الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استشرافُ المستقبلِ في مُذَكِّراتِ الدكتور جمال حمدان(1928-1993م) الجغرافية

صبري فوزي أبوحسين

2024 / 4 / 17
الادب والفن


لا ريب في أن القراءة الاستشرافية للحياة والأحياء من الضرورات العلمية المُلِحَّة في عصرنا، هذا الذي يتسم بتسارع الأحداث وتناميها وتشابكها، وهَرْجها ومَرْجها، وفِتَنها وكوارثها! وهي قراءة قائمة على تفكير جاد عن تطورات المستقبل واحتياجاته، وعن مصير الأجيال القادمة، بأسس علمية منهجية، وفيها رُؤًى تطلُّعية لحل مشكلات آنية أو لمواجهة تحديات قادمة؛ بُغيةَ تحقيق منفعة عامة للبلاد والعباد. والدكتور جمال حمدان(1928-1993م) واحد من الأكاديميين المصريين الأحرار الشجعان! البارزين في مجال الدراسة الجغرافية السياسية التحليلية المُعمَّقة، وأحد النوابغ الذين رُزِقوا بصيرة نافذة، وعينًا ثاقبة، وأسلوبًا علميًّا محددًّا، قائمًا على الإيجاز والتكثيف، كأنه كلمات مفتاحية، أو عبارات حكيمة فلسفية جوامع، مما جعله ينجز هذا التفكير الجغرافي الإستراتيجي، وذلكم البحث الأنثروبولوجي المتكامل، المتفقه في حقائق التاريخ ووقائع الحاضر، في سياق عام متناسق، بدءًا ببِنْية أولى مِحوَرية هي (مصر)، وبِنية وُسطى عظيمة هي (فلسطين المباركة)، وانتهاء بعالم يجمعنا بقيمه الحضارية السامقة هو (عالمنا العربي الإسلامي).
إنه -كما وصفه قارئو مُنتجه الكِتابي العظيم-مدرسة راقية في التفكير الاستراتيجي المنظم، مزج فيها بطريقة غير مسبوقة بين علم الجغرافيا، وعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة، ليخرج لنا مكونًا جديدًا أسماه "جغرافيا الحياة"، معتمدًا على ما يسمى(الدراسات البينية). يقول في مقدمة كتابه الموسوعي "شخصية مصر"، عن مفهومه لعلم الجغرافيا: "علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها.. وهذا الرؤية ثلاثية الأبعاد في التعاطي مع الظاهرة الجغرافية، تنقل عالم الجغرافيا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، ومن جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرفيعة". وقد التزم ذلك في مجمل ما كتب! حيث يفحص المقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري، ويقدم رؤية واعية للتكوينات الحياتية وعوامل قوتها أو ضعفها، مع مراعاة البعد المستقبلي في الوصف والتحليل والتخطيط لكل مكان، سواء أكان مصريًّا أم عربيًّا أم كونيًّا! كأنَّه يراه رأىَ العين، أو يطالعُه مِن سِفرٍ مفتوحٍ، وهذا شأنُ نوابغِ البشر! مما أهَّله ليُقدِّم أفكارًا تسبق زمنها بسنين عديدة! فنندهش عندما نقرأ مؤلفاته أو أبحاثه أو مقالاته الكثيرة والمتنوعة، حيث نرى أطروحات طريفة، ثبت مع الزمن صدقُها، ودلَّت الأحداث على صحتها! وهذا ما نراه في مذكراته في الجغرافيا السياسية، التي أصدرها شقيقه الدكتور عبدالحميد صالح حمدان، سنة 1996م، بعنوان: (جمال حمدان: صفحات من أوراقه الخاصة، مذكرات في الجغرافيا السياسية).
وهذه المُذَكِّرات تُمثِّل خطوطًا عريضة وصفحات تمهيدية من أوراق أستاذنا جمال حمدان الخاصة، التي كان يعدها لمشاريع بحثية مستقبلية، كان يُدوِّنها يومًا بيوم، دون تسلسل زماني، وكانت تسجيلاً لما يدور في ذهنه من خواطر وتفاعلات تدخل في صميم اهتماماته ببلده وبالعالمين: العربي والإسلامي، والعلاقة مع الآخر شرقيًّا أو غربيًّا، وكانت هذه المسودات العلمية أساس اللبنات الأولى لكتابه الذي يكان يخطط لإخراجه عن جغرافية العالم الإسلامي، فبعد انتهاء أستاذنا - عام 1989م- من إخراج ملحمته الفكرية الكبرى المكونة من أربعة آلاف صفحة، في أربعة أجزاء، والمعنونة بـ: (شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان)، بدأ بكتابة مذكراته، في الفترة الأخيرة من حياته، أي منذ سنة 1990م حتى سنة 1993م، وهي فترة عصبِية وعصيبة وطنيًّا وقوميًّا وعالميًّا! وقد قُسِّمت هذه المذكرات إلى خمسة فصول: الأول عن مصر والمصريين، والثاني عن الجغرافيا والجغرافيين، والثالث عن العرب والعالم العربي، والرابع عن الإسلام والعالم الإسلامي، والخامس عن العالم الغربي: أوروبا، أمريكا، روسيا، البوسنة والهرسك، ثم ختم مذكراته بمقالة عن الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد.
وإن سياحة في هذه المذكرات لتوقفنا على أدلة جلية على التفكير المستقبلي والإستراتيجي عن جغرافيِّنا الكبير جمال حمدان، رحمه الله تعالى، ومنها الآتي:
• نجده يكثف رسالة المثقف الوطنية والقومية بقوله[ص58]: المثقف هو الذي يتجاوز دائرة ذاته ليصل إلى المجتمع الأكبر كله، هو القادر أن يجعل مشاكل الآخرين همومًا شخصية له، هو ضمير عصره، سابق لعصره، في إدراك الخطر المستقبلي والحلم بالمستقبل، هو برج مراقبة للعالم من حوله، يرصد، يحلل، يتوقع، يتنبأ، يحذر، يخطط، لا يضيع في التفاصيل، وإن تابعها بكل تفصيل...إنه مفكر إستراتيجي كلي شمولي نُبُوئِي...إن المثقف الجغرافي هو سيد المثقفين، وسواء كانت الثقافة هي الأصالة أو المعاصرة، والثقافة الجغرافية أو الجغرافيا الثقافية؛ فهي تضم الاثنين جميعًا، فهناك التراث الجغرافي العربي الهائل، ولا سَدَنة ولا خدم، ولا حارس أو دارس إلا الجغرافي، ثم هناك جغرافية اليوم، وجغرافية الساعة، وهي قمة المعاصرة. ليست قضية الجغرافيا أن تكون أو لا تكون، إنما هي أن تكون فاعلة أو خاملة، مؤثرة هامة أو غير ذلك.
• ومن رؤاه العبقرية فيما يخص عالمنا الإسلامي قوله[في لوحة رقم 1 ص21]: من اللافت بشدة أن أهم خصائص أو صفات الإسلام هي نفسها أهم خصائص أو صفات أرض الإسلام، أي العالم الإسلامي، وهي التوسط والاعتدال في الحالين؛ فالعالم الإسلامي متوسط الموقع تمامًا في العالم القديم، وبيئته الطبيعية أقرب إلى الاعتدال بحكم هذا التوسط (موقع متوسط، وموضع معتدل). أما الإسلام فيقال لنا دائمًا: إنه دين التوسط والاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ولا تطرُّف ولا تعنُّف!
• وفي توصيفه العبقري لمشكلة فلسطين همه الأكبر نجده يقول [ص106-107]: إن قبول العرب نهائيًّا بضياع فلسطين نهائيًّا وتثبيت إسرائيل نهائيًّا، وهو مقابل الخروج الأندلسي مع فروق سيكون اعترافًا بل إعلانًا عن إنهاء وحل العروبة والقومية العربية، وإلى الأبد،... لقد نجحت الصهيونية في إنهاء وإفناء القومية العربية التي لم تكن قد بدأت بالكاد، وكانت في مرحلة التكوين والنمو بالمعنى الحديث...إذا كان اليهود يقولون لا معنى لإسرائيل بدون القدس فنحن نقول لا معنى للعرب بدون فلسطين.. وهذا التصور المبكر لقضية فلسطين، هو ما تدل عليه أحداث فلسطين الدامية الآنية.
• كان جغرافيُّنا عاشقًا لمصر كأعظم ما يكون العشق، فاندمجت عبقريته الفكرية الفذة مع عشقه العظيم لمصر الخالدة فكانت همَّه الأكبر، ولا أدل على ذلك من قوله في مذكراته[ص31]: مصر اليوم إما القوة وإما الانقراض، إما القوة وإما الموت، إن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود المنطقة بأسرها سوف يتداعى عليها الجميع(كالقصعة!) أعداء وأشقاء وأصدقاء: أقربين، وبعيدين، وأبعدين! زنوج أفريقيا سيكونون أول أبناء آوى، ولكنهم سيدعون زنوج النيل لينوبوا عنهم، ويقفون عنهم يتفرجون في حياد كاذب! وانتظار العزاء بعد الوفاة (الحبشة+السودان+أعالي النيل) قد يحاربون مصر يومًا ما عسكريًّا، ثم إسرائيل...إلخ
• واستطاع علامتنا أن يحول علم الجغرافيا من جفافه العلمي إلى سيمفونية وطنية وعروبية ساحرة وبنَّاءة، استمع إليه يخاطبنا-نحن المصريين-[ص33]: أن تكون مصريًّا فهذا يعني في الواقع شيئين في وقت واحد: الأرض والشعب، الوطن والقومية؛ فالمصرية للمصري هي قاعدة الأساس، وقاعدة الارتكاز، وهي قاعدة مركبة لا بسيطة، من عنصرين لا من عنصر واحد! وهذه القاعدة الأساسية لها أبعاد خارجية...أبعاد جغرافية طبيعية بحتة، أي من صنع المكان والطبيعة، وأبعاد مكانية باختصار، ثم أبعاد بشرية!
• وفي ميدان المواطنة نجده يقول[ص38]:...نحن والأقباط –بعد الوطن والتاريخ والحضارة الإسلامية قديمًا-شركاء الآن في الثقافة نصف الغربية ونصف العربية الإسلامية، وذلك بصرف النظر عن عناصر الوحدة الدينية البحتة بين الإسلام والمسيحية، فضلا عن وحدة العنصر والأصل...إنهم أقرب المسيحيين في العالم إلى الإسلام، بمعنى ما أو آخر، وفي هذا تفرد الأقلية القبطية؛ لتضاف إلى عناصر تفرد مصر بعامة، وكما أن مصر فلتة جغرافية فإن الأقباط فلتة طائفية...
• ومما يدل على رؤيته المبكرة للتحديات التي سيواجهها وطننا الحبيب قوله: [ص31-35]: من المتغيرات الخطرة التي تضرب في صميم الوجود المصري، ليس فقط من حيث المكانة والمكان ذاته ما يلي:
1-أصبحت مصر معرضة للتآكل الجغرافي لأول مرة في التاريخ كله، وإلى الأبد، إذ تحولت من عالم متناه بالطبع والطبيعة إلى عالم متآكل بفعل الإنسان؛ يوقف نموها أفقيًّا ورأسيًّا، ويعرضها للتآكل البحري والصحراوي!
2-أصبحت أرض مصر أرضًا مغلقة بيلوجيًّا بلا صرف بل مصرف! وبالتالي لا تتجدد مياهها وتربتها، كما لم تجدد أرضها وترابها، ومن ثم أصبحت بيئة تلوث نموذجية، وبقدر ما هي بللورة مركزة طبيعيًّا، ستصبح بللورة تلوث مكثفة حتى الموت البيولوجي!
3-لأول مرة ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدعون هيدرولوجيًّا، كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة، الآن فقط انتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومُحاسَبة، ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص، ...! ولت أيام الغرَق وبدأت أيام الشرَق، وعرفت الجفاف لا كخطر راجع، ولكن دائم! (الجفاف المستديم بعد الري المستديم)!
4- في الوقت نفسه بلغ سكان مصر الذروة غير المتصورة قط، وهكذا بينما القاعدة الأرضية والمائية انكماش أو ثبات أو انقراض! وصل الطفح السكاني إلى مداه، ولم يبق سوى المجاعة، وبقي عامل السكان الذي تعدى إمكانيات الأرض، أصبح بالوعة للأرض وآكلا لها! فهو لا يتجاوز إمكانيات الأرض فحسب، وإنما يقلصها بقدر ما يتوسع إسكان في المدن والقرى والطرق...إلخ حتى سيأتي اليوم الذي تطرد فيه الزراعة تمامًا من أرض مصر!
5- ويقول [ص40-41] في رؤيته المبكرة لمشكلة الانفجار السكاني والحجري في القاهرة: أنقذوا مصر من القاهرة، والقاهرة من نفسها، كل طوبة توضع في القاهرة، هي جريمة في حق مصر كلها، وأولها القاهرة نفسها، كل كوبري يبنى داخل القاهرة هو كوبري مسروق من مدينة أو قناة أو منطقة أخرى في مصر. وفي إداركه لمشكلة صعيد مصر: الصعيد قاع مصر اليوم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا وطائفيًّا..إلخ قد يبدأ انفجار مصر من الصعيد... ثم يقدم الحل لذلك قائلاً: المشروع القومي ليس إلا بناء مصر القوية الكريمة، أي العمل، الإنتاج المادي والسِّلَعي، مع إعادة توزيع العائد، بعدالة الدولة العصرية، وهي المشروع القومي، والمشروع القومي تسمية جديدة للدولة العصرية، حين نقول: مصر القوية، فنحن نقصد مصر القوية العزيزة الكريمة في الداخل والخارج، والقوة وحدها لا تكفي...بل لابد من ثنائي القوة والجمال، مصر القوة والجمال، هذا ما نريده: (القوة) هي التحرر الوطني والسيادة الوطنية، والعزة القومية، ونفي التبعية والاستعمار والصهيونية وإسرائيل. أما (الجمال) فهو عزة الإنسان المصري في دولته القوية...
وهكذا نرى في كل فصول هذه المذكرات شجاعة منقطعة النظير وجراءة خاصة، من الدكتور جمال حمدان، في الوصف والرصد والتحليل والعرض والنقد، وفى دخول مناطق فكرية وسياسية مسكوت عنها! قدم بها المثل الأعلى للمفكر الاستراتيجي، والمثقف المقدام، صاحب الرسالة، الذي يعيش زمنه وهمومه ومشكلاته، ويُسهم بفكره وعقله في بناء المشروع الوطني القومي لوطنه وأمته. ونجد أنساقًا ثقافية متنوعة بين: نسق وطني، وثان عروبي، وثالث فلسطيني، ورابع إسلامي، ورابع كوني كوكبي، عرضها مفكرنا المصري الفارس النبيل بتقنيات فريدة، عرضًا عميقًا، مُحكمًا، مقنعًا، فيه جمع بين عرض الأدواء، ووصف الأدوية! وفذلكة القول في ذلك أن هذا الكتاب من كتب العلامة جمال حمدان مثال للأدب الواقعي الهادف البنَّاء الكاشف الهادي، ويعلن عن جانب خفي في شخصيته، وهو جانب الإبداع الأدبي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب