الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القدس؛ صورة اخرى للحنين ...

مهند طلال الاخرس

2024 / 4 / 24
الادب والفن


مازالت تنتابني نوبة حنين لتلك اللحظة على باب العامود وانا اشتري كعكها وزعترها المشهور، تلك اللحظة المفعمة بالحب والجمال والمزدحمة بحبات العيون...فالحنين هناك كشاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات.

فالحنينُ في القدس سيرة وحكايا وتاريخ وانين ..!!
الحنين أنين الحق العاجز عن البوح بما تختزنه الصدور من الم ، وبما تكتنزه العيون من دموع، وبما تكتنزه الارض من شوق لخطوات ضاربة في القدم، خطوات اصحاب الحق الاصليين...

الحنين؛ أنين البيوت المسلوبة، وتنهيدة الغائب المغدور، وروحه التي بقيت في ارض ولادتها ويرجع صدى نحيبها من المهاجر والمخيمات .

الحنين وجع لا يغادر صدر اللاجيء والمنفي والمغترب..
الحنين، هو الوجع الذي تسببه الذكريات وحكايا الجدات النابضة بها تجاعيد الزمان والناهضة من رماد النكبة الى قِبلة العودة.

الحنين وجع البحث عن ذكريات الاجداد في حقولهم وبياراتهم، وفي حكايا الفرح والوجع على السنتهم التي ارهقها الدعاء والبكاء على ايام وذكريات ذهب زمانها واطال الغياب.

الحنين وجع يحمل اجمل الذكريات من صور الامهات في الحقول والبيادر، الى صدى الضحكات التي بقيت في البلاد ولم تغادر.

الحنين كالجنين يحن دوما الى النطفة الاولى والكلمة الاولى والحياة الاولى.

وللحنين قصائد واشكال ومظاهر وصور وذكريات ايضا، لكن اجملها ذلك الحنين الذي تفوح به زقاق القدس وشوارعها وعتباتها تجاه كل ابنائها العائدين والقادمين للصلاة فيها، ولاشباع عينهم من جمالها، وللضياع في طرقاتها ان امكن .. كل تلك الاسباب موجبة لانطلاق نوبات الحنين، فحين يستفيق الوجع كل شيء يستباح..

كل نوبات الحنين فائقة الجمال، لكن تبقى تلك النوبات التي تتسبب بها القدس الاكثر جمالا وبهاء.

فالاوقات مجرد انها في القدس تكفي لان تكون جميلة ، لكن تبقى اللحظة الاجمل حين يُلقى عليك القبض في المدينة بدعوى عدم جواز دخول القدس بدون استئذان اصحابها؟!
كيف استأذن وانا ابن القدس و فلسطين..
كيف استأذن وقد امضيت عمري الملم تفاصيل الوجع و اجمع الذكريات..
كيف استأذن وقد رسمت في احلامي صور كل الطرقات التي تؤدي لفلسطين..
كيف استأذن وانا من يزدحم بكل انواع الحنين..

جاء صوت من بعيد، صوت اصيل، ينبع من فوهة الذكريات، وكأنه ينطلق من خابية الحنين..
صوت يرحب بكل العائدين والزائرين وشتى اصناف الناس والبشر ممن اوجعهم الحنين..

في القدس وانت تهبط مسرعا درجات باب العامود لتشتري كعكها وفلافلها المشهور، يحدث ان يلتقطك شخص ما، يعتريك الشك فلا تلتفت له، يربت على كتفك بتودد، فيلسعك دفيء المدينة ويشملك حنانها، تطمئن وتقرر ان تلتفت للخلف وتناظر وجها يمسك بك ويربت على كتفيك!؟

لوهلة ربما تعتقد ان جنود الاحتلال القت القبض عليك كمشتاق ومتسلل للمدينة !!

ولوهلة اخرى ينطلق بداخلك صوت آخر يخبرك ان في الامر إنّ، وبسرعة تطمئن للانّ، فهي خيارك الوحيد، فمن المعيب ان لا تطمئن قلوب العائدين لمدينتهم التي ارضعتهم لبن الحنين.

يحدث ان تستجيب لمراد القلب واحساسه الذي لا يكذب، فالقلب عادةً ما يصدق اصحاب الحب والحنين.

"عمار زوربا" صديقي ابن القدس الاصيل وفتاها النبيل كان ذلك الشخص الذي القى القبض عليّ عند باب العامود.

امسك بي وهزني ثم عانقني، تفاجئت به وبهذه الصدفة الاثيرة في اجمل مكان...
تبسم وتبسمت..وعانقته انا هذه المرة..
بقيت اثار التعجب تعتلي جبيني حتى قرأها عمار وقال: عشاك عندي الليلة. طبعا كانت دعوته هذه قد تبعت سؤاله الاول: كيف تدخل على القدس من دون ان تخبرني؟ فبنظره لضيوف القدس واحبابها وزوارها اصول مقدسية مرعية لا يمكن تجاوزها...

اخبرته بتاخر الوقت فالساعة تشير الى الثانية عشر ليلا، وانا متعب ومنهك من فرط التجوال، فمنذ الصباح وانا في حضرة الحنين (القدس).. وقد زدت وجعي بذهابي ليافا وتجوالي في شوارعها وبين بيوتها التي ماتت منذ ان غادرها ساكنوها..

يجب ان احاول اللحاق سريعا باخر حافلة تنطلق الى حاجز قلنديا ومنه الى رام الله حيث اقيم، قلت لعمار.

عاد والح عليّ بالبقاء على ان امتع نفسي بالمبيت في القدس ومحاولة عد النجوم من سطح بيتهم حتى آذان الفجر واكتساب فضل الصلاة فيها.

ذهب بي عمار بعيدا حين اسقط على مسامعي هواية ابناء المدينة المفضلة؛ عد النجوم في سماء القدس، يا الهي اتكون النجوم في سماء القدس كنجومنا في الشتات، قلت لنفسي لابد ان تكون اجمل واكثر، ففي السماء الدنيا نجوم مختلفة ومتعددة، تأخذ جمالها ومكانها بناء على حاجة الارض للدم والدوام وحاجة السماء للجمال والبهاء. هكذا تقول الاسطورة او هكذا اردت نجوم وطني...

كانت الظروف معاندة والوقت يسير بغير حساب، وهذا ما حاولت ان اشرحه لعمار.

اصر عمار على مرافقته الى بيته وتناول العشاء سويا، فبنظره وكما اسلفت وطبقا للاصول المقدسية المرعية لا يحق لي ان اتناول طعاما في القدس إلاّ في بيته الذي يطل على قبة الصخرة والاقصى...فأنا ضيفه العائد والذي تفوح من كلماته رائحة الشوق والحنين.

كانت تلك امنية لم احلم بها حتى في اجمل احلامي..
لكنها اللحظة والصدفة وقلب عمار الكبير، هو الذي يضع النهايات لاجمل الحكايات..

وصلت رام الله ولم اكن اعلم بان صورتي وعمار عند باب العامود قد سبقتني الى رام الله، ليست الصورة وحسب هي التي وصلت، بل كل تفاصيل اللقاء مع عمار، كان عمار قد ارسلها الى عنواني الدائم هناك (حسن فرج)، جلست وحسن في المقهى المعتاد [حكاية] وسريعا حضر صاحب البسمة الدائمة والوجه البشوش (سامي حسونة)، كان حسن يرتب فحمات الارجيلة حين حضر سامي، اخبرني سامي بقلقهم جميعا عليّ نتيجة انقطاع الاتصال معي منذ يومين، وزاد من وتيرة هذا القلق حين حاول سامي الاتصال بحسن اكثر من مرة ويجده مشغولا لاوقات طوال، مما اضطره للخروج متجولا في شوارع رام الله علّه يستطلع خبرا او يجد احدنا في الاماكن المعتادة للقائنا، كان خياره الاول خياره الاخير؛ مقهى حكاية، فقلوب المحبين مثل افئدة الطير تألف امكنتها الاولى، وجدنا سامي هناك، وما ان زلف المقهى حتى كان حسن بالكاد يغلق هاتفه.

كان وجه سامي على غير العادة مكفهر وقلق، حاولت طمئنته واخباره بالتفاصيل، نازعني حسن الحديث، ليس هذا وحسب؛ بل اخذ يقص عليّنا كل الاحداث والتفاصيل الخاصة بزيارتي للقدس ولقائي عمار هناك.

بفعلته هذه قطع عني حسن الماء والهواء، حتى ان صوتي اختفى خلف دخان الارجيلة، واسقط بيدي، هكذا قال سامي موجها حديثه لي.

انفرجت اسارير حسن وهش وبش..وعلت اصوات ضحكاته واخذت تملأ المقهى.. سقطت الفحمات عن راس الارجيلة حاول حسن تعديلها فلم يفلح من فرط ضحكاته..

وما ان تمالك حسن نفسه كانت الحكاية قد اصبحت لدى سامي بتفاصيلها.

خاطبني سامي قائلا: والله يا ابو طلال الليلة هذه رح تطلع عليك، واخيرا صادك ابو الوجد واخذ الميكرفون منك، وبيحكي عنك كمان، وعن قصة صارت معاك، والله هذه كبيرة.. وين فهمي، وين ابو النحل، وين عبد دولة وين شباب البقعة يشوفو ايش صارلك وايش جرالك..
يا حصرتي عليك يا ابو طلال..راحت لبلاد...

علت تعليقات سامي ومعها ارتفعت حرارة الجو والمقهى، تأخر الوقت، فخفتت الكلمات وعلت اصوات ضحكاتنا...

حضرت ارجيلة سامي واخذ يرتب موضع الفحمات عليها، اغتنم حسن الفرصة وهمس باذني، ابا طلال الحبيب:
إذا حملتك الاقدار مرة اخرى للقدس، وحدث ان جاءك الفرح على هيئة صديق مثل عمار زوربا ، لا تعتذر ..
أدخل الفرح وانفجر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد