الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللعب على حبل التوازن

خالد صبيح

2024 / 4 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


من شاهد منكم فيلم (الهروب) للمخرج الراحل (عاطف الطيب)، وهو، برأيي، من أرقى أفلام السينما المصرية، لابد أنه يتذكر شخصية ضابط الشرطة (فؤاد الشرنوبي) العائد من دورة تدريبية في أميركا، الذي أدى دوره بإجادة عالية الفنان الراحل (محمد وفيق)، وكيف كان يتبع طرقا ملتوية ومبتكرة في معالجة شؤون عمله، حيث استخدم قضية المتهم المطارد (منتصر) (أحمد زكي) في إشغال الرأي العام حين تبرز إلى السطح مشكلة اجتماعية تكون لها تداعيات أمنية، فيتيح له طرق الهرب ويبقيه تحت المراقبة ليلقي عليه القبض متى ما أراد وفي النهاية قتله. وفي أحد مشاهد الفيلم يقول الضابط مزهوا لرئيسه:

هاه، إيه رأيك بالشغل الأمريكاني.

إذا كنت، عزيزي القارئ، قد خمنت من هذا المدخل بأني أريد الحديث عن مؤامرة فتخمينك صحيح، إذ رغم السمعة السيئة لنظرية المؤامرة إلا أن ذلك لا ينفي وجود المؤامرات في عالم السياسة، بل يمكن القول، ببعض التجاوز، إن كواليس السياسة والقرارات الدولية هي في حقيقتها مؤمرات أو بتعبير أقل وطأة خطط ومقاصد خفية.

ومؤامرتنا لهذا اليوم هي طبعا مؤامرة أمريكية، فمن سيحوك المؤامرات عندنا غير أمريكا؟

لكن كيف ولماذا؟

يعرف المتابع أنه منذ 7 أكتوبر، وبعد المجازر الدموية التي ارتكبتها "إسرائيل" بحق الغزيين، وبعد فشلها العسكري وارتباكها السياسي، وانكشاف انحطاطها الأخلاقي على الملأ، أخذت، كما تابع الجميع، سمعتها " اللامعة" بالتراجع في أوساط الرأي العام الغربي، وتهافتت معها سرديتها وفقدت بريقها. بيد أن تردي السمعة هذا وتراجع الحظوظ لم يقتصر على "إسرائيل"، التي يعتبرها الغرب الرسمي (مرآته الحضارية)، وحدها، بل امتد وانعكس بصورة تلامس الكارثة على سمعة ومكانة ومصائر ساسة الغرب، لاسيما أولئك الذين تستروا على جرائم " إسرائيل" العلنية والمكشوفة، الأمر الذي خلق نقمة ضدهم في مجتمعاتهم ووسط ناخبيهم، وأكيدا أن أكثر الذين سيعانون من ذلك هو الرئيس الأمريكي "بايدن"، الذي بالغ حد التطرف في انحياز إدارته لـ "إسرائيل" ودعمها بكل الطرق ما أدى إلى بعض الشروخ في أوساط إدارته نفسها، عبرت عنه استقالات بعض الموظفين فيها، ما شكل، مع غيره من العوامل، ما يشبه التحول النوعي في قناعات الناخبين التقليديين للحزب الديمقراطي و لـ"بايدن" نفسه.

وإذا كان فقدان أصوات الناخبين من أصول عربية وإسلامية لا يشكل خطرا كبيرا على "بايدن" والحزب الديمقراطي، ليس فقط لأن هؤلاء لا يشكلون ثقلا عدديا كبيرا، وإنما لأن حساباتهم في الخيار الانتخابي ستتأثر بخصوصيتهم التي سوف لن يحقق، في النهاية، الجمهوريون متطلباتها لهم، ما سيدفعهم للاضطرار إلى إعادة النظر بقرار منع أصواتهم الانتخابية الذي اتخذوه للضغط على "بايدن" بسبب موقف إدارته المنحاز من العدوان على غزة، والعودة إلى حاضنتهم الانتخابية الأولى في الحزب الديمقراطي، خصوصا في ظل غياب بديل آخر عن الحزبين الوحيدين في الانتخابات الأمريكية (وهذه من فضائح الديمقراطية الأمريكية التاريخية)،يمكن أن يوفر لهم تعددا في الخيارات تمكنهم من تنفيذ وعيدهم. وبهذا يكون الخطر الذي يلقي بظله الثقيل على مصير "بايدن" في الانتخابات القادمة آت من الناخبين الأميركان أنفسهم الذين أشارت بعض التقارير والاستطلاعات إلى مستوى مقلق من التحول في مزاجهم وقناعاتهم الانتخابية.

وحينما يضيق الوقت، والانتخابات قريبة، فلا خيار لحل الوضع المتأزم غير إجراءات فعالة واستثنائية تعيد الموازين إلى نصابها، من هنا يمكن الاعتقاد أن إدارة "بايدن" قد توافقت مصلحتها مع مصلحة "إسرائيل" في الحاجة لإيجاد مخرج من المازق الذي بدأت بوادره وآثاره تظهر في تحولات الرأي العام، وكان المطلوب هو خلق حدث يعيد لـ" إسرائيل" صورة الضحية التي اقتاتت عليها دائما، وينعش التعاطف والتضامن المتآكلين معها، وليوفر في ذات الوقت غطاءً سياسيا و "أخلاقيا" لـ"بايدن" كي يبرر أمام ناخبيه وجمهوره ما فعله وما سيفعله من أجل "إسرائيل"، وأفضل حل يمكن اجتراحه هو استدراج إيران إلى وسط الميدان، وكان ضرب قنصليتها في دمشق خيارا مناسبا يفي بالغرض. فالقنصلية، أولا، ليست هدفا صغيرا يمكن أن يمرر ضربه كما مررت ضربة أهداف أخرى، ولا كبيرا يستدعي رد فعل بحجمه لاتمكن السيطرة على تداعياته، وهو، ثانيا، في أرض إيرانية ( قانونيا ورمزيا) لكنه خارج الأرض الإيرانية الفعلية، مما يجعله هدفا ملتبسا، بالإضافة إلى أنه هدف سهل من الناحية التقنية لقرب المسافة وسهولة توجيه الضربة، فأرض سورية وسمائها مستباحان.

وما شجع الطرفان، "الإسرائيلي" والأمريكي، على تلك الخطوة الاستفزازية هو حسابات تبدو دقيقة هي المراهنة الكبيرة على أن إيران لا تريد الحرب، على الأقل الآن، وليست بقادرة عليها في تلك الظروف، وهذا أعانهم في دفعها لحصر رد فعلها بحدود محتملة.

لقد كان واضحا منذ بداية عدوان غزة أن إيران لا تريد الحرب، والأكثر أن جميع الأطراف المتصارعة والمشتبكة الآن لا تريدها هي أيضا،( عدا حماس التي تخفف الحرب من الضغط الكبير عليها، وتمنحها مساحة للمناورة "سياسيا وعسكريا”)، وأكثر الأطراف التي لا تريد الحرب هي "إسرائيل" نفسها، بغض النظر عن ما يتردد من أن اتساع نطاق الحرب سيصب في مصلحة "نتن ياهو" الشخصية، فـ"إسرائيل" غير قادرة، حتى مع العون الأمريكي، على احتمال حرب على أكثر من جبهة، خصوصا إذا كانت إيران أحد أطراف هذه الجبهات المتعددة، هذا عدا أن تعدد أطراف الحرب لا يناسب التكتيك الحربي والسياسي "الإسرائيلي" الذي يميل إلى الانفراد بالخصم وحده بعد تحييد الأطراف المساندة له، (عزل الضحية).

(وللتذكير فقط، أقول أن المتحاربين في الحرب العالمية الثانية لم يكونوا، بما فيهم هتلر الذي حُمّل مسؤولية إشعال الحرب، راغبين في الحرب أو في توقيتاتها على أقل تقدير.

والسؤال: ألا يحمل هكذا مخطط مخاطرا واحتمالا لتداعيات غير مرغوب بها؟

بالتأكيد.

وأول هذه الاحتمالات والمخاطر هو اتساع رقعة الحرب فعليا وفقدان السيطرة على توازنات اللحظة الراهنة فيها، رغم المراهنة الكبيرة على انعدام رغبة واستعداد إيران للانخراط المباشر في الصراع، والذي يبدو أن الإدارة الأميركية كانت منتبهة له، لهذا كانت عملية ضبط حدود رد الفعل الإيراني تبدو مدروسة وقد أثمرت، فـإيران" ردت بطريقة أعادت لها ماء وجهها، وإن شكليا، (سنتجاوز هنا الأبعاد المستقبلية المحتملة في استراتيجيات الصراع التي ستنتج عن الضربة الإيرانية)، ولم تحمل استفزازا كبيرا لـ"إسرائيل" يضطرها للرد الذي سيولد إشكالات لايمكن السيطرة عليها، وقد حقق الأمريكان و "الإسرائيليون"، بشكل أولي، الهدف الأساس من كل العملية وهو ترميم ما هُدم أو تهشم من مكانة وصورة وسمعة "إسرائيل" وإدارة (بايدن).

قلت بشكل أولي لأن ليس هناك ضمانات حقيقية في أن الطرفين، الأمريكي و "الإسرائيلي"، سيحققان فعليا ما رغبا وخططا له، فرغم الاندفاعة الإعلامية والسياسية المتعاطفة التي انتشرت في الغرب بعد الهجوم الإيراني، إلا أنه من غير المؤكد أن الرأي العام الغربي الناقم على "إسرائيل"، والذي تغيرت في ذهنه ومخيلته صورتها المصطنعة، سوف يعيد النظر في موقفه.

ولا توجد هنا ضرورة، برأيي، لمناقشة الآراء الحماسية المتهافتة، بمسحتها العاطفية والأيدلوجية، التي قسمت الرأي العام العربي ورسمت خطوطا حادة في تقييم الضربة الإيرانية بتمجيدها وإعطاءها أكثر من حجمها، من طرف، أو بالتقليل من شأنها وتبخيسها من الطرف الآخر، أو، وهو الأتعس، بوصفها مسرحية.

إن ما يعزز القناعة في احتمال ضلوع الولايات المتحدة في عملية ضرب القنصلية هو استحالة وصعوبة أن يتحرك الطيران "الإسرائيلي" في منطقة تتواجد فيها قوات أمريكية وخاضعة للمراقبة الدائمة منها، من غير علم تلك القوات، فهذا غير ممكن، من الناحية العسكرية والتقنية، لأنه قد يسبب، نتيجة سوء فهم ما، تصادما بين القوتين. كما إن عدم تجاوب أمريكا مع المحاولات الإيرانية لاحتواء الأزمة بمكسب سياسي عبر إدانة العملية في مجلس الأمن، يشكل شاهدا آخر على ضلوع الأمريكان أو مباركتهم، هذا عدا أنه لا يخدم ما يريدونه لأنه سيزيد الطين بلة بالنسبة "للإسرائيليين" المعتادين على عصيان مجلس الأمن، لهذا كرس الطرفان ردود فعلهما باتجاه الضغط النفسي على إيران لكي توجه ضربة مع المراهنة على ضبطها بالحدود المرسومة لها.

وهذا ما كان.

أما لماذا وقعت إيران في مثل هكذا فخ سهل ومكشوف؟ فلهذا أسباب عدة أهمها أن ثمن اهتزاز صورتها أمام حلفاءها وجمهورها سيشكل خسارة أكبر من خسائر عدم الرد. وذلك لأن الدول، مثلها مثل الأفراد، عندها كرامة ومكانة اعتبارية، ويهمها الحفاظ عليهما والدفاع عنهما، ويمكن أن تضحي من أجل ذلك مهما كانت ميولها النفعية "البراغماتية" كبيرة. لذا كان الرهان الأكبر لهذا الفخ هو اللعب في تلك المنطقة الحساسة.

أما الخطر الثاني الذي يفترض أنه حضر في مخيلة الأمريكان وهم يرسمون خطوات مخططهم هذا هي ردود فعل مضادة ،محتملة افتراضيا، من الشعوب العربية ضد حاكميها أو ضد المصالح الغربية في المنطقة، نظرا لتورط أنظمة عربية في المجهود الحربي "الإسرائيلي" والأمريكي لمواجهة الضربة الإيرانية والحد منها، وهو ما قامت به الأردن فعليا، وتحت أنظار وأسماع (النشامى)، أو نتيجة لما يمكن أن يولده التجرؤ الإيراني غير المسبوق على "إسرائيل"، التي تحصنت لعقود بقوة ردع أخافت جيرانها المذعورين، من استثارة لحمية الشعوب العربية، على الأقل تلك المجاورة لفلسطين ومعنية أمنيا وأخلاقيا، كما يفترض، بمصير الفلسطينيين وشؤونهم، لاسيما وهم يرون في الوقت نفسه خنوع أنظمتهم وتواطئها مع من يعادونه "افتراضيا"، لكن ذلك الخطر (وبضمانتي الشخصية) هو أقل المخاطر الذي يجب على الأمريكان وغيرهم التحسب له، فهذه الشعوب تعيش منذ زمن في غيبوبة وقد استقالت عقليا وتعطلت طاقة النضال لديها، وهي تعيش راضية مرضية بواقعها المزري، لأنها مخلوقات أخروية، تنتظر آخرتها لتعيش، فليس على هذه الأرض، بالنسبة لها، ما يستحق العيش، وبعضها تفوق في كثير من الحالات على أنظمة حكمه في مستوى الانحطاط. نعم، هم يمكن أن تحركهم، بل قل تهيجهم، غرائز طائفية أو دينية، لكن هواجس ومشاغل وطنية وتحررية فهذا مستبعد ولا موضع له في قواميس وعيهم، ولذا فهذه الشعوب سوف لن يحركها أي عدوان سواء كان عليها أو على غيرها، ولن يثير حماستها أي فعل، فلا داعي للقلق منها ولا حتى وضعها في الحسبان.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن مصمم على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين حماس وإسر


.. شبح الحرب يخيم على جبهة لبنان| #الظهيرة




.. ماهي وضعية النوم الخاصة بك؟| #الصباح


.. غارات إسرائيلية تستهدف كفركلا وميس الجبل جنوب لبنان| #الظهير




.. إسرائيل منعت أكثر من 225 ألف عامل فلسطيني من الوصول لأماكن ع