذ عقود عربيا ومنه العراق - الذي تزعم وغيرك وكأنه استثناء ، والمتابع الموضوعي يلاحظ أن نخب كل بلد تكرر نفس الملاحظة (العاطفية) عن شعبها سلبا او ايجابا - ، فالجميع في المحنة سواء والعراق ليس وحده . والسبب نهج وثقافة الاستبداد .
2- تراث هائل لنهج وثقافة الاستبداد ، والذي يمتد لقرون سحيقة ولغاية اليوم ، وهو لم يزل بين ليلة وضحاها بل يحتاج لنهج وثقافة بديلة غير موجودة حتى اليوم لا عراقيا ولا عربيا ، وهو افرز ويستمر في افراز مظاهر في مختلف المجالات والمستويات في المجتمع العراقي والعربي وكل مجتمع ابتلي ويبتلى بالاستبداد ، لكنه مهمل ومشوش وتحاذر النخب من الاقتراب منه ، وكيف لا وهي التي صنعته وساهمت بتضليل الشعب وخداعة لخدمة السلطة ومصالحها … وتفعل مثلما أراه هنا ، حيث تتناول الظاهرة/النتيجة وتهمل السبب والمسبب وبالتالي تدين الشعب (( الضحية)) ! الإدانة يجب أن تتوجه نحو المسبب/المجرم ، تحالف الشيطان (السلطة - رجل الدين - المثقف المرتزق - وأصحاب المال وحبربشية السلطة والمنتفعين منها) .


3 - (2)
محمد ناجي ( 2024 / 4 / 6 - 22:22 )
3- حسنا ، قد نختلف في هذا الرأي ، فهل يمكن الإجابة : من هم صناع القيم والرأي والشعارات ، رجل الشارع البسيط أم من يسمون حجج وآيات الله ومعهم الرموز في الشعر والمثقفون الثوريون …. ؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=560389
4- اسمح لي بسؤال آخر : هل الطاغية افراز اجتماعي محض ، ام نتيجة لظروف وبفعل فاعل ؟ وهلّا تفضلت بتنويرنا كيف وصل هتلر وموسوليني مثلا للسلطة ؟ وكيف ترى اليوم صعود الفاشية والعنصرية في المانيا واستلامها السلطة في إيطاليا وأكثر من بلد في أوروبا ؟
تفضل بقبول وافر الاحترام … مع اجمل تحية

اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس