الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي

واثق الجلبي

2024 / 4 / 24
الادب والفن


كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي
قراءة / لطيف عبد سالم

* تِجْوّالٌ في عتباتِ التَارِيخ.
* النَبَطَ هُم سُكان العِرَاق القُدَمَاء.
* السُومِرِيُّونَ هم الكَتَبة المُتدربِين على الكِتَابةِ السُومِرِيَّة مهما كانت هويتهم القَوْميَّة.
* ضَرُورَة السَعِيِّ الحَثِيْث لإعَادةِ كِتَابَة تَارِيخنا.
* حِفْظًا لِتارِيخِنَا؛ حَريٌّ بِأصْحَابِ الاِخْتصَاص الوُقُوف الجَاد عند مُعْطيَاتِ الظَاهِرَة الاِسْتشرَاقِيَّة.

مُقَدِّمة
مِنْ نَافِلَةِ الْقَوْلِ إنَّ التَارِيخَ في المَعْنَى العَام، هو مَسِيْرَة حَوَادِث الماضِي البَشَرِي؛ اِعْتمَادًا على مَا تُقَدم لنَا الوثائق وَالمَصَادِر مِنْ معْلُومَاتٍ وَحَقَائِق عَنْ أحْدَاثٍ وَوَقَائِع. وَبَحَسبِ البَاحِثِين، فإنَّ التَارِيخَ لُغَةً يَعْنِي الزَمَن وَبَيَان الوقت. وَفِي هَذَا السِيَاقِ تَجْدِر الإشِارَة إلى أنَّ أولَ اِسْتعمَال للتَارِيخَ عند المُسْلمِين بِمَعْنَى التَقْوِيم وَالتَوْقِيْت كان فِي سنةِ (17) هـ عندمَا اتْخُذَ مِن التَارِيخ الهِجْرِيّ وَهِجْرَةُ الرَسُول الكَرِيْم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ) أسَاسًا لِلْتَقْوِيم، أمَا اِصْطلَاحًا، فكلمَة تَارِيخ يُقَصِّد بِهَا ماضي الإنْسَان سواء كانَ هَذَا المَاضِي في حدِ ذَاته، أو بصلته بِالحَاضِر، أو بِاحْتمَالَاته وَانْعكَاسَاتِه المُسْتقبلِيَّة.
وَاِتْسَاقًا مَعَ تَطُور الحَضَارَات الإنْسَانِيَّة، وَمَا نَجَمَّ عَنهَا مِنْ ثَقافَاتٍ وَمَدَارِس وَاِتجَاهَاتٍ فِكْرِيَّة، خَضَعَ اِصْطلَاح التَارِيخ لِتَعْرِيفَاتٍ مُتبَاينَة على مَرِّ العُصُور، حيثُ تبلْوَرَ مَفْهُوم التَارِيخ وِفْقًا لِرُؤَى البَاحِثِينَ وَالمُتَخَصِّصين؛ لأجْلِ تَدْوِيْن المُوثَق للأحداثِ المَاضِيَةِ، إلى جَانِبِ وَصْف الحَقَائِق التي حَدَثَت في المَاضِي بِطَّريقَةٍ تَحْلِيلِيَّةٍ نَافِذَة.
***

رَصْدٌ مَوْضُوعِي لِبَعْضِ مَا لحق بِتاريخِ العرَاق مِنْ تَشوهَاتٍ
يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّ الإشَارَةَ التِي ثَبَتها الكَاتِب الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي أعْلَى الوجه الأمَامِي لِغَلافِ كِتَابَهُ الذي وَسَّمَهُ بـ (أربع شَخْصِيَات مِنْ تَارِيخ العراق)، تُشِير إلَى أنَّهُ دِرَاسَةً مُوْجَزَة، لكن في حَقيقةِ الأَمْرِ، فإنَّ أهميةَ سَيْل المَعْلُومَات التي بَثّهَا الجلبي مَا بَيْنَ دفتي كِتَابَهُ، تُخَالِف مَا قَدْ يَسْتَقِرّ بِدَايَةً في ذِهْنِ المُتَلَقّي مِنْ أنَّ مَضْمُونَ الكِتَاب يَتَمَحْوَر حول تَرْجمات تَقْلِيدِيَّة لأربَعةِ شَخْصِيَاتٍ عِرَاقيَّة عاشت في أزْمَانٍ مُخْتلفَة، إذْ سُرْعَان مَا يُشَعِّر المُتَلَقّي عند دُّخُولهِ مُفْتَتَح الكِتَاب بِالاِنْقِيادِ إلى مَا مِنْ شأنِهِ التَحْفِيز علَى اِسْتِشْرَافِ المَاضِي قَصْد البحْث عَنْ حَقَائِقٍ لِتارِيخٍ مُوغِلٍ في القِدَم؛ بِفعْلِ المَعْلُومَات الصَادِمَة التي تُوَاجِهُ القَارِئ، والتي غَيَبَتْها أيَادٍ خَفِيَة عَن الأجْيال المُتَعَاقِبَة؛ لإشْبَاعِ غَايَاتٍ دُنيَويَّة تحتَ تأثِير رَغَبَاتٍ قَدْ تكون سُلْطَوِيَّة أوسِيَاسِيَّة أو تَّوَسُّعِيَّة أو غيرها مِمَا يَكْتَنِفُ الَنفْس الإنْسَانِيَّة.
إنَّ الكتابَ مَوْضُوع بَحْثنَا الصادر عام 2023م بـ (124) صَفْحَة مِن القطْعِ المُتَوَسط عَنْ المَكْتَبةِ العَصْرِيَّة للنَشْرِ وَالتَوْزِيع في بَغْدَاد، يُعَبر- وفْقًا لِمَا حَوَى مَا بَيْنَ دَفَتَيه مِنْ مَضَامينٍ مُهمَةٍ وَصَادِمَةٍ فِي الوَقْتِ ذَاتِه - عَنْ مُحَاوَلَةٍ جَادّةٍ مِنْ مُؤلفِهِ الكَاتِب والأدِيْب وَاثِق الجَلَبِي لِرَصْدٍ متأنٍّ لِبَعْضِ مَا تَعَرضَ لَهُ تارِيخ العِرَاق القَدِيْم مِنْ تَشوهَاتٍ تبلورت عبرَ عُقُود مِن الزَمَان؛ لِتَغْدوَ حَقَائق رَاسِخَة فِي أذْهَانِ النَاس، وَالتِي مَرَدَهَا بِالأَسَاس إلَى مَا تَنَوع وتَبَايَن مِن الأسْبَاب؛ الأمْر الذِي اِسْتَوجَبَ مِن البَاحِثِ بَذْل الكَثِير مِن الجُهُود البَحْثيَّة فِي مُهِمّةٍ قَدْ لا تَبْدُو سهلَة المَنَال؛ لأنَّهَا تقُوم علَى تَحْلِيلِ مَرْويَاتٍ أكَلَ عَلَيهَا الدَهْر وشَرب، وكَأَنَهُ هُنَا يَسْتَنْطِقُ المَاضِي بِمَوْضُوْعِيَّةٍ؛ لِأجْلِ تَحْرِيكِ كَوَامِن التَارِيخ وَقِرَاءَة خَفَايَا النُفُوس فِيمَا يَرَاهُ لَازِمًا لاِسْتجْلَاء الحَقِيْقَة.
لَا رَيْب أنَّ جَسَامَةَ هَذِهِ الرِحْلَةِ البَحِثيَّة المَحْفُوفَة بِالصعُوبَات، فَرَضَت علَى الجَلَبِي إخْضاع صَفَحَاتٍ مَطْويَّةٍ مِنْ مَاضٍ بَعِيْد لِمَنَاهِجِ البَحْث العِلْمِي الحَدِيْثَة، مُرْتَكِزًا عَلَى نَاصِيَة التَحْلِيْل الْمَوْضُوعي؛ بغيةَ توظيف مَا يَتَسِق مِنْ نَتَائجِ بَحْثه مَعَ مَا كانَ يَعِيش مِنْ هَوَاجسٍ بِدَائِيَّة، إذْ يَبْدُو جَلِيًا أنَّ هَوَاجسَه وَشُكوكه شَكَلَا بِدَايَة الألْف مِيل فِي مُغَامَرَتِهِ المَعْرِفيَّة، التِي كانت الغَايَة الرَئِيسَة مِنهَا تَتَمَحْور حَوْلَ بَعْض المُغَالَطَات التِي لَحَقَت بِتارِيخِ بَلَدٍ خَرَجَت مِنْ أرْضِهِ أقْدَم الحَضَارَات الإنْسَانِيَّة إلَى العَالَم، والتِي آنَ لَهَا أنْ تُكْشَفَ، وَتُعْلَنَ علَى المَلَأ؛ مِنْ أجْلِ أنْ لَا يبْقَ لها أي نَصِيْب في الوجْدَانِ الإنْسَانِي.
***
اِنبَرَى الجَلَبِي في مُقدمةِ دِرَاسَتهِ هَذِه، واصفًا إياها بالقول: "ليست دِرَاسَة أكَادِيمِيّة بَحْتَة، بَل هي قِرَاءَة عَصْرِيَّة لِشَخْصِيَّاتٍ عِرَاقِيَّة تمَّ قتلها، أو إخفاؤها والتعتيم عليها، وإنشاء شَخْصِيَّات بَدِيْلَة لتحل محلها، وتلك الشَخْصِيَّات هي بِالتأكِيد مِنْ كلْدَانِيي بَابِل"... ص (4).
وَتَبْدُو العبَارَة المَذْكُورَة بِمَثَابةِ ثِيْمَة المَوْضُوع الذي بَدأهُ الكَاتِب بالاسْتِهْلالِ، ثمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَضَعَ يدَه على الجُرْح، حِيْن عَبّرَ عَنْ بعضِ مَا يَجُوْل فِي أَرْوِقَة المَعْرِفَة وَأزِقَّة الكُتُب مِنْ أحَادِيْثٍ وَدِرَاسَاتٍ وَتَحْلِيلَات، حيث أشَارَ إلَى ذَلِكَ بالقَوْلِ: "أنني لَمْ أرْجَع إلَا قَلِيلًا إلَى مَصَادِرِ الْمُسْتَشْرِقِين مَعَ وفرتِهَا؛ لأني مُقتَنِع بأنَّ تلك المَصَادِر قَدْ صَنَعَت تارِيخًا مُوَازِيًا لأسْبَابٍ عَدِيْدَة رغم ذِكْرها لِحَقَائقٍ لا تقبل الشَك".
وَلعَلَّ ما تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إليه بِخُصُوصِ هَذِهِ القَضِيَّة الشَائِكَة، هو إجْمَاع غَالبِيَة البَاحثِين على أنَّ نشأة حَرَكَة الاِسْتِشْرَاق كانت بِكُلِّ وَسَائلها وَأهْدَافها، تَبْشِيرِيَّة بَحْتَة، وإنَّ كِتَابَةَ أكْثر الْمُسْتَشْرِقِين، كانَ مَردهَا إلى أهْدَافٍ دِيْنية واِقْتِصَادِيَّة وَاِسْتِعْمَارِيَّة، فلَا عجْـبٌ وَلَا غَـرَرُ إنْ تغمَسَ مَدَاد أقْلَامهم بالطَعْنِ والتَشْوِيه؛ سَبِيْلًا لتَحْرِيفِ، أو تَغْيِير صفحاتٍ مهمةٍ مِن التَارِيخِ الإسْلَامِي العَرَبِي والعراقي، وَلعَلَّ إلى هَذَا المَعْنَى يُشِير جواهر لَال نهرو بِقَوْلهِ: "عندمَا نُفَكِر في الغَايَاتِ يجب أنْ لَا نتَجَاهَل الوَسَائِل".(1)
وَتَدْعِيمَا لِمَا ذُكِر، فإن بِوِسْعِ القارِئ الكَرِيم مُرَاجَعَة كِتَاب الاِسْتِشْرَاق لـ (إدوارد وديع سعيد) الصادر باللُغَةِ الإنْجِلِيزيَّة عام 1978م، وَالمُتَرْجم إلى العَرَبِيَّة أيضًا، والذي يؤكد فيه: "وجود نوعين مِن الاِسْتِشْرَاق: الكَامِن وَالظَاهر، وكلاهما ينْتمِي إلى المُؤسَّسَةِ الْإِمْبِرْيَالِيَّة، فالتعريف الأكَادِيمِيٌّ لِلاِسْتِشْرَاق بَاتَ مِنْ صُورِ المَاضِي، وَفَقدَ مصداقيته التارِيخِيَّة حين تحَول إلى عِلْمٍ اسْتِعْمَارِيّ اسْتِعْلَائِيّ".(2)
وبِحَسَبِ أحد البَاحِثِين، يهدف النصّ الاِسْتِشْرَاقِي - بنظر إدوارد سعيد - إلى إعَادَةِ تَشْكيل الشّرق ليس كما هو، وإنّما كما يُرِيْد المُهَيْمِن، أي تَشْوِيه الشّرق وَنَسْج مَعْرِفَة غير حَقِيقِيَّة عنه، وَهُنَا يمارس الْمُسْتَشْرِق نوعًا مِن الفصلِ غير العِلْمِي بينَ الشرق التاريخِيّ الْحَقِيقِيّ وبين الشرق المُشكل تَشْكِيلًا مخياليًّا بغية رسم شرق قابل لكلّ الاِحْتمَالَات، التي يفترضها الغَرْب في صِرَاعِهِ مَعَ غيرِه مِنْ أُمَمِ الجّوار.(3)
ويُشِيرُ باحِثٌ آخر إلى حَرَكَةِ الاِسْتِشْرَاق بِالقَوْلِ: "إنَّ اِدْعَاءَ الْمُسْتَشْرِقِين أنهم يلتزمون بِاسْتخدَامِ المَنَاهِج العِلْمِيَّة هو اِدْعَاء زَائِف". وَيُضِيف أيضًا قائِلًا: "وَنَحْنُ يمكن أنْ نُقدِم الكَثِير مِنْ الأدلَةِ على صِحَةِ النتائج التي توصل لها إدوارد سعيد، فالكَثِير مِن البَاحِثِين العرب ينقُلُون مِنْ كِتَابَاتِ الْمُسْتَشْرِقِين، وَيَسْتخْدمُون مُصْطلحَاتهم دون نَقْد أو تمْحِيص، وبذلك فَرَضُوا على الأمةِ التفْكِير داخل مَا يصفه سعيد بـالعَقَائِدِ الاِسْتِشْرَاقيَّة الجَامِدَة".(4)
وَلِسعَةِ التَدَاعِيات المُترَتبَة على حَرَكَةِ الاِسْتِشْرَاق، إلى جانب تعدد مَا كُتبَ عَنْهَا؛ أجِد مِن المُنَاسِبِ الاِكْتفَاء في هَذِهِ العُجَالَةِ بِهَذَا القدر مِن الكِتَابَةِ في هَذَا الشأنِ، مَعَ ضَرُورَةِ الإشارة إلى الاِعْتقَادَ السَائِد في الوَسَط الثَقَافِيّ بأنَّ الِاسْتِشْرَاقَ كَثِيرًا مَا جُنِّدَ فِي خِدْمَةِ الْمَشْرُوعَاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ وَالْإِمْبِرْيَالِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَارِيَّةِ، أَو السِّيَاسِيَّةِ فِي الْعَالَمِ الثَّالِثِ.
***
لَا أَظَنّنِي أَبَالَغ أو أَخَاصَم الْحَقِيقَة إذَا مَا قُلْت: إنَّ الأدِيبَ وَاثِق الجَلَبِي وضعنا في كِتَابِهِ هَذَا بِمَوْقِفٍ جَدِير بالتأمُّلِ وَالاِهْتمَام؛ لما أثرَى بِهِ دِرَاسَته هَذِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ غَرِيبَة وصَادِمَة قَدْ نَسْمع عَنْهَا لِأُوِّلِ مَرَّة، بعد أنْ عمل جَاهدًا في سَبْرِ أَغْوَارِ أربَعَة شَخْصيَات عِرَاقِيَّة مِن أروقةِ ماضِينَا، فضلًا عَمَا اِكتَنَفَ سيرهم مِنْ مُغَالطَاتٍ تَارِيخيَّة، كاشفًا بِمَا أبَانَ مِنْ حَقَائِقٍ، وَأوْضَحَ مِنْ تفاصِيلٍ مَلِيئَة بِالإثَارَةِ وَالتَشْوِيق مَعًا، وَمُظْهِرًا في الوَقْتِ نَفْسه خَبَايا النُفُوس التي لَمْ تَأْلُ جَهْدًا، وَلَمْ تدَّخر وُسْعًا فِي مهمةِ تَشْوِيه وتَزْيِيف صفحات مهمة مِنْ تارِيخِ العراق، وَالتي تُفَرِّض علَى المُتلقِي التَرْكِيز على المَعْنَى خلف مَا سطَّرَ الجلبِي مِنْ كلماتٍ في دِرَاستِهِ المُتميزَةِ هَذِهِ، بَلْ وَالمُتَفردَة بِمَا تَضَمنت مِنْ مَعْلُومَاتٍ نُظمَت وَعُولجَت بِالاِسْتنادِ إلى قَرَائنٍ أسْهَمت في بَيَانِ الصَحِيح مِن السَقِيم.
الكِتَاب مَوْضُوع بَحْثنا جَاءَ بِأرْبعَةِ مَحَاوِرٍ أسَاسِيَّة، تطرق مِنْ خلالِهَا البَاحِث بِالاِسْتنَادِ إلى المَعْلُومَات الأصْليَّة الوَارِدَة في المَصَادِرِ التَارِيخِيَّة إلى أرْبِعِ شَخْصيَات عِرَاقِيَّة ظَلمَها التَارِيخ؛ بفعلِ كُثْرة مَا مُورسَ ضدها مِنْ أسَالِيْبٍ مَاكِرَة بِقَصْدِ تطويقها ومُحَاولة تَغْيِير هويتها الوَطَنِيَّة، فكانَ أنْ سُلبَت مِنهَا أَصُولها العِرَاقِيَّة، حيث تضمن المِحْوَر الأول منها شَخَصِيَّة النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، الذي أرْسلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الفَتْرَةِ الزَمَنِيَّة الواقعة مَا بَيْن سيدنا آدم، وسيدنا نوح (عَلِّيهمَا السَّلاَم)، وَقَدْ كانَ النَاس خلال هَذِهِ المدةِ الطَوِيلَة التي اِمْتَدت لِعَشْرةِ قُرُون يَعْبُدُونَ الله عَزَّ وَجلّ وحده، إلَا أنَّ النَاسَ توجهوا لِعِبَادةِ الأصْنَام وَالأوْثَان في أعْقَابِ تلك الحِقْبَة الزَمَنِيَّة.
وَعَرَضَ الجلبي في المِحْوَرِ الثانِي شَخَصِيَّة فَلَكيّ نَبَطيّ بَابِلِيّ كلْدَانِي عِرَاقِي هو تنكلوشا الذي قام العِرَاقِي الكلْدَانِي (أبو بكر بن وحشية النبطي) بِتَرْجَمَةِ كُتبه عَن البَابلِيَّة. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهِ عِرَاقيًا مِنْ أهْلِ بَابِل، إلَا أنَّ بعضَهم صَحَّفَ اسْمهُ إلى (تينكلوسا)، فَعَدُّوهُ يُونَانِيًا أو فَارسِيًا أو رُومِيًا.
وفي المِحْوَرِ الثَالِث سـَـلَطَ الجلبي الضَوْء على شَخَصِيَّةٍ عِرَاقِيَّة أُخْرَى، تَجَسَّدَت بِحَكِيمِ بَابِل برعوثا أو بيروسوس أو برحوشا، ألذي يُعَدُّ أول مَنْ كَتَب التَارِيخ، وَأهم الْمُؤَرِّخِين العِرَاقِيين القُدَامَى، وَالذي لَمْ يُتَرْجَمَ لَهُ بِمَا يَتنَاسَب مَعَ أهميةِ مُنْجزه، حيث اِقْتصَرَت الإشَارَة إليه بِبَعْضِ النقولات التِي نَقلتها عَنْهُ الويكيبيديا وَغيرهَا مِن المَوْسُوعَات العالَمِيَّة.
وَلَعَلَّ المُذهلُ فِي أمْرِ برعوثا، هو أَنَّ هَذَا العَالِمِ البَابِلِيّ تناول عُلُوم الفَلَك وَالتَنْجِيم وعِلْم العَنَاصِر وَلُقبَ بِالمُنَجِّم، وَكَانَت كِتَابَاته الوَسِيْلَة لنَقلِ عُلُوم العِرَاقِيين إلى مِصْر وَفَارِس وَاليُونَان وَالإغْرِيْق والهِنْد وَكلّ الحَضَارَات القَدِيْمَة، حيثُ أنَّ العُلُومَ الكلْدَانِيَّة البَابِلِيَّة اِكْتَسَحَت العَالَم القَدِيْمَ بِرمَتهِ، حتّى فِي مَسْألَةِ مُنَاظرَة الحَيَوَانَات وَالأشْجَار فِيمَا بيْنها، وتحول تخاصم شَجَرَة الطرفاء وَالنَّخْلة البَابِلِيَّة إلى تخاصمِ الغَار وَالزَيْتُون اليُونَانِيّ.
وَآخر الشَخْصيَات التي تناولها الجلبي في كِتَابِهِ هَذَا، كانت شَخَصِيَّة ابن وحشية النَبَطيّ الكلْدَانِيّ، الذي ترجم لَهُ بِالقَوْلِ: "عند قِرَاءة مُتَفحصَة نَجِد أنَّ ابن وحشية كان لَدَيْه مِن العُلُومِ مَا جعلهُ مَوْسُوعَة مُتَنقلَة فهو عَالِم لُغَويّ وكِيمِيَائِيّ وَعَالِم بِالأرْضِ ومَا تنبت وَعَالِم في الفَلَك وَإلى غَيْرِ ذلك مِن العُلُومِ التي تناولها في جَمِيْعِ كُتبِهِ التي تَرْجمَهَا وَألفَها"..... ص (54).
***
نَظَّرًا لِسعَةِ مَوْضُوع البَحْث الحَالِي، وَتعدد مَوَارِد كِتَابَة مَبَاحِثه، فضلًا عَنْ أهميةِ وَكُثْرة العوامل المؤثرة في مُشَكَّلَتِهِ، وَاِنْسجَامًا مَعَ مَحْدُوديَة مَسَاحَة النَشر في الصُحُفِ وَالدَوْرِيَات، فَقَدْ اِرْتأيتُ أنْ أخصّ بِالقِرَاءةِ إحْدَى الشَخْصيَات الوَاردة في مَتنِ الكِتَاب، وَالمُتَمَثلَة بِشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، مَعَ مُلَاحَظةِ أنَّ هَذَا الإجْرَاء لَا يَعْنِي أني أمْطَرتُ هَذِهِ الِشَخَصِيَّةِ اِهْتمَامًا على حسَابِ الشَخْصيَات الأخرى، أو عدم الاهتمام بتلك الشَخْصيَات.
شَخْصِيًا لَمْ أكن على دِرَايَةٍ بأنَّ هناك ثلاثة وجوه تَتَمَحْوَر حول شَخَصِيَّة تارِيخِيَّة واحدة، هي شَخَصِيَّة النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، وَرُبَّما كلّ مَا كان مَعرُوفًا ُلدَى المُهتمِين بِشَأنِ تارِيخ العراق الحَضَارِي وَالثقَافِيّ، فضلًا عَنْ بعضِ العامة، هو الجَدَل بشأنِ صحة مَا مُتداولً مِنْ أنَّ إليَاسَ وإدْرِيْس اِسْمَان لِنبِيٍّ واحد، حيث أشار بعض العُلمَاء والْمُؤَرِّخِين، ومنهم ابن كثير إلى أنَّ إلياسَ هو إدْرِيس وإدْرِيْس هو إليَاس، فيمَا أثْمَرَّ جهد الجلبي عَنْ إِضَاءةٍ مهمة لشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيْس، كونه بحسبِهِ مِنْ أوَائِلِ الشَخَصِيَات التي اِكتَنَفَ سيرتها مَا تباين مِن الأسَاطِيرِ وَالحِكَايَات، فكان أنْ تَنَاسَلَتَ إلى ثلاثِ شَخَصِيَات هي: (أخنوخ، هرمس وَإدْرِيس)!.
بَعْدَ جُهْدٍ جَهيدٍ، وَصَبْر طوِيل، توصل البَاحِث الجلبي على وفْقِ المَصَادِر وَالوَثَائِق التارِيخيَّة التي اِعْتمدها إلى أنَّ: "شَخَصِيَّةَ إدْرِيس الْبَابِلِيَّة هي النُّسْخَة الحَقِيقِيَّة التي تمَّ تَزْوِيرها بِنُسَخٍ أُخرى بِنَفْسِ المُوَاصَفَات، وَهَذَا مَا لَا يمكن عقْلًا فَلَا يمكن أنْ يكون ثلاثة أشخاص يحملون نَفْس الاسم وَالصفَات وَالمَكَانَة العِلْمِيَّة مَعَ اِخْتلَافَاتٍ يَسِيرَة اِخْتلقهَا بعض الكُتَاب وَسَار على نَهْجِهم مِمَنْ أخذَ عَنْهم بلَا تَمْحِيص وَلَا تَدْقِيق"... ص (6).
كذلك أسْتقَى مِنْ مَصَادِرٍ جد مَوْثُوقَة، مَعْلُومَات أخرَى غاية في الأهميَّة، مِن بَيْنِهَا مَا يؤكد أنَّ النَبِيَ إدْرِيس: "ولد في مَدِينَةِ بَابِل وفيها نَشَأ وَتَرَعْرع"، بَلْ أنَّ جميع الأنْبيَاء: "هُم عِرَاقيُون سواءً بالولادةِ أو باِنْحدَارِ النَسَب.... حتّى أنَّ النَبِيَ عِيسَى (عَلِّيه السَّلاَم)، وَعَن طَرِيقِ أمهُ الصدِيقَة يرجع بِالنَسَبِ إلى النَبِيَ إبراهِيم الخَلِيل الكلْدَانِي البَابِلِي... ص (8).
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ مَسْألَةَ كون جميع الأنْبيَاء هُم عِرَاقيُون، سبق أنْ تطَرَقَ إليهَا الدكتور خزعل الماجدِي(5) بِبَحْثٍ مُثِيْرٍ جاءَ فِيْهِ: "أنّ الملوك العشرة السُومِرِيِين الذين تحولوا إلى عشرةِ أنبياء توراتيين بفعل الرؤية التوراتيَّة. وهؤلاء الملوك أو الآباء هم: «آدم، شيث، إنوش، قينان، مهلالئيل، يارد، أخنوخ (إدريس)، متوشالح، لامك، نوح» الذين ينتمون جميعهم إلى مرحلة ما قبل الطوفان"(6)، إلَا أنَّ مَردَهْم بِحَسَبِ الجلبي ليس لِلسُومِرِيِين، بَلْ إلى النَبَطِ الكلْدَانِيين الذين سَكَنُوا مَديِنَة بَابِلِ القَدِيمة على نَهْرِ الفرات بالعراق.
تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى أَنَّ النَبِيَ إدْرِيس هو سِبط النَبِي شيث (عَلِّيه السَّلاَم)، وجدّ أبو الأنبياء سيدنا إِبرَاهِيْم (عَلِّيه السَّلاَم)، الذي وُلِدَ في بَابِل، واِصْطفَاه اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالنُّبُوَّةِ فبَعَثهُ لِهدايَةِ قَوْمه وإخْرَاجهم مِن الظُلمَاتِ إلى النُّور، وَأمرهم بِتَركِ عبادة الأصْنَام وعبادة الله وحده لَا شَرِيك لَه. وَقَدْ ذكرَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إدْرِيس في الْقُرانَ الْكَرِيْمَ، حيث قَالَ رَبُّ الْعِزَّةِ في مُحْكَمِ كِتَابِه الكَرِيْم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا).(7)
وخشية إفساد مُتْعَة القارِئ الكريم في التبحر بِمَضَامِين الكِتَاب، وجدت مِن المُناسِبِ وَالمُهِم أيضًا ترك غَالِبية التفاِصيل المُتَعَلِقَة بِشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيس وَالشَخَصِيَات التي تَنَاسَلَت مِنهُ مَعَ مرورِ الأيَام إلى المُتلقِي، إضافةِ إلى عدمِ الاِقْتبَاس مِن النُصُوص التي اِعْتمَدها الجلبي من مصَادِرِ وَمَرَاجعِ بَحْثِهِ هَذَا.
يَمُكُّنّ الجَزْم بِأنَّهُ بعدَ بَحْث وَتمْحِيص مُعمَقين خلص الكَاتِب الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي إلى أنَّ إدْرِيسَ النَبِي هُوَ هرمس وهُوَ أخنوخ البَابِلِي أيضًا، بِمَعْنَى أنَّهُ رجل واحد وليس ثلاثة رجال كَمَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ فِي غَالبيةِ كُتُب التَارِيْخ، ولطولِ العَهْد حَملَ هَذَا الاسم بعضًا مِن الأتْبَاعِ وَالتَّلَاَمِيذ، ولكن الحَقِيقَة أنَّ مثلثَ الحكْمَة هُوَ شخص واحد، ولد وعاشَ في بَابِل، وانتقل بأمرِ الله تعالى إلى صعيدِ مِصْر يرافقه مَنْ آمنَ بِهِ مِنْ أهْلِ بَابِل، وَهُوَ الذي أسمَى مِصْر بابليون وَهَي مُصَغَر بَابِل، ومِن ثمَّ قام بنشرِ دعوته التَّوْحِيديَّة بين أهْل مِصْر واليونان، وَقَدْ بَنَى الأهرام، وَتَمَّ دفْنَهُ في الهَرَم الأكْبر، وَقَدْ ادعى الهرمسيَّة الكثير حتى لقبوا بِالهرامسَة..... ص ص (21، 22، 23).
وَمِن المَصَادِرِ التي اِعْتمدَهَا، اِسْتنْتَجَ الجلبي هُوَ أنَّ وصايا هرمس ومَا أضَافَهُ تَلَامِيذهُ وَطُلَاَّبهُ مِنْ شُرُوحٍ، سُجلَتْ بِسبعة عشر أطرُوْحَة باللُغَةِ اليُوْنَانيَّة، وَلِشَدَةِ لمَعَان اسم هرمس عَدَّهُ بعضهم فَارِسِيًا، أو يُونَانِيًا، أو مِصْريًا، أو هِنديًا، حيثُ كَثُر الجَدَل حيال كونه أصْلًا لِبُوذَا، ولكنهُ في الحقِيْقَةِ رجل مِنْ بَابِل عَاصِمَة البَابلِيين الذين عَاشُوا في بِلَادِ مَا بَيْن النَهْرين (العراق) في الألفَيْن الأول وَالثاني قبل الميلاد، والتي تُعَدُّ مِنْ أشْهَرِ مُدُن الشَّرق القَدِيم. وَهَذَا الخَلْطِ العَجِيب نَابع بِحَسَبِ الجلبي مِنْ عَدَمِ تتبع الجُذُور الأوْلَى، مُتنَاسِينَ أنَّ كُثْرَةَ أتْبَاعه وَطُلَاَّبه؛ أدَتْ إلى هَذَا الاِلْتبَاس، فضلًا عَنْ سَفَرهِ وَخُرُوجه مِنْ بَابِل، وَاِرْتحَاله بِأمْرِ السَمَاء إلى صَعِيْدِ مِصْر وَتَسْميتها بابليون.
وَلَعَلَّ مِنْ بَيْنِ الْاِسْتِنْتاجَات المهمة التي توصَل إليها الجلبي، هُوَ أنَّ أهْلَ اليُونَان لَمْ يؤسسوا شيئًا مِنْ موَارِدِ الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ، بَلْ أخَذوا مِنْ (إدْرِيس) الحكْمة الهرمسيَّة التي شكلت الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ وكما يدعونها عندهم (الفَلْسَفَة)، واِسْتمرُوا على نَهْجِهِ كبقيةِ الحَضَاَرَات بِمَا في ذلك العَقل وَالرُوح وَالنَفْس وَالإنْسَان السَمَاوِي الأمثل وَالإنْسَان الأرْضِي غير الكامل وَطَرِيْقَة الارتقاء بالوحي حتّى تداخلت الغُنُّوصِيَّة(8) كمفهُوم مَعَ الهرمسيَّة كَوَعِيٍّ دِيْنِي سُرْعان مَا وَجَدْنَاهُ عند اليَهُود وَالمَسِيح وَالمُسْلِمِين. وَهَذَا يَعْنِي أنَّ: (أسَاسَ كلّ تلك العُلُوم الفِكْرِيَّة وَالرِّيَاضِيَّة وَالهَنْدَسِيَّة هي عُلُوم إلهية).
ثَمَّةَ أمر وَرَدَ في مضامِينِ كِتَاب الجلبي هَذَا يستحق الوقوف عنده؛ لِمَا يَحْمل مِنْ مَدْلُولَاتٍ غَايَة في الأهميَّةِ، وَهُوَ أنَّ السُومِرِيُّونَ لَمْ يَذْكرُوا مِن الْمُؤَرِّخِينَ كالمَسْعُودِي وابن الأثير وابن خلدون ولا ابن وحشية، ولا حتّى التَّوْرَاة، بَلْ ذَكَرُوا النَبَط الْكَلْدَانيين. وَلأنَّ هَذَا المَوْضُوع كَثِيرًا مَا كَانَ يؤرق الجلبِي، فَقَدْ توجه بِسُؤَالٍ إلى الدكتور نائل حنون(9)، الذي نجتزئ مِنْ إجابتِهِ مَا يأتي: "كيف يمكن للمُؤَرِّخِين المُتَأخرِين أنْ يَذْكرُوا مَنْ لَمْ يَذْكرُوا في النُصُوصِ السُومِرِيَّة نَفْسها، وَحتّى في النُصُوصِ السُومِرِيَّة كلها لا يوجد ذِكِر واحِد للسُومِرِيين. في حالاتٍ قليلة تَصِف النُصُوصِ المِسْمَارِيَّة بعض الأشْخَاص بأنهم سُومِرِيُّون. ومعْنَى ذلك ليسَ هويتهم القَوْميَّة، وَإنمَا يقصد بهم الكَتَبة المُتدربِين على الكِتَابةِ السُومِرِيَّة مهما كانت هويتهم القَوْميَّة..."... ص (71).
واِتْسَاقًا مَعَ الأمر المَذْكور، يُشِير الجلبي إلى مَا ذَكَر المَسْعُودِي مِنْ أنَّ النَبَطَ هُم سُكان العِرَاق القُدَمَاء، وَأنهُم عوملوا مِن الجَيشِ العَرَبِي وَمِن قبله مُعامَلة قَاسِيَة، مَا أدَى إلى أن يُخْفِي النَبَطِي أصْلَهُ؛ خوْفًا مِن البَطْشِ والقتْل، وَبِالإمْكَان الاطلاع على تَفَاصِيلٍ أوسع عَنْ هَذِهِ الجزئيَّة في ثنايا كِتَاب الجلبِي.
خاتمة
مِنْ خِلَالِ اِنْفتَاح الكَاتِب الأدِيب واثِق الجلبِي على مَصَادِرٍ قَدْ تبدو لِلبَعْضِ دفيْنَة، وَمِن خِلَالِ بَحْث مُضْنٍ، وَبعْد طُولُ عَناءٍ، يَصل بِنَا في نهَايَةِ المَطَاف إلى أبْشَعِ مُحَاوَلةٍ لِتشْوِيهِ تَارِيخ العِراق، عِبْرَ البَحْث عَمَا تَعَرضت لَهُ أربع شَخْصِيَات عِرَاقِيَّة: (النَبِي إدْرِيس، برعوثا، تنكلوشا وابن وحشية النبطي) مِن إخفَاءٍ مُتَعَمدٍ لهويتها العِرَاقِيَّة.
وَعَنْ هَذِهِ الحَقِيقَةِ يقولُ الجلبِي: "يحاول الكثير حجب هَذِه الشَخْصِيَات العِرَاقيَّة لأسبابٍ كثيرة، علما أنَّ لِبعضِ الْمُسْتَشْرِقِين اليَد الطولى في اختفائها وَمِنْ أبْسط الأعذار حين تسأل بعضهم عَن السبب سيكون من ضمن الأجوبة الجاهزة: شخصيات وهمية. من غير المنطقي أن نقول على هكذا شخصيات انها غير حقيقية وانها وهمية او مختلقة، فلنبحث عنها في المكتبات العالمية التي تخفي عنا الكثير الكثير".... ص (50).
ولعلَّ المذهلُ فِي الأمرِ، هُوَ مَا توصَل إليه الجلبي مِنْ أنَّ أهْلَ اليُونَان لَمْ يؤسسوا شيئًا مِنْ موَارِدِ الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ، بَلْ أخَذوا مِنْ (إدْرِيس) العراقي الحكْمة الهرمسيَّة التي شكلت الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ وكما يدعونها عندهم (الفَلْسَفَة)، وَأنَّ النَبَطَ هُم سُكان العِرَاق القُدَمَاء، وليسَ السُومِرِيين كمَا هو مُتدَاول في كُتُبِ التَارِيخ!.
وَيُضافُ إلى ذلك الكثِير مِن المُلاحَظَاتِ الصادِمَة التي سجلها الجلبي، مثل الْإِسْكَنْدَرِ الْمَقْدُونِيِّ، التي لَمْ يسع المجال لتناولها في هَذِهِ القراءةِ، وَالتي تُلزم البَاحثِين وَالمُتَخَصْصِين في شُؤُونِ التَارِيخ الوقُوف عندها بِجديَّة، وَأنْ تُبذلَ جهودًا فاعِلَة حيَالَ نبش تاريخنا؛ بغية تهذيبه وتشذيبه وتقويم وتسوية مَا تَعَرَضَ مِنْهُ إلى التَزْوِير أو الاِعْوجَاج، فَإعَادة كتابة التاريخ تَبْقَى مهمة نَبِيْلَة عندما تكون الغَايَة منها لأغراض وطنية. وَلَعلَّ هَذِهِ الجزئيَّة هي التي فَرَضَت على اليابان صياغة تاريخها، لكنها ليست الدولة الوحِيدة التي بدأت بهَذَا المَسَار، فالتاريخ الوطني للبلدان الحديثة مثلما قيل: يمتلئ بالأسَاطِير التي تتناول الحكايات البطُوليَّة والاِسْتثنائيَّة لِشُعُوبِها وأسْلَافها. وَمِنْ هُنَا حريٌ بِنَا أنْ نُدْرِكَ كيف محا التاريخ سيرة البحار الأسود الذي "فتح" المحيط الهادي؟. وفي الإطارِ نَفْسه يقول الأديب الإنجليزي جورج أورويل: "أعلم أنه من المألوف أن نقول إن معظم التاريخ المسجل مجرد أكاذيب على أي حال. أنا على استعداد للاعتقاد بأن التاريخ في معظمه غير دقيق ومنحاز، ولكن ما يميز عصرنا هو التخلي عن فكرة أنه يمكن كتابة التاريخ دون تحريفه".
ومِنْ تاريخنا المُعَاصِر، تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ السَّرِيعَةُ هُنَا إِلَى قَوْل الشَاعِر مَعْرُوف الرصافي:
فما كتب التاريخ في كل ما روَت لقرَّائــــــــــــــها إلا حديثٌ ملفَّقُ
نظرنا لأمــر الحاضرين فرابَنا فكيف بأمـر الغابرين نصدِّق؟!(10)
***
ختامًا أبَاركُ للأخِ والصَدِيق العزيز الأديب وَاثِق الجلبِي هَذَا السفر البَحْثِيّ التاريخي المُتَمثل بِهَذِهِ الدِرَاسة الجَرِيئَة في مَضَامِينِهَا، وَالعَمِيْقَة في مَدلُولاتِهَا، بِوصْفِهَا محاولة جادة للكتابةِ وَمُبَادرَة رَصِينَة وَاعِيَة للتَقْيِيمِ والتَصْوِيب والتَطْوِير، آملًا في الوقتِ نَفْسِه أنْ تُبادِرَ الجَامعَات العِرَاقِيَّة إلى الإحَاطةِ بِمَضْمُونِ الدِرَاسَة مَوْضُوع بَحْثنا وإدْرَاجها ضمن برامج الدِرَاسَات العُليا، إلى جانبِ تحمل المُؤسّسَات الثَقَافِيَّة مَسْؤولياتها حيال إعَادة طبع الكُتب ذات العلاقة بِتارِيخنا القَدِيم مثل كتاب الفلاحة النبطية، فكما يقول جورج أورويل: "يوجد بالفعل عدد لا يحصى من الأشخاص الذين يعتقدون أنه من المخزي تزوير كتاب مدرسي علمي، لكنهم لن يروا أي خطأ في تزوير حقيقة تاريخية"!.
***
الإحالات:
___________
(1) جواهر لال نِهرو، (1889 - 1964م)، أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند، وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، وشغل المنصب من عام 1947م حتى وفاته، شغل أيضا منصب وزير الخارجية والمالية، وهو أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز.
(2) إدوارد سعيد (1935- 2003م)، مُنظر أدبي فلسطيني- أمريكي. يعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن العشرين سواءً من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحداً من أهم عشرة مفكرين تأثيراً في القرن العشرين. كان أستاذاً جامعياً للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية). ومدافعاً عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوتٍ فعالٍ في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
(3) أ. د عبد القادر بوعرفة، القضايا الكبرى في كتابات إدوارد سعيد، مجلة دراسات اسشتراقية، العدد 29، شتاء 2022م، على الرابط الآتي:
https://m.iicss.iq/?id=123&sid=256
(4) د. سليمان صالح، كيف شوَّه المستشرقون التاريخ الإسلامي؟ ولماذا؟، مجلة المجتمع، الكويت، 15مارس, 2022م، على الرابط الآتي:
https://mugtama.com/15/272896 /
(5) د. خزعل الماجدي باحث من العراق، مُتخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وشاعر وكاتب مسرحي، ولد في كركوك 1951م، أصدر 107 من الكتب، ترجمت له كتب ونصوصٌ باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والرومانية والفارسية والكردية.
(6) د. خزعل الماجدي، أنبياء سومريون: كيف تحوّل عشرة ملوك سومريين إلى عشرة أنبياء توراتيين؟، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، 2018 م.
(7) سورة مريم، آية:56.
(8) كلمة يونانية الأصل تعني المعرفة أو العرفان، ثم تطورت واتخذت معنى اصطلاحياً هو العرفانية، وهي نزعة فلسفية صوفية دينية معاً، ظَهَرَتْ فِي الْقَرْنَيْنِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلْمِيلاَدِ، غايتها معرفة الله بالحدس لا بالعقل، وبالوجد لا بالاستدلال، أي بالذوق والكشف. لهذا تطلق أيضاً على المذاهب الباطنية. ويذهب بعضهم إلى أنها ترجع بأصلها إلى إلهام إلهي منذ البدء وتناقله أهل العرفان (المريدون) سراً.
(9) نائل حنون عليوي العبودي، مواليد محافظة ميسان قضاء كميت جنوبي العراق عام 1952م، عالم اثار حاصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة اللغة الأكّدية، أحد أبرز رجال الآثار في العراق والعالم، ويعد أول مترجم للنصوص السومرية والأكدية إلى العربية.
(10) قصيدة ضلال التاريخ - ديوان معروف الرَّصافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام