الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح الذات: كانَ خريفَ الخبل

دلور ميقري

2024 / 4 / 24
الادب والفن


1
آخر عهد دارين بالحرية، كانَ في ربيع العام المنصرم، لو كانَ الأمرُ يتعلق بزواجه. جاءت " آلاء " من دمشق بثوب الزفاف الأبيض، وتم تغيير الطائرة في براغ، وذلك قبل أن تقلع بإتجاه ستوكهولم. في خلال الطريق، تعرفت على إمرأة من سريان الجزيرة، تكبرها قليلاً. وكانت صُحبتها مسلية في خلال فترة الإنتظار هنا وهناك، لحين أن إفترقت عنها بطريقةٍ لم تخلُ من اللؤم. تلك المرأة، تعاملت مع آلاء بكل مودة إلى أن عرفت منها أنها دمشقية كردية، وليست " دمشقية حاف ". عندئذٍ أدارت لها ظهر المِجَنّ، ولم تعُد تلتفت إليها.
زواجُ الأقارب، من ناحية أخرى، كانَ مذموماً لأسباب عدّة. لكن دارين شاءَ أن يثبتَ العكس، بما أنه إرتباط العقل المثقف بقرينه. دوغان، كانَ مثله في هذا الأمر، لكن علاقتهما حالت إلى جفاء ـ كما علمنا. بدَوره، كانَ للكاتب الكبير مثله في زواج الأمير جلادت بدرخان بإبنة عمه؛ روشن خانم. وعموماً فإنّ الشرقيّ حينَ يهاجر إلى الغرب، فكأنه إنتقل من حجرة منزله إلى حجرة أخرى في ذات المنزل. تدريجياً، بدأت العروسُ بالشكوى من شقيقة رَجُلها، أي تلك التي هُرّبت عن طريق تالين: " كأنها تظنّ أنها بمثابة الحماة بالنسبة إليّ، أو أنها تريد الإنتقام من وضعها، كمطلقة، من خلال تخريب الحياة الزوجية لغيرها ".
بعد نحو أسبوع، أخذ دارين عروسه إلى ستوكهولم، ملبياً أكثر من دعوة. عرّجا أولاً على مسكن همرين، وكانت روزا في غاية اللطف مع العروس؛ لتمسيا لاحقاً صديقتين مقربتين، تتبادلان الزيارات بينَ حينٍ وآخر. ذلك أن آلاء كانت تجيد اللغة الإنكليزية، التي درستها أيضاً في الجامعة، ومن ثم نقلت بعض المقالات إلى العربية لتنشر في مجلة المسرح.
أحمي إتصل في اليوم التالي بهمرين، ولما علمَ بوجود دارين وعروسه، دعاهم إلى الغداء في مسكنه. روزا إعتذرت بموعدٍ مع زميلات العمل، فرافق صديقها الضيفين إلى مسكن أحمي. إمرأة هذا الأخير، بقيت طوالَ الوقت تروز العروسَ بنظراتٍ تشمل ملامحها وملابسها. ومن النافل القول، أنها نظرةٌ مألوفة من الريفيّ لإبن المدينة. وكانَ من غير المُستبعد أن يفقسَ البيضُ تحت جلستها، طوال وجود الضيوف في ظهرانيها. في حقيقة الأمر، أنه أحمي مَن كانَ عليه أن يتنقل بين المطبخ ومكان شوي اللحم، الكائن على طرف العمارة. كذلك كانَ عليه ملاحقة إبنتهما الصغيرة، خشية أن تؤذي نفسها لو دخلت إلى مكانٍ خاطئ. عقبَ إنتهاء الغداء، نهضَ الضيوفُ لحمل صحون الوليمة إلى المطبخ. فلما أبدت العروسُ العزمَ على تكفّل مهمة غسل الأطباق، فإنّ المضيفة عقفت فمها وقالت: " لا مانعَ لديّ، لو رغبتِ بذلك! ". إلا أنّ أحمي أضفى الطرافة على جواب إمرأته، ومن ثم تعهّد بنفسه أمرَ الأطباق. بقيَ المسكينُ منهمكاً في المجلى، بينما طفلته تلعب بين قدميه. أدرك عندئذٍ دارين، لِمَ كانَ ثمة رنّة حَرَج في صوت صديقه، لما تكلمَ معه هاتفياً في الصباح كي يدعوه لوليمة الغداء.
في عامٍ مضى، وتحديداً عقبَ عودة دارين من غوتنبورغ، وضع أحمي نهاية مفاجئة لسلسلة المقالات الساخرة، التي كانَ يترجمها وينشرها في الصحيفة المعلومة. كانَ واضحاً، أنه فعلَ ذلك بطلب من خفيفو؛ هذا، مع أنه المفترض به أن يرمم علاقته بكاتب المقالات غبّ المجادلة بينهما. وهوَ ذا الثعلب الكبير، يبشّر صديقه بنيّته تأسيس مجلة أدبية، ويطلب منه نصوصاً. لكن صاحب المجلة، لما تأخّر الآخرُ عليه، عمدَ بنفسه إلى إنتقاء قصيدة من ديوانه الأول كي يترجمها وينشرها. في حقيقة الأمر، أنّ أحمي كانَ يودّ إظهار صداقته، وذلك بتأثير من همرين بالذات. إذ كانَ يؤمن بشاعريّة هذا الأخير، بالرغم من قلة معرفته باللهجة السورانية. لكن همرين كانَ شاعراً بالفعل، حتى لو لم يكتب أيّ قصيدة. أما بشأن مجلة دجلة، فإنّ دارين إنقطع عن التواصل معها، غير عابئ باستمرار وجود إسمه بين محريرها. زورو، حَسْب، مَن بقيَ على علاقة جيدة بصاحب المجلة.
زورو، أتى مع إمرأته للتبريك بوصول عروس دارين. وإمرأته كانت كما قلنا، إنسانة في غاية اللطف والطيبة. حالما دخلت العروسُ إلى الصالة، نهضت الضيفة كي تضع في إصبعها خاتماً ذهبياً دقيقاً توّج بفصّ من حجرٍ كريمٍ ما. في الأثناء، كانَ الضيفان يمسحان بنظرة مشتركة الأثاثَ القليل للصالة. خلا الصوان، المستعمل جانبه الأوسط كرفوف للكتب، فإن كل ما في الصالة كانَ من الأشياء المستعملة. جهازا التلفزيون والفيديو، كانا أيضاً مُعتبرين إلى حدّ ما. في ذلك الوقت، كانَ زورو قد إستأجرَ متجراً في أهم موقع من مركز المدينة، وكان الصندوق يُفرغ كل ساعةٍ من رزم الأوراق المالية كي تستقر في القاصّة الحديدية، الكائنة في المكتب الخلفيّ. إحتياطاً من النزعة اللصوصية، التي تنتابُ بعض الشبان المراهقين، فإن زورو إنتدبَ شاباً للمراقبة نظير راتب شهري صغير؛ وبالطبع، دونَ علم السلطات. هذا كانَ رَجُل " نوروز "، التي كانت على علاقة مع دارين قبل زهاء أربعة أعوام. لقد حضرَ من تركيا مؤخراً، غبّ إقترانه بإبنة عمه. لسببٍ ما، كانَ هذا القرويّ ينظرُ شزراً إلى صديق معلّمه. وقد فكّرَ هذا الأخير، قلقاً بعض الشيء: " هل كلمته نوروز عني، بطريقةٍ ما؟ أو أنّ أحداً، كالحوت مثلاً، راقبها وهيَ تذهب إلى مسكني في ذلك الكُريدور؟ ".
ذات مرة، كانَ دارين يستعد لمغادرة المتجر، حينما أتت إمرأة زورو: " هاكَ تذكرة الأوتوبيس، لأنها ما زالت سارية المفعول لساعةٍ أخرى "، قالت له. وإذا بإبن العم يعقف فمه، ليتمتم: " يا الله، كم البشر يعشقون كنزَ المال! ". عندئذٍ ودّ دارين لو يخاطب هذا المخبول، مُستعيراً كلامَ هنري ميللر: " يا إلهي، يا رجل، جدير بك أن تركع على ركبتيك وتشكرني. ألا ترى أنه صارت لديك " إمرأة " في بيتك الآن؟ ألا ترى أنها تضطرم بالشوق؟ أنت لا تدري كم هيَ لذيذة المرأة المدنّسة، وكيف يجعل تغيّر المني المرأة تزدهر! ".
على سبيل المصادفة أيضاً، كانَ دارين ممتطياً دراجته الهوائية حينَ مرّ بروكسانا ورَجُلها. كانا يتجولان في الوادي، المسّمى " غيبّين "، الذي تصبّ فيه العديد من دروب حي غوتسوندا. كانَ الوقتُ في بداية الخريف، وقد تناغم شَعرُ عشيقته الأصهب، المائل إلى الحُمرة، مع ألوان الأشجار في هذا الفصل من العام. كانَ راكبُ الدراجة الهوائية قادماً من خلف الزوجين، وقد أضطر إلى الإيغال في مسكبة الحبوب، تجنباً لإستعمال جرس المنبّه. وبالطبع، إجتازهما دونَ أن يلتفت إلى الخلف.
في الصيف المنصرم، شهدت تلك البقعة نفسها أحد لقاءات دارين بعشيقته. هذه البقعة، الأشبه بالفردوس، تدين في بهائها للجدول الصغير، الذي يترقرقُ معينه بين الأحجار والصخور، فيدور حول نفسه، كالحية الرقطاء، ليُشكّل شبه جزيرةٍ. ثمة وهدة، بعمق مترين تقريباً، يترنّحُ فيها الجدولُ، ويكتنفها بكثافة أجمة أشجار ونباتات عالية الساق. مستهينين بخطر وجود عين الرقيب، تواجد الحبيبان هناك كي يتراشقان بالمياه ويعبث كلّ منهما بأعضاء الآخر. ثم نزحا بجسديهما عبرَ النباتات إلى دربٍ مرتجل، تحف به الأجمات، لحين الوصول إلى مصطبة صخرية، مختفية تماماً وسط الدغل. ثمة، خلعا ملابسهما المبتلة ونشراها على أغصان الأشجار، وتمددا بعدئذ على الأرضية الرطبة. عوضاً عن مواقعة عشيقته، فتحَ معها موضوع زواجه. كونها عارية، كان يأملُ ألا تهتاج وتترك المكانَ دون أن تنصت إليه. فكم كانت دهشته كبيرة، لما علّقت بالقول: " أنا لم أفكر قط بطلب الطلاق، لأنني أدركتُ منذ البداية أنك من الصعب أن تؤمن لي حياة رغدة ". ثم أضافت، وهي تضرب وجهه بغصن جاف دقيق الحجم: " في وسعنا، لو شئتَ، أن نواصل علاقتنا. كل ما سيتغير، أنك ستعمد إلى التمثيل على إمرأتك وتتحمل كوابيس المعاشرة الليلية ".

2
" شنبُ الصرصار "، دعاهما أخيراً إلى الغداء؛ أو هكذا فهمَ دارين، على الأقل. هذا الأخير، كمألوف عادته في هكذا دعوات، مرّ مع عروسه على السوبرماركت وإشترى أصيص أزهار ما زال الندى يكسوها. بسبب علّة قلبه، كانَ السويديون قد أتاحوا الحياةَ المرفهة لفزاعة الطيور هذا، وكذلك منحوه مسكناً جميلاً لا يبعد كثيراً عن مركز المدينة. في مقابل كرمهم، كانَ يقوم بأعمال مخالفة للقانون مع تلك العصبة من المنحرفين، التي أتينا على ذكرها في مكانٍ آخر. على أية حال، جلسَ الضيفان تحت شجرة تفاح، تظلل جانباً من المنزل في جهته الخلفية. ولقد مرت الساعات، دونَ أن ينمّ خبرٌ عن الوليمة أو يتصاعد رائحتها الأولية من المطبخ. أخيراً، وَشوَشَ الفزاعة إبنة خالته فيما كانَ طرفيّ شنبه يتحركان صعوداً وهبوطاً. على الأثر، طلبَ منه دارين إستعارة دراجته الهوائية. ثم عاد بعد نحو نصف ساعة، مُحمّلاً بثلاث علب كرتون تحتوي أطباق البيتزا. في أثناء الأكل، أبدى الفزاعة شراهة فائقة بينما كانَ يرسمُ كلّ حينٍ إبتسامة منتصرة على فمه.
" آه، أنتم تتناولون الطعامَ وأنا أتيتُ كي أدعوكم إلى الغداء؟ "، قالت جارة الفزاعة وهيَ تتناول قطعة من البيتزا لتلتهمها. هذه المرأة، سبقَ أن تعرفنا عليها وكانت ما زالت في معسكر اللاجئين، الذي أقام فيه " جيجي " في مبتدأ حلوله في السويد. كانت قد أضحت شبيهة بالبطة، يتمايل جرمها الثقيل على قدمين رخوتين وركبتين مريضتين. خلا شهيتها المفتوحة دائماً، كانت قد حظيت بموهبة الغناء. مع أنّ صوتها كانَ يزعج الأموات حينما كانت تشدو في حديقة مقبرة تلك الكنيسة، القريبة من معسكر اللاجئين؛ وكانت قد إحتمت بها مع أولادها في إبّان صدور قرار قضائيّ بإعادتهم إلى سورية. إنها أيضاً محظوظة بحدب أولادها عليها، بالرغم من إهمالها الشديد لهم في مختلف مراحل أعمارهم. الإبن الكبير، وكانَ بعُمر الفزّاعة، كانَ يمدّها بين حين وآخر برزم من المال الأسوَد، الذي يجتنيه من عمله ـ كبارمان في مطعمٍ، يمتلكه أحد أقارب والده في مدينة تقع إلى الشمال من أوبسالا بنحو ساعتين. ولكن الإبنَ الأصغر، فضلاً عن اللصوصية، كانَ لا يصحو وصديقته السويدية من خبل الهيرويين. أما بناتها الثلاث، فإن إثنتين منهما تزوجتا وكانتا شديدتا الخجل قدّام زوجيهما من تصرفات أمهما، المخبولة والخبيثة في آنٍ واحد.
" على أية حال، أنتم مدعوون عندي على العشاء "، أردفت البطة وعلى شفتيها الإبتسامة البلهاء الخالدة. ما شجّعَ دارين على قبول الدعوة، كانَ وجود الستالايت في ذلك المسكن المجاور. كانَ يبتغي متابعة الأخبار من فضائية خليجية، كسرت آنذاك تابوات إعلام الأنظمة المستبدة في المشرق. وليمة العشاء، تبيّنَ أنها فروج مشوي في الفرن، حيث إقتطعت المضيفة نصفه ببراثنها وإختصته لنفسها. الكسل، أو ربما الشح والخصاصة، منع البطة من تحضير صحن سَلَطة. عندما أنهت إلتهام ما بيدها، أسقطت رأسها إلى مسند الكرسيّ وأغفت لبضع دقائق مع غطيطٍ مزعج. لكن الإزعاج الحقيقي، إستبدّ بالضيوف في الصالة، التي إنتقلوا إليها لشرب القهوة. إذ رفعت المضيفة عقيرتها، لتستهل بوصلة غنائية إستمرت لنحو نصف ساعة.
كون منزلها من نوع الفيلا الصغيرة ( راد هاوس )، وموقعه القريب من مركز المدينة، أضحى بمثابة معقد إجتماع عصبة من النساء المطلقات. شقيقة دارين، كانت إحدهن؛ وأكثرهن عراقة في النميمة. ثرثارة أخرى، إنضمت للمجموعة، وكانَ منزلها على نفس الطراز. إنها شقيقة " فهمي "، الذي عرفناه فيما مضى؛ ملامحها متناسقة مع شَعر مستعار، بسبب إصابتها مُبكراً بداء الثعلبة. وثمة إمرأة من كرد لبنان، شاءت تحدّي طليقها، المُساكن لفتاة سويدية، وذلك بتأسيس شركة محدودة ( بالطبع غير مسجلة رسمياً ) تتولى تنظيف الشقق قبل تسليمها لمستأجرين جدد. البطر والضجر، أمليا على هذه العصبة فكرة الإجتماع الدوريّ لحين أن أضحى يومياً تقريباً. في البداية، شكّلَ الستالايت تسلية رائعة لهن، وبالأخص مع المسلسلات المصرية. ما لبثَ المللُ أن إنتابهن، فأخذن بقضاء الوقت في تأليف قصص لا تقلّ خراقة عما يؤلّفه كتّاب الدراما إن كانوا مصريين أو سوريين أو حتى هندوسيين.
ذات سهرة، جاءت شقيقة دارين إلى المنزل المعلوم، وكانَ يلوح من ملامحها أنها مُروّعة وتحمل خبراً مثيراً. بعدما جلست ومررت المنديلَ على جبينها ورقبتها، بثت الخبرَ المنتظر: " جيجي، رحمه الله، أنتن سمعتن عنه؟ "
" جيجي مااااات؟ "، هتفنَ معاً. أستطردت صاحبة الخبر، بالقول مع رنّة أسى: " لقد مرّ أخي مساء أمس من أمام منزله في حارتنا، فسمع صوت القرآن. عندما إستفهمَ، أبلغوه أن جيجي توفيَ في فنلندا. طليقته وأم أولاده، أبدت شماتتها بالخبر ". توقفت عن الكلام قليلاً، ثم تابعت: " البلهاء الحمقاء! لقد جلبها المرحومُ إلى السويد مع أولادهما، لكنها لم تمكث أكثر من شهرين. لم تفكّر حتى بإبنها، المريض بالربو، وكانَ يُمكن أن يشفى لو بقيت في السويد ". شاركت الجليسات في ذم تلك المرأة، فعادت صديقتهن للقول: " أساساً، كانت قد جعلت حياة زوجها جحيماً حينَ كانَ ما زال في الشام ". هكذا وجدت عصبة المطلقات حديثاً شائقاً، طاردَ الضجرَ طوال عدة ساعات.
في سهرة اليوم التالي، كانَ على صاحبة النعي أن تفاجئ صديقاتها بخبرٍ أكثر جدّة. قالت والحموضة تسري في ملامحها القاسية: " تبيّنَ أن نبأ وفاة جيجي لم يكن دقيقاً، وشقيقي تواصل معه هاتفياً هذا اليوم. إنه ما برحَ يعيشُ عند تلك المرأة الفنلندية، التي ضحّى بأسرته من أجلها. لقد إشترت له مطعماً، بعدما أنجبت منه توأم صبيان. مع أنه غارقٌ في الترف، يبخل على أولاده في الشام ولا يرسل لهم سوى حفنة من الدولارات كل شهر. إمرأته المسكينة، معروفة بجمالها ورقيّها، وهيَ ابنة خاله فوق ذلك. لقد تحملت غطرسته وأنانيته، ثم هجرها من أجل تلك الفنلندية العانس "
" لا وفقه الله! "، هتفَ أكثر من صوت بين الحاضرات. ثم واصلت صديقتهن سرد ما تعرفه من سيرة ذلك الشخص المستهتر، وهن يعلقن في حماسة ويزدن من الدعاء.

3
في عامٍ سابق، حضرَ إبن عم البطة من فرنسا، أينَ يقيم في مدينة سالزبورغ، التاريخية. " أسعد " هذا، إرتبط بصداقة قوية مع دارين من أيام التنظيم الشبابي، الملحق بحزب الطبقة العاملة. عندما كانَ ما زال طالباً جامعياً في كلية الهندسة، دأبَ على الشكوى من معاملة الوالد القاسي، بتحريض من زوجته الشابة. الأم، كانت عجوزاً تقريباً، وبلا حول تحت سقف منزل طليقها. إلا أن الأب كانَ يهابُ إبنته الكبيرة، لا لشخصيتها القوية، حَسْب، وإنما أيضاً خشية أن تترك البيت وتسبب فضيحة. آنذاك، كان دارين بين شلة الأصدقاء هوَ الجوكر؛ وذلك لراتبه الممتاز من وظيفته في مؤسسة الإسكان. فإعتاد على دفع فاتورة معظم سهرات الأصدقاء، المزوّدة بوقود الراح، في هذا المطعم أو ذاك البار. بطبيعة الحال، كان ذلك يخفف قليلاً من عناء الشاب المضطَهد، ويجعل تركيزه أفضل في أثناء الدراسة. كون مدير مكتب وزير المواصلات، صديقاً لوالد دارين، فقد توسط لأسعد في العمل مراقبا ليلياً في مرآب السيارات بمقر الوزارة، الكائن على طرف شارع الحمراء. وكم كانَ المراقبُ يبتهج، حينما يفاجئه صديقه بزيارة عند منتصف الليل، حاملاً معه كيساً يحتوي على بضعة سندويشات شاورما من عند " أبي العبد " في بوابة الصالحية.
قبل حضور الصديق القديم، كان دارين قد تفقدَ أحوال رفيقهما المشترك، المدعو " زيدون "، المقيم في مدينة صغيرة، تقع إلى الشمال من أوبسالا بنحو ساعتين. إنها نفس المدينة، أينَ يعمل الإبنُ البكر للبطة. أساساً، فإن شقيقها هو وراء إزدهار حال صاحب ذلك المطعم ( كان إبن حميه )، الذي ينقلب إلى ديسكو صاخب أيام العطلات. ولا مندوحة من التعرّف على هذا الشقيق، واسمه " خالد "، المُتصف بكاريزما العمل الأسوَد؛ فمرة يفتتح مطعماً، ومرة أخرى فندقاً أو كازينو. لكنه كان كريماً، قياساً بشقيقته البطة، وأيضا بشقيقة أخرى تقيم في أوبسالا ومقترنة برجل من كرد تركيا، متورّط أيضاً في بينزنس مشابه.
ولنعُد إلى ذلك الرفيق، الذي أصيب في مبتدأ حلوله في السويد بالشلل، متأثراً بحادث سيارة. لقد كانَ زيدون ذات مساء بصُحبة عدد من رفاق معسكر اللاجئين، فقرر أحدهم أن يأخذهم بجولة في سيارته. عند أحد المنعطفات، وبسبب السرعة الزائدة، إنقلبت السيارة عدة مرات. الوحيد، الذي لم يكن ملتزماً بحزام الأمان، كانَ زيدون. هذه القصة المأسوية، كانَ الشاب المسكين على إستعداد لرواية تفاصيلها لكل من شاء مواساته. إنه ودارين كانا على معرفةٍ مسبقة، كونهما درسا في الإتحاد السوفييتي. بغية إظهار تعاطفه مع مأساته، سافرَ صديقه إليه بالقطار، وكانَ الوقت قبيل ليلة رأس السنة ببضعة أيام. كانَ زيدون قد حصل على شقةٍ فاخرة، ببناء لذوي الإحتياجات الخاصّة. حينَ أبدى دارين ملاحظة عن البدانة الطارئة، المفرطة، لذلك الصديق، فإن هذا أجابه مع إبتسامة حزينة: " أنا لا أُطعَم إلا بالبيتزا، مع أنني لا أتناول فطوراً ولا عشاءً ". ثم حدثه أيضاً عن سوء علاقته بشقيقه الكبير، المقيم في نفس المدينة، والمتخرج أيضاً من إحدى جامعات سان بطرسبورغ. وفي حقيقة الأمر، أنه يعزو ذلك الجفاء لإمرأة أخيه، التي كانت تتضايق من جلبة الكرسي ذي العجلات وما يعلق به من وحل. لكنها ظهرت بشوشة وكريمة، حينما دُعيَ زيدون وضيفه إلى سهرة ليلة رأس السنة في منزلها. ثمة، وجدا إمرأة سريانية مسنّة مع إبنتها، ما قلل من شعورهما بالحَرَج.
" صديقنا أسعد سيقضي عطلة الأعياد في السويد، بدعوة من إبنة عمه "، قال دارين لزيدون. ثم حمله على القبول بعودته معه إلى أوبسالا، مستخدمين القطار. من المحطة، أخذا سيارة أجرة إلى غوتسوندا. كان أسعد موجوداً سلفاً عند البطة، وقد خابرَ دارين وإتفق معه أن يلتقوا في مطعم ابنة عمه الأخرى، الكائن بالقرب من ساحة المدينة الرئيسية. من جديد، أستعملت سيارة الأجرة للوصول إلى المطعم. إبنة العم، كانت شبيهة بثمرة الباذنجان العفنة؛ قبيحة ومتكبّرة ولئيمة. لكنه كانَ لقاءً مُبهجاً، إستعاد فيه الصديقان ذكريات الصبا ومواقفَ تتسم بالطرافة. الباذنجانة العفنة، ضيفتهم قهوة سوداء. حينَ علمت بأنّ أسعد سيقضي السهرة عند دارين، شددت عليه المجيء في صباح الغد: " بكّر بالقدوم، لأن الفطور في مطعمنا موعده حتى الساعة العاشرة. وستأتي لوحدك، بالطبع! ". ثم سيارة أجرة مجدداً، والخلود إلى شقّة العازب، لقضاء سهرة حافلة بالشراب والمازة والموسيقى والنوادر والطرائف.
في اليوم التالي، كانَ من المفترض إيصال أسعد قبل حلول الساعة العاشرة، وإلا فإنه لن يجد من الفطور سوى الباذنجانة العفنة. كانت هناك على أية حال، ووصلوا متأخرين أكثر من نصف ساعة. لكن إبن العم، إحتياطاً، كانَ قد نقنقَ شيئاً قبل مجيئه. في المطعم، كانت ذريّة البطة كلها تخدم مجاناً؛ وذلك لتسديد دَيْن شقيقتها، التي موّلت تهريبهم إلى السويد عن طريق تالين. هذه الأخيرة، بقيت تنظرُ شزراً لصديقيّ ابن عمها، دونَ أن تأخذها شفقة بصاحب الكرسي ذيّ العجلات. زيدون، الذي تتأثر مشاعره الرهيفة حتى بالنسيم العليل، طلبَ من صديقيه أن يضعاه في القطار الذاهب إلى مدينته. ثمة، عند باب المقطورة، تجشّما مشقة حمله مع كرسيه. لقد كانت خاصرتاه متقرحتين، كون الكرسيّ لم يعُد يتسع الجرمَ الهائل لصاحبه.
لكن زيدون، كما إتضحَ لاحقاً، كانَ المرضُ النفسيّ يزحف إليه حثيثاً حتى خلقَ منه مخلوقاً مخبولاً في نهاية المطاف. كان يفتقر إلى عنصر الأمل، علاوة على إحساس دائم بالتظلّم: " لِمَ أنا الوحيد، من بين خمسة أشخاص تواجدوا في السيارة، الذي سيُصاب ويُعطب؟ ". هذه الحلقة المفرغة، تحوّلت مع مرور الوقت إلى دوامة عقدة نفسية مُستطيرة. كانوا قد زودوه بآلات رياضية ( جمناستيك )، فقام في ثورة جنون بتحطيمها. ثم أضحى جهاز التلفزيون خصماً، بما كانَ يعرضه من صوَر لأشخاص أصحاء على قدمين رشيقتين. فأمسك بالجهاز، وقذفه من النافذة. لحُسن الحظ، لم يُصب أحد بأذى. لكن إستدعيَ البوليس مع طاقم تمريض، وما لبثوا أن أودعوه في المصحّة النفسية لمدة أسبوعين. في أثناء ذلك، كانَ دارين يتواصل معه هاتفياً، فنصحه بالسعي لنقل مسكنه إلى أوبسالا كي يخرج من غائلة العزلة.
إقتنع زيدون بفكرة الإنتقال إلى مدينة أخرى، ومن ثمّ تلقى مساعدة من الكومون لتنفيذها. مُنحَ شقة جيدة في حي غوتسوندا، لا تبعد أكثر من خمس دقائق مشياً عن شقة دارين. لكنه لا يستطيع المشي، كحال صديقه والآخرين. من جديد بدأ يحطم ما بين يديه، وكانَ جهاز الكومبيوتر ضحية لإحدى نوباته. هذه المرة، تواصل دارين مع شقيق صديقه، الذي بشّره بالقول: " والدتي حصلت على الفيزا، وسنحاول حملَ السلطات على منحها الإقامة كي تهتم بإبنها ". عقبَ وصول الأم ببضعة أيام، إتصل هذا الأخير بصديقه: " أمي لم تحضر من أجل سواد عينيّ، بل بهدف الحصول على الإقامة! إنها وضعت في جهاز الفيديو شريطاً، يصّور حفلة وداعها مع الغناء والرقص. هذا، مع أنهم أعلموها ثمة بأنني بتُ مشلولاً ". عندئذٍ لم يكتفِ زيدون بكسر جهازيّ الفيديو والتلفزيون، وإنما عمد أيضاً إلى حبس والدته. عقبَ تلك المكالمة الهاتفية، حثّت آلاء زوجها أن يزور صديقه كي يرى جليّة الأمر. ثمة عند باب الشقة، إستقبل المريضُ صديقه وهوَ يضربُ إيقاعاً على طبلة. الأم، كانت منزوية في الصالة تردد أدعية دينية وفي يدها مسبحة. بين فينةٍ وأخرى، كانَ المريضُ يصرخُ موجّهاً بصرَهُ إلى السقف: " أيها الحقراء، كيفَ تضعون كاميرات مراقبة في الشقة؟ على الأقل، إمتنعوا عن ذلك حينما تكون والدتي عارية في الحمّام! ". لقد كانَ يستعيدُ ذكرياتِ دراسته في الإتحاد السوفييتي، حيث العديد من الطلبة الأجانب كانوا يتوهمون أن جهاز إنذار الحريق، المثبت في السقف، هوَ كاميرا تتجسس عليهم. إستأذن دارين في الإنصراف، وما عتمَ أن إتصل بالبوليس وأبلغهم بحالة صديقه. فيما أحتجز المريضُ مجدداً في المصحّة النفسية، فإن والدته كانت في طريقها بالقطار إلى تلك المدينة، أينَ يقيم ابنها البكر.

4
في أثناء وجوده عند دارين، فتحَ أسعد موضوعَ مساعدة صديق قديم قد إلتجأ إلى هولندا؛ وقد حصل على جواب أوليّ بالرفض، لأن إفادته غير مقنعة. هذا الصديق، وكانَ أصلاً من كرداغ، اسمه " حمدين "، ولديه إهتمام بالفن التشكيليّ من خلال لوحات رديئة ومقالات نقدية أكثر رداءة. إلى ذلك، سبّبَ إحراجاً كبيراً لأسعد في أيام النضال بمبتدأ عقد الثمانينات. إذ كانَ يعدّه صديقاً للحزب، يمدّه دورياً بالجريدة، التي يتصدرها شعار المطرقة والمنجل. إذا بحمدين يظهر على الأثر عند صندوق إنتخابات مجلس الشعب، وكيلاً لعضو بارز في الحزب الحاكم؛ بينما أسعد، كانَ وكيلاً عن حزب المطرقة والمنجل. لكن هذا الأخير ما لبثَ أن إنقلب ضد حزبه، حينما رفضوا إرساله للإتحاد السوفييتي كي ينال الدكتوراه.. هوَ من كانَ يقضي الليالي يحلمُ بالدُمى الروسية، السهلات المنال ـ كما كانَ يؤكّد كل من حظيَ بالدراسة هناك. على ذلك، عادت مياه الصرف الصحيّ إلى مجاريها، فاستأنف صداقته بحمدين. ولأن دارين قد تخلص أيضاً من الذكريات السيئة، فإنه بادرَ إلى الإتصال بأحمي، لكي يتدبّر ورقة من حزبه تؤكد أن ذلك البعثيّ العريق كانَ مناضلاً كردياً وملاحقاً من لدُن السلطة. بعد عودة صديقه إلى فرنسا، وصلت الورقة المطلوبة، فضمّنها في رسالة إلى حمدين. هذا الأخير، إستهل عندئذٍ بمراسلة منتظمة مع دارين لحين أن حصل على الإقامة. بعد ذلك، إنقطعت أخباره تماماً ولعدة أعوام.
في مبتدأ ذلك الخريف، وكانت إمرأة دارين قد شرعت بدراسة اللغة السويدية، إتصل الحوتُ كي يدعوهما إلى " حفلة شاي " في مسكنه. بادرَ فوراً للإعتذار عن الدعوة، لكنّ المتصل قال بسرعة: " هذه أم الأولاد، ترغبُ في التكلم مع إمرأتك ". على ذلك، لم يكن ثمة مهرب. في أول يوم عطلة نهاية الأسبوع، كانا أمام الفيلا، وقد لاحت حديقتها منتعشة بفضل سخاء السماء بالأمطار. عندما مرّا بإزاء باب المطبخ، في طريقهما إلى الصالة، زكمت أنفيهما رائحة زنخة. قال الحوتُ لضيفه: " هلم بنا إلى القبو، أين عالمنا الخاص بين الكتب ". ذلك المكان الموحش، كانَ مفتوحاً على حجراتٍ فاضت بأشياءٍ إشتريت من المزاد وسوق السبت؛ أو ربما عُثرَ عليها في غرفة الأشياء المستعملة، التوأم لغرفة القمامة.
في عامٍ سابق، كانَ دارين ما زال ينشط في النادي الكرديّ، عندما كانَ يدرّس مادة الرسم للأطفال. آنذاك، جاء الحوتُ إلى حجرة اللجنة الإدارية مُحَمّلاً ببعض الأواني النحاسية: " إشتريتها هذا الصيف من سوق مدينة ماردين، وتمثل بشكل رائع فن النقش على النحاس، الذي أشادَ به علماءُ الإثنوغرافيا الكردية "، قال لأعضاء اللجنة الإدارية وهوَ يرمش بعينيه. ثم طلبَ مبلغاً كبيراً، لقاء التنازل عن متحفه للنادي. أولئك الحمقى ( ربما بعضهم متواطئ سلفاً مع النصّاب )، كادوا أن يدفعوا له الثمنَ المطلوب. لولا أنّ دارين كانَ موجوداً بالصدفة، فصرخَ بالحوت: " هذه أشياء مستعملة، واضحٌ أنك إشتريتها بثمن بخس من سوق السبت في ساحة فكسالا ". أسقط في يد النصّاب، لما فقدَ التأييدَ، فعاد إلى لملمة المهملات النحاسية وإعادتها إلى البرذعة. في موقفٍ آخر، كانَ الحوتُ قد توجّه مع محاسب النادي إلى متجر إلكترونيات بهدف شراء جهاز تلفزيون. صاحبُ المتجر، وكانَ يهودياً، حينما علمَ أن الجهاز للنادي الكرديّ، فإنه تكرّمَ بمنحه كهدية. فيما بعد، ومن وراء المحاسب، جاء النصّاب بفاتورة مزوّرة لقبض ثمن الجهاز. وقد أُحبط مسعاهُ، كون المحاسب سبقَ وروى عن أريحية ذلك التاجر اليهوديّ. ولكن يُمكن أن تثبط همّة الخريف في تجريد الأشجار من أوراقها، ومن المُحال أن تثبط همّة الحوت في الإحتيال.
حفلة الشاي، تبيّنَ أنها عبارة عن ظرف " ليبتون "، أضيفَ إلى إبريق الماء الساخن. وبالطبع، كانَ ثمة بعض ثمار التفاح نصف العفنة، المقتطفة من شجرة الحديقة. وكانَ دارين قد فرّ من القبو، بعدما بُخِرَ من تدفق الثرثرة، التي لا يمكن إيقافها إلا بهكذا طريقة. في الصالة، واصل المُضيف عرضَ فكرته عن تأسيس مركز لأبحاث التاريخ الكرديّ: " سنحصلُ على التمويل من عدّة جهات سويدية، ونراسلُ أيضاً جامعاتٍ أوروبية ". وقال، أن المركز مبدئياً سيضمهما فضلاً عن الدكتور سيدو. هذا الأخير، كانَ مقيماً بشكلٍ مؤقت في شقة بنفس العمارة، أينَ مسكن دارين. أساساً، كانَ الرجلُ ضيفاً على رفيق حزبه، " المدعو " خمّو ". شيمةُ هذا الرفيق، هيَ أن يستضيفَ الأصدقاءَ والأقاربَ من داخل وخارج السويد، ثم يُحيلهم إلى عهدة الآخرين: " أنا سائقُ أوتوبيس، كما تعلمون، وأوقات عملي مختلفة ليلاً ونهاراً؛ فلا يُمكن ترك الضيف مع العائلة! ". في حالة الدكتور، وَجَدَ له مضافةً عند شقيقين من بلدة في شمالي سورية. أحدهما، واسمه " صلاح "، كانَ شاعراً؛ أو سمّه ما شئتَ. كانَ قد بترَ دراسته الفلسفية في الإتحاد السوفييتي، حينما أتته فرصة اللجوء إلى السويد. أما الشقيق الآخر، " عبدي "، الذي كانَ قد رافقه في رحلة التهريب، فإنه كانَ معتاداً على القول: " ليسَ بيننا من يجهل جليّة الأمر، كوننا جميعاً من خريجي الجامعات ".. وهوَ في حقيقته، لم يحصل سوى على الشهادة الإبتدائية. شأن شقيقه الأصغر، كانَ ما فتأ ناشطاً بحزب الطبقة العاملة، وتصلهما من الوطن دورياً الصحيفةَ، المُتوّجة برَسم المطرقة والمنجل. كونهما قدّما نفسيهما كلاجئين من كردستان العراق، بغيَة تسهيل حصولهما على اللجوء، فقد عاشا في قلقٍ مُقيم حتى بعدما حظيا بحق الإقامة الدائمة. إحتياطاً، أحاطا نفسيهما بشرنقةٍ من الأصدقاء العراقيين، عرباً وكرداً؛ فكانا يرطنان تارةً بلهجة ناظم الغزالي، وتارةً أخرى بلهجة حسن زيرك.
من ناحيته، كانَ الدكتور يواجه صعوبة في مسألة حصوله على حق اللجوء. إذ قدِمَ بجواز سفر سوريّ من ليبيا، أينَ كانَ يُدرّس في إحدى جامعاتها. على ذلك، وبهدف لفت أنظار المؤتَمَنين على ملفه في إدارة الهجرة، فبركَ له أحمي مقابلة صحفية في تلك الجريدة، التي كانَ مسئولاً عن صفحتها الثقافية. في المقابلة، التي كانت مطوّلة ونشرت على حلقتين، أسهبَ الدكتور في الحديث عن الميثولوجيا الكردية، مُعدداً رموزها ومُسهباً في شرح دلالاتها. هذا بالرغم من حقيقة، أنّ رسالته للحصول على الدكتوراه من جامعة دمشق، خلت تماماً من أي إشارة إلى الحضارات الكردية القديمة سواءً في سورية أو ميزوبوتاميا. لكن تلك الرسالة كانت لهدفٍ، وهذه المقابلة كانت لهدفٍ آخر.
على أية حال، توثقت صلة دارين بالباحث الكبير، وكانا يلتقيان كلّ مرةٍ سواءً في هذا المسكن أو ذاك. في إحدى المرات، كانت زميلة آلاء قد حضرت معها من معهد اللغة. كانت فتاة تشيكية، تجيد اللغة الإنكليزية بطلاقة. على سبيل المصادفة، كانَ الدكتور حاضراً قبيل مجيء الضيفة. بقيَ صامتاً، يُتابع حديثَ الصديقتين. ومن ثم توجّه للضيفة بجملةٍ بالإنكليزية، رسمت إبتسامة ساخرة على شفتيها. كانَ واضحاً أنّ لغته سيئة للغاية، الباحثُ الكبير، الذي ذكرَ على هامش رسالته للدكتوراه حوالي مائتي مصدر باللغة الإنكليزية. وقد سبقَ أن ظهرت الرسالة في كتابٍ ضخم، وحظيَ دارين بنسخةٍ مرقّشة بإهداء الكاتب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا