الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدّمة كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته

سليمان جبران

2024 / 4 / 10
مواضيع وابحاث سياسية



: مقدّمة

لمْ يكنْ مارون عبّود مغاليا حين دعا أحمد فارس الشدياق "جبّار القر ن التاسع عشر". فالشدياق ركن هامّ من أركان النهضة العربيّة الحديثة، إنْ لم يكنْ "رجلها الأوّل " مكانة وريادة.
وُلد الشدياق في مطلع القرن التاسع عشر وتوفّي في أواخره، فكأنّما مثّلَ هذا الكاتب الرائد القرن ذاك كلّه، فكرا وأدبا وتجديدا. في شخصيّة الشدياق الفذّة تلتقي عناصر عدّة، تبدو في النظرة الأولى متناقضة ، إلا أنّها عناصر شتّى تجتمع وتتألف لتشكّل هذه الشخصيّة النادرة. ففي شخصيّته وأدبه يلتقي الشرق والغرب على نحو عجيب: اطّلاع واعٍ على التراث العربي القديم، وحبّ حارف للغة العرب "الشريفة"، وانخراط تامّ في في المجتمع الغربي حياة وعملا وفكرا ستوات طويلة، إعجاب واضح بالجاحظ، وتأثّربتراثه العظيم من ناحية، واتّصال حميم بأدب رابليه وسويفت وسترن من ناحية أخرى. من هذا المزيج العجيب ارتفعت قامة الشدياق عالية في شتّى مجالات البحث والفكر والأدب، يرفد فكره الثاقب بما يعجبه هنا وهناك، وينقد ما لا يروقه ساخرا ومقرّعا.
الشدياق في سورية والطهطاوي في مصر، علمان متوازيان: عاش الرجلان الفترة ذاتها إلى حدّ بعيد، وعرفا الغرب معرفة قريبة واعية، فكانت بهما بداية الاتّصال الحقيقي المباشر بالفكر الغربي، والبداية الحقيقيّة للنهضة والتجديد. رحل كلاهما إلى الغرب حاملا خلفيّة كلاسيكيّة رصينة، إلا أنّ فكرهما المفتوح المتنوّر استطاع استيعاب ما في الحضارة الغربيّة من قيم مادّيّة وروحيّة راقية، فعمل كلاهما جاهدَيْن، بالتأليف والترجمة والصحافة، على النهوض بالمجتمع الشرقي، وبعث الروح الجديدة في كيانه الراكد. زار الطهطاوي باريس في أوّل بعثة علميّة أوفدها محمّد علي باشا إلى فرنسة سنة 1826، بصفته إماما للصلاة والوعظ، إلا أنّ هذا الإمام الأزهري كان أكثر أعضاء الوفد توقا إلى دراسة الفرنسيّة والاطّلاع على المعارف والعلوم الغربيّة. بعد سنوات ستّ قضاها هناك عاد إلى وطنه مصرليعمل في التدريس والترجمة والتأليف، بحيث غدا رجل النهضة الأوّل في مصر دون منازع.
والشدياق أيضا غادر لبنان سنة 1826، ليبدأ رحلة طويلة شاقّة، امتدّتْ حوالى ثلاثين سنة، قضاها متنقّلا بين مصر وماطة وتونس وبريطانية وفرنسة. لم يعدْ من رحلته السندباديّة تلك إلا سنة 1857، ليستقرّ في عاصمة بني عثمان حتّى يوم وفاته. وفي رحلته الطويلة هذه في أوروبة تعلّم الفرنسيّة والإنجليزيّة ، وعمل في التدريس والترجمة والصحافة والتأليف، ليغدو رجل النهضة الأوّل في سورية أيضا.
لا تتّفق سيرة هذين الرجلين في كثير من التفاصيل الدقيقة، ولكنّها في الجوهر واحدة: إنّها سيرة رجل شرقيّ صميم، عرف الغرب معرفة واعية، فحاول بكلّ ما أوتي منْ وسائل النهوضَ ببلده وأُمّته.
قضى الشدياق حياته كلَّها يعمل جادّا دؤوبا في الترجمة والتحرير والتأليف. ويذكر الدكتور عماد الصلح قائمة طويلة بآثاره المخطوطة والمطبوعة والمترجمة تصل إلى تسعة وأربعين مؤلّفا. ألّف الشدياق في اللغة، فكتب"الجاسوس على القاموس" في نقد القموس للفيروزبادي. وجعل مقدّمة هذا الكتاب عن المعاجم في اللغة العربيّة، وما فيها من عدم المنهجيّة والفوضى في نظام الكلام وتفسير المفردات ذاتها. ثمّ انتقل إلى نقد القاموس نفسه، مبيّنا ما رأى فيه من مأخذ واضطراب وإبهام. كما ألّف كتابه "سرّاليال في القلب والإبدال" وكتابا ثالثا باسم "منتهى العجب في خصائص لغة العرب"يذكره في مؤلّفاته، إلا أنّ الحريق الذي شبّ في بيته في الآستانة ذهب به قبل طبعه. يضاف إلى ذلك طبعا ملاحظاته اللغويّة الكثيرة التي تتخلّل كتبه مهما كان نوعها وموضوعها.
في "أدب لرحلة" ألّف كتابين هامّين: "الواسطة في معرفة أحوال مالطة" وكتاب "كشف المخبّاعن فنون أوربا" فعرّف بهذين الكتابين القارىْ العربيّ على مالطة وأوروبة [إنجلترة وفرنسة] أرصا وشعوبا وحضارة وعادات، فنوّه بالحضارة الأوروبيّة الراقية من جهة، ونقد بأسلوبه الخاصّ العادات والأخلاق التي لم ترقه في الأوبيّين.
وفي الترجمة كانت للشدياق جهود باقية، بحيث يمكن اعتباره من أوائل المترجمين وأبرزهم من اللغات الأوروبيّة إلى العربيّة. فقد ترجم في مالطة كتاب "شرح طبائع الحيوان" وكتاب "تاريخ الكنيسة" و"كتاب الصلوات العامّة". وفي لندن ترجم "كتاب مزامير داود" و "العهد الجديد" و "الكتاب المقدّس" أي التوراة. ومن يقرأ مجادلاته مع الدكتور لي ، المشرف على الترجمة، يدرك مدى إلمام الشدياق باللغة ووعيه لدقائقها وأسرارها.
ثمّ إنّ إسهام الشدياق في الصحافة كان كبيرا وحاسما: فالشدياق كان أوّل مَن مارس الصحافة بالعربيّة. وذلك حينما عمل في "الوقائع المصريّة" في أوائل الثلاثينات، سواء في ترجمة بعض موادّها إلى العربيّة أو في تصحيح عيبارتها. إلا أنّ نشاطه الصحافيّ تمثّل أساسا في إصدار "الجوائب"سنة 1861 في الآستانة، التي ظلّ يحرّرها وزيكتب فيها ويترجم لهاحتى توقّفتْ عن الصدور سنة 1884. كما جعل "الجوائب" أيضا دارا للنشر، أصدرتْ كتبا كثيرة للشدياق نفسه، ولغيره من الأدباء. فكان هذا أيضا إسهاما آخر في النهضة الحديثة. ولا بدّ لنا من التذكير هنا بأنّ عمل الشدياق في "الجوائب" هذه المدّة الطويلة لم يكنْ عاديّا: كان يحرّرها، ويكتب كثيرا من مقالاتها، ويترجم إلى العربيّة فيها المقالات الكثيرة مِن معظم الصحف الأجنبيّة. كان الشدياق مضطرّا إلى خلق الأسلوب الصحافي والتقاليد الصحفيّة في اللغة العريّة. ويكفي للتمثيل هنا أن نذكر بعض الألفاظ التي ابتكرها خلال عمله الطويل هذا، وما زالت متداولة على الأقلام والألسن حتّى يومنا هذا: الإشتراكيّة، ألجامعة، الطابع (طابع البريد)، ألملاكمة، مجلس النوّاب، معرض، معمل ومصنع، مستشفى، جواز، جريدة .. وغيرها كثير.
نشاطات الشدياق، وأعماله المتعدّدة المتنوّعة هذه، تنعكس جميعها في كتاب "الساق على الساق، في ما هو الفارياق" موضوع دراستنا هذه.
مِنْ بين مؤلّفات الشدياق الكثيرة يظلّ الفارياق "كتاب أحمد الباقي" الذي ضمن لصاحبه مكانة رفيعة في تاريخ الأدب العربي الحديث. إذا كانتْ مؤلّفاته الأخرى تقع جميعها في نطاق التأليف العلمي، فإنّ كتاب الفارياق هو مؤلّف أدبيّ فذّ لم يعرف القرن التاسع عشر له مثيلا ، مبنى وأسلوبا ومضمونا. قرأتُ هذا الكتاب غير مرّة ، وما زلتُ أتناوله أحيانا للبحث عن أمر من الأمور، فأجدني منغمسا في قراءته، مستمتعا في تقصّي آرائه وملاحظاته، بلْ مكتشفا أيضا بعض الومضات الذكيّةالتي غابتْ عنْ عيني سابقا.
كتاب الفارياق يمثّل شخصيّة صاحبه أصدق تمثيل: فهو يضمّ الترجمة الذاتيّة وأدب الرحلة واللغة والشعر والمقامات والنقد الأدبي والاجتماعي، وفوق ذلك كلّه السخرية الحادّة التي عُرف بها مؤلِّفه. كلّ الجوانب المتنوّعة في شخصيّة الشدياق وثقافته تنعكس في هذا الكتاب، حتى كان من الصعب فعلا على الباحثين تحديد نوع الكتاب الأدبي وشكله وأسلوبه. مِن هنا أيضا إعجاب الشدياق نفسه بكتابه حتى قال فيه:
هذا كتابي للظَّريفِ ظَريفا طلْقَ اللسانِ وَلِلسَّخيفِ سَخيفا
أَوْدَعْتُهُ كَلِمًا وَأَلْفاظًا حَلَتْ وَحَشَوْتُهُ نُقَطًا زهَتْ وَحُروفا
وبَداهَةً وِفُكاهَةً وَنَزاهَةً وَخَلاعَةً وَقَناعَةً وَعُزوفا
كَالْجِسْمِ فيهِ غَيْرُ عُضْوٍ، تَعْشَقُ الْمَسْتورَ مِنْهُ وَتَحْمَدُ الْمَكْشوفا
...
فَهْوَ الْيَتيمُ الْمُسْتَحيلُ إخاؤهُ وَهْوَ الفَريدُ، فَكُنْ عَلَيْهِ عَطوفا
كتاب الفارياق هو أوّل رواية في السيرة الذاتيّة عرفها الأدب المعاصر، بلْ هو أوَّل رواية عربيّة أصيلة أيضا. لا يخفى أنّ في الفارياق "شوائب" كثيرة إذا أخذنا بمعايير الرواية الفنّية الغربية، ولكنّ مَنْ قال إنّ الشدياق كتبه وفق هذه المعايير؟ ثمّ إنّ معايير الرواية الغربيّة ذاتها تتغيّر من جيل إلى جيل ومن كاتب إلى آخر. فلماذا الحكم على كتاب الفارياق وفق معايير الرواية الكلاسيكيّة الغربيّة بالذات؟ ليس لدينا أدنى شكّ في أنّ الشدياق اطّلع على الأدب الغربي، وتأثّر بالأدباء الغربيّين (لورنس ستيرن خاصّة)، ولكنّه حين أقدم على تأليف الفارياق لمْ يتخلَّ عنْ تقاليد الأدب العربي الكلاسيكي أيضا، سردا ولغة وحوارا، حتى يمكننا اعتباره بحقّ "رواية عربيّة" رائدة اتّخذ فيه الشدياق مِن السيرة الذاتيّة إطارا فضفاضا صبّ فيه كلّ جوانب شخصيّته وثقافته، واعيا أنّه كتاب"يتيم يستحيل إخاؤه" فعلا.
كتب الشدياق فارياقه ونشره في باريس، بعد ثلاثين سنة من رحيله عن وطنه لبنان. إلا أنّ لبنان، والمجتمع الشرقي عامّة، ماثلان في الكتاب من أوّله إلى آخره. ولا نغالي إذا قلنا إنّ الكتاب ثورة عاتية تحاول أنْ تعصف بكلّ المؤسّسات التقليديّة في المجتمع الشرقي، في المستوى السياسي والديني والاجتماعي والأدبي على حدّ سواء. تُرى، هل كان الشدياق يُقْدم على تأليف كتابه الجريء هذا لو كتبه ونشره في لبنان وطنه؟ لا شكّ أنّ تأليف الكتاب بعيدا عن الشرق ومؤسذساته المحافظة، كان عاملا مِن عوامل جرأته وتجديده. وهل كان جبران خليل جبران ورفاقه أيضا يستطيعون ثورتهم التجديديّة لو عاشوا وأنتجوا في لبنان، وفي ظلّ مؤسّساته التقليديّة آنذاك؟
مِن ناحية أخرى، لا بدّ لنا مِن الاعتراف بأنّ الفارياق لم يلاقِ ، في تقديرنا، ما يستحقّه مِن رواج وتأثير بين القرّاء والكتّاب يومذاك. نُشر الكتاب كما أسلفنا في باريس بعيدا عن البلاد العربيّة والقرّاء العرب، وفي فترة مبكّرة عمّ فيها الجهل في هذه المنطقة، وقلّ فيها القرّاء والدارسون. وفي ذلك عامل من عوامل عدم شيوعه وشهرته. ثمّ إنّ في قراءة الكتاب ، بمبناه ولغته وأسلوبه، صعوبة كبيرة دون شكّ، خصوصا لِمن يعمد إلى قراءته كاملا، بكلّ استطراداته وأنهاره اللغويّة وإشاراته وكناياته. بل يبدو لنا أنّ كثيرين ممّن كتبوا عنه أيضا لم يقرءوه قراءة كاملة واعية، فكيف بالقرّاء العاديّين؟
ثمّ إنّ الفارياق طافح بالإشارات الجنسيّة ، والمرأة تشكّل أبرز عناصر السخرية الشدياقيّة في الكتاب، وهو ما يشير إليه النقّاد عادة فيدعونه الإحماض ويلومون الشدياق عليه. كان الرجل ميّالا إلى المجون بطبعه، وكتب فارياقه "على هواه" كما يقول مارون عبّود، دونما الأخذ بالمعايير الخلقيّة في تأليفه. ثمّ إنّ الكتاب أخيرا ثورة عارمة على كلّ المؤسّسات في مجتمعنا الشرقيّ، وعلى رجال الدين والمؤسّسات الدينيّة خاصّة. فهو لا يدع فرصة تفوته في فارياقه إلا ويعرض فيها لرجال الدين بالنقد والتجريح، معدّدا عيوبهم وفضائحهم. يبدو أنّ ذكرى أخيه أسعد الشدياق ظلّتْ حيّة في قلبه ووجدانه، فكال لرجال الدين الصاع صاعين وبأسلوب حافل بالإساءة والفحش.
لهذه الأسباب جميعا لم يلاقِ كتاب الفارياق، في رأينا، ما يستحقّه من الانتشار والشهرة. بل إنّ الباحث يحسّ أحيانا أنّ بعض المؤلّفين يحاولون ضرب التعتيم على الكتاب ومؤلّفه أيضا، مدفوعين بالغيرة الدينيّة أو الخلقيّة، وإن كان ذلك جارجا عن معايير النقد الأددبي.
لقد حاولنا في دراستنا هذه الوقوف على كلّ صغيرة وكبيرة في هذا المؤلَّف الضخم، متقصّين تجديده وريادته في مبناه وأسلوبه وسخريته. كما حاولنا الأخذ بالموضوعيّة في تناولنا آراءه ومواقفه، وإن كنّا لا ننكر إعجابنا بهذا الكتاب الفريد ، وإكبارنا لصاحبه المبدع؛ ذلك أنّ كتاب الفارياق ، في رأينا، هو أعظم مؤلَّف ساخر عرفه الأدب العربي قديمه وحديثه.
أنجزنا هذه الدراسة سنة 1977، وقد مرّتْ منذ ذلك الحين سنوات طويلة، زدنا فيها معرفة بالشدياق ووفارياقه، كما صدرتْ فيها أيضا دراسات جديدة تتناول الرجل ومؤلّفاته، وتلقي الضوء على بعض الزوايا الغامضة في شخصيّته وأعماله. نخصّ بالذكر من بين الدراسات المذكورة ، كتاب الدكتور عماد الصلح الذي بذل فيه المؤلّف جهودا محمودة في توثيق نواح كثيرة من سيرة الشدياق ونشاطه باعتماده على مراجع أوّليّة هامّة، مثل رسائله الشخصيّة ومحاضر "جمعيّة نشر المعارف المسيحيّة" في لندن. لقد أضفنا في دراستنا هذه كلّ ما أفدناه من هذه الأبحاث الجديدة، ومن مُراجعتنا المتكررة للكتاب نفسه، وكلّ ما نرجوه أن تلقى دراستنا هذه عناية القرّاء ورضاهم، وأنْ تردّ لجبّار القرن التاسع عشر بعض حقوقه علينا وعلى الأدب العلعربي الحديث عامّة.
حيفا، كانون الثاني 1991.


[ كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته، ص. 4- 7 ].








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة