الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر جورج نجيب خليل

سليمان جبران

2024 / 4 / 15
الادب والفن




ليس غريبا أن تحتفي عبلين بابنها البارّ، الشاعر جورج نجيب خليل، فتقيم هذه الأمسية لذكراه. فقد عاش جورج حيانه كلّها متيّما بحبّ قريته، مكرّسا موهبته في كثير من شعره ونثره لهذه القرية. ما مِن نشاط ثقافي أدبي اجتماعي في عبلّين إلّا وكن لجورج فيه نصيب. بل إنّه لم يتورّع ذات يوم عن رئاسة مجلسها المحلّي، وليس له في السياسة كثير أو قليل، رغبة في خدمة هذه القرية الغالية على قلبه.
لا أعرف إذا كانتْ صلتي الماضية بجورج، يمكن اعتبارها صداقة فعلا. إلا أنّني أزعم ، مع ذلك، أنّي عرفتُ جورج خير معرفة. كانتِ العلاقة بيننا أوّل الأمرلقاءات عابرة في ندوة هنا أو أمسية هناك، ثمّ كان أن التقيتُ به عن كثب في مهرجان للشعر، أقيم في قريتكم هذه بالذات، كان جورج فيه كلّ شيء، وكنتُ يومها شابّا في مقتبل العمر يطمح إلى أن يكون شاعرا، فشاركتُ في ذلك المهرجان بدعوة من جورج شخصيّا.
إلا أنّ معرفتي القريبة بجورج كانتْ حين طبع لي رسالة الدكتوراه، في أوائل الثمانينات، وكان استأجر مكتبا في حيفا للأعمال المكتبيّة. زيارات عديديدة زرتُهُ في المكتب المذكور. تبدأ كلّ زيارة منها، بتبادل الموادّ ، وتنتهي بحديث يطول عن الأدب واللغة، وعن الحياة العامّة أيضا. عرفتُه في جلساتنا المذكورة معرفة جيّدة، فعجبتُ كيف يمكن لشاعر كهل أن يكون طيّب القلب إلى هذا الحدّ! ما كان أسهل خدعه واستغلاله، كما عرفتُ مِن حكايات كثيرة رواها لي. لقد عاش الشاعر جورج نجيب خليل برأس مفكّر وقلب طفل!
كان جورج مفكّرا شموليّا: كان معلّما، وشاعرا، ناثرا، ملمّا بالموسيقى، هاويا الغناء، خطّاطا، رسّاما، عاشقا للّغة العربيّة بكلّ جوارحه؛ لا تفوته فيها شاردة أو واردة. عليه ينطبق، ربّما قولهم كثير الكارات قليل البارات! أمّا إذا رغبنا في اختزال هذه الصنائع الكثيرة، فيمكننا القول إنّ حياة جورج كرّسها، في الأساس، للتّعليم والشعر. كان تعليم التشء الجديد وتثقيفه، في عبلين قريته ثمّ في شفاعمرو جارته، رسالة مقدّسة في نظره، حقيقة لا مجازا. ولعلّه كان ينظر إلى ذاته يوم كتب قصيدته في تكريم المعلّم، قائلا:
تحيذَتي لِكَريمٍ دائِمِ الشَّمَمِ يُعْطي وَيُعْطي بِلا شَكْوى وَلا سَأَمِ
اَلدَّرْسُ وَالْبَحْثُ وِالتَّنْقيبُ دَيْدَنُهُ كَيْ يُخْرِجَ الْعالَمَ الْغافي مِنَ الظّلمِ
فَهْوَ الَّذي يَتَفانى دونَ غايَتِهِ وَلَيْسَ يَعْبَأُ بِالْإِرْهاقِ وَالسَّقَمِ
يَموتُ مَوْتًا بَطيئًا وَهْوَ مُبْتَسِمٌ وَلا يُخالِجُهُ نَوْع مِنَ النَّدَمِ
وَكُلُّ ثَرْوَتِهِ عِلْمٌ يَجودُ بِهِ عَلى الْجَميعِ، وباقي النّاسِ في حُلُمِ
لكنّي جئتُ لأحدّثكم في هذه الأمسية، في الأساس، عن جورج نجيب خليل الشاعرلا الإنسان. فقد أصدر شاعرنا عشر مجموعات شعريّة، أولاها باسم "ورد وقتاد" سنة 1953، والأخيرة سنة 1986، باسم "الموؤودة"، بالإضافة إلى كتب نثريّة أخرى، لا تقع في نطاق حديثنا في هذه الأمسية.
رغم هذا الإنتاج الوفير، غالبا ما يُذكر اسم جورج في سياق الحديث عن الشعر العربي في إسرائيل ، بصفته أوّل مَن أصدر مجموعة شعريّة بعد هزيمة 1948، وبقاء الأقليّة الفلسطينيّة هنا في البلاد، تحت حكم الآخَر.
سنوات الخمسين الأولى، بعد قيام إسرائيل، كانتْ سنوات مظلمة بكلّ المعاني. لم تكدْ الأقليّة الفلسطينيّة تستفيق مِن صدمة الهزيمة، وما خلّفتْه في النفوس مِن انكساريّة وإحباط، حتّى أخذتْ تعاني مِن تعسّفات الحكم العسكري، وتقييداته للسفر والألسنة والأفكار، بما فيها طرد بعض المعلّمين "المشاغبين" في أيّار من كلّ سنة. هذا ما دفع كثيرين من المثقّفين والشعراء، ومعظمهم من المعاّمين، إلى الالتفاف حول مجلّة "المجتمع" التي أنشأها الشاعر ميشيل حدّاد سنة 1954، متّخذين "الحياد" لهم نهجا، مبتعدين ما أمكن عن الشعر السياسي، المباشِر ضدّ السلطة. أو كما وصفهم محمود درويش في "الجديد" في أيلول 1961: "لقد عمد بعض شعرائنا إلى الصمت. هؤلاء لا يستطيعون أن يهاجموا السلطة بسبب الوظيفة، ولا يستطيعون أنْ يرتموا في أحضانها خوف الشعب أو بسبب وخزات الضمير [...] وهكذا وقفتْ قضيّة الخبز أمام شعرائنا. أنت حرّ أن تقول ما تشاء، ، شرط أن تدفع الثمن، والثمن هو الاستغناء عن الوظيفة، والعَدْو وراء الخبز، خاصّة وأكثر شعرائنا يعملون في سلك التعليم". وكان مِن أبرز شعراء "المجتمع" هؤلاء، الشاعر جورج نجيب خليل!
لم يكنْ جورج نجيب خليل، أو غيره مِن شعراء "المجتمع" عملاء أو صهيونيّين، كما زعم خالد علي مصطفى ظلما، في كتابه "الشعر الفلسطيني الحديث" حيث يقول: لا نستطيغ أن نسوّغ الدعوة إلى الصهيونيّة عند هؤلاء [الشعراء] إلا أن يكون ذلك "عمالة" صريحة. ثمّة شاعر اسمه جورج نجيب خليل [...] خاطب في إحدى قصائده شاعرا يهوديّا يدعوه فيها إلى السلام[...] وفي قصيدة أخرى موجّهة إلى نوادي النساء العربيّات التابعة لمجلس العاملات في الهستدروت، يكشف عن ميول صهيونيّة".
لا يُمكن الحكم على جورج ورفاقه بالعمالة ، أو الخيانة، أو الصهيونيّة، بجريرة قصيدة يدعو فيها شاعرا يهوديّا إلى السلام، أو "نشيد" يدعو إلى "تهذيب البنين" لا غير، وعيبه الوحيد أنّه فاز في مباراة نشيد نوادي النساء العربيّات التابعة لمجلس العاملات في الهستدروت! مِن ناحية أخرى لا يمكن الزعم أيضا بأنّ جورج نجيب خليل شاعر يساريّ [شيوعي يعني] لأنّه أرثوذكسي من عبلين ، كما أفادنا بروفسور شموئيل موريه في مقالته "تطوّر الشعر العربي في إسرائيل" (همزراح هحداش، 1993)! كان شعراء "المجتمع" ، أو معظمهم ، من المعلّمين المهدّدين بالطرد من الوظيفة لأسباب تبدو اليوم في غاية التعسّف والتفاهة، فآثروا الصمت، بأسلوب درويش، أو ألوقوف "على الرصيف" في المعركة المفتوحة ضدّ السلطة، وفي تلك الفترة العصيبة كان نهجم ذاك مَرْكبا وعرا!
نضيف أيضا أنّ جورج في مجموعته الأولى "ورد وقتاد" أفرد بابا خاصّا ، على طريقة الشعراء التقليديّة، لوصف مواقع ومشاهد من بلادنا أسماه "من سحر الوطن". في الباب المذكور كتب الشاعر القصائد في وصف الطابغة وصفد وحيفا والناصرة وجبل الكرمل إلى غير ذلك. وكان بين تلك القصائد واحدة في وصف تل أبيب، أسماها "تل أبيب الفتاة في الليل". أغلب الظنّ أنّ الشاعر، ابن القرية العربية في الجليل، بُهر بمظاهر الحضارة الجديدة في المدينة العبريّة، فكتب قصيدته تلك يصف شعوره وإعجابه بما رأتْ عيناه لا أكثر. لكنْ كان من سوء طالعه أنْ اُدرجتِ القصيدة المذكورة في كتب التدريس لتُعلّم ، قسرا في أغلب الأحيان، في المدارس كلّها، وفي أكثر من صفّ، حتى كاد الشاعر يعرَّف عند كثيرين من المعلّمين والناشئة بتلك القصيدة! نؤكّد ثانية أنّ القصيدة لا تتعدّى الوصف "الموضوعيّ"، لكنّ كثيرين مع ذلك، اعتبروها كُتبتْ "مرضاة" للسلطة، فأساءت بذلك إلى الشاعر وسمعته الوطنيّة!
لكنّ الشاعر في المجموعة ذاتها يكتب قصيدة أخرى ، لم يلتفتْ إليها أحد، يؤكّد فيها تلبية نداء الشعب، والسير في سبيل التحرّر، مهما كان الثمن غاليا:

نَحْنُ الَّذينَ إذا دعاهُمْ شَعْبُهُمْ كانوا لَهُ الْأرْكانَ والْأَوتادا
فَلِصالِحِ الْمَجْموعِ نَسْعى دائِمًا وَبِذا السَّبيلِ نَلَذّ الِاسْتِشْهادا
فَإذا وَجَدْنا للتَّحَرُّرِ مَسْلَكًا سِرْنا بِهِ لَوْ عَلَّقوا الْأَعْوادا!
لنْ يأخذني الحماس، فأَزعم أنّ الشاعر كان "مقاوما" أو مناضلا ضدّ السلطة، في تلك الأيّام القاسية. لكنْ يصعب الحكم عليه أيضا، أو على رفاقه مِن "جماعة المجتمع" ، بالعمالة أو الخيانة أو غيرها من التهم الظالمة. لا ننسَ أيضا أنّ جورج، ومعظم الشعراء المذكورين، انصرفوا، منذ الخمسينات، إلى كتابة الشعر الوطني الصريح أيضا، حتّى عُدّ بعضهم في نظر السلطة، من "المتطرّفين" !
إذا رغبنا ، بعد هذه الوقفة "المضمونية" في تصنيف شعر جورج فنّيّا، فهو مِن أتباع المدرسة الكلاسيكيّة الجديدة، ما في ذلك شكّ. أوزانه كلاسيكيّة واضحة، يغلب عليها البسيط والوافر والكامل والخفيف، فإذا عمد إلى "التجديد" في الإيقاع ، وهو قليل، كتب الشعر المقطوعي لا أكثر. ألفاظه وتشبيهاته أيضا لا تخرج عن المألوف في هذه المدرسة، بل إنّه في مجموعته الأولى المذكورة يثقل قصائده بهوامش كثيرة يفسّر فيها المفردات الصعبة، شأنه شأن الشعراء الكلاسيكيّين الجُدد! لقد تربّى شاعرنا على الشعر الكلاسيكي، بكلّ مقوّماته الفنيّة، وإذ انصرف إلى كتابة الشعر، لم يستطعِ التحرّر من هذا الإرث التقليدي إلّا فيما ندر، بل إنّه يتعمّد الجناس أيضا، على طريقة القدماء :
- ما حلَّ حيفٌ فيكِ يا حيْفا على مرِّ العصور ولاحق الأزمانِ
- وعلى الشاطئ الجميلِ تبدّتْ راسياتٌ كأنّها راسياتُ
- يا جِنانًا لها جَناني مِجَنٌّ يجْتني دونَها سِهامَ عِداها
حتّى في الغزل، حيث نتوقّع التعبير عن المشاعر الذاتيّة، لم يخرج جورج عن "قاموس" الغزل التقليدي، لفظا وتشبيها وموسيقى. هكذا كتب الشاعر في صورة فتاة حسناء، على غلاف مجلّة، في مجموعته "راسخون" (1983) :
يا مَنْ عبثتِ بناظري وبخاطري ودخلتِ قلْبي دونَما اسْتِئْذانِ
أَكَذا فعلتِ وما رَحمْتِ مُعذَّبًا أضْنَتْهُ نارُ الوَجْدِ والحِرْمانِ؟
قَدْ طارَ مِنْ عَيني النعاسُ ولمْ أَعُدْ أقوى عَلى شَيْءٍ .. وَشُلَّ لِساني
فَأَنا الأَسيرُ وليسَ لي بِمَعابةٍ مَنْ ذا يَعيبُ مُتَيَّمَ الْغزْلانِ؟
كان شعره أَقْرب إلى التقليد منه إلى التجديد، كما نرى في هذه الأبيات، إلّا أنّ جورج يظلّ مع ذلك من الشعراء المؤسّسين الذين أرهصوا ، بمشروعهم الشعري، لنشوء الأجيال الجديدة والشعراء المجدّدين في الشعر الفلسطيني في إسرائيل.
( عبلين في 24/ 8 / 2011)


[ كتاب "أوراق ملوّنة" 201، ص. 117 - 123 ]











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل