الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح الذات: كانَ ربيعَ العشق

دلور ميقري

2024 / 4 / 9
الادب والفن


1
جوّ كابوسيّ، كانَ قد جثمَ على صدر دارين حينما وصل إلى ريغا، وذلك في مبتدأ شهر آذار/ مارس. إذ سارَ القطارُ رأساً إلى عاصمة لاتفيا، دونَ التوقف في نقطة حدودية، أين من المفترض أن يحصل المرءُ على فيزا. كونه وصلَ إلى المدينة عصراً، والإدارات الرسمية مغلقة، أضطرَ للبحث عن فندق. وإذا أقدامه تقوده إلى ريغا القديمة، الشبيهة بالمتحف، بكل ما تدّخره للسياح من متعة تأمل مبانيها الأثرية. الحرارة، المتدنية تحت الصفر، أجبرته على دخول أول فندق صادفه في المدينة القديمة. ثمة، دفعه القلق لسؤال موظف الإستعلامات عن إمكانية الحصول على فيزا ترانزيت، عقبَ دخول البلاد. استردّ بعضَ الطمأنينة، لما ردّ الموظفُ بأن الأمرَ ممكنٌ وطبيعيّ. إلا أنه لم يشأ الخروجَ ليلاً، فقضى قليلاً من الوقت في بار الفندق ومن ثم هجعَ باكراً إلى السرير. في صباح اليوم التالي، راجعَ الإدارة المختصة بالفيزا والإقامة، فتم منحه تأشيرة لمدة أسبوع مقابل مبلغ صغير من الدولارات. تنفسَ عندئذٍ الصعداء، فخرجَ إلى الشارع ليوقف سيارة أجرة كي تقلّه إلى الميناء. عقبَ حجزه تذكرة في السفينة، المبحرة إلى ستوكهولم في مساء اليوم نفسه، شعرَ بالجوع. في مطعم الميناء، وجدَ مكاناً شاغراً إلى جانب فتاتين، إحداهما كانت رائعة الحُسن. وإنها هيَ من بادرت للحديث معه، فيما ظهرَ أن الأخرى لديها معلومات جيدة عن السويد. كانتا من الأقلية الروسية، التي تعادل تقريباً عدد المواطنين الأصليين في لاتفيا. لمحض المصادفة، أن اسمَ الحسناء كانَ " ناستيا ".
قالت له بالروسية، وهيَ تمد يدها لمصافحته: " تشرفتُ بمعرفتك ". سألته أين تعلمَ الروسية، فزعمَ أنه أمضى فترة في موسكو كرجل أعمال. بعد قليل، نهضت مع صديقتها لمغادرة المطعم. وكانَ قد لحقَ أن يقول لها: " سنلتقي لاحقاً "، لما عادت وإلتفتت إليه كي ترفع يدها وتحييه. ثمة في السفينة، ومباشرةً بعد التعرّف على حجرته، إندفعَ للبحث عن الفتاتين. كانت السفينة قديمة ورثّة، حجراتها شبيهة بأمثالها في الثكنة العسكرية. لم يكن ثمة عددٌ كبير من الركاب، بالنظر إلى قلة السياحة في هذا الوقت من العام. كون الروس من عشاق الكحول، فإنّ دارين إرتأى أن يمكث عند كونتوار البار أملاً في اللقاء بتلك الحسناء وصديقتها. هذه الأخيرة، ظهرت على الأثر وكانَ أحدهم يلاحقها بإصرار. حينَ وقعَ نظرها على دارين، إتجهت إلى مجلسه وأخذت مكاناً على الكرسيّ المرتفع: " لقد إفتقدتكَ عندما عدتُ إلى المطعم، غبّ توديعي لصديقتي "، قالت له. لم ينتبه إلى الجملة الأخيرة، فيما كانَ يهمّ بسؤالها عما تودّ أن تشربه. طلبت قدحاً من الكونياك، ومن ثم أومأت إلى ناحية ذلك الرجل، الذي كفّ عن ملاحقتها ونأى بنفسه على الطرف الآخر من الكونتوار: " يا له من شخصٍ فظ، لجوج. أعتقدُ أنه من كرد العراق، الذين إنتشروا في ريغا مع الصوماليين، الساعين إلى اللجوء للسويد "، قالتها متأففة. وكانَ دارين قد لحظ هذه الظاهرة، سواءً في موسكو أو تالين، بحيث أنه كانَ يُسقط إنتماءه الإثنيّ عند التعريف بشخصه. أولئك الكرد، كانوا ينفقون المال بسِعَة على العاهرات، وبعضهم أضحى مفلساً يستجدي أقاربه، الذين يقيمون في الدول الأوروبية. الصوماليون، الذين فاقوا الآخرين في بدائيتهم، دفعهم الإفلاس واليأس ذات مرة لإقتحام إحدى سفن الركاب، المزمعة الإبحار من تالين إلى ستوكهولم. جمال، كانَ قد فكّرَ بهكذا إحتمال حينَ حملَ دارين على قبول فكرة الفتى ساشا، الخرقاء، بالعودة تسللاً إلى تالين.
" هل تركتِ صديقتك، ثمة في الحجرة؟ "، سألَ الفتاة. رنت إليه مدهوشة، وأجابت: " أية حجرة؟ لقد حضرت ناستيا إلى الميناء، لكي تودّعني ". قبلَ أن يفيق من وهلة الخبر، أردفت هيَ مبتسمة: " أتعلم أنها بدَورها، عبّرت لي عن إعجابها بك. على أيّ حال، لو شئتَ طبعاً، سأكتبُ لك الآنَ رقم هاتفها كي تتواصلان ". هزّ رأسه موافقاً، ومن ثم تناول منها القصاصة. علاوة على الرقم المطلوب، كتبت له رقم هاتفها في ستوكهولم. عندئذٍ حَسْب، عرفَ أن اسمَ هذه الفتاة هوَ " إيرينا ". قالت له أنها خليلةُ رجلٍ سويديّ، متقدّم بالعُمر، وتقيم معه منذ نحو عامين. شددت على مسألة العُمر، فيما هيَ تتمعّنُ في عينيه. فهمَ دارين، أن صديقتها تسعى أيضاً إلى حظوة العيش في الفردوس السويديّ. لا غرو أنه المستقبل المظلم، مَن دفعَ الفتيات الروس لهكذا خيار.. بله ومَن هنّ من الأقلية الروسية، التي فقدت إعتبارها في بلاد البلطيق مع إنهيار الإتحاد السوفييتي.
في آخر الليل، قادت إيرينا " محبوبَ " صديقتها إلى حجرتها، وكانت تشغلها وحدها لقلة عدد المسافرين. وكانَ دارين قد أخذ سلفاً فكرة عن معاناتها مع الكهل السويديّ، الذي دأبَ على إخضاعها لتجارب جنسية غريبة وساديّة. مع توقها للمزيد من المواقعة، أدرك أنها كانت صادقة في ذلك الحديث.
بالرغم من شفقته لحال الفتاة الأخرى، ورغبته في أن تكونَ إيرينا عشيقته، فإنه مزق فيما بعد تلك القصاصة، المرقّشة بالأحرف الكيريلية لإسميهما ورقميّ هاتفيهما. في حقيقة الأمر، أن إيرينا إندفعت إلى المطارحة معه ليسَ بدافع الأنانية والأثرة. لقد كانَ قد صارحها منذ البدء، أنه ما برحَ على علاقةٍ مع صديقة سويدية. فهمت حينئذٍ، أن مشروع مساعدة صديقتها بالإقامة في السويد لن يتحقق مع هذا الشاب الأجنبيّ. فلم تمانع، والحالة هذه، من إقتناص الفرصة في نزوةٍ عابرة.
ما لم يدُر في خلده، أن ماريا كانت قد شرعت في علاقةٍ مع شاب إيرانيّ، تعرفت عليه مؤخراً في أثناء الدراسة. كان دارين قد سبقَ وأخبرها هاتفياً، أثناء وجوده في تالين، بنجاح أسرة شقيقته في الوصول الى السويد. في المخابرة الثانية من موسكو، بعد نحو أسبوعين، أبدت تذمرها من بقائه ثمة ولم تقتنع بمبرراته. بل إنّ فكرة خرقاء واتته، أنه في الوسع إقناع صديقته بجلب جمال إلى السويد بعقدٍ صوريّ؛ زواج أو مُساكنة. لكن مع مرور الأيام، وإنغماسه في الفودكا مع فتياتٍ سهلات المنال، سلا تماماً إعادة الإتصال بماريا.

2
شَعر بفرحةٍ غامرة حال وصوله إلى السويد، كأنه طائرٌ أطلقَ تواً من القفص. بالرغم من المسافة بين الميناء ومحطة القطار، التي قطعها مشياً على الأقدام، فإنه لم يحسّ بالبرد. في حقيقة الأمر، أن كلتا المدينتين، ستوكهولم وريغا، تقعُ على خط مداريّ واحد. بل إنهما شقيقتان، بحَسَب تقليدٍ قديم. أما الهوّة الحضارية بينهما، فإنها تضيقُ لو إستعادَ المرءُ مشاهدَ المدينة القديمة في ريغا. في محطة القطار، إلتقى إتفاقاً مع دوغان، الذي كانَ ينتظرُ مجيءَ صديقٍ من مدينة أخرى. وقد دعاه إلى الكافيتريا، قائلاً وهوَ يبتسم: " ما عجلتك، وثمة قطارٌ إلى أوبسالا كل ساعة؟ ". ثم سأله بشيءٍ من الإهتمام عن رحلته إلى روسيا، وبنبرةٍ مداعبة: " سمعتُ أنك أضحيتَ مهرّباً، وأمضيتَ عدة أشهر في تلك البلاد؟ ". فقصّ عليه دارين بعضَ تفاصيل تهريب شقيقته وأولادها إلى السويد، موحياً أنها وصلت قبله بقليل. ثم إنتقل الكاتبُ الكبير إلى موضوعٍ آخر، لاحَ أنه يستأثرُ بإهتمامه الشديد. فإستهل بالسؤال: " هل سمعتَ عن صالح بك بدرخان؟ إنه شخصية كردية متنوّرة، ووالد روشن خانم؟ "
" بلى، ولقد قرأتُ مذكراته المترجمة مؤخراً إلى العربية "
" آه، حسنٌ جداً. نفس هذه المذكرات، قررت نشرها صحيفةٌ يومية كردية في إسطنبول، وعُهد إليّ أمرُ تحقيقها. سأعتمدُ عليك في مدّي ببعض المعلومات، وسنتواصل عن طريق الهاتف "، قالها الرجلُ منشرحاً. إذاك، فكّرَ دارين بقليلٍ من الإكتراث أنه لم يعُد مرحباً به في منزل الكاتب الكبير: " ومن يدري، فلعل إمرأته شيلان قالت له بغموض، أنها لا ترتاح لهذا الشخص؛ ودونَ أن تحتاج لتحديد السبب؟ أو أنّ رَجُلها إكتنهَ بذكائه تغيّرَ مزاج إمرأته تلقاء صديقه الشاب، فآثر السلامة لكليهما ولنفسه؟ ".
أخرجه دوغان من دوامة الفكر إلى كينونة الواقع، بأن سأله عن دراسته وما لو كانَ في الوسع أن تستمر مع غيابه لأشهر خارج البلد. وإنه نفسُ الهاجس، الذي شغله مذ ركوبه السفينة المبحرة إلى السويد، وحاول طرده عن طريق الكحول وصُحبة تلك المسافرة الروسية.
جواباً على سؤال الرجل، ندّت عنه جملة مبهمة: " سأجدُ عذراً مناسباً ". وإذا ملامحُ الكاتب الكبير تكفهر، حينما إنتقل إلى موضوع آخر. إبتدأ بإستعادة سهرةٍ على الكأس جمعتهما مع خفيفو، هنا في العاصمة، قبل أكثر من عامين: " أنت تذكر، على ما أعتقد، أنه كلّمني عن رغبة عمّه في ترجمة إحدى رواياتي؟ ". ثم أضافَ: " حسنٌ. وقد حصلَ على موافقتي دونَ أيّ شرطٍ، سوى أن تكون طبعة الكتاب بشكلٍ جيد. بالأمس، إتصل ذلك السكّير معي، ليقول بأنّ الكتابَ لن يجد طريقه للنشر إلا لو دفعتُ مبلغَ خمسمائة دولار. فقلت له أنني منحتُ عمكَ حقوقَ النشر، متخلياً عن منفعتي المادية. حينَ تمادى السكّيرُ بهذيانه، أغلقتُ خط الهاتف بعدما وَصَمْته بأنه مجرّد متسوّل ".
علّقَ دارين بكلمة مقتضبة: " مع الأسف ". لم يشأ عندئذٍ ذكرَ النيّة المبيّتة لذلك الثعلب الصغير، بشأن إبتزاز المزيد من المال من دوغان، ولا أيضاً بالطبع حديثه الطائش عن شيلان زوجته. نعم، لقد غذى الثعلبان رأسَ الكاتب الكبير بالمدائح الطنانة، هما العريقان بالمكر والخبث؛ ثم جاءَ دورُ الحساب: " إدفعْ! ولكن ليسَ بالكرون، وإنما بالدولار! ". إن أكبرهما قد إستقر في العاصمة، يتعهدُ الصفحةَ الثقافية لصحيفةٍ كردية سياسية يصدرها أصحابها دورياً لمجرد الإستفادة من المُعين الكريم للمُضيف السويديّ. فيما الثعلب الصغير، تفرغَ للجلوس في مقهى غاليري غوتنبورغ في صحبة مثقفين عراقيين، يكنون له الإحترام المقدّس عقبَ علمهم أن جدّه الأول هوَ الحسين عليه السلام.
ولكن بمرور الأيام، وإنقضاء همهمة ذكريات الرحلة الروسية، عاد دارين ليتآكل داخله ضمن شرنقة الوحدة. حقاً إنه قدّم حجّة مقنعة لمعهد الغرافيك، بشأن غيابه الطويل، إلا أنهم أبلغوه ثمة أن عليه الإنتظار للخريف كي يبدأ الدراسة من جديد. من ناحية ماريا، كانت لا تردّ على مكالماته. إتصل معها ذاتَ مرةٍ من كابينة هاتف الشارع، ولما سمعت صوته قالت بنزق: " إنتهت علاقتنا، فليسَ من داعٍ بعد لنتكلم ". بعدئذ، لم يقع نظره عليها سوى مرة واحدة ذلك العام، وفي أوج الصيف. رآها مع صديقها الإيرانيّ، ثمة في حديقة الملك، وقد جلسا وجهاً لوجه على ضفة النهر. حين لمحت دارين، فإنها تعمّدت فتحَ ساقيها. لم تكن ترتدي سروالاً داخلياً تحت التنورة، وكأنما كانت تكيده بتلك الحركة: " ألم تحنّ لهذا الفَرْج؟ ". وتمنى عند ذلك لو أنه يجيبها، مع كمٍّ من الحسرة ولا غرو: " بل أحنّ أكثر لكفلكِ السخيّ، الذي يُعيّد في أوان كرنفال السامبا! ".
أحياناً، كان دارين يُفارق العزلة بركوب الحافلة إلى معسكر اللاجئين، أين تقيم أسرة شقيقته مع قريبهما؛ " شنب الصرصار ". هذا الأخير، تواترت تمثيليات إغمائه وإسعافه بغيَة تسهيل طلبه اللجوء. كذلك أظهرَ موهبة فريدة في إقامة شبكة علاقات مع أخوة منحرفين، من جنوب العراق، طردوا من الكويت على أثر تحريرها من جيش صدّام. كان مريضُ القلب قد حصلَ منهم على جهاز موبايل، مسروق، فيمر به على مساكن اللاجئين لمن يرغب في الاتصال مع الوطن بمقابل تعريفة معينة. عندما كانَ صاحبُ الموبايل يبلّغ الشركة بفقدانه، ويتم غلق الخط، فإن أولئك المنحرفين كانوا يعوضونه بسرقة جهاز آخر. شنبُ الصرصار، لم يكن يتحرّج من أخذ التعريفة من قريبته، التي يعيش في كنفها مجاناً تقريباً: " إنها خدمة مجرّدة من المنفعة، أقومُ بها "، كانَ معتاداً على القول لها وللمعارف.
وإنما في هذه الفترة، إستهل دارين بكتابة المسودّة الأساسية لروايته الأولى، وذلك بعد إهماله شأن رواية تاريخية كان قد وضع لها، في الأعوام الأخيرة، المزيدَ من الخطط والملاحظات والمعلومات. هذه الرواية الجديدة، كانت حبكتها في بادئ الأمر تتمحورُ حول علاقةٍ عاطفية للبطل مع إمرأة رجل بحّار، وتدور أحداثها في لاذقية أواخر السبعينات. لكنه عدّل الحبكة، ليعطي تلك العلاقة أهمية ثانوية. في المقابل، إعتمدت الحبكة الجديدة على علاقة البطل بإمرأة شابة، يُتاجر زوجها بجسدها. كلتاهما، هذه الأخيرة وإمرأة البحار، كانت شخصية واقعية إلى حدّ معيّن. فالمألوف في الرواية الأولى لأيّ كاتب، كما يُبرهن تاريخُ الأدب، أن تُستمد بشكل كبير من سيرته الذاتية.

3
لو كانَ الطقسُ الربيعيّ رائقَ المزاج، فإن الطبيعة السويدية تنقلب على غرّةٍ رأساً على عقب. الأزهارُ البرية، تبدأ في النمو بسرعة مذهلة، فيشكّل البنفسج والنرجس والأقحوان، لوحة جد جميلة تليق بالحوض المشمس للبحر المتوسط لا بشبه الجزيرة الإسكندينافية الجليدية. وكانَ دارين عائداً من مركز الطب النفسي، الذي تواجد فيه بغية زيارة مساعدة طبيب، أصلها من تشيلي، محترفة لفن النحت والسيراميك. لقد تعرّف عليها في مبتدأ وجوده في السويد، فضمته آنذاك إلى محترفها، الكائن في حجرة نائية من المركز الطبي. كانت في مقتبل الأربعينات، وتتكلم كثيراً عن إبنتها، التي تدرس في لندن. في نفس المركز، كانَ دارين يلتقي أيضاً بمساعد طبيب؛ وهوَ شاب من كردستان العراق، مصاب بالشلل النصفي نتيجة طلقة إستقرت في رأسه حينَ كانَ بصفوف البيشمركة. بفضل هذين الشخصين، سبقَ لدارين أن حظيَ بشهادة طبية أتاحت له البقاء في أوبسالا بدلاً عن المكوث في معسكر اللاجئين لحين نيل جواب السلطات بشأن طلبه حق اللجوء. كما ألمعنا في مكانٍ آخر، كانت هذه فكرة شقيقته الكبرى كي يبقى تحت سقف بيتها. في حقيقة الأمر، أنها حيلة مألوفة يلعبها الكثيرُ من اللاجئين. في بداية تعرفه على نورو، وكانَ يشكو من العيش في المعسكر، أنارَ له دارين هذه الفكرة. علّقَ الرجلُ، قبل أن يسترسل ضاحكاً: " سأقول لصاحبك الطبيب، أنني أعاني من الكآبة وتعذيب الضمير بسبب معاملتي القاسية للعمال الزراعيين، الذين يخدمون أرضي في موسم الحبوب ". لكنه حصلَ على مبتغاه، وكذلك إقتدى به رمّو.
في أسفل ذلك المركز الطبيّ، وعلى مساحة شاسعة بحجم غابة، تمتد مقبرة المدينة الرئيسية. وهوَ ذا يمشي بإزاء سور المقبرة الحجريّ، الواطئ، يتأمل بشغف القبورَ وشواهدها، المختلفة التصاميم، ومنها ما يعود إلى عهد النبالة. إنه لشيءٌ رائع، فكّر دارين، أن يحظى المرءُ بضريحٍ أنيق ويغدو أشبه بمومياءات الفراعنة. تذكّر عندئذٍ أصدقاءً رحلوا في الآونة الأخيرة، وكانَ منهم " كامل "، الذي تعرّفَ عليه سابقاً في موسكو. كانَ غندوراً، وسيماً ورهيفاً، من عائلة ملّاكين في الجزيرة. إستعاد علاقته معه منذ حلوله في السويد، وكانَ قد تعهّدَ في إحدى المرات الترجمة له في مركز البوليس. في مهمة مماثلة، بعد بضعة أشهر، لقيَ حتفه عندما إنزلقت سيارته عن الأرض الجليدية وأصطدمت بشجرة.
ولكن، مَن هذا المنهمك في العمل بالمقبرة، وقد إرتدى زيّ العمال وكأنه في حفلة تنكرية؟ بلى، إنه " كايا "؛ وهوَ رجلٌ أربعينيّ، يُعاني بمرارة صامتة من شخصية إمرأته القوية، وبالأخص حينَ تركَ صفوفَ حزبٍ يشغلُ فيه شقيقها منصباً بارزاً. إنه بنفسه كاتبٌ، ويعلمُ الله ما يكتبه، طالما أنه باللهجة الكردية الدوملية ( الظاظا ). لو أردنا وصفَ هيئته، فما علينا سوى إستعادة شكل ذلك الدب، بطل رواية " ملك لير السهبي " لإيفان تورغينيف. شأن هذا الأخير، كانَ بالرغم من مظهره الوحشيّ، رجلاً مُسالماً وعلى شيءٍ وافر من السذاجة. في إحدى المرات، صادفَ أن دخل دارين إلى النادي الكرديّ. فدعاه كايا للجلوس معه، ومن ثم أخرجَ من حقيبته بضعَ أوراق: " عليك أن تنصت لهذه القصيدة الجديدة، التي نظّمتها باللهجة الكرمانجية ". بصوته المُصم، راحَ يتلو أبياتاً منظومة تتضمن شتائم مقذعة بحق الأتراك، الذين ينكرون إنسانية قومه وحقوقهم الخ. بعدما أنهى تلاوته، سأله دارين: " لِمَ أقحمتَ أبياتاً باللغة التركية في القصيدة؟ ". إبتسمَ الشاعرُ العريق، الذي أجهدَ نفسه حدّ أن العرَقَ بدأ يطفو على وجهه اللحيم، وأجاب: " هذه الأبيات موجهة للشعب التركي، كي يتضامن معنا "
" وكيفَ في الوسع أن يتضامن معنا، وأنتَ لم توفّر شتيمة بحقه؟ "، تساءل دارين. وعلى العموم، كانت صُحبة الرجل على قدْر من التسلية، بالنظر لصراحته وطرافته. إنه طفلٌ بهيئة دب. في جلسةٍ أخرى، نقل له صديقه الشاب خبراً جرى على لسان عُمَرو، بأنه حازَ على جائزة المجلة التركية المرموقة، " نحوَ العام 2000 ". هزّ الدبُ رأسَهُ، وعلّقَ بالقول: " بل وسيُمنح أيضاً جائزة نوبل للكذب! ". ويشاء الحظ السعيد، أن يتعاون الصديقان اللدودان مع دجلة في رفد مجلته بنصوص من تلك اللهجة المعلومة. في العدد الأول، ظهرت لكايا قائمة مفردات على شكل قاموس صغير، يتضمن الشتائم والأدعية السلبية والتمنيات الجهنمية. لعله إستحضرها، فيما كانَ يفكّر بإمرأته الشديدة المراس. في عددٍ آخر، قام بإنتحال دراسة منهجية كاملة، مع مصادرها المتعددة اللغات، وكانت عبارة عن مقدمة " ملحمة ممي آلان " لبروفيسور بارز. حينما ضجّ الوسط الثقافيّ بهذه الفضيحة، لم يجد كايا مبرراً إلا القول لصاحب المجلة: " لقد غفلتُ عن ذكر إسم البروفيسور في نهاية الدراسة ".
وإذاً، إلتقى دارين بالرجل من جديد، وما لبثَ أن أضحى ساكنو القبور شهوداً على حديثهما. أظلمَ وجهُ كايا، لما تم ذكر مجلة دجلة، وقال أنه لم يعُد مهتماً بها. ثم تحوّلَ إلى موضوعٍ آخر: " عُمرو، أخبرني أنك مَن تمدّ دوغان بالمعلومات في شأن مذكرات صالح بك بدرخان؟ فإعلم يا صديقي، بأن حلقات المذكرات تظهر يومياً في الصحيفة دونَ أن يتم ذكرُ إسمك. أهذا لا يُعدّ إنتحالاً؟ ". تدفقَ في الكلام، وقد لاحَ التأثر على صفحة وجهه المتعرّق. فكّرَ الصديقُ الشاب عندئذٍ، أنّ الرجلَ بذكره هذه المعلومة، أرادَ الإنتقامَ ممن لوثوا سمعته الأدبية.
من ناحيته، أنّبَ دارين نفسه، كونه قدّم تلك المعلومة لمرشح نوبل في الكذب. إذ سرعانَ ما إنتشر الخبر بين أوساط النخبة الثقافية، وأعتُبر تصرّف دوغان عند البعض دليلاً ضافياً على الزيف والتزوير في شخصيته ـ ككاتب روائي. ففي عام سابق، إتهمه أحدهم بأنه غَرَفَ نصوصاً كاملة من مذكرات الأمير جلادت بدرخان، التي سلّمتها له إمرأته. هذه الأخيرة، هيَ روشن خانم؛ الإبنة الوحيدة لصالح بك بدرخان. والد دارين، كانَ على علاقة وثيقة معها لحين وفاتها، كذلك كانَ بمثابة تلميذ لرَجُلها في أعوام الشباب.
وكما هَجَسَ دارين، فإنّ الضجة الجديدة حيال مذكرات صالح بك بدرخان، ستؤثر سلباً على علاقته بالكاتب الكبير. ففي يوم تالٍ، جادله هذا الأخيرُ بشيءٍ من الحدّة حينَ طلبَ منه الإستعجال بالمنحة المالية، المقررة لصاحب كتاب عن المتحف الإثنوغرافي في السليمانية. المؤلّف، وكنا قد علمنا أنه صديقٌ لدارين، هوَ مَن رجاهُ بخصوص الوساطة. إذ صرخَ دوغان على الهاتف، منفعلاً: " وهل السويد، هيَ بنكُ أبينا! ". كذلك نوّهنا في مكانٍ آخر، أنه أساساً كانَ ينظرُ بإستخفافٍ وتعالٍ إلى الأدب الكرديّ، المكتوب باللهجة السورانية.
وكانَ دوغان متحمساً بشدة لفكرة إصدار روايته الرابعة، مع لوحة غلاف ورسوم داخلية من ريشة صديقه دارين. إلا أنه أغفل وضع إسمه، وذلك حينَ صدرت الرواية قبل نحو عامين في مدينة إسطنبول. وقد بررَ الأمرَ، بأنه خطأ غير مقصود من قبل الناشر. وبطبيعة الحال، إبتلع أيضاً الحقوق المادية للرسّام، التي يمنحها عادةً المجلس الأدبي السويدي.
المزيد من النصوص المُنتحلة، ظهرت في مجلة دجلة. منها القصيدة الشهيرة، " الحرية "، لبول إيلوار؛ وقد نسبها لنفسه شخصٌ متعجرف، يعيش في بلجيكا. هذه المرة، كانَ دارين هوَ مَن لفت نظر دجلة إلى الأمر. هذا الأخير، رسمَ عندئذٍ إبتسامة ساخرة على شفتيه، وقال بإستهانة: " أياً كانَ كاتب القصيدة، فالمهم أنها ظهرت باللغة الكردية! ".
في العام التالي، وفي قاعةٍ أنيقة في ستوكهولم، جمعَ دجلة جمهوراً كي يتلو عليهم بعضَ قصصه. أحمي، سبقَ أن علِمَ من دارين أن إحدى تلك القصص ( غدت أيضاً عنواناً لمجموعة منشورة ) قد تم إنتحالها حرفياً تقريباً من مقطع نثري لتورغينيف؛ بعنوان " الحشرة ". لشدة غباء دجلة ( أو بالأحرى ثقته الزائدة بنفسه )، فإنه لم يغيّر حتى العنوان. أحمي، كلّفَ شاباً من خريجي الإتحاد السوفييتي بإثارة الفضيحة في القاعة. وقد تم ذلك، فتلجلج دجلة وإمتقع لونه وتكلم بشكل باهت عن التأثير الأدبي. إلا أنّ ذلك الشاب نفسه، إدعى أنه هوَ من إكتشف تلك السرقة الأدبية. لحين أن ظهرت مقالة ساخرة لدارين ( بإسم مستعار ) في مجلة أدبية أسسها أحمي، وفيها مقارنة بين قصة دجلة وخاطرة تورغينيف.

4
عن طريق النادي الكرديّ، توصل دارين لعقد صداقة مع عدد محدود من كرد العراق؛ كانَ منهم الوفي، ومنهم النمرود، وأحدهم كان طفيلياً. هذا الأخير، تعرّفنا عليه باسم حَمِيْ، وقد غابَ عن نظر صديقه قرابة العامين، ليظهر أخيراً مع حوريةٍ، إستوردها من مدينة السليمانية. إنه بنفسه من ريف تلك المدينة، من جبل قرداغ. وكانَ يتبجّحُ على الملأ، بأن جلال الطالباني لم يكن يغمضُ له جفنٌ ليلاً في أحد كهوف الجبل، إلا لو كانَ هوَ على رأس حراسه. لقد أنهى مؤخراً دراسته الجامعية، وبينما كانَ يبحث عن وظيفة مناسبة، لم يرَ بأساً في إستغلال موسم الفريز كي يبيعه في كشك محمول بالقرب من المكتبة العامة.
هذه التوطئة، الممجوجة قليلاً، كانت ضرورية لمعرفة الظرف، الذي حتّم إرتباط دارين بإمرأة ذلك المتطفّل. بعدما إلتقاهما عند باب مصلحة السوسيال، في عام مضى، سلى تماماً أمرهما. إتفاقاً، أنه بدأ مراسلة إحدى قريباته ممن حظيت بموهبة أدبية، أوصلتها للدراسة في قسم النقد في المعهد العالي للمسرح بدمشق، جنباً لجنب مع تحصيل شهادة في اللغة الإنكليزية. لقد حصل على عنوانها البريدي من شنب الصرصار، وكانَ زميلها في الدراسة. حقّ لدارين أن يُدهشَ، كون قريبه أبعد الناس عن الثقافة وأقربهم لأفعال الخناث. لكنه فيما بعد، حينَ ألمّ بمعلومات وافية عن الوسط الفني في الوطن، أدرك كم كانَ موبوءاً بهكذا نماذج منحطة. كانَ إذاً في طريقه إلى مشروع زواج، سبقه إليه كلّ من أحمي وزورو. حين إجتمع معهما في متجر هذا الأخير، طلبَ منهما تنويره عن الأوراق الرسمية المطلوبة. فنفخ زورو شدقه، قبل أن يخاطب أحمي بالكردية: " هوَ أيضاً قررَ أن يتزوج ويُمسي رجلاً! ". ردّ عليه دارين، مُتسائلاً: " وأنت، ألم تكن رجلاً قبل الزواج؟ ". وفيما بعد أيضاً، عرفَ لِمَ تُحتقر في الأرياف زيجاتُ الأقارب: فإبن العم، لا يُطلب منه ذلك المهر الباهظ مثلما يفعلون مع الغريب. بل إنه في وسعه أن يقتحم العرسَ ويقف في طريق ابنة عمه العروس، التي تم تزويجها للغريب، لحين أن يقبل والدها بتقاسم المهر معه. في حادثة عائلية، وعندما رفضَ والدُ دارين قبضَ مهر إبنته البكر، المُقترنة بشاب من تلك النواحي، فإنهم قالوا هناك: " البنات الشاميات، رخيصات! ".
كانَ إذاً قد مر وقتٌ طويل على آخر لقاء مع حمي، وإذا هوَ خلف سدّة البيع في ذلك الكشك. وكانَ دارين يكره الفريز، ولا يعدّه من الفاكهة، بله والبائع ذلك المتطفل. على أية حال، صادفه حينَ كانَ خارجاً من المكتبة العامة ولم يلقِ نظرة إلى ناحيته. الطقسُ الربيعيّ الجميل، كانَ ما برحَ مستمراً مع توقعاتٍ بصيفٍ ساخن كالذي قبله. عندما وصل إلى موقف الحافلات، المخصصة لحي غوتسوندا، فوجئ بروكسانا مع طفل في سن الرضاعة قد أودع في العربة. رآها ممشوقة القامة أكثر مما عرفها في السابق، وأشهر الحمل وسّعت ردفيها. لكنه لم يشأ أن يلفت نظرها، فنأى بنفسه إلى جانب، فيما العتمة بدأت تخيم على الساحة. ثم وقع نظرها عليه وهيَ بمكانها في منتصف الحافلة، المخصص لعربات الأطفال. كانَ هوَ في صدر الباص، واقفاً على قدميه. فيما راحت تتحدث مع إحداهن، فإنها لم تحد نظرها عنه، متبسمة ومنشرحة.
" هل تذكرتني حقاً؟ "، خاطبَ دارين نفسه. إنها بالكاد ألقت عليه نظرة في تلك المرة الأولى، كما أنه لم يرها قط ترافق رَجُلها إلى النادي. حينما رفع رأسه، إبتسم لها هذه المرة، فأومأت رأسها بدَورها في حركة تحيّة. حانَ موعدُ النزول في الموقف المطلوب، فدلف هوَ أولاً من الباب الخلفيّ. عندئذٍ خطرت له فكرة جريئة، وهيَ أن يقطع الشارع ثم يمرق خِلَل النفق كي يلتقيها وهيَ قادمة من الجانب الآخر. وبطبيعة الحال، رأته عن بعد تحت النور الغامر للنفق، فبقيت متبسّمة لحين أن أوقفها. قال لها، وهوَ يلقي نظرة غائمة على العربة: " مبارك طفلكم الجميل ". ردّت وقد إتسعت إبتسامتها: " بل هيَ بنت! ". إنتبه عند ذلك للون الزهريّ لملابس الرضيع، لكنه لم يعلّق بشيء. إنه غير حاذق بإستغلال المناسبات الإجتماعية، بالرغم من حبه للأطفال؛ وبالأخص البنات. مضطرباً قليلاً، عاد ليتمنى لها ليلة سعيدة. قبل أن يمضي، سألته مع إيماءةٍ جميلة: " إسمك دارين، أليسَ حقاً؟ ". الحديث بالكردية مع المتكلمين باللهجة السورانية، كانَ يُرهقه ويُحرجه. إلا أنه مضى سعيداً، كونه سجّل حضوره في ذهن تلك الحسناء.
الشهرُ الأخير من الربيع، كان عُرس الطبيعة حقاً. لقد أترعت الغابات بالزهور، وكذلك شرفات البيوت، فيما السماءُ زاهية الزرقة بلا سحابة واحدة. تغريد الطيور، كانَ من العذوبة أن رقبة المرء تتلوى ألماً لكثرة رفعه رأسه إلى ناحية الأشجار كي يرى القبرات والبلابل والشحارير، المتسمرة على الأشجار وهيَ تغوي بعضها البعض. في أحد أيام ذلك العرس، حدثت مصادفة لم يشأ دارين هذه المرة أن يفوّتها، طالما أنها بدت كأنما للقدَر يدٌ فيها. رأى أولاً حمي في مدخل سنتر غوتسوندا، أينَ يوجد محل أوراق النصيب. لقد كانَ الرجلُ مقامراً عريقاً، شأن من يحيطونه من مواطنيه. كانَ اليوم جمعة، وأملَ دارين ألا يكون الزحام على أشده في محل الخمور ( السيستيم ). لكنه كانَ كذلك، ما جعله يذرع ممشى المجمع ذهاباً وإياباً. وإذا روكسانا تنبثق من المدخل الأوسط، وكانت تجر عربة الرضيع فيما طفلة صغيرة ترافقها وهيَ تحاول أن تماشي الخطى الطويلة. كانت هذه المرة بملابس صيفية، متلائمة مع اللون الورديّ لبشرتها. حينما شاهدته، أومأت إليه برأسها محيية وهيَ تبتسم. بدلاً عن إكمال طريقها إلى جهة المدخل الرئيس، أينَ يقف رَجُلها، فإنها إتجهت إلى المدخل الخلفيّ، المفضي إلى الخارج. مُضحياً بفرصة الحصول على النبيذ لسهرة عطلة نهاية الأسبوع، رأى دارين نفسه يتأثر الخطى الحبيبة. ترك مسافة جيدة بينه وبينها، لحين أن إجتازت المنطقة المأهولة بالخلق ومن ثم غذّت خطوها في إتجاه الغابة. وراء هضبة معشوشبة، كانوا قد أشادوا منصة للإحتفالات شبيهة بالمدرجات الرومانية. وقد إتجه إلى تلك الناحية، مدركاً أن نظرات روكسانا تتبعه هذه المرة. إنحدر من فوق الهضبة إلى المدرج، المصبوب من الإسمنت، والذي كان ساخناً بفعل أشعة الشمس. كانَ المكانُ مقفراً من الخلق. بقيَ ينتظرُ دقيقة، ثم إذا بالهيئة البهية تطل من علٍ لوحدها.
" لقد تركتُ إبنتي مع تلك الطفلة، ولا أستطيع التأخر "، قالت له حينَ أضحت بين ذراعيه. ظلا متعانقين لبرهةٍ، دونما أن تصدر عنهما نأمة. بعدئذٍ، سألته وهيَ تحدق في عينيه: " ماذا تريد مني، في آخر الأمر؟ "
" إنني أعشقكِ "، ردّ وهوَ ما فتأ لاهثاً. وإذا هيَ تقول بجسارةٍ، أدهشته ولا غرو: " كانَ بودّي المجيء إلى شقتك، لكن منطقتكم فيها العديد من معارفنا "
" وكيف عرفتِ موقع مسكني؟ "
" حمي حدثني عن ذلك، عقبَ لقائنا الأول معك في السوسيال. قال أنك تؤثر الوحدة، بين الكتب ولوحات الرسم "
" وأنتِ؟ هل تحبين الكتب واللوحات؟ "
" أحبُ فيك الكاتب والفنان "، قالتها وهيَ تقبله في فمه. ثم نهضت فجأةً على قدميها، وما لبثَ أن مدت له قصاصة وقلماً: " أكتب هنا رقم هاتفك ". لما تركت المكانَ، وأخذت بإرتقاء المدرجات ومن ثم الهضبة، كان يتابع بعينين نهمتين كفلها الفخم، الجدير بنساء الأباطرة الرومان وهن على المسرح لشهود تمثيلية أو مصارعة مميتة بين العبيد.

5
أن تبلى حياتها مع هذا الشخص القميء، الذي رضيت به بعلاً، كانَ خياراً أهون من البقاء في العراق. لقد شهدت روكسانا الحربَ مع إيران، وأخيراً الحرب مع الأمريكان. وبينهما القصف الكيماوي والأنفال وتدمير ريف كردستان بالكامل. عقبَ فرض المنطقة الآمنة من لدُن الأمم المتحدة، كانَ من المتوقّع أن يشعر السكان بالطمأنينة. إلا أنهم بمجرد ما أخذوا أنفاسهم، بعيداً عن الخطر المباشر، راحوا يخططون للهرب من البلاد. اليأس من المستقبل، علاوة على التهديد المستمر والوضع الإقتصادي الكارثي، أوقع بعضهم في سهولة بيد المهربين. بسبب أحوالهم المادية السيئة، لجأ كثيرون إلى بيع بيوتهم كي يؤمنوا تكاليف رحلة الهجرة.
حَمي، حظيَ في تلك الفترة بعشيقة من مواطنيه، إسمها " تارا ". في أوان صحبتهما، كانَ قد قال لدارين عنها: " حقاً إن جمالها متوسّط، لكنها جذوة من الجنس لا يهدأ أوارها ". زوجُ العشيقة، وهوَ رجلٌ كهل تقريباً، أنجب منها نصف دزينة من الأولاد؛ وراحَ من ثم يستثمر بهم عند السوسيال. في ظل الأوضاع المأسوية، التي ذكرناها آنفاً، إتجه الرجلُ هذه المرة للإستثمار في مدينته الأولى. كانَ يشتري البيوتَ من أصحابها بثمن بخس، ويكتفي بوضع مفاتيحها في جيبه: " بحَسَب معلوماتي الموثوقة، ستغدو أسعار بيوت السليمانية مستقبلاً قريبة لأمثالها في إمارة دبي ". خياله الخصب، أوحى له أيضاً أن يذكر كلّ مرةٍ للمحيطين به في النادي الكرديّ في أوبسالا، أنه على إتصال دائم بمام جلال وكاك مسعود. عشيقُ إمرأته، كانَ من هؤلاء، ينصت إليه بإحترام حينما كانَ يلعب معه بطاولة النرد. صديقُ العظماء، من ناحيته، كانَ يكره المثقفين الكرد، قائلاً عنهم أنهم بفلسفتهم الفارغة يشيعون جواً من اليأس والإحباط بين الجماهير. هذا بالرغم من حقيقة، أنه لولا هكذا جو لما تمكّن هوَ من الإستثمار في مجال العقارات.
في إبان هذه الأحداث، وجد المستثمرُ نفسه في منزل أسرة روكسانا. والدها، كانَ رفيقاً له في أيام الكفاح المسلح بالستينات. حينما لم يتفقا على سعر العقار، أُلهمَ الضيفُ بفكرةٍ لا تقل جدوى لمساعدة رفيق الأمس: " إبنتكم الصبية، تليق بشاب أعرفه جيداً. وفضلاً عن خلقه القويم، فإنه سيصبح أستاذاً في أرقى جامعات السويد. بوجودها ثمة، لو تم الأمر، ففي وسعها إنتشالكم من الفقر وأن تغنيكم عن الحاجة إلى المهربين المحتالين "، قالها برصانة وصراحة في آنٍ معاً. ما لم يذكره الخاطبُ من أخلاق الشاب، ستختبره روكسانا منذ صباح اليوم التالي لوصولها إلى أوبسالا. لقد كانَ بخيلاً مثل قملة، ومطبخه مقفرٌ من أمسّ الضروريات. لكن الأرز كانَ موجوداً بوفرة، وأيضاً بعض البقول. بإختصار، كانَ الرجلُ نباتياً ـ كما زعم لها. والمرأة الحكيمة، هيَ التي تتبع شيمة رَجُلها. هذا، مع أن المرء في السويد عندما يكون على شفا الإفلاس، فإنه يأكل لحماً؛ وذلك بسبب رخصه. ولكن حمي، كما إكتشفت إمرأته لاحقاً، يكدّس أوراق الدولارات، كون الطالع أنبأه بأن العملة السويدية ستشهد إنهياراً مفاجئاً. ولأنه لا يأكل تقريباً، ولا يقصف ولا يسافر، فلا غرو أن تتكدّس الدولارات رزماً. وقد إكتشفت روكسانا مكانَ الكنز، بطريق المصادفة. شقتهم تقع في الدور الأول، وقد شكّل درج الدور الثاني حجرة صغيرة لديهم على شكل السقيفة. ثمة، أهمل رَجُلها أشياء لا تخطر على البال، جلب غالبيتها من حجرة الأمتعة البالية، التابعة للمنطقة السكنية وكانت توأماً لحجرة القمامة: أجهزة ستيريو مع مكبرات صوت، أجهزة رياضية حديدية، مفروشات وإكسسوارات الخ.
" آه، إذاً هنا يكنز المقتّرُ ماله! "، هتفت ربة البيت. كانت قد شرعت بتنظيف السقيفة، لما عثرت بين الكراكيب على نموذج كرة أرضية، كانت رسومها حائلة بسبب عتقها. وكانت الكرة متصلة بمقبس كهرباء، لكنها تفتقد لمصباح. حينما رفعت الكرة إلى جهة الضوء، إنتبهت إلى رزم قد ألصقت بمعدنها الداخليّ بطريقةٍ ما. الفضول، جعلها تفك الكرة عن الحامل الخشبيّ، ليظهر لها على الأثر تلك الرزم من فئة المائة دولار. لم تمسّ المال، وأعادت من ثم تركيب الكرة ووضعها في مكانها المألوف. ثم خاطبت نفسها، وهيَ تتمثلُ الرجلَ القميء في خيالها: " ويحدثني عن صعوبة العيش في السويد، وسعيه إلى تدبير عمل في النرويج ". حين ذكرت هذه الجملة لعشيقها، فإنه بدَوره تذكّرَ أن ربيبَ الدولار قد سبقَ وأخبره عن عزمه الهجرة إلى ذلك البلد المجاور، في سبيل تحقيق غايتين: الأولى، أن الراتب أعلى بكثير؛ والثانية، أن يتملّص من تسديد دين دراسته الجامعية.
ولكن روكسانا، التي شغف بها رَجُلها بجنونٍ يرقى إلى شغفه بجمع المال، ما أسرعَ أن سيطرت عليه. إنها لم تغيّر آدابَ المطبخ، حَسْب، بل وأجبرت الرَجُلَ أيضاً أن تظهر بمظهر جميل. في حقيقة الأمر، أنه لم يكن يبخل على نفسه من هذه الناحية، وكانت ملابسه دوماً تتبع الموضة السائدة. كذلك جعلته ينفتحُ على دعوات الآخرين، وكانَ يتجنّبها كيلا يضطر لإستقبالهم على المائدة في بيته. وبطبيعة الحال، كانت تارا وزوجها من بين أهم المعارف. هذه الأخيرة، وبحجّة ملاحقتها لأطفالها الصغار المشاغبين، كانت تلجُ حجرة نوم الزوجين كي تتأمل السرير العريض. عندئذٍ، كانت تتخيّل عشيقها السابق وهوَ في أحضان الحسناء. في إحدى المرات، فاجأتها روكسانا حينَ كانت قد فتحت باب خزانة الملابس الداخلية، فتلعثمت تارا بالقول: " كأني بكِ تغيّري كل ليلةٍ قميص نوم أو غلالة، فما أسعده زوجك! ". لكن روكسانا، في حقيقة الحال، لم تكن تشتري تلك الملابس الداخلية لزوجها وإنما لعشيقها. هذا الأخير، وغبّ لقائهما على المدرج الرومانيّ، حملها أن تأتي إلى شقته مرةً على الأقل في كل أسبوع. ثم دفعها العشق، الذي كانَ أقوى من الشبق، إلى أن تعدد الزيارات الأسبوعية.
أما بالنسبة لحَمي، فإنه حتى لو كانَ قد شك بإخلاص زوجته، فلم يكن في وسعه أن يواجهها. كونها قد أضحت أماً، فإنها ستحصل على الإقامة الدائمة ولو طلقت منه. وكانَ من المحال أيضاً الضغط عليها عن طريق أسرتها، طالما أنها في غاية الكرم معهم؛ لدرجة أنهم صرفوا النظرَ تماماً عن فكرة الهجرة إلى أوروبا. كل ما أملوه منها، أن تساعد شقيقها الوحيد في الوصول إلى السويد. لم ترُق الفكرة لروكسانا، وذلك خشية أن يظهر لها ظلّ حارسٌ يحدّ من حريتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصهاينة وأحذيتهم
حامد صادق ( 2024 / 4 / 9 - 13:08 )
عنوان المقال ربيع؟
ذكرني بالأبواق المتصهينة من عبيد الأنظمة العربية المجرمة خاصة النظام السعودي
كانوا يقولون ربيع عبري وهم بأنفسهم لصالح الصهاينة المجرمين دعموا ومَوّلوا ويُمَوِّلُوا حتى اليوم الثورة المضادة?
واليوم يقولون ما يجري في غزة من تدمير وإرهاب صهيونى هو إتفاق حمساوي صهيوني؟
ومرة يقولوا دفاعا عن نظام ملالئ طهران?
هؤلاء أحذية عملاء الصهاينة أشد خطرا منهم.

اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب