الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيح بين عرفات والصباح الجزء الثاني

إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة

(Ereiny Samir Hakim)

2024 / 4 / 20
الادب والفن


هذا المقال هو اسئناف لمقالي السابق بعنوان: "المسيح بين عرفات والصباح"، لِما أثاره مسلسل "الحشاشين"، من تساؤلات ضرورية، ومسائل مفصلية، تتصل بتحليلات، مرتبطة جوهيراً بأعمال درامية أخرى لكاتب العمل، وسأترك لكم رابط المقال السابق في الختام.

هذا المقال هو تعليقٌ، على ما جاء في الحلقة "الثامنة"، كرد من المؤلف والمخرج على تساؤلات واعتراضات، قد أُثيرت بسبب استخدام معجزات "السيد المسيح"، وأحداث من "الكتاب المقدس"، في الحلقات الأولى من المسلسل بشكل واضح، والذي استمر في استخدام هذه العناصر، على مدار باقي العمل، وإنما بشكل أقل خفوتاً من لذوعة الحلقات الأولى.

والحقيقة أنَّني توقعت هذه الهزالة، في الرد الدرامي، الذي تم الاستعانة به لإيجاد مَخرَجٍ من هذا الحرج، هذا إذا كان صناع العمل قد استشعروا الحرج فعلاً! لأنهم يعلمون جيداً ما يفعلونه بتبلد وخطى ثابتة، ولكنهم على أية حال حاولوا أن يحفظوا القليل من ماء الوجه، فجاء الرد أكثر ضعفاً، وكسلاً، وسخافةً.
وكان الرد على لسان الراوي في الحلقة الثامنة، عبارة عن تجميع لمشاهد (فلاش باك) لأحداث حدثت في الحلقات السابقة لها، بينما هو يقول هذا:

"حسن أهل فراسة ينظر في عين اللي قدامه ويقراها ويحس بضعفه ... وحاجته ونواقصه ... آثار العلوم من خيمياء وفلك وغيره بيخللي حسن يعمل أشياء غريبة ... يتقسم اتنين قدام عينيك، يظهر في كوابيسك ..
حسن الصباح استفاد من المعجزات المذكورة في الكتب السماوية، عهد مع الظلمة، أقره حسن من وهو طفل ... حسن شايف إن غايته عظيمة ... أي شيء يبرر من أجلها، ......."

مبدئياً هذا ليس ما استفاده "حسن الصباح" من الكتب السماوية، بل هذا هو ما استفاد به أنتم، استغلالكم أنتم، خاصةً وأنَّ هذه الاستفادة، ليست الأولى من نوعها، في قالب مُستغل لمحتوى "الكتاب المقدس" بالتحديد، لهذا أتحدث هنا بنفس عنوان المقال السابق، فما أرصده هنا يتحدث عما سبق، وما يستمر، وهو استغلال "عبد الرحيم كمال" ككاتب، لـ"الكتاب المقدس"، وأقواله وحكمه وصفات مسيحه وأنبيائه، وما يتضمن من أحداث ومعجزات، في أعمال سابقة، وأزهى نموذج لها، هو شخصية "الشيخ عرفات" في مسلسل "جزيرة غمام"، وأكمل معه تطبيق هذا المنهج، المخرج "بيتر ميمي" في الحشاشين.

الحقيقة أنَّ الأمر، لا يتعلق بحسن الصباح في حد ذاته، فحسن الصباح مجهول التفاصيل تاريخياً، وهذا المَخرَج الدرامي، الذي كان استحضاراً لحبكة تم إعدادها من قبل المؤلف والمُخرج، هو خيال ممزوج بالاستغلال بإرادة حرة من المرجعية والكتب، فهذا الجزء من شخصية "حسن الصباح" هو من وحي خيال الكاتب، ورغباته فقط، وليس هو ما أقرّ به التاريخ ودوَّنه، فحسن الصباح مرجعيته ليست مسيحية، ولا يعنيه الكتاب المقدس الذي للمسيحيين، فتوجهاته ليست لهم، ولم يكونوا غرضاً لاستقطابه، ولا طريقه الروحي الذي ادعاه ولا خطواته الحربية كانت تستلزم هذا الكتاب!

ولكن هي رغبة الكاتب الملحة، الملازمة لأعماله، لغرض في نفسه!

وإن كانت محاولات الكاتب والمُخرج على لسان الراوي، أن يحولوا ردود الأفعال المستنكرة لهذا الإسقاط "الصباحي" على شخص السيد المسيح وأنبيائه، قد أتت بفكرة أنَّه تأثر بالكتب السماوية، فأخذ منها ما يحلو له، وصاغه إيحائياً لإبهار من حوله، مستخدماً في ذلك الخيمياء والسِحر، وغيرها من القدرات الخارقة للطبيعة، وفكرة أنَّ هناك مُضلِّلاً روحيّاً يستطيع أن يفعل هذا، فهو أمر وارد الحدوث، فهناك مستغلون للدين من كل دين بالفعل، ومن أشهرهم "راسبوتين"، لكن في مسألة اختيار شخصيات هذا الإسقاط، أدعوك ان تتخيل الموقف "عكسياً"، وأنَّه مثلاً قد تم إنتاج فيلم أو مسلسل عن "راسبوتين"، وتم تجريده مما ذُكر عنه في التاريخ، وجُعِلَت أغلب الإسقاطات عليه من شخصية، أو شخصيات رئيسية من دين آخر! وبالطبع هذا من وحي خيال الكتاب، لأنه يكتب من وحي التاريخ، وله الاختيار في نسج عناصر الشخصية كما يريد، فأعتقد أنَّه في هذه الحالة، سيثار عشرات الأسئلة، المندهشة والمستنكرة لهذا التلاقي المجازي، بين شخصيات الديانة الأخرى، مع صاحب هذه الشخصية المختار تجسديها في العمل، بديانته المحددة والمعروفة، فإن كان "راسبوتين" أو غيره، يُعرَف تفاصيل أو حتى بضع تفاصيل عن تاريخه، وما بها من كرامات زائفة، لا نذكرها، ونأتي بأخرى من ديانات مختلفة عن ديانته، وبشخصيات أساسية في الكتاب المقدس لدى هذه الديانة؟

وحتى وإن لم تُعرف تفاصيل كافية عن "الصباح"، تظل نقطة اختيار الكاتب لاستحضار عناصر الشخصية من خياله الخاص، وإجبار الحبكة الدرامية على هذا المسار، هو أمر يدينه.

وإن كان قصد الكاتب، هو دمج هذه النماذج المُضلِّلة من جميع الأديان في نموذج واحد، وهو "الصباح" أو "راسبوتين".

فهنا يَبرز سؤال مهم في هذه النقطة:
لماذا يتم اختيار شخص بعينه، معروف من التاريخ بعقيدة بعينها، ثم يُسقَط عليه خبرات وتعاليم وأحداث، ومعجزات روحية لمعتقد آخر؟!

لماذا لم تُبنى شخصية جديدة من الأساس؟ وتكون هي "رمز" لهؤلاء المستغلين من كل دين؟ ويتضح فيها بحِرفية كتابة، مُلتزمة بجوهر الفكرة وغير مُستغِلة، وتكون حاملة لسمات وواقع هذا العصر الذي نحيا فيه؟ حتى يكون تأثيرها أكبر وأكثر عمقاً، على مختلف أجيال هذا العصر، مُستعرضة حيَّل المتلاعبين الجديدة والمتجددة، وهو لواقع خطير نحياه، وهذا من المفترض أنَّه من نفس مُنطلَق، اختياركم للهجة العامية المصرية، لتكون لهجة عصر هذا العمل وواجهته اللغوية، لسهولة توصيل المعاني للجميع، ولتكون أكثر قرابة نفسية، وواقعية من حياة المتفرجين، وكان هذا سيحقق أكبر فائدة من الرسالة، التي يراد إيصالها كما يقال؟!

ولكن بما إنَّنا أمام واقعة درامية بالفعل، قد أتت بهذا "الصباح"، ليكون هو النموذج الجامع لهذه العيوب الروحية من كل اختلاف، فنظل أمام هذا التساؤل:
أين استلهام المعجزات والكرامات من كتب دينية أخرى؟

ولكن هذا لم يعن الكاتب، فالتركيز على الكتاب المقدس كالعادة، هو أهم أولوياته في كتابة هذا النوع من الدراما! وهذه الفكرة التي أُقحمت على التكوين البنيوي للعمل، في كلام الراوي، ليست إجابة درامية، أو منطقية تستحق التمرير أو التقدير، فببساطة ما هي إلا رغبة الكاتب والمخُرج، في استحضار شخص "المسيح"، في حالة من الإلحاح النفسي الضاغط لحضوره، في العمل مهما كانت الحُجج، فكرامات "الصباح" الاصطناعية كُثفِت بغشومية درامية، كتابةً وإخراجاً، في أول الحلقات، ثم تغير إيقاعها في الحلقات التالية، فإن كانت من جوهر شخصيته، وأدوات أساسية في طريقة استقطابه لمن حوله، لماذا لم تستمر بنفس المنوال؟ أم أنَّها كانت مجرد "فرقعة" درامية، وحالة من الـ"Shock value" التسويقية للعمل؟! أي عملاً بالتكنيك الدعائي "قوة الصدمة"، الذي يستجذب قدراً كبيراً من المشاهدات، وإثارة الجدل، لزيادة المتابعة وإضفاء القيمة المفُتعلة على العمل؟


هل "المسيح" وكتابه المقدس، طُعماً جماهيرياً لزيادة المشاهدات والأرباح التجارية؟!

لأستكمل نقاط مناقشة الرد الدرامي ..

في عمل مستوحى من التاريخ، لا راصد مُدقق له كالعمل الوثائقي، يكون الكاتب أولاً والمُخرج ثانياً، هما من يضعا تصورات الأحداث ومسار الشخصيات، نفسياً وواقعياً، وروحياً، إن كان الموضوع الدرامي يتطرق لهذا، مما يجعل الكاتب هنا في الحشاشين، هو المسؤول الأول عن اختيار صفات، وسمات الشخصية التاريخية للعمل، وما رسمه بها من دوافع نفسية وروحية وسلوكيات جسدية، فاستحضار شخص "المسيح" على هذا "الصباح"، هو رمزية وإشارات مُبطنة تم نسج هذه الحبكة خصيصاً لها، لأغراض تخدم حبكات سابقة، ويؤكد على هذا ما تضامن معها إخراجياً هذه المرة!

ببساطة وبسخرية (تفرض نفسها)، لم يكن "حسن الصباح" في إمكانه بعد موته، عبور الأزمنة ليصل إلى مشاهدة أفلام المسيح المختلفة، لينفذ معجزاته بها، على نفس مَشاهد مخرجين آخرين لأفلام "السيد المسيح"، والحقيقة أنَّ استخدام هذا المبرر، هو تفسير ساذج صبياني، يخترع قصة مُلفقة وغير مقنعة ليبرِّئ نفسه من حصار الأسئلة، وقد ساهم في استخدامه مُخرج يبرر هوسه في التقليد، منذ أول أعماله، حتى هذا العمل (الحشاشين)، الذي نقل فيه مشاهد شهيرة، لمعجزات للسيد المسيح في أفلام عالمية، وقد كان لسان حالي عندما قرأت "مانشيتات"، عن معجزة تهدئة العاصفة بالتحديد: "مشهد عالمي لبيتر ميمي"، قائلة في نفسي: "نعم هذا حقاً مشهد عالمي لأنَّه مأخوذ عن فيلم عالمي!"

وما يزيد الأمر سوءاً، هو رد بطل العمل والمخرج في أحد الحوارات الإذاعية، على الانتقادات التي طالت هذا المشهد متجاهلين جوهر الانتقادات، واكتفيا بحجة مهيبة من وجهة نظرهما، وهو أنَّ هذا المشهد تم تنفيذه بإنتاج ضخم، وفريق عمل كله أجنبي!

وأنا أبحث عن المجد الحقيقي في هذا الرد وأتساءل: إن كانت أتيحت كل هذه الإمكانيات لمُخرج في العالم أياً كان هو من ومن أين، وسُخِرَت له أموال ومواهب من بلده ومن بلاد أخرى، لتُخدِّم على موهبته "المُفترضة" هل كل ما يثمره هو "مشهد مُقلد؟؟ منسوخ بالحرف والكلمة والملابس؟ وحتى نسبة قطرات المياة على الوجه"؟!!
كفى تبريرات عبثية، جماهيرية ومهنية، مهينة لعطايا إلهية وإنسانية، مُنحت لشخص ضرب بكل هذه الفرص عرض الحائط، ليستنسخ مشهداً هُوِّس بتنفيذه كما هو، ولا تلقوا اللوم بخيالات "حسن الصباح" بتخيل استغلاله هذا، والذي جعلتموه "شماعة" تعلقون عليها استغلالكم أنتم، للقصص الدينية المكتوبة والمنظورة، الموحى بها، والمُمثلة درامياً.

كيف استطاع "الصباح" مثلاً، باستفادته من قصة "دانيال النبي" مع الملك "نبوخذ نصر"، أن يجعل الموقف الذي جمعه بوالدة الخليفة المقعدة، أن تطلب منه قبل تفسير الرؤيا التي رأتها، أن يحكي لها الرؤيا ثم يفسرها وإلا قتلته، بدلاً من أن تحكي له الرؤيا ثم يفسرها!

إنَّ هذا النَسج الدرامي، الذي يجمع بين "النبي دانيال" كقصة، مع "close camera" أي تركيز من الكاميرا على يد الصباح، وهو يمسك بيدها، ما هو إلا حالة تجمع بين مشهديّ إقامة المشلول في فيلم Jesus of Nazareth 1973، للمخرج الإيطالي "فرانكو زيفريللي"، وفيلم "آلام المسيح" للمخرج الأمريكي "ميل جيبسون" 2004م، هذا غير أنَّ هذا الاستنساخ قد طال حتى روح الموسيقى التصويرية لفيلم آلام المسيح، والذي يبدو أنَّه جاء بتوجيه من المخرج نفسه للموسيقيّ، بل حتى اللوحات التي تحدثت عن "المسيح"، مثل اللوحة الشهيرة لدخول العائلة المقدسة لأرض لمصر وخلفها الأهرامات، كما أشرت في المقال السابق، وغيرها من الأعمال الفنية المختلفة التي تتحدث عن "المسيح"، ولها في ذاكرة الكثيرين بصمة ومكانة، لن يكفي المقال لذكر جميعها!

فإن كان حقاً سبب هذه المعجزات وسمات الشخصية، تعود لاستغلال الصباح للكتاب المقدس، لماذا لم يتم تقديم هذه الفكرة، بصورة أكثر إقناعاً واحتراماً للخصوصية، دون المساس بالصورة الأصلية للسيد المسيح، وتقديمها في صورة معجزاته الشهيرة؟ ولماذا لم يكتفِ العمل بجملة أو اثنين، أو حدث أو اثنين، لتنفيذ هذه التفصيلة الدرامية التي يدَّعونها، وهي تعمَّد "الصباح" لاقتباس بعض هذه المعجزات والأقوال، من "الكتاب المقدس" وشخص "المسيح"، بإشارات ضمنية داخل العمل، دون الرجوع لأفلام أو أعمال فنية بعينها، ونسخها بشكل متطابق؟

"سمك لبن تمر هندي" درامي، والهدف ماذا؟
هو خلط سيَّر أنبياء العهد القديم بالمسيح بالصباح!!
هل خيال "الصباح" اشترط أفلام "المسيح" ذاتها؟

لماذا حدث هذا التعمد بنسخ مشاهد بعينها، خاصةً مشهد "تهدئة العاصفة"، الذي تم بتكلفة ضخمة وأيادٍ أجنبية (كما صرَّح المخرج بنفسه في أكثر من لقاء)، لإخراجه طِبق الأصل لفيلم "المسيح" عام 1979م، ولكن بمفهوم مختلف؟

هل هو إعمال بمنهج "إعادة بناء الصور الذهنية"؟! “Mental Image Reconstruction”

وبتوضيح مُبسَّط لهذا المصطلح، فهو استخدام الوسائل التسويقية الإعلانية والدرامية، بإحدى أنواعها، أو باستخدام أكثر من نوع منها، لتغيير انطباعات وصور ذهنية، ترتبط بمفهوم معين أو شخص أو سلعة، فالأمر يتطلب إدخال صور دعائية غير مباشرة، لعمل إحلال لصور ذهنية قديمة، معرفية وانطباعية بغيرها جديدة.

هل هذا هو ما يجري في أعمال "عبد الرحيم كمال"، فيما يختص بصورة "المسيح" وتعاليمه وشخصيات الكتاب المقدس؟ هل هو تعمُد بعمل تشتيت للصور الذهنية، المرتبطة بشخص المسيح درامياً، حدثياً وتعليمياً، ليتم تشتيتها، ونثرها على شخصيات أخرى لا تنتمي إليها؟ مثل "الشيخ عرفات" مرة، وحسن الصباح مرة أخرى؟
هل هو إعادة بناء صور ذهنية، وإحلال صورٍ بصور أخرى، عن شخص وتعاليم وكتاب؟

ولتوضيح ميكانيزمات عمل هذا التكنيك الدعائي بشكل عام، أذكركم بمبدأ شركة "ديزني" في إعادة الأفلام القديمة، التي قدمتها في صورة أفلام كارتون لقصصها الشهيرة، والتي لازالت مُحببة وجميلة، وربما تساءل الكثيرون لماذا جازفت الشركة بميزانيات ضخمة جداً، مُستغلة كل ما تلحق به من تطور تكنولوجي، في صناعة نُسخ سينمائية مكررة، بنفس التفاصيل القديمة، والتي لا تنال إعجاب الأجيال الكبيرة في الأغلب؟ والحقيقة أنَّ هذا لا يعنيهم كثيراً، فهي ليست موجَّهه لهم بالأساس، بل للصغار، فهم المستهدفون حقاً، لأن النُسَخ الجديدة المُعتمِدة على هذا الابهار الضخم، تأخذ الأطفال بعيداً عن النُسَخ القديمة من نفس القصص، ذات الرسائل الأقل والإبهار الأضعف، لنُسَخ ذات إبهار أعلى ورسائل أكثر، رسائل ذات توجهات أجدد! وتلك الاختلافات الطفيفة، ما بين النسختين القديمة والجديدة، هي ما يُزرع فيها الأيديولوجيات الجديدة، أو على الأقل تكون أكثر كثافةً وإيضاحاً وتثبيتاً، وهذا يحدث في ظل إعلان أعلى مسؤولة في الشركة، عن نواياها ومقاصدها الجديدة، في فيديو يسخر بنفسه، من الساخرين من نظرية المؤامرة!

وهذا مجرد مثال عن معنى "إعادة بناء الصور الذهنية" للمتلقي، ذاك بالطبع مع اختلاف حيثيات التطبيق وعناصره، عما نتحدث فيه.

إذن هل الأمر يدور حول إحلال صور ذهنية بأخرى؟

هل لهذا السبب بالذات تم اختيار هذا المُخرِج، الذي من المعروف عنه أنَّه:
يُجيد التقليد باحترافية؟ كمصانع الـ"High Copy" للماركات الثمينة؟

يُقدِّم فيها قدراته الاستنساخية، وخبرته في توظيف الأيادي والعقليات الأجنبية (فهو لا يستطيع أن يكون بدونها)، ليصنع نُسخة محلية بإمكانيات غربية، فيعرضها على جمهور، أغلبه يذوب نفسياً في البؤس، والشعور بالدونية، ويتمنى ولو مشهداً واحداً من صناعة دراما مَحلية، يُشعره وكأنَّه أجنبيّ الاستحقاق، لجودة عالية المُشاهدة والاستمتاع؟!

مُخرج يرى دوماً أنَّ الأفكار الجديدة والأصلية، لا تفي بالغرض، إنَّما الأساليب المجرَّبة والمنسوخة، هي التي ستجني المكافأة له باستمرار!!

بل إنَّ ما يزيد من تدافع الأسئلة، هو كلام الكاتب بنفسه في إحدى التصريحات:
ففي لقاء المخرج والبطل والمؤلف، في حلقة خاصة عن "الحشاشين" مع المذيعة "الحديدي"، قال "كمال" عن سؤالها المتستر عن أسباب الانتقادات التي وُجِهَت لمشاهد "الكرامات":
إنَّه قرأ عدة شخصيات مثل "حسن الصباح"، على مر التاريخ مثل "راسبوتين" وغيره ممن لهم قدرات خارقة!

فيتكون هذا التساؤل المهم:

إذا كنت قد اطَّلعتَ بالفعل، على كرامات زائفة لمدَّعي نبوة على مر التاريخ، لماذا تركت كل هذه الأنماط والأمثلة، التي قرأت عنها من أحداث ومعجزات لهم، لتختار معجزات (كرامات) من الكتاب المقدس بالذات، للسيد المسيح، وغيره من الأنبياء المذكورين فيه؟ هل هذا هو ما توصل إليه اختيارك في النهاية، بعد هذه الجولة المعرفية الطويلة عن مثل هؤلاء الأفاقين؟

هل ردك الركيك المتخبط هذا، وردك الآخر السطحي المرتبك، في الحلقة الثامنة بتضامن مع المُخرج، المتواطئ في توصيل معانٍ باطنية (كالصباح)، هو كل ما في جعبتك للرد على هذه التساؤلات، التي لم تحترموها وتذكروا في أي من لقاء، عن السبب الأساسي للانتقادات التي طالت هذه المشاهد، في حوارات أقل ما يقال عنها، أنَّها لا تحترم الآخر؟

أترَكت كل هذه الأمثلة عن كرامات، من مزيفي النبوة في التاريخ، لتصب تركيزك على الكتاب المقدس في النهاية؟ حتى أن وصل الأمر إلى عَكس ما فيه حرفياً، من أفلام للسيد المسيح، وبجمل وأحداث ذاتها من الكتاب المقدس؟!

ماذا يُفهَم إذن من هذا الربط الذي قاله هذا المحترف نسج أفكار وكتابة؟

إنَّ لهذا الرد الذي قاله هذا الكاتب، معاني خطيرة، إن كان على وعيٍ كافٍ حقاً بما قال!

أليس هذا سؤالاً منطقياً؟ أم أنَّ غباء الانبهار الجماهيري، وصخب الدعاية لهذا العمل، جعلت نسبة كبيرة من المتفرجين عليه، تحت غشاوة غربال دعائي، وآراء سطحيين، تُعميهم عن الوعي والمنطق، في دعاية متناقضة المَقصد، تدعو المتفرج من جهة للبحث في التاريخ والحاضر! ومن جهه أخرى تستعميه وتستغفله.
إنَّ هذا الرد اسمه محاولة:

"ذرَّ الرماد في العيون يا عبد الرحيم كمال"
هذا إن احتسبنا هذه المحاولات الفاشلة في الرد، رماداً! رماداً في عيون متعامية!

أسئلة وتحليلات تطرح نفسها
وستظل في الظهور وربما التأكد، مع تكرار مثل هذه الأعراض الدرامية في أعمال قادمة!

... نعود لنقاط أخرى في الطرح ...

يُعرف عن الكاتب "عبد الرحيم كمال"، وكما يَذكر هو عن نفسه، أنَّ "الصوفية" مذهبة، وبالتالي فإنَّه يقدم "الصوفية"، في الكثير من أعماله، و"الصوفية" هي إحدى أنماط ممارسة الإيمان المتزهد، وتوجد في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، بصور مختلفة، وتتفق فيما بينها على بعض الأساسيات، منها حب الله والناس، والزهد للتقرب لله، وصفاء النفس والقلب، والموت عن ملذات الجسد.

وإن كانت "الصوفية" تجمع البشر على الحب، باختلاف انتماءاتهم، فالصوفية أيضاً من قوانينها وأساسيتاتها، مبدأ "التجريد"، يا له من أمر عظيم نبيل تتفق عليه الأديان الإبراهيمية، وهو من قمة النقاء الإنساني.

ولكن وياللأسف! فمجال الفن والدراما، الذي يُستخدم فيه هذا التصوف، لا يسمح بمرور هذا النقاء الصرف، بل يلوثه ويشترط تشويهه، فيستبعد النقاء والبذل الإنساني، ويخذل جوهر المبادئ الصوفية! فلا مجال للتجرد وإنكار الذات، في مجال سوق الميديا! بل اصطناع "فرقعات" دعائية، ويُلزِم من فيه بتحقيق المجد، وحَرفَنَة "الذات" في لفت الانتباه والجذب، واتباع أساليب فنية "ربما ملتوية"، لزيادة نسب المشاهدات، والمتابعات، وإثارة الجدل، وما يتبعه من الوصول لخلق "اسم رنان" في هذا الوسط، للحصول على المزيد من مساحات الحضور والفرص، في ساحة شرسة تعج بالمتنافسين، في عصر يطرح العديد والعديد من الموهوبين كل يوم، والمشاهير الآخرين.

إذن من الصعب الوفاق والتلاقي بين الهدفين، في هذا المجال التنافسي الذي تديره الألقاب والأرقام! وأنا هنا لا أتدخل في النوايا الروحية، فبالتأكيد هذا ليس من شأني، لكنّي أشير على أية حال، أنَّه أياً كانت حقيقة هذه المقاصد، فلابد وأن يكون "السيد المسيح"، و"الكتاب المقدس"، خارج دوائر هذا الصراع الدرامي، وبعيداً عن رحلات البحث عن الذات، في ساحات المجد الدعائية!

ذلك بالإضافة إلى التأكيد على أنَّه إن كان يأتي بهذه الرمزيات العائدة للكتاب المقدس، الذي يرى أنَّها بركة للجميع كأحد تعبيراته، فعليه احترام خصوصيتها، والحذر عند توظيفها واستخدامها، وذلك طِبقاً لنهجه "الصوفي"، الذي أعلنه هو أيضاً، وبما أنَّ حب الله وحب الناس، من أساسيات هذا الفكر الروحي الشريف، فاعتقد أنَّ من أول قواعد الحب هو "الاحترام"، وأنَّ احترام الأديان، والخصوصية الدينية، واجب أخلاقي وديني لا مفر منه.
نقطة أخرى في هذا الأمر ..
يُذكر أنَّ المسيح مثال أعلى للمتصوفين، وبحسب مراجع صوفية، فإنَّه يكثر ظهور ذلك في كتابات الكثير من المتصوفين، حيث يرونه قد حقق أعلى درجات الزهد في الحياة الدنيا.

وهنا سؤالي عن "الشيخ عرفات"، من الواضح أنَّه كان متصوفاً، ويبدو أنَّه كان كـ"الصباح" متأثراً بالكتاب المقدس تأثراً غالباً وجوهرياً، إنَّما في صورة الخير، ويتغلغل ذلك في كافة تفاصيل "عرفات"، ولكن لا لم يكن تأثر وحسب، بل كان قادراً على تفعيل "معجزات المسيح" بعينها، في حياته الواقعية! وبدون زيف هذه المرة، ياللهول!
ربما كان من المنطقي، أن يكون هناك تأثراً بجوهر تعاليم "المسيح"، بالإضافة إلى تعاليم دينية أخرى، تظهر في المقدمة، فكما يقول في حوار صحفي مع جريدة الوطن عام 2022م، أنَّ مصدر النور واحد"، ولمَ لا! لكن طِبقاً لهذه النظرية التي ادَّعى الكاتب تبنيها، كان من الطبيعي أن يكون هناك "كرامات" لعرفات، من شخصيات دينية مختلفة، وأحداثها تعود لكتب دينية مختلفة، وأن يُشار إلى تأثره بالمسيح فى إشارة أو أثنين أو أربعة، ولكن "عرفات" كان يشبه المسيح، يشبهه للغاية، في شخصيته وتعاليمه ومعجزاته، وأحداث من حياته، حتى أنَّه كان نجاراً أيضاً، ويعيش في قرية يعمل بها من حوله صيادون!

وكما يقول الكاتب في التصريح: "القرية التى يعيش فيها عرفات، مَن كان لا يعمل فيها بالصيد، كان ولابد أن يعمل فى النجارة"، يا للصدف الكثيرة المرتبطة بشخص المسيح بالذات، على أوراق هذا الكاتب!

لقد ذهب "كمال" إلى حد التطابق في الكثير من النقاط الدرامية، لا التشابه، وبهذا فقد تخطى الأمر، تأثر هذا الإنسان "عرفات"، بشخص المسيح بعينه، بل أصبح يتقمصه أو يدعيه.

وذلك ببساطة لأنَّه لم يعكس تأثر عرفات، بشخصيات روحانية مختلفة عليه بشكل كافٍ، في تكوينه النفسي والروحي، وظروف حياته، وأحداثها المنسوجة حوله، ولا بأي نوع من أنواع التوازن، بل كان التركيز مُنصبَّاً على شخص "السيد المسيح" بالذات، حتى أصبح هذا الشخص المنسوج على الورق، هو بمثابة "إعادة تجسيد لشخص المسيح"، إنَّما في صورة "الشيخ عرفات"!

ولكن الأدهى من هذا، أنَّه أنكر في نفس التصريح، القصد بأن يكون عرفات تجسيداً لشخصية المسيح، وكأنَّ المقارنات المُلحة التي فرضت نفسها على المتلقين، بينه وبين شخصية "السيد المسيح"، قد فاجأته وأسعدته.

أيعقل أنَّ كل هذه التشابهات بل التطابقات، في أغلب تفاصيل العمل، وفي شخصية "عرفات"، من أقوال وظروف وأحداث ومعجزات، وسمات شخصية وغيرها، مما لا أستطيع ذكرها جميعاً هنا، لأنها حاضرة في كل حلقة، ولا تعد ولا تحصى، أيعقل أنَّ هذا كله غير مقصود منه ككاتب، وأنَّه لا يتعمَّد إصباغ صورة "المسيح" على هذا الشخص "المُبتكَر"؟

ما هذا التناقض؟ ألا يدرك أنَّ هناك منطقاً، ودلائل على أنَّ هذا الرد عبثيّ؟

لن أتعرض لبقية التصريحات، لمَا فيها من تمويه واضح للحقائق والأسباب، التي كان من المنوط به، الرد فيها بشجاعة وصراحة، وعدم مزجها مع أنصاف حقائق أخرى، وكأنَّه يقول الحقيقة كاملة!

والحقيقة فعلاً أنَّ فكرة "إعادة بناء الصور الذهنية"، وتكنيك "الإحلال"، السابق الإشارة إليه، يعود للظهور، في تحليل أي أساس درامي عند هذا الكاتب، يغلب عليه البُعد الروحي! بل وأنَّ تكرار التهرب، من ذِكر الدوافع الدرامية صراحةً، والاعتراف بهذه التشابهات التي يتعمدها قاصداً، وحقائق توظيفها واستخدامها، لَهو أمر يشير إلى خلل ما.

فهذه النصوص الدرامية، ليست مجرد تعبيرٍ عن إعجاب كاتب بشخصية "السيد المسيح"، لا ليس الأمر كذلك، ولا هي نتاج انصهار تعاليم "المسيح" وشخصيته وكتابه، في بوتقة صوفية، تُنتج دراما معبرة عن تصوف كاتبها وناسجها، فلو كان قد أظهَر قدر من التأثر المتوازن، العاكس لتفاصيل ودلالات دينية متنوعة، لكان الأمر يبدو شبه عاديً، ولكن هي نصوص تتبَّع بشكل متواصل شخص "السيد المسيح"، وتُركِّز على عكسه هو في المقال الأول، بتفاصيل شديدة الخصوصية له، وقدراته هو، هو وحده ولا آخر سواه.

وفي المقام الثاني تركيز على أنبياء "الكتاب المقدس"، ومنهم من يَختص بذِكرهم "الكتاب المقدس" وحده، إنَّ الأمر خرج عن نطاق الاستلهام، بل هو إشارة واضحة لأيديولوجية كاتب!

وهنا سؤال:
لماذا تعتمد صوفية عبد الرحيم كمال الدرامية، في أغلب توظيفها على "الكتاب المقدس" بالذات؟

ومع هذا كله فعلى صعيدٍ آخر، وياللعجب!
يا للعجب العجُاب!!

نجد أنَّ المسيحية، وإشارات وجودها في أرض الواقع، مُهمشة تماماً .. تماماً، في كتابات بعينها لعبد الرحيم كمال، فمصر في تقديمات "كمال" الدرامية، سواء تلك التي في التلفاز أو السينما، لا تعترف في مراحلها "التاريخية"، بمصر "القبطية" على الإطلاق، مثل فيلم "الكنز" بجزئيه، ومسلسل "أهو ده اللي صار"!
حقاً لا .. فمصر في رصد "عبد الرحيم كمال"، لا تحوي المرحلة القبطية! وربما ولا أقباطها حتى، فهم شبه غير موجودين، ولا تحمل لهم أثراً ولا تراثاً!

وأؤكد أنَّني أتحدث هنا عن أعماله، التي ترصد صورة مصر، وتُقدمها تاريخياً ودرامياً.

غريبة أليس كذلك؟!

خاصةً عندما تكون أعمال هذا الكاتب، مُعتمدة في أساسيات تكوينها على ما تستلهمه، وتحاول أن تلتهمه درامياً من المسيحية وكتابها المقدس، بصورة أو بأخرى، وذلك في أغلب أعماله إن لم يكن جميعها، مما يُبروز كتابته ويُعلي من قيمتها، ويثري قيَّمها وحِكمها المذكورة فيها، ويثير الجدل عليها، ويزيد من شهرتها.
ولكنه عندما يتحدث عن مصر تاريخياً، ينسى المسيحية وقبطيتها، تاريخاً وحاضراً على أرضها، ولا يتعرَّض لها!

غريب هذا التناقض!

كما هو غريب عدم تركيزه المتساوي والمتوازن، من كتب مقدسة مختلفة ومتنوعة، وإصراره الثابت على الاستلهام الأساسي والمركزي، القائم على شخصية "السيد المسيح" والكتاب المقدس!

وهنا أعود وأكرر عن المقال السابق
هناك الكثير مازال يجب أن يقال وسيقال!

ولكن كُــف أيها الكاتب
عن استخدام الكتاب المقدس فى أعمالك، فكلامه وتعاليمه تعود له، لا لك ولا لأحد آخر، وشخصية "المسيح" تعود للمسيح، ليس بإمكانك تجريدها من خصوصيتها لجعلها لا تنتمي حتى لنفسها
ابحث لكَ عن مصدر آخر فهناك العديد من الكتب الأخرى على الأرض

وفي عموم الإبداع واستلهامات الإبداع أقول:

من المخزي "استغلال" مفهوم "الاستلهام" و"الاقتباس"، وجعله مَخرجاً، لحرَج الاستغلال والسرقة و"النقش"، في الإبداع بأنواعه.

ومن الجدير الإشارة إليه هنا، أنَّ من يُهللون من بهاليل هؤلاء "الناسخين" باسم الإبداع، هم أنفسهم لا يتحملون فكرة، أن أحد يأخذ منهم جملة، أو "إفيه"، أو فرصة ظهور تتمثل في دور بسيط ككومبارس صامت حتى، ذاك إن كانوا فنانين، أما إن كانوا بعيدين عن الوسط الفني، فتأكد أنَّهم سيُشعلون الجو ناراً، إن أخذ أحد منهم فكرة ما حصيلة عقلهم، مثل مشروع في شركة، أو مقطع من "presentation" أمام مدير أو دكتور جامعة.

أقول لكم تلخيصاً
لن يقبل أي منهم أن يأخذ أحد دوره في طابور "سوبر ماركت" حتى!!

ولكنهم عند سرقة الإبداع، أو الفكر بمستوياته المختلفة، تخرج المصطلحات والشعارات الرنَّانة المُخزية، التي تمنح السرقة والاستحواذ مَخرجاً، طالما المصالح المادية أو المعنوية متوفرة، حتى من أصحاب هذا الفكر أو المعتقد ذاته، ولا عجب في أن يكون أحد أسباب هذا التضامن الغشيم، هو وجود نمط من المصالح، يصل بين مبدع غير آمين، لا يُرجِع الحق لأصحابه، وينسب الإبداع لنفسه، وبين أحد المتفرجين المدافع عنه بضراوة وبشراسة، وهو لا يعرفه على الإطلاق، ولا يجمع بينهما المصلحة الفردية.

نعم! فهناك مصلحة معنوية نفسية تجمع بينهما، مثل أن يجمعهما فئة أو تصنيف ما، كما يعتقد هذا المتفرج، فيرى في هذا المبدع، هو الإسقاط الإيجابي الفانتازي، لوجوده "هو" في هذه الساحة من الحضور، بديلاً عنه، حتى وإن كان يتألق فيها كذباً وبطلاناً!

إنَّ هؤلاء المبدعين المتسلقين، يسيئون لخصوصية مواهبهم والإمكانيات، التي طُوعت لهم، وأتيحيت لعقولهم وأيديهم، لا لخصوصيات المبدعين الحقيقيين فحسب!

فكروا في دواخل الأمور لا في سطحيتها، ستجدوا أنَّه من القبح، لا من الإبداع، ومن الباطل لا من الحق: أن يتنصَّل فنان أو صانع محتوى أياً كان، من المرجعية الحقيقية، وأن يبتعد عن الحق في نسب الحقوق، وألا يكترث بمبادئ الاستلهام المحدود والاقتباس الشريف.

هل أنا ضد الاستلهام أو الرمزية أو التأثر والتشبيه في الإبداع أو الفكر؟

لا على الإطلاق بالتأكيد لا، فالحضارات تستلهم من بعضها، والفنون تتأثر ببعضها، وبالطبع هناك الكثير من الكلام الجميل اللطيف، الذي يتقبله المثقفون والمشجعون، ويُشجيهم، وأنا لست ضده، بل على قناعة تامة به، في سياقاته المتزنة، ومعه حتى بالنسبة للتأثر الروحي والديني، فهذا موجود بشكل طبيعي في كيان البشرية، ولكن اختصاراً، فما نحن بصدده هنا، ليس مجرد استلهام أو تأثر على الإطلاق!

وهناك الكثير بالفعل من الأدباء والشعراء من مختلفي الديانات والثقافات، الذين استخدموا رمزية "السيد المسيح"، أو بعض أحداث الكتاب المقدس، لإشارات روحية ونفسية، ضمن كتاباتهم وروائعهم، ولكنَّها استلهامات غير خبيثة، والأمثلة عديدة كـ"دوستويفيسكي" عملاق الأدب الروسي والعالمي، والشاعر "محمود درويش" من فلسطين، والشاعر "عبد المعطي حجازي" من مصر، وأمثلة كثيرة جداً، على من طوَّعوا الرموز إنسانياً، ودمجوها في نطاق احترام الحدود والفوارق، وأستلهموا منها بُنبل، حالة إنسانية وروحية شبيهه، ليُعبَّر بها المبدع، ويَعبُر بها من ظلمة الوحدة النفسية، إلى قدرة التعبير عن الذات، بطرح مشاركات روحية إنسانية شهيرة، تساعد المتلقين على فهمه، ومشاركاته في أغوار مشاعره وأفكاره الدفينة، التي لا يستطيع كإنسان، أن يُعبِّر عنها بلسانه وحده.

وهذا بعيداً تماماً عن "التلاعب" بالرموز، وأمنيات "الاستقطاب" و"الإصباغ".

ولذكر نموذج توضيحي لحالة التوظيف الرمزي، والاستلهام المتزن، فالأمثلة كثيرة عالمياً ومحلياً، ولكنّي سآتي بنموذجين من مبدعي بلدي ومجتمعي، وهو ما نجده في أغنية الفنان الراحل "عبد الحليم حافظ" "المسيح"، للشاعر القدير الراحل "عبد الرحمن الأبنودي" (رحمة الله عليهما)، من التشبيه بين "السيد المسيح"، الذي لاقى الغدر والرفض والقتل، من اليهود في زمنه، بـ"ابن القدس" الذي تعرَّض للغدر من الرفض، منذ بداية أزمة القضية ليومنا هذا.

وهذا التشبيه لم يتخطى حدود المجاز النظيفة، ولم ينتهك الخصوصية الفردية، لكل من الطرفين، اللذين تم التشبية بينهما، كما مرَّ الكاتب برشاقة حاذقة، على الاختلافات ما بين الأديان، ولم يتعرَّض للتفاصيل الدقيقة التي تُظهر هذا التباين، في بعض أركان القصتين، بل قدَّمها بصورة إنسانية أنيقة، أعطت للاختلاف والمجاز، معنىً إنسانياً راقياً، منح التشبيه والأغنية ككل، وداً وحباً بين إيمانين وبلدين، وما هو سمائيّ وما هو أرضيّ، وأعطى للألم والمعاناة، بُعداً روحياً جميلاً، يحمل صِدقاً وتقديراً، لكلا الطرفين.

تشبيهٌ عابرٌ، متحضرً، باقٍ، غير خبيثٍ، يحمل فروقاً وليس تفريقاً، ولم يرتكب جرائم فنية:
تحمل "التطفل"، والرغبة في "تملك" و"استحواذ" الرمز، واصباغه بصبغة ليست له!

مثالٌ آخر، وهو من أعمال الكاتب المصري العبقريّ الإبداع، "لينين الرملي" رحمه الله، والذي أشار في مسرحيته "الهمجي"، إلى قتل الإنسان لأخيه الإنسان، في المشهد التمهيدي، مستخدماً في هذا العراك والقتل، بإشارة من بعيد، للقصة المذكورة في الأديان الإبراهيمية، عن قتل "قايين لهابيل"، أو "قابيل لهابيل"، ثم أكمل المشهد، بتصوير هذا الشخص المُشار إليه لـ"هابيل"، معلقاً على عود الصليب، وقد جسَّد الفنان "محمد صبحي" هذا المنظر، تمثيلياً وإخراجياً، كما هو المتعارف عليه، في صور وأيقونات "السيد المسيح مسيحياً"، في المؤثرات البصرية للمشهد، وتعبيرات الوجه، والشكل النمطي لطريقة تمدد الجسد على الصليب، والحقيقة أنَّ "لينين الرملي"، لم يكن يقصد "المسيح" بعينه، بل كان يقصد بمفهوم فلسفي فني أن يقول: إنَّ هذا المنظر هو "صلب" الإنسانية جميعها، في إشارة لـ"البشرية المصلوبة" بمسامير هذا العوار الإنساني، والخلل الذي أصابها منذ بداية وجود الإنسان على الأرض، على صليب الظلم والغدر، وقد استخدم رمزية "الصلب" هنا، لِما لها من تأثير إبداعي عميق، في المخزون النفسي للبشرية، عن هذا المفهوم، حتى وإن اختلفت الإيمانيات حوله.

تشبيه راقٍ، عميق في الإبداع والذوق، ولا يُزعج ولا يضُر!

وقد استخدم غيره الكثيرون هذه الإشارات الرمزية، التي احترمت الأديان، والاختلافات بينها، ولم تتخطى دورها سوى إنَّها تشبيه، يُعين المبدع على التنفيس عن مشاعره، الذي لا يحاول امتلاك هذا "المشبه به"، وإخراجه إلى الواقع مرة ثانية، من مجسم الإبداع الذي ابتدعه، صابغاً عليه حقائق أخرى، ادعاها هو عنه، بين ثنايا هذه الإسقاطات، التي ألقى بها عليه، والتي لا تنتمي له على الإطلاق، بل وتُغيِّر من صورته، وتستبدل أهم سمات تكوينها وجذورها، وبكل ضمير خبيث، تمنح أهم خصائصها لآخر!

وهنا يهمني أن أشير إلى ..
أنَّني لم أكترث بالكتابة، عن الكثير من الأعمال الدرامية الأجنبية، التي تحمل رسائل مبطنة سلبية كثيرة لإيمانيات، ولكن في نطاق مجتمعي، وفي ظل الظروف، التي أرى لها انتفاضة عميقة وعظيمة، من أجل الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية، في أرض أخرى، وأقصد هنا "فلسطين" العزيزة، فاعتقد أنَّ من حقي أن أتساءل:
كيف تُبعثر خصوصيات إيماني وكتابي ومسيحي، على أعمال درامية تتأرجح بين حبكات درامية، وشخصيات أخرى، في هوى هذا أو ذاك؟!

ومن أُناس يدَّعون الفن الهادف ومناصرة القضية والحق!
فلتبق الخصوصية الدينية إذن، ويظل احترامها واجباً مقدساً، عند كل من يَزعُم التحضر، وحب الآخرين وحب الله!

وأخيراً أعود لأوجه كلامي بشكل خاص:
الكاتب عبد الرحيم كمال "المُفخَّم"!
فلتبدع بعيداً عن هذا الكتاب
"المقدس"
لأن المديح والاحتفاء لن يصمدا مع الزمن على تحقيق التمويه والإخفاء

*ملحوظة*
في هذا المقال والسابق (الجزء الأول منه)، لم أتحدث عن هذه الأعمال المذكور اسمها جميعاً، من الناحية النقدية الفنية، ولم أتحدث عن أي رسائل أخرى، من الطبيعي أنَّها تكون قد شملتها وقدمتها بالفعل، إيجابية أو سلبية، ولكنِّي ركزت على النقطة، التي حددتها لأتحدث فيها، ولم أتناول هذه الأعمال من أي زاوية أخرى، ولا يعنيني إن كانت هذه الأعمال، قد شاهدها عشرات الأشخاص على مستوى مصر، أو عشرات الملايين على مستوى العالم.

رابط المقال السابق على موقع الحوار المتمدن:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=823584








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟