الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لائحة الدفاع

سليمان جبران

2024 / 4 / 24
الادب والفن



مرّة أخرى اجتمعنا. في جلسة طويلة ، وصعبة هذه المرّة. كانتِ الجلسة هذه صباح يوم سبت مِن أيّام الصيف، وكانت هذه المرّة مقصورة على الرجال. لمْ نتعمّد ذلك طبعا. حتّى لو رغبنا في جاسة من هذا النوع فلا أظنّنا نجرؤ على المجاهرة بهذا المقترَح الرجعي. كلّ ما في الأمر أنّ زوجة "الحكيم" لم تستطع المشاركة في هذا اليوم. اِبنها والأحفاد ضيوفها اليوم، والتحضيرات قائمة قاعدة. بذلك فرطتْ زوجة الحكيم العقد النسائي، فتحوّلتْ جلستنا إلى جلسة عربيّة نوذجيّة!
لا يمكننا المجاهرة بذلك طبعا. إلا أنّنا نشعر بالحرّيّة أكثر في غياب الجنس الآخر. طبيعيّين أكثرنكون: نتحدّث بحريّة تامّة، وبأسلوب يختلف إلى حدّ ما عنْ أسلوبنا في الجلسات المختلِطة. لا نجاهر بذلك بحضور ذوات الشأن. لكنّها الحقيقة: إذا غابتْ عنْ جلستنا السيّدات غابت الرسميّات!
في هذه المرّة انضمّ إلينا صديق رابع أيضا. "العنيد" اسمه على لسان الحكيم. يبدو العنيد كأنّما يتبنّى المواقف مُسبقا، السيسيّة خاصّة، ثمّ يبحث عن المسوِّغات. عنيد بحيث تصعب مناقشته، لكنّه ابن صفّنا وطيّب القلب رغم عناده ونقاشاته المُضْنية.
على كلّ حال، حضوره دائما فلفل القعدة. يجعل للّقاء طعما، ويزوّدنا دائما بموضوعات للنقاش والتسلّي. لا ضجر ولا صمت، إذا انضمّ العنيد إلى الحلقة. دائما هناك موضوعات للنّقاش، والخلاف حتّى الصياح أحيانا!
مكان لقائنا تغيّر أيضا، وفقا لتغيّر المشاركين فيه. اقترح الحكيم أنْ يكون لقاؤنا، هذه المرّة، في مقهى جميل على جبل الكرمل. لماذا نُثقل على إحدى الزوجات بزيارة صباحيّة، دمها ثقيل حتى بين الأصدقاء؟ سأل الحكيم سؤاله الإنكاري. وافقنا جميعا طبعا، فالحكيم صاحب نظر، ومقترحاته الإجرائيّة تفوز عادة بالإجماع.
ظننتُ أنّ موضوع النقاش سيكون، بغياب السيّدات، سياسيّا طبعا. لكنّ فألي لم يكنْ في محلّه هذه المرّة. الحكيم هو من يفتتح النقاش عادة، وفي هذه القعدة لم يطرح قضيّة سياسيّة، كما توقّعنا جميعا. طرح للنّقاش قضيّة شخصيّة . تخصّني أنا. اتّخذني موضوعا للمناقشة في هذه الجلسة الذكوريّة! شعرتُ تماما شعور مَنْ يقف في قفص الاتّهام في المحكمة. لم أوافق على شيء من اتّهاماته. مع ذلك، لا بدّ من احترام المحكمة، والانتظار بصمت وأدب حتّى يُنهي الحكيم أقواله.
قال الحكيم إنّ أسلوبي في النقد قاسٍ ثقيل. لا يتحمّله كثيرون من الأدباء، والناس أيضا. على المرء أَنْ يكون ديبلوماسيّا، لا يقول كلّ شيء في الوجه، وإذا قال فلا يوجع ولا يُزعل. الفرق كبير بين نقد أملس ناعم ونقد كالدبابيس حادّ. في رأيه أنّ معظم الشعراء والكتّاب أيضا لا يطيقونني، لكنّهم لا يُجاهرون بذلك. لا يُعجبه العجب، يقولون عنّي في غيابي. كلّ ما يُنشر مِن أدب لا يُعجبه ، يقولون. وكثيرون غير الأدباء أيضا لهم الرأي نفسه، والموقف نفسه.
هذا هو ملخّص لائحة الاتّهام التي عرضها الحكيم ضدّي. طبعا كانت أطول بكثيرعلى لسانه، مشفوعة بالأمثلة والأسماء أحيانا. وكان عليّ أن أقدّم دفاعي مفصّلا، بعد أن طرح الحكيم تهمتي بالتفصيل!
بدأتُ بالعلاقات العامّة مع الناس، في دفاعي الطويل، ردّا على اتّهامات الحكيم الطويلة هذه. لاحظتُ أنّ الأكثريّة كانت توافق الحكيم في دعاواه، بهزّ الرؤوس في صمت. حتى العنيد وافق الحكيم في دعاواه، قبل سماع دفاع المتّهَم. لذا، كان لا بدّ لي من التفصيل وإيراد أمثلة عينيّة لنْ أوردها هنا طبعا.
أحترم الناس جميعا، قلتُ. حتى الذين تعرفونهم أنتم، ولا يستحقّون الاحترام. أعاملهم بالرّسميّات. أسلّم عليهم سلاما مقتضَبا. لكنّي أكذب عليكم إذا قلتُ أنّي أفعل ذلك بحماس. يكفي أنّي أصمت في لقاءاتنا. أكثر من السلام المقتضب مع هؤلاء معناه نفاق، وأنا لا أنافق السلطة نفسها، ولم أنافقها يوما، فكيف لي أنْ أنافق الأفراد، متجاهلا ماضيهم، وماضي السلف قبلهم، أحيانا؟ كثيرون مِنْ هؤلاء كانوا، هم وإباؤهم مِنْ أزلام الحكومة في الماضي. أمّا اليوم، وقد غدتِ الوطنيّة ببلاش، فقد انقلبوا جميعهم وطنيّين. صحتين. أنا أعرفهم وأعرف تاريخهم، وسكوتي هو أكثر ما أستطيع. لو عرفتم المرحوم والدي لكنتم تثمّنون سكوتي هذا عاليا.
منْ ناحية أخرى، أرتاح بشكل خاصّ للنّاس الطيّبين. المخلصين بالفطرة. ليس هؤلاء مثقّفين يعرفون كلّ شيء. ناس يعرفون ما يعرفون ويعرفون ما لا يعرفون. ليسوا موسوعة يعود إليها الناس في كلّ جلسة عامّة، فيجيبون في كلّ ظرف، ولا يخيّبون سائلا. يُجيبون بما يعرفون، ويختلقون إذا لم يعرفوا. أحترم كلّ مثقّف يُسأل بما لا يعرف فيأبى الخنفشاريّة، ويصرّح بأنّه لا يعرف. الرجل الحكيم هو مَن يعرف ما يعرف ، ويعرف ما لا يعرف أيضا، غير مُنكر ذلك!
نأتي الآن إلى الأدباء. الشعراء بوجه خاصّ. مصيبتي مع هؤلاء كبيرة، كبيرة جدّا. يريدون الوصول إلى القمّة بدون ثمن. يكتبون سخافات مقفّاة، وينشرونها قصائد! هؤلاء لا يحتملهم كلّ العارفين بتقييم الأدب، شعرا ونثرا. لكنّهم يصمتون عادة. طبعهم الصمت والمسايرة. فيفسّر المتشاعرون الصمت موافقة وإعجابا. لم أذكر أحد هؤلاء بالاسم يوما. لكنّي سلقتم ذات غضبة علّهم يتّعظون، فيحترمون أنفسهم ومعارفهم وقرّاءهم. هل مِنْ لوم عليّ في ذلك؟ كلّ شيء أهون من النفاق، للحاكم أو للمزيّفين هؤلاء!
رأيتُ الحضور يهزّون رؤوسهم أثناء مرافعتي، فانبسطتُ أيّما انبساط، وتوسّعتُ في الشواهد العينيّة، بالأسماء أيضا. لكنّ الحكيم ردّ عليّ بإيجاز، كأنّما كان قراره معدّا سلفا. معك حقّ في المبدأ، قال الحكيم، لكنْ يمكنك أن تبقى على مواقفك التي فصّلتَها، شريطة أنْ تغيّر أسلوبك الحادّ. لمْ يكنْ أمامي سوى الإذعان لرأي الحكيم والجمهور، وإن كنتُ في داخلي أعرف أنّ "طبعا طبعه اللبن لا يتغيّر للكفن"!


[ ملفّات الذات 2018، ص. 69 – 71.]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس