الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوابيت

كاظم حسن سعيد

2024 / 4 / 12
الادب والفن


1 كان يغلي السمك في بيت اقاربه واتاه الصوت من الهاتف ( اسرع فقد تتمكن من رؤية اخيك قبل وفاته او لا تتمكن , نحن في المشفى ).
كان بدشداشته الرمادية ممدودا يحتضر , متخلياعن كل اصراره عن مقاومة المسحقات ولن يستطيع ان يشهد خمس بنات وولدين يحلقون حوله ساعة يعود براتبه الزهيد ولكل مطالبه .
لم يستطيع ان يقول مازحا مرة اخرى ( المراة ان تنام معها ثلاثا ورابعة للاشتهاء ) , سيتوقف عن حديثه الذي لم ينقطع لسنين عن المدفع حين كان يؤدي الخدمة الاجبارية في الجبهة الايرانية او ربايا الشمال .. مرة قال مفجوعا وهو يحاول ان يكسر خشبة ( اين ذهب الحيل , حين كانت الخرسانة تهوي من قوة يدي ).
كانت امه تنام على التراب لان ولدها في الجبهة على التراب .
وكانت نذرت عندما يساق للخدمة العسكرية ستهلهل وهوما حدث فحين مروا تتقدمهم جوقة اطلقت هلهولتين ثم بدأ العويل .
نشأ مريضا تمر به حالات صرع وقالت امه كان جميلا وبدينا وهو بعامه الاول وكنا نحممه في طست واتت امراة لم تصل على النبي فسحرته بعين حاسدة .
تجمدت ملايين الذكريات البارقة والمفجعة انه الان يكاد لا يسمع شهيقهم على السرير .
اخيرا سيستريح .
2 كان الرجل البدين البسيط الكريم ميكانيكيا ماهرا.
في السبعينيات قصد الكويت والامارات وفتح محلين لتاهيل العجلات وتمكن من جمع ثروة .
وعندما سحق الحصار الناس وبدؤوا يتغذون على طحين شحيح ممزوج بالرمل او ياكلون الاعشاب في العراق لعشر سنوات كان يضع المال في اكياس كبيرة احدها وضعه امانة لدى احدى بناته .
كان حاتميا فقد منح قطع اراض ومبالغ بلا مقابل لاقربائه .
قال له الطبيب اخيرا لو حركت مفكا سيقضى عليك فقلبك لا يتحمل ابسط جهد .
طلقت ثلاثة من بناته كل واحدة عادت برضيع او صغار صاخبين ونفذت ثروته اثر دفع ديتين لقبيلتين تسبب بهما نجلاه .
قال لصاحبه ( كنت اسافر كثيرا لبلدان عربية وهناك اعمل لاطيل من سفري ولذتي وفي العمل يطلق عليّ الثعلب , اتدري مرة قصدت المغرب وقصدت نجارين واقنعتهم باني استطيع انجاز بعض الدواليب , لم تكن لي خبرة واضحة لكن الاصرار ساندني فعملت لديهم , بعدها وجدت عملا افضل فساله صاحبه فاجاب ( انه نجارة التوابيت, كان عملا مدرا وسهلا ).
يقبع الان وحيدا مع زوجة بدينة بعد رشاقة كئيبة وتزدحم فها الامراض المزمنة , وعندما يحتاج شراء رغيف من فرن يبعد نصف كيلوعنه , يسخر منه احفاده الصغار ( نحن لدينا دراسة ولا نستطيع ) .
لقد شهد ثمن طيبته وادرك لكن بعد فوات الامان فما الذي يجدي ان تكتشف فداحة الخسارة بعد فوات الامان .
3 انها خالته من ام اخرى رآها وهو مراهق وهي في الريعان ونسيها, عاد زوجها من الاسر بعد خمسة عشر عاما , زاخرا باقسى الامراض وجفاه الاهل والناس . ان تخوض وتنجو من محرقة الحرب وتعود كبعير معبد تسح كيس التبول المثبت في جسدك فتلك كارثة .
بعد اربعين عاما سكنت جوارهم انها الساعة مستقرة في التابوت .
علم وهو في الشارع بالخبر فقصد دارهم .
كان التابوت وسط الدار وجمهرة تتكاثر وهن جالسات يحتضننه مشعثات ومعولات يلطمن على العيون ويطرقن بالقبضات على التابوت واقترب بقاطه النيلي وعطره ورباطه الاحمر واستقر واقفا واجما امامه , فجاة رفعت راسها بنتها الصارخة وامسكته من الرباط وسحبته بعنف مع صرخات مدوية .
ظل لربع قرن يفكر بالحادث ولم يتمكن من تفسيرالحالة , لماذا سحبته من الرباط حتى كادت تخنقه , قال ربما هي شبيهة بهياج الثور من اللون الاحمر .
4 في المغيسل كانوا يسكبون الماء على رجل مسجى ويعاملون الجثة بالكافور فغادرهم ليتنفس خارج رائحة الموت في الجامع .
رأى اهراما من التوابيت السود الفارغة على ضفة نهر آسن تنبثق منه الروائح النتنة وتشيعه رائحة الموت .
كانت صورة تدعو للفزع , كانت التوابيت اعصارا غير مرئي للمنايا المتراكمة , تابوت يعلو تابوتا وتابوت ينحرف عن اخر مشكلات هندسة فوضوية , كتلة من الاجل الاسود , كتل ظلامية في ظهيرة ساطعة .
من هو صاحب الحظ السعيد الذي سيسكنها لثماني ساعات بعد ان يتوج بالرفع على الاكتاف في موكب يصدح ( لا اله الا الله ) , حيث يستقر في مصير يستحيل على أي احد ان يخمنه .
واذا حملت الى القبور جنازة فاعلن بانك بعدها محمول .
5 كانت ذات انفة نادرة تقطع كيلوات ولا تطلب طاسة ماء من احد في ظهيرة تموز الصاهرة ( سيمنون عليّ يوما ) , كانت تقول .
خمس من بناتها لا بد لهن من عفة وسد رمق ذلك كان الامتحان الذي عليه ان تجتازه وقد اكرهت زوجها ان يطلقها بعد ان اقترن باخرى .
انها الان تستقر مع علب بسيطة والوان من البهارات وعلك المر ومكانس من الخوص , تقبع امام محل صانعي التوابيت تحيط بها الفاقة ورائحة المنايا .
انهم يعملون باجتهاد في انتظار الموتى .
منذ الصغر فكر ان الانسان كما تسحق نملة فتموت سيموت , الفرق ان النملة لا احد ينوح عليها او ينصب لها سردقا او يقصدها معقّلون برايات واهازيج واسف كاذب , بلا مآتم تقام ولا احد يستمع للتلاوة , اونائحات .
لكن جمهرة بعد ان حمل فقيدهم من التابوت ليمكث في ظلامه وحفرته رآهم يتشاجرون مع الدفان , وكان شجارا طاحنا , وتدخل حكماء ومصلحون حتى انزل الميت في قبره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي