الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما زال عقل وزير المالية السوداني الأسبق في أذنيه (2-2)

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2024 / 4 / 9
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تناولنا بالانتقاد في الجزء الأول من هذا المقال نظرة وزير المالية الأسبق التي أراد فيها ”بلا بصيرة “ الانتقاص من وجهة النظر الناقدة لمؤسسات التمويل الدولية والمتبنية للرؤية الصحيحة وهى ان المُعوّل عليه الأساس في تحقيق التنمية الاقتصادية هو اعتماد السودان على قدراته الذاتية. كما أوضحنا أن الموقف المعارض لهذه المؤسسات ليس مجرد قول بلاغي (rhetoric)، بل موقف أصيل لقطاعات واسعة من المفكرين والمثقفين المتنورين في العالم. ونواصل في هذا الجزء من المقال التعليق على منع مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الدول المستفيدة من قروضها ومساعداتها المالية من استقلالية التحليل والقرار في مضمار التنمية الاقتصادية. كما نلقى نظرة على جدوى خيارات بديلة كاستخدام القروض التجارية والاوراق المالية، التي تساهم في جذب الاستثمارات المحلية والاجنبية عن طريق البورصات.

ان سلب مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الدول المقترضة من حرية اتخاذ القرار المبنى على تحليلها ودراستها لواقع اقتصاداتها، يتضح من خلال ادخال برامج موضوعة كمخططات أساسية (blue -print-s) كبرامج التكييف الهيكلي (Structural Adjustment Programs) وفرض مختلف الشروط التي يتطلبها تمويلها، بالإضافة لاتفاقيات تحرير التجارة وفق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية التي تربطها علاقة عمل وثيقة مع صندوق النقد الدولي. وهكذا، عبر ما يفرضه ثلاثي مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة على تلك الدول من السياسيات المتعلقة بسعر صرف العملة وتحرير التجارة وسياسيات ، تم تجريد الدول النامية من الاستقلالية فيما يتعلق بخياراتها الاقتصادية.

عرفت الدول الفقيرة والنامية، منذ زمن طويل، التمويل عن طريق القروض التجارية التي تقدمها لها البنوك العالمية في أمريكا وأوروبا واليابان؛ وهو تمويل قصير الأجل في معظمه في مجال التصدير والاستيراد ولتمويل العجز في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، وبالتالي فانه يرتبط بالتجارة الدولية. ورغم اننا في هذا المقال ليس بصدد مناقشة أثر هذا التمويل على التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة، الا انه جدير بالذكر أن التجارة الدولية تساعد الدول عبر الاستيراد والتصدير في توسيع قاعتها الإنتاجية، والمثال التاريخي لهذا هو التأثير الضخم في تطور الرأسمالية الناشئة حيث ارتبط ازدهارها بحركة الاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، التي فتحت نوافذا تجارية جديدة أمام التجار الأوروبيين لمراكمة الثروات الضخمة. وكذلك، فان التمويل التجاري قصير الاجل للدول النامية تحاصره تعقيدات واشكالات فنية كثيرة. لكن تحرير التجارة جاء في صالح الدول الصناعية الكبيرة عن طريق التبادل غير المتكافئ ، وصارت التجارة الدولية أداة يتم عبرها استنزاف مالي للدول الفقيرة يقدر بمئات المليارات من الدولارات سنويا من قبل الاحتكارات العالمية الكبرى عابرة القارات.

نواصل، ونذكر أن القروض التجارية لم تشكل بديلا تمويليا للدول الفقيرة نتيجة لعزوف البنوك العالمية عن الدخول في هذا المجال الذى يتسم بالاستثمارات ذات المخاطر العالية وضعف قدرتها على استيعاب التمويل والاستفادة منه بشكل فعال.

وكتعلق عام على جدوى بديل القروض التجارية في التنمية الاقتصادية، نذكر ان قرض مؤسسات التمويل الدولية رؤيتها في كيفية استغلال الأموال ”المشروطة“ التي تقدمها للدول المقترضة، لم تؤد لتحسين أداء الاقتصاد أو قيام استثمارات ناجحة تستطيع خدمة التزاماتها المالية تجاه تلك المؤسسات. وهذا ما يضعف جاذبية الإقراض بشروط ميسرة (concessionary lending) للدول الفقيرة مقارنة بفوائد البنوك التجارية المرتفعة نسبيا. حيث نجد أن مستحقات الفائدة على قروض مؤسسات التمويل الدولية تتراكم سنويا لتصل الى أرقام فلكية. فمثلا من التجربة السودانية، نجد أن حجم أصل ديون (principal debts) السودان صغيرا أعظمه (75%) موروث من سبعينيات القرن العشرين (خلال نظام مايو 1969-1985). وأدت فوائد التأخير (default interests) الى زيادة حجم أصل الديون المقدر ب 19.8 مليار دولار ليبلغ حاليا أكثر من 60 مليار دولار.

وهذا يقودنا الى أن البديل المجدي للتمويل المشروط هو اعتماد الدول الفقيرة على قدراتها الذاتية، وتمتعها بالإرادة والقدرة السياسية لتحسين البيئة الاستثمارية حتى يكون التمويل الخارجي، بشتى اشكاله، عاملا مساعدا في عملية التنمية الاقتصادية.

وفى مجال البحث عن بدائل للتمويل المشروط، فان التجربة الماليزية توفر لنا المزيد من التفكر في هذا المجال. فعلى إثر الازمة المالية التي مرت بها في اخريات سبعينات القرن الماضي بسبب الديون الخارجية، سعت معظم دول شرق اسيا للحصول على قروض صندوق النقد الدولي المشروطة؛ لكن آثرت دولة ماليزيا رفض شروط الصندوق. وبعدها اتجهت ماليزيا، كبديل لتمويل التنمية الاقتصادية، الاعتماد على اصدار "الصكوك الإسلامية" وهي وفق الدولة أدوات مالية متوافقة مع الشريعة الإسلامية بعكس السندات التقليدية.

واولا، ننوه أن قصدنا هنا تناول الصكوك الاسلامية كأداة تم اللجوء اليها في ماليزيا كبديل لقروض المؤسسات الدولية ومن ثم البحث في جدواها لتحقيق التنمية الاقتصادية، وبالتالي على الرغم من أن موضوع الصكوك الإسلامية مقارنة مع بالسندات التقليدية يقع خارج نطاق هذا المقال، نود أن نذكر في إشارة سريعة الى أن الصكوك المالية الإسلامية هي أداة استثمارية، طويلة الأجل، للتعامل بها بديلا عن السندات الحكومية أو سندات المؤسسات المالية القائمة على الاقتراض بشرط الفائدة، الربا. لكن السندات التقليدية وما يسمى بالصكوك الإسلامية لا اختلاف بينهما الا في الشكل، فالصكوك الإسلامية تم تصميمها على أساس دفع الأرباح - وليس الفائدة. كما قامت ماليزيا بتحجيم الشقة بن الصكوك وبين السندات التقليدية من ناحية عملهما؛ وجرى هذا بمراجعة التشريعات لتقليل أو إزالة العقبات القانونية الواقعة على المعاملات المالية الإسلامية، بما في ذلك الصكوك. وشملت التغييرات الحياد الضريبي بين المعاملات الإسلامية والتقليدية، وادخال حوافز ضريبية لتعزيز جاذبية الصكوك للمستثمرين ومصدري الأوراق المالية.

إن لجوء ماليزيا لتمويل التنمية بالصكوك بديلا للتمويل المشروط، مكن ماليزيا من حشد مواردا مالية معتبرة اذ بلغ حجم سوق إصدار الصكوك الإسلامية في ماليزيا 151 مليار دولار في 2014 ليصل الى 900 مليار في 2023. لكن نجد أن ماليزيا أسست ”إصلاحات“ اقتصادية مماثلة لاصطلاحات برامج ”التكييف الهيكلي“ تتضمن تقريبا نفس السياسات التي يتطلبها تمويل صندوق النقد الدولي مثل تحرير الاسعار وسعر الفائدة، وتخفيض سعر العملة والخصخصة، الخ؛ ولا يوجد تفسير لهذا الا باعتبار التركيب الطبقي للنظام الاجتماعي المتسم بهيمنة الطبقة المرتبطة براس المال العالمي، الكومبرادور الذى يتمحور نشاطه الاقتصادي حول الاشتغال بالاستيراد والتصدير.

وهكذا، فرغما عن الازدهار النسبي الذى حققته ماليزيا في مجال انتاج السلع الاستهلاكية والتقليل من اجراءات التقشف، الا أن طريق البلاد نحو التنمية الشاملة المستدامة يواجه عقبات متأصلة في الاقتصاد. وجدير بالذكر، فان التمويل بالصكوك لم يجعل أداء ماليزيا الاقتصادي يتفوق في، المحصلة النهائية، بشكل كبير على دول شرق آسيا مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية الخ، التي قبلت، خلافا لماليزيا، الاستجابة لشروط تمويل المنظمات الدولية.

ان السياسات المتعلقة بسعر الصرف والسياسة النقدية الذى اتبعتها ماليزيا فيها إشكالات تتعلق بطبيعة الاقتصادات ما قبل رأسمالية ( pre-capitalist economies)؛ فكنتاج طبيعي لهذا الواقع قان اقتصادات الدول الفقيرة تعانى من تشوهات اقتصادية جمة ومشاكل هيكلية تعوق الإنتاج بشقيه الزراعي والصناعي. فالتشوهات تشمل عدم عكس أسعار السلع للوضع الحقيقي للعرض والطلب، أي انه لا يمكن وصفها بأنها أسعار السوق؛ وهذا يعنى فشل تطور الاقتصاد أن يكون سوقا حرا (market economy) من وجهة نظر الاقتصاد الرأسمالي، يتسم بكفاءة تخصيص الموارد والمنافسة وسبل تسهيل المطابقة بين العرض والطلب. وهذا الفشل يرجع لعوامل محلية متعددة، منها الاحتكارات والتدخل الحكومي وعوامل خارجية، أهمها، اعتماد الدول الفقيرة على القروض في سعيها نحو تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. وهكذا، فان برامج مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبالتنسيق مع منظمة التجارة العالمية لا تعمل الا لتكريس وضع اقتصاد البلاد كاقتصاد تابع، اقتصاد شبه رأسمالي تستغله الدول الاستعمارية في استنزاف مقدراته وموارده وعمالته الرخيصة؛ وهذا يتم مع الكمبرادور المحلى يد بيد. والاداة الرئيسة للسيطرة على اقتصادات الدول الفقيرة التي لجأت لها مؤسسات التمويل الدولية هي التحكم في سعر صرف العملات المحلية بمطالبة تعويمها كشرط لاستحقاق مساعداتها المالية. ووفق زعم مؤسسات التمويل الدولية، فان شرط تعويم العملة المحلية يقود الى قيمتها الحقيقية مما يؤدى الى زيادة الصادرات (الإنتاج) كنتيجة طبيعية لذلك الاجراء. ولكن التعويم الجزئي أو الكامل للعملة المحلية للدولة المقترضة لم يؤد لزيادة الإنتاج ولا الحد من الواردات التي تحسن ميزان مدفوعاتها، بل تسبب في تراجع القيمة الدولارية لناتجها الإجمالي المحلى وتآكل أرصدتها النقدية؛ وصارت الدولة مواجهة بزيادة نسبة خدمتها للديون بالعملة الأجنبية بنسبة ما تعادله العملات الأجنبية من وحدات بالعملة الوطنية المخفضة قيمتها؛ وبالنسبة للوحدات الإنتاجية فإنها صارت عرضة لتآكل رؤوس امولها نتيجة غلاء السلع الرأسمالية ومدخلات الإنتاج المستوردة (نتيجة لتعويم العملة).

وهكذا، فان التحليل الجاد لن تغيب عن افقه أن تحقيق ثورة شاملة في الإنتاج بزيادته كما ونوعا في البلدان الفقيرة تعيفها مشاكل هيكلية تتمثل في ضعف يطوّق مجالات البنيات التحتية والتدابير الإدارية والقطاع المالي وراس المال الوطني، عوائق متجذرة في الاقتصاد لن تحل الا بسياسات تقود الى اعادة هيكلة الاقتصاد على كل المستويات وفي جميع القطاعات تقوم على أساس الاعتماد على النفس وتفجير طاقات الشعب؛ هيكلة يتطلب تحقيقها إرادة سياسية قوية، كمقدمة أولى للتحقيق التنمية الاقتصادية، تقلب المسار الاقتصادي القائم أساسا على التصدير والاستيراد بقيادة قوى اجتماعية تجارية (كومبرادور)؛ فهذا المسار مسؤول عن الطاقات الانتاجية المنخفضة والاعتماد على مدخلات الانتاج المرتفعة (مثلا المواد الكيمائية – قطع الغيار، الخ)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة الأميركية وطلاب متظاهرين تضامناً مع غزة ب


.. Colonialist Myths - To Your Left: Palestine | أوهام الاستعما




.. تفريق متظاهرين في تل أبيب بالمياه واعتقال عدد منهم


.. حشد من المتظاهرين يسيرون في شوارع مدينة نيو هيفن بولاية كوني




.. أنصار الحزب الاشتراكي الإسباني وحلفاؤه بالحكومة يطالبون رئيس