الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذٰلِكَ ٱلْغَبَاْءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَاْرِيُّ: طُغَاْةُ ٱلْتَّعَلُّمِ أَمْ بُغَاْةُ ٱلْتَّغَلُّمِ؟ (1-3)

غياث المرزوق
(Ghiath El Marzouk)

2024 / 4 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


(1)

حِينَمَا يَنْتَهِي ٱلْقَانُونُ ٱنْتِهَاءً بِـ«ٱلْبَيَانْ»،
تَبْدَأُ ٱلْجَوْحَ، لَا شَكَّ، ٱبْتِدَاءً دَيَاجِيرُ ٱلْطُّغْيَانْ!
جون لوك

لَسْتُ مُدَلِّلا سياسيًّا بالمَعْنَى الرَّسْمِيِّ، ولا أنا حتى بِمُحَلِّلٍ سياسيٍّ بالمَبْنَى الاِسْمِيِّ، ولم يُسَاوِرْني أيُّ تَوْقٍ أو تشوُّفٍ إلى أن أتحلَّى بأيٍّ من هٰتَيْن الصفتَيْن، حسبما تقتضيهِ الحاجةُ أو حتى الرَّغبةُ. ولكنِّي أكتبُ، في هذه المناسبةِ الفريدةِ بالحينِ، أكتبُ إتباعًا عن مسألةٍ تكادُ أن تمسَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الشعبِ السوري في محنتِهِ الجحيميةِ والأسطوريةِ في آنٍ معًا، هذا الشعبِ العظيمِ الذي اختارَ، بمحضِ إرادتِهِ، أن يقفَ شامخًا في وجهِ نظامٍ طُغْيَانِيٍّ فاشيٍّ ظالمٍ دامَ أكثرَ من خمسينَ عامًا لزامًا. وكان هذا الوقوفُ الشعبيُّ المقدامُ والمُشَرِّفُ قد بدأَ، بالفعلِ، وفي بدايةِ مَا كانَ يُسَمَّى تَسْمِيَةً نجيعَةً، آنَئذٍ، بـ«ثورة الربيعِ الدمشقيِّ» Damascene Spring Revolution قبل أَحَدَ عَشَرَ عامًا، أو يزيدُ، من بَدْءِ اندلاعِ الثوَرَانِ الشعبيِّ العَارِمِ في طُولِ البلادِ وعَرْضِهَا. وقدْ طرحتْ تلك الثورةُ الدمشقيَّةُ، في أسماعِ الوطنِ العربيِّ وما وراءَهُ أيضًا، أغلبيةَ الشعاراتِ والأهدافِ التي طرحتْهَا «ثوراتُ الربيعِ العربيِّ» في كلٍّ من تونس وليبيا ومصر (وبالإضافةِ إلى اليمنِ، ومن ثَمَّ البحرينِ، إلى حَدٍّ مَا). حتى أنَّ مَا كانَ يُعْرَفُ، بعدئذٍ، بـ«ثورةِ البرتقالِ الأوكرانيِّ» Помаранчева Pеволюція، تلك الثورةِ التي اندلعتْ من خلالِ سلسلةٍ من الاحتجاجاتِ، في أواخرِ العامِ 2004 وأوائلِ العامِ 2005، قد عَكَسَتْ كذلكَ مَشْهَدَهَا التاريخيَّ، أوْ مشاهدَهَا التاريخيةَ، بشكلٍ أوْ بآخَرَ. وعلى الرَّغمِ من أنَّ هذا الوقوفَ الشعبيَّ العارمَ كانَ يتَّسِمُ بطابع سلميٍّ على أكثرَ من صعيدٍ، إلاَّ أنَّ «ثورةَ الربيعِ الدمشقيِّ» هذِهِ لم يَكُنِ الحظُّ حَلِيفَهَا، بأيِّمَا هيئةٍ كانتْ، وبالأخصِّ قدَّامَ مَا كانَ، ومَا زالَ، يحتازُهُ النظامُ الطغيانيُّ الفاشيُّ الحاكمُ من مَالٍ سياسيٍّ مُهَرَّبٍ ومن آلاتِ قتلٍ مستورَدةٍ. فجَاءَ اندلاعُ الثوَرَانِ الشعبيِّ العَارِمِ ذاك مُتَجَسِّدًا في اندلاعِ «الثورةِ الشعبيةِ السوريةِ» عَيْنِهَا في مطلعِ العامِ 2011 بمثابةِ «حتميةٍ تاريخيةٍ» لا بدَّ مِنْهَا، لا بمثابةِ استمرارٍ لِنُشُوبِ «ثوراتِ الربيعِ العربيِّ» في كلٍّ من تونسَ وليبيا ومصرَ، فحسْب، كما يظنُّ عددٌ لا بأسَ بِهِ من المحلِّلينَ السياسِيِّينَ والمعلِّقين الصِّحَافِيِّينَ. فكمَا أنَّ «الانتفاضةَ الشعبيةَ الأوكرانيةَ» (الأخيرةَ) قد تبدَّتْ تَبَدِّيًا بوصفِهَا اسْتِتْمَامًا موضوعيًّا لـ«ثورةِ البرتقال الأوكرانيِّ» تلكَ التي واجهت ثورةً مضادَّةً و«بَلْطَجِيَّةً» فُلُولِيَّتَيْنِ وفَاشِيَّتَيْنِ بغطاءٍ روسيٍّ مباشرٍ، فإنَّ «الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ» (الراهنةَ، آنئذٍ) قد تجلَّتْ تَجَلِّيًا، بدورِهَا هي الأُخرى، باعتبارِهَا اسْتِكْمَالاً موضوعيًّا لـ«ثورةِ الربيعِ الدمشقيِّ» التي واجهتْ قمعًا مضادًّا و«تَشْبِيحًا» مَافْيَوِيَّيْنِ وحتى طائفيَّيْنِ أشدَّ فاشيَّةً بغطاءٍ روسيٍّ (وإيرانيٍّ) مباشرٍ كذلك.

وكلُّنَا يعلمُ، في هذِهِ القرينةِ ذاتًا، كم كانَ الطَّاغيةُ الإجراميُّ الابنُ يميلُ مُتَعَشِّقًا ومُتَحَمِّسًا إلى استخدامِ ذلك «المجازِ الفُقَاعِيِّ» في عددٍ من المناسباتِ العِجَافِ، كمثلِ عبارتِهِ «التاريخيةِ» التي تَفَوَّهَ بِهَا تَفَوُّهَ العُنْجُهِيِّ السَّقِيمِ في خطابِهِ الشهيرِ، في دارِ الأوبرا بدمشقَ العَرِيقَةِ، «ثورةُ الربيعِ، كمَا هو فصلُ الربيعِ، عبارةٌ عن فقاعةِ صابونٍ سوفَ تختفي [سَرِيعًا]»، أو حتى كمثلِ عبارتِهِ «التاريخيةِ» الأُخرى التي نطقَ بِهَا بِنَبْرَةٍ أكثرَ عُنْجُهِيَّةً وأكثرَ سُقْمًا في حوارِهِ الشهيرِ كذاكَ، هو الآخَرُ، مع قناةِ «روسيا اليوم» باللغةِ العربيةِ الأُمِّ، «الأكاذيبُ بشأني فقاعاتُ صابونٍ قصيرةُ العمرِ، [تمامًا كحَالِ ثورةِ الربيعِ العربيِّ]»، إلى آخرِهِ من تلك العبارات «الفُقَاعِيَّةِ» السَّقيمةِ بالمعنى السَّرِيريِّ، ولا ريبَ في هذا بَتًّا. ثَمَّةَ، إذن، عداءٌ نفسانيٌّ اصطلاحيٌّ من نوعٍ جِدِّ خاصٍّ بينَ فصلِ الربيعِ ذاكَ وبينَ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ هذا، عداءٌ نفسانيٌّ اصطلاحيٌّ مردُّهُ، في الأصلِ، إلى بداياتِ اندلاعِ «ثورةِ الربيعِ الدمشقيِّ» بالذاتِ الآنفةِ الذكرِ قبلَ قليلٍ. وقد عَمَدَ إعلامُ هذا الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ عَمْدًا إلى إلصاقِ أقذعِ الشتائمِ وأقبحِهَا وأشنعِهَا بهذا «المجازِ الربيعيِّ»، وإلى حدِّ أنَّ فصلَ الربيعِ ذاتَهُ، على اعتبارِهِ فصلاً سريعَ الزَّوالِ كـ«الفُقَاعَةِ» بالإسهابِ المجازيِّ ذاتِهَا، أصبحَ شتيمةً قبيحةً شنيعةً في حدِّ ذاتِهِ. وهكذا، فقد ظلَّ خطابُ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الابنِ يعيدُ مرارًا على الأسماعِ فحواءَ خطابِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأبِ في المسائلِ الجوهريةِ كافَّةً، ولكنْ بتغييرٍ أسلوبيٍّ متعمَّدٍ ومقصودٍ ولافتٍ للنظرِ والاِنتباهِ، تغييرٍ من لغةِ افتعالِ كلٍّ من «الاستعلاءِ» و«الاستكبارِ» لدى الكاتبِ المأجُورِ المأمُورِ بكتابةِ خُطَبِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأخيرِ إلى لغةِ اصطناعِ كلٍّ من «الحذلقة» و«الفذلكة» لدى الكاتبِ المأجُورِ المأمُورِ، بدورِهِ هو الآخَرُ، بكتابةِ خُطَبِ الطَّاغيةِ الإجراميِّ الأوَّلِ. غيرَ أنَّ «الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ» التي انفجرتْ باندلاعِ لهيبِهَا الشعبيِّ العَارِمِ ذاكَ، حِينَمَا «أَتَاكِ الرَّبِيعُ الطَّلْقُ يَخْتَالُ ضَاحِكًا» أيَّمَا خُيَلاءٍ واختيالٍ، كانتْ قدْ وضعتِ الطَّاغيةَ الإجراميَّ الابنَ، هٰهنا بالمكانِ وهٰهناكَ بالزمانِ، أمامَ محكِّ مصيرٍ حَاسِمٍ مُقَرَّرٍ تقريرًا كانَ، وما زالَ، أبعدَ وقعًا وتأثيرًا وعاقبةً بكثيرٍ من لغةِ الشتائمِ القبيحةِ والشنيعةِ التي ألصقَهَا كلَّ الإلصَاقِ باللسَانِ الذَّريبِ هو وإعلامُهُ العتيدُ بفصلِ الربيع في حَدِّ ذاتِهِ. وفي التَّجَلِّي الأَخِيرِ والتَّجَلِّي مَا بعدَ الأَخِيرِ، إذن، وليستْ فصولُ «فقاعاتِ الصابونِ» بالذاتِ والذوَاتِ تلكَ، في واقعِ الأمرِ، سوى أبكرِ الفصولِ التي اجترَّهَا هذا الطَّاغيةُ الإجراميُّ الابنُ (المَصْنُوعُ) اجترَارًا – ولا شكَّ، لا شكَّ، في هذا البتَّةَ، للتأكيدِ مرَّةً أُخرى.

في هذِهِ البلادِ العربيةِ الحزينةِ والرَّثِيمَةِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، لمْ يتوقَّفْ أزلامُ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ، أيًّا كانَ من الماءِ إلى الماءِ، عن الخِدَاعِ البَخْسِ لِسَائِرِ الشعوبِ المغلوبةِ على أمرِهَا، وذلكَ من أجلِ استمرَارِهِمْ في البقاءِ مَدًى ومَدًى في أكنافِ سُلْطَتِهِم مُطْلَقَةً بالذاتِ، ولمْ يتوقَّفْ هؤلاءِ الأزلامُ أيضًا عن التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارِخِ بأنَّهم ليسُوا من نوعِ «العَمَالَةِ» للأجنبيِّ، ولا حتى من أيِّ شكلٍ من أشكالِ «التَّبَعِيَّةِ» لهُ، في شيءٍ. وما الغايةُ المَرْجُوَّةُ من هذا الخِدَاعِ البَخْسِ ومن هذا التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارخِ، في حقيقةِ الشأنِ، سوى تكبيلِ الشعوبِ المغلوبةِ على أمرِها تلكَ، وإكراهِها من ثَمَّ على التخلِّي حتى عن التطلُّع إلى حريَّاتِها المُسْتَحَقَّةِ، بذريعةٍ فظيعةٍ أو بأُخرى. فليسَ مُسْتَبْعَدًا ولا مُسْتَغْرَبًا، إذن، أن تكونَ تلك الأنظمةُ الطُّغْيَانِيَّةُ الفاشيَّةُ الحاكمةُ، بأسرِها من الماءِ إلى الماءِ – لكي نعيدَ الإرْدَافَ مَرَّةً أُخرى، قد توصَّلتْ إلى هذِهِ الغايةِ المَرْجُوَّةِ، بأُحْبُولةٍ ذَلُولَةٍ أو بأُخرى، وذلكَ استئناسًا سَنِيًّا بِمَا أدْلَتْ بِهِ الكاتبةُ البريطانيةُ آني بيزَنْتْ، ذاتَ مَرَّةٍ: «إِنَّ الشُّعُوبَ [كَافَّةً، حَقِيقَةً] لَا تَتَخَلَّى عَنْ حُرِّيَّاتِهَا المُسْتَحَقَّةِ اسْتِحْقَاقًا إلاَّ تَحْتَ وَطْأَةِ الخِدَاعِ وَالتَّضْلِيل». ولٰكِنْ، ويا لَلْعَجَبِ العُجَابِ، هٰهنا، مَا إنْ يبدأُ التدخُّلُ الأجنبيُّ المباشرُ، أو غيرُ المباشرِ، في شؤونِ هذِهِ الدولةِ «الجُمْهُورِيَّةِ»، أو تلكَ الدولةِ «الجُمْلُوكِيَّةِ» بالتَّوَازِي، وعلى الأخَصِّ في أزمنةِ اندلاعِ «الثوراتِ الشعبيةِ»، أو نُشُوبِ «الحُروبِ الأهليةِ»، حتى يُفْتَضَحَ أمرُ هذا الخِدَاعِ البَخْسِ وهذا التَّضْلِيلِ السَّافرِ والصَّارخِ، قبلَ أن يُفْتَضَحَ أمرُ أيِّ شيءٍ آخَر – وكانَ التدخُّلُ الإيرانيُّ والروسيُّ في شؤونِ سوريا على المَلَأِ المَلِيءِ يَسِيرُ جَهْرًا، وكانَ التدخُّلُ الأمريكيُّ و/أو البريطانيُّ، كذلكَ، من وراءِ الكواليسِ يَسِيرُ سِرًّا. من هنا، يتجلَّى نفاقُ الغربِ «الديمقراطيِّ»، أكثرَ مَا يتجلَّى، في سَعيِهِ وراءَ «إنقاذِ» طُغَاةٍ إجرَامِيِّينَ لمْ يَحِنْ لَهُمْ، بعدُ، أن يتعلَّمُوا من ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ الذي تَعَامَى بِهِ أسلافُهم من الطُّغاةِ الإجرَامِيِّينَ «الأَمَاثِلِ»، وقد تلقَّوْا نهايتَهُمُ الوخيمةَ، لا مَحَالَ لا مَحَالَ، وسَوَاءً كانتْ هذِهِ النهايةُ اِقصاءً أمْ اعتقالاً أمْ حتى إعدامًا أوْ قتلاً. ومن هنا، أيضًا، يتجلَّى نفاقُ الغربِ «الديمقراطيِّ» هذا بالذاتِ، أكثرَ ما يتجلَّى، في ذلك التناقضِ الكبيرِ بينَ التصريحَيْنِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ إذَّاكَ حولَ التعاملِ «الإنسانيِّ الحَمِيمِ» مع الموضوعِ السوريِّ، تحديدًا، ذينكَ التصريحَيْنِ اللذينِ خَلَصَا إلى نتيجةٍ مفادُها ليسَ الحفاظَ على النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ في سوريا (لمآربَ إمبرياليةٍ معروفةٍ) فحسْب، بل كذلكَ – والأنْكَى من ذلكَ كلِّهِ، تَمْوِيهَ فحوى العلاقةِ العضويَّةِ المعقَّدةِ الشَّائِكَةِ بينَ تلكَ «الديمقراطياتِ» الليبراليةِ الغربيةِ وبينَ هذِهِ الديكتاتورياتِ الأوتوقراطيةِ «العربيةِ»، أَيْنَمَا حَلَّتْ.

ومَعَ الإقرارِ الرَّسْمِيِّ الذي أقرَّتْ بِهِ بضعةٌ من هذِهِ الديكتاتورياتِ الأوتوقراطيةِ «العربيةِ» بأنَّ منظَّمةَ مَا يُسَمَّى بـ«حزبِ الله»، على سبيلِ المثالِ، إنَّمَا هي منظَّمةٌ مأجورةٌ إرهابيةٌ بامتيازٍ، صَارَ واضحًا وجليًّا أكثرَ من أيِّ زمَانٍ مَضَى بأنَّ المشروعَ الأمريكيَّ بالعَيْنِ لم يفشلْ في تعاملِهِ « الإنسانيِّ الحَمِيمِ» مَعَ الموضوعِ السوريِّ، على الإطلاقِ. لكنَّهُ تظاهرَ مُذَّاك بالفَشَلِ الذَّريعِ عن عَمْدٍ وعن دِرَايَةٍ، وبالأخصِّ أمامَ تمدُّدِ وتَمَادِي المشروعِ الإيرانيِّ برعايةٍ «أشدَّ حَمِيمِيَّةً» من المشروعِ الروسيِّ بالذاتِ، بحيثُ إنَّ هٰذينِ المشروعَيْنِ الأخيرَيْنِ – والأهمُّ من ذلكَ كلِّهِ، كانَا قدْ أدَّيَا مَا أدَّيَاهُ بمَا يتواءَمُ ومصَالحَ المشروعِ الصُّهْيُوني بالذاتِ، هو الآخَرُ. عِلاوَةً على ذلكَ، وفيمَا يتعلَّقُ بالثورةِ الشعبيةِ السوريةِ منذُ بواكيرِ اندلاعِهَا، على وجهِ التحديدِ، فإنَّ ما يُعْرَفُ الآنَ بـ«نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ كانتْ، ولَمَّا تَزَلْ، أسْوَأَ، لا بَلْ أشدَّ سُوءًا وأشدَّ وَطْأَةً، بكثيرٍ من «الڤيتو» الروسيِّ الذي تكرَّرَ أكثرَ من ثلاثِ مراتٍ حتى، ولا شكَّ في هذا بتاتًا. ففي حينِ أنَّ كارثةَ «رَافِضِيَّاتِ الڤيتوهاتِ» الروسيةِ الأكثرِ من ثلاثٍ قدْ أسفرتْ إسْفَارًا – هذا صَحِيحٌ، عن قتلِ وعن تشريدِ المواطناتِ والمواطنينَ السوريِّينَ العُزَّلِ والأبرياءِ بمئاتِ الألوفِ عَدًّا أمَامَ آلاتِ الموتِ العشوائيِّ، فإنَّ طامَّةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ بالحَافِ قد أفضتْ إفْضَاءً، بدورِهَا هي الأُخرى، إلى قتلِهِمْ وإلى تشريدِهِمْ بالملايينِ بالعَدِّ أمامَ آلاتِ الموتِ العشوائيِّ نفسِهَا، إن لمْ تَكُنْ أشدَّ شرَاسَةً وأشدَّ فَتْكًا منهَا حتى. ذلك لأنَّ أولى «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ قدْ حالتْ حُؤُولاً يقينيًّا دونَ إنشاءِ منطقةِ «حظرٍ جويٍّ» من أجلِ حمايةِ الشعبِ السوريِّ الأعزلِ من القصفِ الوحشيِّ المتواصلِ من طرفِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ، وبمشاركةِ كلٍّ من أسيادِهِ وأحلافِهِ وميليشياتِهِ المعروفةِ بالأدنى التخمينِيِّ على الصَّعِدَيْنِ الإقليميِّ والدُّوَلِيِّ، قبلَ كلِّ شيءٍ. وذلكَ لأنَّ ثانيةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ كذاكَ قدْ منعتْ من تشكيلِ «جيشٍ سُوريٍّ وطنيٍّ» حقيقيٍّ قوامُهُ من الضُّباطِ والجُنودِ الذين انشقُّوا بدئيًّا عن جيشِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الفاشيِّ الحاكمِ بأعدادٍ هائلةٍ في واقعِ الحَالِ، مِمًّا أدَّى إلى شَلِّ حركةِ هؤلاءِ المنشقِّين شَلاًّ تامَّا، بعدَ كلِّ شيءٍ. وذلكَ لأنَّ ثالثةَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ هذِهِ كانتْ كذلكَ قدْ حظَّرتْ كلَّ التحظيرِ على مَنْ تبقَّوْا مِمَّا سُمِّيَ بـ«الجيشِ السُّورِيِّ الحُرِّ» احتيازَ أيٍّ من الصَّوَارِيخِ المضادَّةِ للطيرانِ، مثلاً لا حَصْرًا، بغيةَ التَّصَدِّي الفعَّالِ للقصفِ الوحشيِّ المتواصلِ، الآنفِ الذكرِ. وقدْ رَدَّدَتْ تحليلاتٌ سياسيةٌ كثيرةٌ أصداءَ «نُكرَانِيَّاتِ اللاءاتِ» الأمريكيةِ الثلاثِ المَعْنِيَّةِ هذِهِ، بنَحْوٍ أو بآخَرَ، حينذاكَ، بيدَ أنَّهَا لمْ تَسْتَرْعِ أيًّا من ذينكَ الانتباهِ والاهتمامِ الكافِيَيْنِ والوَافِيَيْنِ، حقيقةً، إلاَّ بعدَ أنْ سَبَقَ السَّيْفُ العَذَلَ، وَيَا لَلْأَسَفِ الشَّدِيدِ!

وهٰكذا، وبسببٍ من هٰذا القَتْلِ البَهِيمِيِّ ومن هٰذا الدَّمَارِ الجَحِيمِيِّ، دونَ غيرِهِمَا، بَاتَ الكثيرُ من بناتِ وأبناءِ هٰذا الشعبِ السُّورِيِّ الأبِيِّ العَظِيمِ، سَوَاءً تواجَدُوا في الدَّاخِلِ أمْ حتى تَشَرَّدُوا في الخَارِجِ، بَاتُوا يعتقدونَ الآنَ اعتقادَ المُتَيَقِّنِينَ كُلِّيًّا، أو بالكَادِ، بأنَّ الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ هٰذِهِ لَمْ تُحَقِّقْ لَهُمْ أيَّ شيءٍ، في حقيقةِ الخَطْبِ بَتَّةً، مِمَّا كانوا يتوقونَ أشدَّ التَّوْقِ إليهِ من حريةٍ ومن كرامةٍ ومن عدالةٍ اجتماعيةٍ – وإن كانتْ، مَعَ ذلكَ، في الحُدُودِ الدُّنْيَا، بادئَ ذِي بَدْءٍ. ولٰكنَّ الواقعَ الفعليَّ، حتى بكلِّ كآبتِهِ وبكلِّ مرارتِهِ وبكلِّ قماءَتِهِ فِيمَا يَنْجَلِي، إنَّمَا يقولُ لَهُمْ قَوْلاً دونمَا تردُّدٍ أو حتى تلكُّؤٍ: «فعلى الرَّغْمِ من أَنَّ هٰذِهِ الثورةَ الشعبيةَ السوريةَ تبدُو، في ظاهِرِ الأمرِ، أنَّهَا تسيرُ من «آلٍ سَيِّءٍ إلى مَآلٍ أَسْوَأَ»، إلاَّ أنَّهَا قدْ حَقَّقَتْ، على أقلِّ تقديرٍ، هدفَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ لَمْ تحقِّقْهُمَا أَيَّةُ ثورةٍ، أو حتى أَيَّةُ انتفاضةٍ، شعبيةٍ فعليَّةٍ على هٰكذا نظامٍ طُغْيَانيِّ فاشيٍّ ظالمٍ منذُ أكثرَ من خَمْسِينَ حَوْلاً «مُحْتَلاًّ» – حتى لَوْ تظاهَرَ طاغيةُ هٰذا النظامِ ومَنْ وَالَاهُ باسْتِتْبَابِ القانونِ بالبَيَانِ (على النقيضِ مِنِ اجْتِيَاحِ دَيْجُورِ الطُّغْيَانِ)، وحتى لَوْ أصْدَرَ، مِمَّا أصْدَرَهُ في الآونةِ الأُولى والأخيرةِ، مَرْسُومًا تشريعيًّا يَقْضِي، من جُمْلَةِ مَا يَقْضِي، بمنحِ عفوٍ شاملٍ لكلِّ مواطنٍ قدْ حملَ السلاحَ، أو قدْ حَازَهُ لِأيِّمَا سببٍ من الأسبابِ، ولكلِّ مواطنٍ كانَ أصْلاً فَارًّا من وَجْهِ العدالةِ، أو كانَ متواريًا عن الأنظارِ كلَّ التَّوَارِي، ثمَّ بادرَ «مُهْتَدِيًا مِنْ لَدُنْ هَادٍ في السَّمَاءِ اهْتِدَاءً» إلى تسليمِ نفسِهِ لهٰكذا نظامٍ بأسرعِ وقتٍ ممكنٍ، مع ذٰلكَ». ويمكنُ، هٰهنا بعدَ كلِّ ذاكَ، إيجَازُ هٰذينِ الهدفَيْنِ الأَسَاسِيَّيْن، على النَّحْوِ التَّالِي: أولاً، تقليصُ الفَوَارِقِ المَادِّيَّةِ و/أو المعنويَّةِ بينَ «الحَاكِمِ» و«المَحْكُومِ» تقليصًا مَلْحُوظًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثِيلٌ: إذْ لمْ تبقَ إذَّاكَ صُورةٌ أو جداريةٌ للطاغيةِ الإجْرَاميِّ الابنِ، أو حتى للطاغيةِ الإجْرَاميِّ الأبِ، إلاَّ وتمزَّقتْ ثمَّ تهشَّمتْ، ولم يبقَ تمثالٌ أو صَنَمٌ لأيٍّ منهُمَا إلاَّ وتصدَّعَ ثمَّ تحطَّمَ، في غُضُونِ السنتَيْنِ الأولَيَيْنِ من اندلاعِ الثورةِ الشعبيةِ السُّورِيَّةِ، وبغضِّ الطَّرْفِ كُلِّهِ عن أولئكَ المؤيِّدينَ، أو «المُنَاصِرِينَ»، الجَلِيِّينَ أو الخَفِيِّينَ، أولئكَ الذينَ لا يَعْدُونَ أنْ يكونوا أَقْنَانًا عِتَافًا بِغِرَارِ طُفَيْلِيَّاتٍ مرئيةٍ أو لامرئيةٍ، ليسَ غيرَ. وثانيًا، تقليصُ الفَوَارِقِ المَادِّيَّةِ و/أو المعنويَّةِ أيضًا بينَ «الغنيِّ» و«الفقيرِ» تقليصًا مَلْحُوظًا لَمْ يَأْنِفْ لَهُ نَظِيرٌ كذٰلكَ: إذْ أَنَّ الأغلبَ السَّاحِقَ من أولئكَ الذينَ كانوا يعتبرونَ أنفسَهُمْ كلَّ الاعتبارِ مِنْ «طبقةِ الأغنياءِ» أصْلاً، بِمَنْ فيهِمْ أولئكَ الذينَ كانوا يسْعَوْنَ أيَّمَا سَعْيٍ (وإلى حَدِّ اللُّهَاثِ) وَرَاءَ الاِنْتِمَاءِ إلى هٰكذا طبقةٍ بنحوٍ أو بآخَرَ، لم يكونوا في سَرَائِرِ أنفسِهِمْ يَتَمَنَّوْنَ اندلاعَ ثورةٍ شعبيةٍ عَارِمَةٍ كهٰذِهِ، في وَاقِعِ الحَالِ، وذٰلك لأنَّهَا «ثورةٌ» قدْ أفقدتْهُمُ الكثيرَ الجَمَّ حَقًّا مِمَّا كَانَ يُمَيِّزُهُمْ، أو كَانَ يُفَرِّدُهُمْ حتى، عن «طبقةِ الفقراءِ والمُعْدَمِينَ» بالذاتِ، كالمَالِ والنفائسِ والعقاراتِ، وغيرِهَا.

فأمَّا الذين لا يملكون، هٰهنا، حتى شَرْوَى نَقِيرٍ، فالإشرَاقَاتُ البَيِّنَاتُ من كَلامِ الحَقِّ تقولُ لَهُمْ كذاكَ، بطبيعةِ الحَالِ: «لا تَخَافُوا وَلا تَجْزَعُوا وَلا تَقْنُطُوا، وَقُولُوا إنَّ اللهَ مَعَنَا». ولا أعني هُنَا أيضًا، بِأَيَّتِمَا عِبَارَةٍ كانتْ، ذلكَ «اللهَ» الذي لَمْ تَفْتَأْ كلُّ طَائِفَةٍ من تِيكَ الطَّوَائِفِ «المُثْلَى» تنظرُ إليهِ نظرتَها الأُحاديةَ والنهائيةَ دونَ سِوَاهَا قَاطِبَةً، والذي لم تَنْفَكَّ تَقْتَتِلُ جُلاًّ باسْمِهِ أعنفَ الاِقْتِتَالِ حتى هذِهِ اللحظةِ من هٰكذا زَمَانٍ «كُورُونِيٍّ» عَصِيبٍ. وأمَّا الذين آثَرُوا أيَّمَا إِيثَارٍ أنْ يكونوا عبيدًا مَاهِنِينَ عِتَافًا أَذِلاَّءَ كلَّ الذُّلِّ لِأَيٍّ من أولئكَ الطُّغَاةِ الإجرامِيِّينَ وأَمْثَالِهِمْ، ومَا بَرِحُوا ينافِحُون بكلِّ مَا أوتُوا من قُوَّةٍ ومن عَزْمٍ وتحمُّسٍ عن عبوديَّتِهِمْ وعن مَاهِنِيَّتِهِمْ هٰتينِ، فأقولُ لهم كذاكَ، على الأَقَلِّ كَمَا قالَ بنجامين فرانكلين في هٰكذا سِيَاقٍ عن يقينٍ مُطْلَقٍ أو حتى شِبْهِهِ، ذاتَ مرَّةٍ: «مَنْ يُضَحِّي بِحُرِّيَّتِهِ المُسْتَحَقَّةِ [كُلاًّ أوْ جُلاًّ] مِنْ أَجْلِ أَمْنِهِ، لا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّةً وَلا يَسْتَحِقُّ حتى أَمْنًا». وأما الطُّغَاةُ الأغبياءُ أنفسُهُمْ، فأقولُ لهُمْ هُمُ الآخَرُونَ كَمَا قالَ أَزْدَشِيرُ بنُ بابك، ذاتَ يومٍ: «وَلَئِنْ رَغِبَ الحَاكِمُ عَنِ العَدْلِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، رَغِبَتِ الرَّعِيَّةُ عَنِ الطَّاعَةِ، لا مَحَالَ». فَمَا الذي تَرْتَقِبُونَهُ، أيُّهَا الطُّغَاةُ الأغبياءُ، حِينَمَا تَرْغَبُ الشعوبُ عَنِ هٰذِهِ الطَّاعَةِ النَّدِيَّةِ؟ – ولِهٰذا الكَلَامِ بَقِيَّةٌ!

(2)

فَأَمَّا ٱلْنَّفْسُ ٱلْوُضْعَى فَتَبْغِي ٱلْجَوْرَ كَيْ تَقَوَّى فِي أَرْضِ ٱلْعَمَاءْ،
وَأَمَّا ٱلْنَّفْسُ ٱلْعُظْمَى فَتَشْتَهِي ٱلْعَدْلَ كَيْمَا تُحَلِّقَ فِي عَنَانِ ٱلْسَّمَاءِ!
أونوريه بَالْزاك

ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ، مثلمَا يُدلي بِهِ العنوانُ هكذا بِصَرِيحِ العبارةِ، إنَّما هُوَ دَاءٌ نفسيٌّ عُضالٌ يستحْوذُ أيَّمَا استحواذٍ على ذِهْنِيَّاتِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ كافَّتِهِم، أنَّى تواجَدُوا عَنْوَةً في أصقاعِ هذا العَالَمِ العربيِّ الكئيبِ، وأمثالِهِ في أرجاءِ ذاك العَالَمِ اللاعربيِّ في المقابلِ. فلا غَرْوَ أنْ يتَّصفَ هذا الدَّاءُ النفسيُّ العُضَالُ، والحَالُ هذِهِ إذنْ، باتِّصَافٍ فِطْرَانِيٍّ واتِّصَافٍ خِبْرَانِيٍّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ)، في آنٍ واحدٍ. فهُوَ، من ناحيةٍ أولى، دَاءٌ فِطْرَانِيٌّ بطبيعتهِ لأنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ المَعْنِيَّ ليسَ فردًا مُتَفَرِّدًا قائمًا في ذاتِهِ ولِذاتِهِ، هكذا كيفمَا اتَّفق، بَلْ فرعًا مُتَفَرِّعًا، في الأساسِ، عن جَذْرٍ تَالِدٍ يتغلغلُ، أو حتى عن جُذُورٍ تليدةٍ تتغلغلُ، في ثنايَا «نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ» Totalitarian Regime، كمَا يتبدَّى للعِيَانِ هكذا، نظامٍ مُفْتَعَلٍ افتعالاً محلِّيًّا ظاهريًّا وكذاك مُصْطَنَعٍ اصطناعًا أجنبيًّا باطنيًّا، في المقام الأول. ذلك لأنَّ أيَّ نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ كهذا، ناجزٍ بأيِّ شكلٍ من أشكالهِ الظاهرِيَّةِ والباطنيَّةِ هذِهِ، لا يعْدُو أنْ يكونَ، في حقيقةِ الأمرِ، شكلَ «نظامٍ أبَوِيٍّ» Patriarchal System، كمَا يتبدَّى للعِيَانِ أيضًا، نظامٍ وِرَاثِيٍّ ومُتَوَارَثٍ أبًا عن جَدٍّ يطمعُ في الدَّوامِ المُطْلَقِ في الحُكْمِ الأبَدِيِّ إلى يومِ يُبْعثُونَ – سواءً تسرْبَلَ هذا النظامُ الوِرَاثِيُّ والمُتَوَارَثُ، في التَّجَلِّي الازدواجيِّ، بِسِرْبالٍ مَلَكِيٍّ أو عَاهِلِيٍّ سَافرٍ أم تقنَّع بِقناعٍ جمهوريٍّ أو حتى «اشتراكيٍّ» طافرٍ. وهُوَ كذاك، من ناحيةٍ أخرى، دَاءٌ خِبْرَانِيٌّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ) بتكوينهِ أيضًا لأنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ المَعْنِيَّ عَيْنَهُ يَكادُ أنْ يُعيدَ بالعُنُوِّ لِعَيْنِ النَّاظِرِ المنتمي، أو حتى باللاعُنُوِّ لِعَيْنِ النَّاظِرِ اللامنتمي، بِناءَ عَيْنِ المَشاهِدِ السياسيةِ أو المُسَيَّسَةِ بالحذافيرِ واحدًا واحدًا، تلك المَشاهِدِ التي تَجَلَّى فيها مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أسْلافِهِ مِنَ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ «الأَمَاثِلِ» – سواءً كذاك من حيثُ المَسَارُ الذَّميمُ الذي سَارُوا عليهِ في المُبْتَدَى وهُمْ بَاقُونَ، أو عَائِشُونَ، أم من حيثُ المَصِيرُ الدَّميمُ الذي صَارُوا إليهِ في المُنْتَهَى وهُمْ فَانُونَ، أو سَاقطونَ. وقد ظهرَ العديدُ من الأمثلةِ التاريخيةِ واللاتاريخيةِ الملمُوسةِ بالقَطْعِ حَتْمًا على كلٍّ من توصيفَيِ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ هٰذَيْنِ، أو حتى على كلَيْهِمَا معًا، في مناطقَ مختلفةٍ من هذا العَالَمِ العربيِّ المُنْهَكِ والمُنْتَهَكِ إلى أقاصِي الحُدودِ، وعلى الأخصِّ بدءًا من ظهورِ مَا سُمِّيَ، حينذاك، بـ«حركات التحرُّر الوطني»، أو حتى بـ«حركات التحرُّر القومي»، وذاك بُعَيْدَ آثارِ «الحربِ العالميةِ الثانيةِ» WWII، وانتهاءً، لا بلْ استمرَارًا وإكمَالاً، باندلاعِ تلك الثوراتِ الشعبيةِ التي تُسَمَّى بـ«ثوراتِ الرَّبيعِ العربيِّ» – على الأقلِّ، اندلاعِهَا في كلٍّ من تونسَ وليبيا ومصرَ واليمنِ وسوريا، خلالَ عقدِهَا الدَّمَوِيِّ العصيبِ ذاك من ذاك الزَّمَانِ.

وبالإشارةِ المرئيَّةِ والجليَّةِ، من هٰهُنَا، إلى أَمْدَاءِ ذلك الغربِ «الديمقراطيِّ» بالذاتِ من خلالِ تَجَلِّيهِ الازدواجيِّ أصلاً في نظرتِهِ «المُثْلَى» إلى بلدانِ مَا يُسَمِّيهِ بـ«العَالَمِ الثالثِ»، وكذاك من خلالِ مَا يترتَّبُ على هذا التَّجَلِّي الازدواجيِّ من كَذِبٍ ونفاقٍ ووُصُولٍ وانتهازٍ ومَا إلى ذلك، لم يَحِدْ قطُّ أيٌّ من أمْدَاءِ (هذا الغربِ «الديمقراطيِّ»)، في أيٍّ من عُهودِهِ المعهودةِ تلك، عن السَّعْيِ الحَثِيثِ وراءَ «الإنقاذِ الأَرْيَحِيِّ» لأولئك الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ «الأَمَاثِلِ» الذين ابْتُليَتْ بوجودِهِمْ شعوبُ البلدانِ العربيةِ المنكوبةُ هذِهِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، وذلك بُغْيَةَ الاستفادةِ من عَمَالةِ هؤلاءِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ، بمثابةٍ أو بأخرى، قبلَ فَوَاتِ الأوَانِ، وقبلَ أنْ يُرْغَمَ أيٌّ منهم على شَقِّ عَصَا الطَّاعةِ والاتِّزَانِ، وذاك في لحظةٍ عِتْرَةٍ طَفُورٍ من لحظاتِ العُنُودِ والطَّيَشَانِ. ذلك لأنَّ هذا «الإنقاذَ الأَرْيَحِيَّ» المُتَدارَكَ والمُتَدارَسَ بالعَيْنِ كانَ، ومَا زالَ، جزءًا لا يتجزَّأُ من سياسةٍ غَزَوَانِيَّةٍ، أو حتى إمبرياليةٍ أو استعماريةٍ، قديمةٍ قِدَمَ التاريخِ البشريِّ الدَّامِي نفسِهِ، هذا التاريخِ الذي يُرِينَا جَلِيًّا، في جملةِ مَا يُرِينَا، كيفَ أنَّ الحَاكِمَ المغوليَّ الهمجيَّ هولاكو كانَ يَسْتَحْيِي استحْيَاءً «خَيِّرِيًّا» كلَّ طاغيةٍ فاشيٍّ وَضِيعٍ من رَهْطِ أولئك الطُّغَاةِ «اللامُسْتَعْصِمِينَ باللهِ»، أو حتى «المُسْتَعْصِمِينَ بالشيطانِ»، عَصْرَئِذٍ، أولئك الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ الوُضَعاءِ الذين كانوا يُسَهِّلُون عليهِ (أي على هولاكو بالذاتِ) ارتكابَ الجرائمِ والمجازرِ الوَحْشِيَّةِ والحُوشِيَّةِ في بلادِ العراقِ وبلادِ الشامِ على حَدٍّ سِوًى، في بواكيرِ النصفِ الثاني من القرنِ الثالثَ عشرَ. ومَنْ مِنْ مَعْشَرِ أولئك الرَّائِينَ الحُصَفَاءِ لا يدركُ، في هذا السياقِ الدَّامِي ذاتِهِ، ذينك التحمُّسَ والتلهُّفَ اللذين كَانَا إذَّاك يعتريانِ كِيانَ هولاكو عَيْنِهِ كلَّ الاِعْتِرَاءِ إبَّانَ مراسلاتِهِ الاستجدائيةِ، أو حتى الاستخذائيةِ، مع «آمِرِهِ» الملكِ الفرنسيِّ لويس التاسع سنةَ 1262، فِيمَا يتبدَّى – وذلك من أجلِ غايةٍ أشدَّ عدوانيةً وحتى أشدَّ بَعْوًا وبَغْيًا وشهوانيةً في نفسِ مَنْ تنقَّبَ يومَئِذٍ بنِقابِ «يعقوبَ» عن قَصْدٍ وعن عَمْدٍ بإزاءِ البابا ذاتِهِ، ألا وهي: غزوُ مدينةِ القدسِ بالذاتِ (أي بعدَ غزوِ مدينةِ بغدادَ سنةَ 1258، وكذاك غزوِ مدينةِ دمشقَ تاليًا سنةَ 1260)؟ وتمامًا مثلمَا هي الحَالُ ومثلمَا هو المآلُ في تلك السياسةِ الإمبرياليةِ والاستعماريةِ الأكثرِ اِئْتِلافًا بالتَّسَمِّي التاريخيِّ، «فَرِّقْ تَسُدْ» Divide Et Impera في الأصلِ اللاتينيِّ أصلاً، فإنَّ سياسةَ مَا يُمْكِنُ تعريفُهَا الآنَ بالسياسةِ الإمبرياليةِ والاستعماريةِ الأكثرِ إسْهَابًا بالتَّعَدِّي المُعْجَمِيِّ، «أنْقِذْ طاغيةً فاشيًّا عَمِيلاً مُفِيدًا إنقاذًا أَرْيَحِيًّا تَسْتَمِرَّ اسْتِمْرَارًا في ذاتِ السِّيَادِ وفي ذاتِ السَّيْدُودَةِ»، إنَّما هي بالتأكيدِ الوَكِيدِ سياسةٌ لَاإنسانيةٌ لَاإيثاريَّةٌ لَا تأخذُ بعَيْنِ الاعتبارِ، أولاً وآخرًا، سِوى مَا يَجْنِيهِ عَيْنُ الغازي أو عَيْنُ المُسْتَعْمِرِ جَنْيًا من ثِمَارِ أَتْعَابٍ لَهَا اعتبارُهَا الاتِّجَارِيُّ والارتزاقِيُّ الخاصُّ، وذاك من جرَّاءِ هكذا «إنقاذٍ» يظهرُ بمظهرٍ «أَرْيَحِيٍّ»، لا بلْ «خَيِّرٍ»، وحسبُ أمامَ العَالَمِ بأسرِهِ – حتى لو لمْ يَحِنْ للطُّغَاةِ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ بعدُ أن يتعلَّموا من ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ الذي قدْ عَمِيَ، أو قدْ تَعَامَى، بِهِ فَلُّ أسلافِهِمْ من الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ «الأشاوِسِ»، وقدْ وَاجَهُوا إذَّاك بالقوةِ أو بالفعلِ، أو حتى بكِلَيْهِمَا، مَا وَاجَهُوهُ بالإتْبَاعِ من عَوَاقبَ وخيمةٍ، إمَّا إِقصاءً أو اعتقالاً أو حتى إعدامًا رَسْمِيًّا أو قتلاً هَمَجِيًّا.

مِنْ هنا تحديدًا، يتبدَّى كلُّ سياسيٍّ أو سياسيَّةٍ «مُنَظَّمَيْنِ» مُعَارِضَيْنِ للنظامِ الطُّغيانيِّ الإجراميِّ الحاكمِ في سوريا، على سبيلِ المثالِ لا الحَصْرِ، يتبدَّيانِ حتى أشدَّ غباءً وأشدَّ غباوةً من أولئك الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ أنفسِهم حينما يُحاولانِ، طَوْعًا أو كَرْهُا، أنْ يَسْتَصْرِخَا كلَّ الاِسْتِصْرَاخِ «ضميريَّةَ» الغربِ «الديمقراطيِّ» وأنْ يَسْتَنْجِدَا كلَّ الاِسْتِنْجَادِ بـ«إنسانيَّةِ» هذا الغربِ مِنْ أجلِ إنقاذِهِمَا وإنقاذِ ذَويهِمَا (على مبدأِ «النفسُ والأقربُونَ أولى بالمعرُوفِ»، إنْ جازَ القَوْلُ)، أولاً، وكذاك مِنْ أجلِ إنقاذِ مَنْ يظنَّانِ أنهُمَا يمثِّلانِهِمْ أيَّمَا تمثيلٍ مِنَ الشعبِ السوريِّ الأعزلِ، ثانيًا، مِنْ أجلِ إنقاذِهِمْ مِنْ آفاتِ القتلِ البهيميِّ والدمارِ الجحيميِّ والتهجيرِ الجماعيِّ التي يقترفُها بحقِّهم دونما انقطاعٍ هكذا نظامٌ طُغيانيٌّ إجرَاميٌّ طائفيٌّ فُلوليٌّ خالٍ كلَّ الخُلوِّ من أيةِ سِمَةٍ إنسانيَّةٍ أو أيةِ سِمَةٍ ضميريَّةٍ، وعلى مرأىً ومَسْمَعٍ من العَالَمِ القريبِ والعَالَمِ البعيدِ كُلِّيًّا وكُلِّيَّةً، بِمَا في هذا العَالَمِ الأخيرِ من هكذا غربٍ «ديمقراطيٍّ»، وغربٍ «إنسانيٍّ»، وغربٍ «ضميريٍّ»، بلحمِهِ وشحمِهِ. ومِنْ هنا تحديدًا، أيضًا، يتجلَّى التَّمَادِي الصَّارِخُ والفاضِحُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ والوُصُولِ والاِنتهازِ وغيرِهَا من تيك الأشكالِ الزَّرِيَّةِ التي تُسْفِرُ بالطبعِ عن ازدواجيةِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» فضلاً عن توصِيفَاتِهِ الزَّيْفِيَّةِ الأخرى في نظرتِهِ «المُثْلَى» تلك إلى بلدانِ مَا يُصَنِّفُهُ بـ«العَالَمِ الثالثِ»، كَمَا ذُكِرَ آنفًا – وعلى الأخصِّ فيما لهُ مِساسٌ بذلك التناقضِ الأَشَدِّ صَريخًا والأَحَدِّ افتضاحًا بينَ مَا قدْ صَرَّحَ بهِ كلٌّ من الجانبَيْنِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ من تصريحَاتٍ تبدو في الظاهرِ جِدَّ جَادَّةٍ حولَ ذلك التَّعَامُلِ «الإنسانيِّ» و«الضَّميريِّ» مع الموضوعِ السوريِّ في حدِّ ذاتِهِ، وبالذاتِ في هذِهِ المرحلةِ المُؤْلِمِ أيَّمَا إيلامٍ والمُوجِعِ أَيَّمَا إيجَاعٍ من تاريخِ سوريا الحديثِ. وباختصارٍ شديدٍ، فإنَّ الغربَ «الديمقراطيَّ» هذا المتمثِّلَ في كلٍّ من جانبَيْهِ الأمريكيِّ والبريطانيِّ (ودُونَمَا غضِّ الطَّرْفِ كُلِّيَّةً عن جانبِهِ الفرنسيِّ بَتَاتًا) إنَّما كانَ، ولَمَّا يَزَلْ، يسْعَى، بكلِّ مَا أوتيَ من قوةٍ ودُرْبَةٍ وحُنْكَةٍ، إلى إبقاءِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ الإجراميِّ الحاكمِ في سوريا على قيدِ الحياةِ أطولَ مَا يُمْكِنُ زمانًا وحتى مكانًا، لا لأجلِ سَوَادِ، أو حتى «زَرَاقِ»، عيونِ أزلامِ هذا النظامِ الطُّغْيَانيِّ الإجراميِّ، بلْ لأجلِ «ضَرْبِ عصفورَيْن بحجرٍ واحدٍ»، كَمَا يقولُ المثلُ الصبيانيُّ الأهوجُ: فمن طرفٍ أوَّلَ، لأجلِ استخدامِ هؤلاءِ الأزلامِ بمثابةِ كلابِ حِرَاسَةٍ طَيِّعَةٍ وفيَّةٍ للحفَاظِ على مَصَالحَ أو مَنَافِعَ إمبرياليةٍ واستعماريةٍ توسُّعيةِ لم تعُدْ خافيةً على أحدٍ. ومن طرفٍ آخرَ، وهو الأهمُّ هٰهُنَا، لأجلِ تَمْيِيعِ وتَمْوِيهِ فَحْوَى تيك العلاقةِ الجَهْريَّةِ، أو حتى السِّرِّيَّةِ، الشائكةِ بينَ تلكَ الأنظمةِ الغربيةِ الدَّخُولِ بشتى «ديمقراطيَّاتِهَا» و«ليبراليَّاتِهَا» وبينَ هذِهِ الأنظمةِ «العربيةِ» الذَّلولِ بسَائرِ ديكتاتوريَّاتِهَا وأوتوقراطيَّاتِها، أيَّةً كانت. على هذِهِ الشاكلةِ الشُّؤمَى، إذن، تتجسَّدُ طامَّةُ الطَّامَّاتِ لكيمَا تصُبَّ جَامَ وَبَالِها المُضَاعَفِ ازْدِوَاجًا على بناتِ وأبناءِ هذا الشعبِ السوريِّ الأبيِّ على مَدَى أكثرَ من خمسينَ عامًا لِزَامًا، كمثلِهِم بطبيعةِ الحَالِ من بناتِ وأبناءِ غالبيةِ الشُّعُوبِ المستعمَرَةِ في الماضي البعيدِ والقريبِ – ناهيكُمَا، والمآلُ هُنَا، عن كلِّ أنواعِ الشرورِ والآثامِ والسيِّئاتِ والمَعَاصِي التي أسفرتْ، في واقعِ الأمرِ، عن تصريحَاتِ وتفعيلاتِ كلٍّ من الجانبَيْنِ الروسيِّ والإيرانيِّ حتى هذِهِ اللحظةِ بالذاتِ، تلك التصريحَاتِ والتفعيلاتِ التي تأجَّجَتْ حَادَّةً بتشكيلِ «سوريا التصحيحِ والصُّمودِ والتصدِّي» دولةً بالعُنُوِّ بمَثَابَةِ «مَحْمِيَّةٍ إيرانيةٍ» Iranian Protectorate في بدايةِ المطافِ، والتي تأوَّجَتْ في تحويلِ هذِهِ الـ«سوريا التصحيحِ والصُّمودِ والتصدِّي» دولةً بالعُتُوِّ إلى مَثَابَةِ «مَحْمِيَّةٍ روسيةٍ» Russian Protectorate في نهايةِ المطافِ، وحتى معَ اشتدَادِ أوَارِ تلك الحربِ الروسيَّةِ-الأوكْرَانِيَّةِ التي دخلتْ في شهرِهَا الثاني من عَامِهَا الثاني في هذا الآنِ وهذا الأوَانِ.

وبِالرَّغْمِ من كلِّ مَا تقدَّمَ من شَرْحٍ حتى دَرَكاتِ هكذا هَاوِيَةٍ، يبدو أنَّ الطُّغَاةَ الفاشيِّينَ المعنيِّينَ بهذِهِ الأنظمةِ «العربيةِ» المَأْجُورَةِ، في الصَّميمِ، يُصِرُّونَ بكلِّ حِرَانٍ على عَرْضِ واستعراضِ دَاءِ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ، بتوصِيفَيْهِ الفِطْرَانِيِّ والخِبْرَانِيِّ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ) ذَيْنِك، حتى لو تمثَّلَ لَهُمْ قدَّامَ أعيُنِهِمْ، مرَّةً تِلْوَ مرَّةٍ، ذلك التَّمَادِي الفَاقِعُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ والوُصُولِ والاِنتهازِ وغيرِهِا التي تَنْجُمُ عن ازدواجيةِ الغربِ «الديمقراطيِّ» بتوصِيفَاتِهِ الزَّيْفِيَّةِ الأخرى في نظرتِهِ «المُثْلَى» تلك، مثلَمَا تَمَّ ذِكْرُهُ قَبْلاً. ذلك لأنَّ هذِهِ النظرةَ الازدواجيةَ لم تتبيَّنْ في موقفِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» المخادعِ والمُضَلِّلِ إزاءَ طُغَاةٍ فاشيِّينَ عُتاةٍ من أمثال بشار الأسد ومعمَّر القذافي (قَبْلَ قَتْلِهِ الفَظِيعِ) فحسبُ، بل تبيَّنتْ كذاك في موقفِهِ المخادعِ والمُضَلِّلِ إزاءَ طاغيتَيْنِ فاشيَّيْنِ عَتِيَّيْنِ آخرَيْنِ منذُ أوائلِ النصفِ الثاني من القرنِ العشرينَ الفائتِ، ألَا وهُمَا: محمد رضا بهلوي وصدام حسين (التكريتي). وفي هذا مَا يُبيِّنُ كيفَ أنَّ دَاءَ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ بالذاتِ يُعيد نفسَهُ إعَادَةً «قَهْرِيَّةً»، بالفعلِ الحتميِّ الوَكيدِ، قُدَّامَ تلك الذرائعِ الإستراتيجيةِ والبراغماتيةِ التي تتولَّى تَصْنِيعَهَا أمريكا في الجَهْرِ بقَدْرِ مَا تتولَّاهُ كذاك في السِّرِّ، على سَبيلِ التمثيلِ. ومَنْ مِنْ أولئك الرَّائِينَ الحُصَفَاءِ تَخْفَى عليهِ الآنَ حقيقةُ مَا قَامَتْ بِهِ «وكالةُ الاستخباراتِ المركزيةُ» CIA في مَاضِيهَا التَّلِيدِ ذاك «مُشْرِقًا ومزدهرًا»، هذِهِ الوكالةُ الجَمُوحُ التي عَمَدَ أزلامُهَا وعُمَلاؤُهَا (وكذاك نُظرَاؤُهُمْ مِنَ البريطانِيِّينَ) في العَامِ 1953 إلى تيك الإطاحةِ «البطوليةِ» المُثْلَى بحكومةِ إيرانَ التي كانتْ قَدِ انْتُخِبَتْ اِنْتِخَابًا ديمقراطيًّا زَمَانَئِذٍ، فعَمَدُوا من ثَمَّ إلى إلحَاحِهِمْ على إبقاءِ نظامِ الشاهِ الديكتاتوريِّ والأوتوقراطيِّ بينَ عشيةٍ وضُحَاهَا؟ ومَنْ مِنْ أولئك الصَّاغِينَ الفُصَحَاءِ تَخْفَى عليهِ الآنَ أيضًا حقيقةُ مَا قَامَتْ بِهِ أمريكا ذاتُهَا بمَثَابَةِ راعيةٍ حَرِيصَةٍ كلَّ الحِرْصِ لهكذا وكالةٍ، هذِهِ الدولةُ «الديمقراطيَّةُ» التي جَدَّ سَاسَتُهَا وزبانيتُهُمْ جَادِّينَ في تصنيعِ هكذا طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ بكلِّ «تَفانٍ وإخلاصٍ وإخَاءٍ»، فَجَدُّوا جَادِّينَ من ثَمَّ في تَنْصِيبِهِ شاهًا فَهْلَوِيًّا مُحَنَّكًا على إيرانَ، وفي إغراقِهِ السَّخِيِّ بكلِّ أشكالِ الدَّعْمِ الضَّرُوريِّ لكيمَا يؤدِّيَ دورَهُ المرسُومَ بعنايةٍ شديدةٍ على أكْمَلِ وَجْهٍ، على الرَّغْمِ من أنَّ سِجِلَّهُ فيمَا يتعلَّقُ بحقوقِ الإنسانِ تحديدًا كانَ من أقبحِ وأشنَعِ سِجِلَّاتِ ذاك الزمانِ قاطبةً؟ ولٰكِنْ، ويَا لَلْعَجَبِ العُجَابِ مَرَّةً أُخرى، فمَا إنْ أطاحتْ أطيافُ الثورةِ الإيرانيةِ (ذاتِ الإرهاصاتِ التقدُّميةِ، في البَدْءِ) بهذا الشاهِ الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ في العَامِ 1979، حتى تحوَّلتْ أمريكا «الديمقراطيَّةُ» هذِهِ، من خلالِ تصنيعِهَا الخفيِّ ومن جَرَّاءِ إغراقِهَا السَّخِيِّ بالمَثَابَةِ ذاتِهَا، إلى «شاهٍ» طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ آخَرَ في الجوارِ، اِسمُهُ صدام حسين (التكريتي) بالعَيْنِ، «شاهٍ» طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ لا يقلُّ سجلُّهُ فيمَا يخصُّ حقوقَ الإنسانِ قباحةً وشناعةً عن سجلِّ سابقِهِ الفَهْلَوِيِّ الإيرَانِيِّ ذاك. وكانَ لصدام حسين دورُهُ المرسُومُ بعنايةٍ شديدةٍ، بدورِهِ هو الآخَرُ، حتى أنَّ إغراقَهُ الأمريكيَّ السَّخِيَّ بكلِّ أنواعِ الدعمِ اللازمِ ازدادَ أضعافًا مضاعفةً إبَّانَ حربِهِ الشعواءِ المدروسةِ بعنايةٍ أشدَّ على إيرانَ أيضًا. فمنذُ بَيَانِ تلك الإرهاصاتِ التقدُّميةِ التي أخذتْ في الأُفُولِ شيئًا فشيئًا، وهذا الغربُ «الديمقراطيُّ» يبتغِي، برأسِ حربتِهِ الأمريكيةِ في الحَيِّزِ الأوَّلِ، فَرْضَ شتَّى مَا يفكِّرُ فيهِ من عقوباتٍ اقتصَاديةٍ على إيرانَ خاصَّةً، وذلك سعيًا وراءَ إضعافِهَا وإنهاكِهَا على الصَّعِيدِ الاقتصَاديِّ دونَ سِوَاهُ، قبلَ كلِّ شيءٍ (حتى وإنْ كانتْ، أو صَارَتْ، «صَديقًا» خَفِيًّا من وراءِ الكوَاليسِ). وليسَ المَرَامُ السَّدِيدُ من تلك العملياتِ العسكريةِ ذاتِ المَنْهَجَةِ اللافتِ للعِيَانِ المحليِّ والدوليِّ سَوَاءً بسَوَاءٍ – تلكَ العملياتِ التي قامَ بهَا هذا الغربُ «الديمقراطيُّ» كذاك برأسِ حربتِهِ الأمريكيةِ في أغلبِ تيك الدولِ الجِوَارِ جغرافيًّا حتى هذِهِ الأيامِ، ليسَ في واقعِ الأمرِ سِوَى مَرَامِ العملِ الدؤوبِ على زعزعةِ المنطقةِ المحيطةِ بإيرانَ ذاتِهَا، وذلك سعيًا هذِهِ المَرَّةَ وراءَ تهديدِ أمْنِهَا واستقرارِهَا على الصَّعِيدِ الوُجُودِيِّ (حتى وإنْ كانتْ «صَديقًا» خَفِيًّا كذاك)، بعدَ كلِّ شيءٍ.

بهذِهِ المثابةِ الجليَّةِ الشُّؤمَى، إذن، ينجلي ذلك التَّمَادِي الفَاقِعُ في أشكالِ الكَذِبِ والنفاقِ والوُصُولِ والاِنتهازِ ومَا أشبهَ معهودَةً «تاريخيًّا» مِنْ طَرَفِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» الازدواجيِّ عَيْنًا، فينجلي من ثَمَّ برأسِ حربتهِ الأمريكيَّةِ المرئيَّةِ، أو حتى اللامرئيَّةِ، حَسْبَمَا تقتضيهِ الحَالُ والمَحَالُّ. فإيرانُ الفقيهيَّةُ (العسكريَّةُ)، رغمَ كلِّ مَا تقترفُهُ في المَسْرَحِ الدموي السُّوريِّ من شُرورٍ وآثامٍ وسيِّئاتٍ ومَعَاصٍ ليسَ لهَا سِوَى أنْ تمهِّدَ السَّبِيلَ أيَّمَا تمهيدٍ لِهَيْمَنَةِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» الازدواجيِّ، فإيرانُ الفقيهيَّةُ هذِهِ لَمْ تزَلْ في أعْيُنِهِ وأعْيُنِ أحلافِهِ ذلك «العدوَّ الأكبرَ» – أو هٰكذا تتبدَّى، مثلمَا أنَّهُ (أي الغربُ الأمريكيُّ بالذاتِ) لَمْ يزَلْ في عينَيْهَا ذلك «الشيطانَ الأعظمَ» في المقابلِ، كَمَا يتردَّدُ في التعبيرِ السياسيِّ الواقعيِّ الدارجِ، هٰهُنَا وهٰهُنَاك. وتلك الاتفاقيةُ التي تتواجَدُ كَيْمَا تشملَ في الأصْلِ مَسْأَلَةَ البرنامجِ النوويِّ الإيرانيِّ الشهيرِ، والتي تتراوحُ بينَ الإبْرَامِ كمَا في عهد باراك أوباما وبينَ الإفْسَاخِ كمَا في عهدِ دونالد ترامب، مستمرَّةً هٰكذا حتى في عهدِ جوزيف بايدن، إنْ هي، أَوَّلاً وآخِرًا، إِلاَّ ذريعةٌ إستيراتيجيةٌ براغماتيةٌ تَمَّ التذرُّعُ بِهَا مِنْ أجْلِ مَنْعِ إيرانَ مِنْ أَنْ تحتازَ أيًّا من المَوَادِّ الخَامِ وغيرِ الخَامِ اللازمةِ لِتَصْنِيعِ السِّلاحِ النوويِّ، من جهةٍ أولى، ومِنْ أجْلِ رَدْعِهَا (رَدْعِ إيرانَ) عَنْ أنْ تبذلَ أيًّا مِنَ الجُهُودِ والمَسَاعِي الفقيهيَّةِ المُسْتَتِرةِ التماسًا للعملِ الكَدُودِ على التسلُّحِ النوويِّ الفعليِّ، من جهةٍ أُخرى – وَلَئِنْ كَانَتْ خَطِيئَةُ الإِنْسَانِ الكَبِيرَةُ هِيَ الغَبَاءُ بعَيْنِهِ، كَمَا يَقُولُ الأديبُ الإيرلنديُّ الذكيُّ أُوسْكار وايْلْد، فَإِنَّ خَطِيئَةَ هٰذَا الإِنْسَانِ الكُبْرَى، إِذَنْ، إنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ هٰذَا الغَبَاءِ بكَمِّهِ وكَيْفِهِ بالحِذْفَارِ والحَذَافِيرِ. فَالتَّارِيخُ لَيْسَ هُوَ الذي يُعِيدُ نَفْسَهُ حَقِيقَةً، كَمَا يَتَمَنْطَقُ المُؤَرِّخُونَ والمُتَأرِّخُونَ، على مَرِّ العُصُورِ: إِنَّهُ الإِنْسَانُ، وَلا رَيْبَ في هٰذَا، لَهُوَ الذي يُعِيدُ غَبَاءَهُ، بَيْنَ فَيْنَةٍ وَأُخْرَى شَجِيَّةٍ! – ولهٰذَا الكَلَامِ بَقِيَّةٌ!

(3)

﴿ وَلٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾
[الأعراف: 176]

عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا قيلَ مِنْ بَلاغةٍ وبَيَانٍ في التشبيهِ القرآنيِّ بينَ «حَيَوَانِيَّةِ» هذا الكلبِ بالعَيْنِ منظورًا إليهِ من منظارِ توصيفٍ يكادُ أنْ يكونَ بِمَحْضِ «شَرْعِيَّتِهِ» توصيفًا مكروهًا، أو حتى توصيفًا غيرَ مُسْتَحَبٍّ، على مَرِّ الزَّمَانِ وجَرِّ المَكَانِ، كمثلِ توصيفِ «اللُّهَاثِ الأبَدَيِّ المُذِلِّ»، مِنْ جهةٍ أُولى، وبينَ «لاإنسانيَّةِ» ذلك الإنْسِ المَعْنِيِّ الذي لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ أَنْ «يُخْلِدَ إلى الأرْضِ» وأَنْ «يَتَّبِعَ هَوَاهُ»، وقد تَوَخَّى لنفسِهِ، دُونَ غَيْرِهَا في المَآلِ، تَوَخِّيًا سَبيلَ التَّسَفُّلِ عَامِدًا مُتَعَمِّدًا كنقيضٍ تَامٍّ لسَبيلِ التَّرفُّعِ، مِنْ جهةٍ أُخرى – وعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا قيلَ بالقَوْلِ مِنْ قَفْرٍ وَمِنْ خَوَاءٍ في سَبيلِ التَّسَفُّلِ هذِهِ ومَا تَنْطَوِي عليهِ كذاكَ مِنْ وَحْشَةٍ ومِنْ قَتَامٍ يعْتَرِيَانِ ذاتَ النَّفسِ البشريةِ أيَّمَا اعْتراءٍ، مِنْ ناحيةٍ أُولى، ومَا تَسْتَقِيهِ ذاتُ السَّبيلِ أيضًا مِنْ فَسَادٍ ومِنْ خَسَاسَةٍ إزاءَ ذينك الحِرْصِ والشَّغَفِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ الأَدْنَيَيْنِ اللذين يتجلَّيَانِ، أو حتى يتخَفَّيَانِ عَكْسًا، في ذلك «اللُّهَاثِ الأبَدَيِّ المُذِلِّ» وراءَ الجَاهِ والسُّلطانِ والمَالِ، ومَا إليهَا، حتى أشدَّ فَسَادًا وأشدَّ خَسَاسَةً بالنسبةِ لِغَنَمٍ مِنَ الأغنامِ مِنْ أيِّمَا «ذِئْبَيْنِ جائعَيْن أُرْسِلا عَنْوَةً إليها»، كَمَا جَاءَ في الحديثِ الشَّهيرِ، مِنْ ناحيةٍ أُخرى – وعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا قيلَ مِنْ نَجَاسَةٍ، لا بلْ مِنْ رَجَاسَةٍ، في مَسِيسِ هذا الكائنِ الحيوانيِّ المُسَمَّى بِـ«الكلبِ» مِنْ لَدُنْ هذا الكائنِ البشريِّ المُسَمَّى بِـ«الإنسان»، وبالأخصِّ إنْ كانَ مَسِيسًا مقصُودًا أو غيرَ مقصُودٍ بِيَدٍ بَلِيلةٍ أو حتى بِجِسْمٍ نَدِيٍّ، مِنْ جانبٍ أَوَّلَ، ومَا يَتَرَتَّبُ على هذا المَسِيسِ المقصُودِ أو غيرِ المقصُودِ تَرَتُّبًا كذلك مِنْ طَهَارَةٍ، لا بلْ مِنْ نَقَاوَةٍ، عَنْ طريقِ التيمُّمِ بالتُّرَابِ في البَدْءِ مرَّةً واحدةً، كَحَدٍّ أدنَى، وعَنْ طريقِ الاغْتِسَالِ كذاكَ بالمَاءِ من ثمَّ مِرارًا ومِرارًا لا تدنو عنِ السَّبْعِ، مِنْ جانبٍ آخرَ – فإنَّ هذا الكائنَ الحيوانيَّ المُسَمَّى بِـ«الكلبِ» عينِهِ، ومعَ اليقينِ المُطْلَقِ (أو بالكَادِ) بحُدوثِ لُهَاثِهِ المُسْتَدِيمِ في كُلٍّ من الكَلالِ والارْتِياحِ، وفي كُلٍّ من الظَّمَاءِ والارْتِواءِ، وفي كُلٍّ من الصَّحَاحِ والاعْتِلالِ، وَمَعَ الظَّنِّ بافتقارِ فؤادِهِ المُسْتَكِينِ إلى وَجيبِ الحياةِ كَعِلّةٍ فيزيائيةٍ أُولى في اسْتِدامةِ لُهَاثِهِ هذا، دونَ غيرِهِ من سَائرِ أنواعِ السِّبَاعِ قاطبةً، إنَّمَا هو أبلغُ رُقِيًّا بكثيرٍ وأوسعُ رحمةً بكثيرٍ وأنقى طهارةً بكثيرٍ وكثيرٍ من «أَرْقَى» و«أَرْحَمِ» و«أَطْهَرِ» طاغيةٍ فاشيٍّ إجراميٍّ على وجهِ الأرضِ، ناهيكُمَا، بالطبعِ، عن تلك البقعةِ الدَّاميةِ المُدَمَّاةِ من هذِهِ الأرضِ المُسَمَّاةِ بِـ«العالم العربي»، من محيطهِ إلى خليجهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

بيدَ أنَّ الطَّاغيةَ الفاشيَّ الإجراميَّ المَعْنِيَّ هٰهُنَا، وعلى الأخصِّ حِينَمَا يظنُّ إلى حَدِّ اليقينِ أَنَّهُ قَدْ صُيِّرَ «إِنْسًا أو إِنْسَانًا خالدًا مُخَلَّدًا إلى الأرْضِ» بعنايةٍ إِلٰهِيَّةٍ كانتْ قَدْ نزلتْ عليهِ نُزولَ الوَحْيِ من عَنَانِ السَّمَاءِ، ليسَ لَهُ بذاك سِوَى أنْ يَعْرِضَ وأنْ يَسْتَعْرِضَ، بينَ حينٍ وآخَرَ، حَشْدًا من أعراضِ دَاءِ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ، بكلٍّ من صِفَتَيْهِ الفِطْرَانِيَّةِ والخِبْرَانِيَّةِ (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ بالعَيْنِ)، تَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ المتلازمَتَيْنِ اللتينِ أُشِيرَ إليهمَا قَبْلاً في مُسْتَهَلِّ القِسْمِ الثاني من هذا المقالِ. إذ تبدَّى هذا الدَّاءُ النفسيُّ العُضَالُ، أكثرَ مَا تبدَّى، في تِيكَ الآونةِ الأخيرةِ أو مَا قَبْلَهَا، في مهزلةِ انتخابِ طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ مُصْطَنَعٍ من مثلِ عبد الفتاح السيسي بالذاتِ، تلك المهزلةِ التي تأوَّجتْ بالأوجِ في تصويرِهَا وإخراجِهَا اللافِتَيْنِ على طريقةِ «الأُسْخُورَةِ» أو «الپاروديا» Parody، وفي عَرْضِهَا الأكثرِ لَفْتًا من ثمَّ في ذلك البرنامجِ المُسَمَّى بـ«مُنَوَّعَات» Mélange على القناةِ الفرنسيةِ الثانيةِ. وإنَّ أوَّلَ مَا أَرَتْهُ عَيْنُ المهزلةِ ذاتِهَا لهذا العَالَمِ طُرًّا، دونَ أيِّ تحفُّظٍ أو حتى تلكُّؤٍ، إنَّمَا هو مشهدٌ تهكُّميٌّ للجمهورِ المصريِّ المُنْتَخِبِ وهو يهتفُ عَاليًا عَاليًا بهُتافاتِهِ الجَهْوَرِيَّةِ والحَمَاسِيَّةِ، مشهدٌ تهكُّميٌّ يُبَيِّنُ كيفَ أنَّ هذا الجمهورَ المصريَّ المُصَوَّرَ لَمْ يَكُنْ، في حقيقةِ الأمرِ، يحملُ صُوَرًا لِرئيسِهِ المنتخَبِ «السيسي» هذا، بلْ كانَ يحملُ بدلاً منهَا صُوَرًا للممثلةِ النمساويةِ الراحلةِ رومي شنايدر هذِهِ مأخوذةً من فيلمِها الشهيرِ «سيسي» Sissi، الذي مثَّلتْ فيهِ، من بينِ ثُلاثيةٍ سينمائيةٍ، دورَ الإمبراطورةِ النمساويةِ إليزابيث Elizabeth، وذلك في أعقابِ تتويجِها المَلَكِيِّ البدئيِّ سنةَ 1854، بِوَصْفِهَا حَاكِمَةً مُتَوَّجَةً أَيَّمَا تَتْوِيجٍ بأمرٍ من الحَقِّ الإلٰهي، شاءَتْ تيك الجماهيرُ المحكومَةُ، عَصْرَئِذٍ، أمْ أبَتْ. ولِكَيْمَا تشاءَ الأقدارُ بِـ«كَلْبِيَّتِهَا» على وجهِ اليقينِ، في هذا السياقِ، فإنَّ الاسمَ الأنثويَّ المُصَغَّرَ تَصْغِيرًا طَارِئًا «سيسي» Sissi نفسَهُ، هذا الاسمَ الذي يُوَرِّي توريةً كلبيةً عينَ الكُنْيةِ الذَّكَرِيَّةِ لِـ«سِي» عبد الفتاح ذاتِهِ مُتَجَرِّدًا من «أل» تعريفهِ (أو حتى من محلِّ إعرابِهِ حرفيًّا، بالأحرى)، إنَّما هو ذلك الاسمُ التحبُّبِيُّ، أو حتى الاسمُ التهكُّميُّ حسبمَا يقتضيهِ المَآلُ النَّفْسَانِيُّ المُؤَاتِي، للإمبراطورةِ النمساويةِ إليزابيث نفسِهَا حينمَا كانتْ طفلةً لَعُوبًا إبَّانَئِذٍ. هذا إنْ لَمْ يُقَلْ أيُّ شيءٍ بِأَيِّمَا إِسْهَابٍ، في سياقٍ كلبيٍّ مُمَاثلٍ، عن مهازلِ انتخاباتِ طاغيةٍ فاشيٍّ عَتِيٍّ مُصْطَنَعٍ آخرَ من مثلِ حافظ الأسد، الذي بلغتْ نتيجةُ انتخابِهِ في الدورةِ الرابعةِ عامَ 1991 تحديدًا مبلغَ النسبةِ القياسيةِ الخارقةِ للطَّبْعِ والتَّطَبُّعِ 99.99%، أو حتى من مثلِ الخَلَفِ ابنِهِ بشار الأسد، الذي صَرَّخَ مُمَثِّلٌ مَحْمُومٌ ذُو لَمَمٍ وذُو لُوثَةٍ عنْ شرذمةٍ أو رَهْطٍ من أولئك العِسَفَةِ العَتَفَةِ المنافقينَ الأذِلاَّءِ من لَعَقَةِ المُثْلَيَاتِ من الأَسْتَاهِ ومن أشكالِ النِّعَالِ المِلاءِ تَصْرِيخًا بأعلى عَقِيرَتِهِ في رَجَا مَا يُسَمَّى بـ«مجلس الشعب» ذاتَ يومٍ، وذلك إعلانًا صَرِيحًا بأنَّ هذا الـ«بشارَ» الخُلْفَ بالذاتِ ينبغي أنْ يكونَ «رئيسًا للعَالَمِ» الحدِيثِ ومَا بعدَ الحدِيثِ بأجمعِهِ، ودُونَمَا الاِسْتِثْنَاءِ!

وحتى لو أظهرَ طاغيةٌ فاشيٌّ عَتِيٌّ مُصْطَنَعٌ معيَّنٌ نوعًا طافرًا من أنواعِ «الذكاءِ البشريِّ» إظهارًا جُزافيًّا أو اعتباطيًّا، كمثالٍ ملموسٍ وَكِيدٍ من أمثلةِ الإرْدَافِ الخُلْفِيِّ ذاتًا، أو ما يُصْطَلَحُ عليهِ لغويًّا بـ«الضَّدِيدِ» Oxymoron (هذا الاصطلاحِ الفريدِ الذي يعني بحرفيَّتِهِ تمَامًا مَدَى «الغباءِ المُتَّقِدِ»، أو مِيدَاءَ «البَلاهَةِ الألْمَعِيَّةِ»، أو مَا شابَهَ ذلك في أصْلِهِ اليونانيِّ القديمِ)، فإنَّ التَّقاربَ الذهنيَّ اللافتَ بينَ هذا الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ اصْطِنَاعًا وبينَ ذاك الكائنِ الحيوانيِّ المُسَمَّى بـ«الكلبِ» تَسْمِيَةً إنَّمَا يتجلَّى في ماهيةِ الخوفِ المترسِّخِ من أيِّمَا خَطَرٍ يَحْدَوْدِقُ بِهِ في أرضِ الواقعِ أو حتى في سَمَاءِ الخَيَالِ – خَلا أنَّ الاستجاباتِ الهَرَعيَّةَ، أو حتى «الاهتلاسيَّةَ»، التي تصدرُ عن عَيْنِ الطاغيةِ الفاشيِّ «الذكيِّ» قَدْ تتفاوَتُ من حيثُ تأثيرُهَا الجَلِيُّ أو الخَفِيُّ بتفاوُتِ إدراكِهِ أو تخيُّلِهِ لشدَّةِ الخطرِ المُحْدِقِ عَيْنًا، بَيْنَمَا عَيْنُ الاستجاباتِ الفَزَعِيَّةِ، أو «اللااهتلاسيَّةِ» في المقابلِ، التي تنشأُ عن ذاتِ الكلبِ «الغَرَزِيِّ» تكادُ أنْ تتماثلَ كُلِّيَّةً فيمَا بينهَا أَثَرًا وتَأْثِيرًا، نظرًا لافتقارِهِ إلى إدراكِ نوعيةِ الخطرِ المُحْدِقِ ذاتِهِ، مَهْمَا تكرَّرَ هذا الخطرُ من أمامِ بَصَرِهِ أو حتى تبصُّرِهِ. وفي هكذا تقاربٍ ذهنيٍّ لافتٍ مَا يفسِّرُ كيفَ أنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ العَتِيَّ المُصْطَنَعَ، أيًّا كانَ حقيقةً شَأْنًا، لا يستطيعُ أنْ «يُخْلِدَ إلى الأرْضِ» ولا حتى أنْ «يَتَّبِعَ هَوَاهُ»، حَسْبَمَا يحْدُو بِهِ إليهِ «لُهَاثُهُ الأبَدَيُّ المُذِلُّ» وَرَاءَ السُّلْطَةِ والنُّفُوذِ المُطْلَقَيْنِ – أو هكذا يَتَبَدَّيَانِ، مَا لَمْ يُدَجِّجْ نظامَهُ وأزلامَهُ كافَّتَهُمْ بكلِّ أنواعِ السلاحِ الخفيفِ والثقيلِ ومَا بَيْنَهُمَا، وبكلِّ آلاتِ القتلِ الفرديِّ والجماعيِّ ومَا بَيْنَهُمَا كذلك، ومَا لَمْ يُؤَجِّجْ شَهْوَتَهُ السُّلْطَوِيَّةَ والنُّفُوذِيَّةَ هذِهِ داخلَ كَمٍّ مُكَمَّمٍ لا يُسْتَهانُ بِهِ من قُصُورٍ حَصِينَةٍ أيَّمَا حَصَانَةٍ، ومن قِلاعٍ مَنِيعَةٍ أيَّمَا مَنَاعَةٍ، وإلى حَدِّ داءِ العُصَابِ الهُجَاسِيِّ المُزْمِنِ في الآلِ والمَآلِ. فلا غرابةَ من هذا المنظورِ التقارُبِيِّ واستثنائِهِ، إذنْ، أنْ يساندَ ثُلَّةٌ من الطُّغاةِ الفاشيِّينَ العُتاةِ المُصْطَنَعِينَ، على هذِهِ الشاكلةِ المُثْلَى، بعضَهم بعضًا في السَّرَّاءِ وفي الضَّرَّاءِ، إِنْ لَزِمَ الأمرُ، وأنْ يكونوا كذاكَ متأهِّبينَ كلَّ التأهُّبِ لهذِهِ المُسَانَدَةِ «السَّخِيَّةِ»، ليسَ تعبيرًا عن حُبٍّ حميمٍ كَنِينٍ مُتَبَادَلٍ فِيمَا بينَهُمْ حَسْبَمَا يَتَجَلَّى، بَلْ تعبيرًا عن خوفٍ (أو حتى عن «رُهابٍ» مَرَضِيٍّ) ذميمٍ دَفِينٍ لا مَحِيصَ عَنْهُ منْ فُقْدانِ ذينك السُّلْطَةِ والنُّفُوذِ المُطْلَقَيْنِ، كَمَا ذُكِرَ للتَّوِّ – تمَامًا كَمَا هي الحَالُ الآنَ، وحتى مَا قبلَ الآنِ، في وقوفِ الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ عبد الفتاح السيسي ذاتِهِ إلى جانبِ نظيرهِ الأكثرِ فاشِيَّةً واصطناعًا بشار الأسد على الصَّعِيدِ العسكريِّ، في المقامِ الأولِ، سواءً تنزَّلَ الطاغيةُ الفاشيُّ الأولُ بالعُنُوِّ عندَ رغائِبِ الغربِ «الديمقراطيِّ» بجَانِبِهِ الوَفِيِّ الأمريكيِّ بالذاتِ في التواجُدِ العسكريِّ في شرقيِّ الفراتِ أم تذرَّعَ بالغُدُوِّ بذريعَةِ الانهماكِ المُدَّعَى بمحاربةِ الإرهابِ فُلُولاً على أرضِ سيناءَ تحديدًا، وذاك بُعَيْدَ تنفيذِ تلك المسرحيةِ الدمويةِ الكيميائيةِ الشَّهِيرَةِ التي كانَ هذا الغربُ «الديمقراطيُّ» قَدْ مَسْرَحَهَا وأَخْرَجَهَا من ثَمَّ بمعيةِ جانبَيْهِ الوَفِيَّيْنِ الآخَرَيْنِ، الجَانِبِ البريطانيِّ والجَانِبِ الفرنسيِّ: مُنَوِّهًا تنويهًا مُلِحًّا، أوَّلاً، إلى افتعالِ «عدوانٍ غربيٍّ ثلاثيٍّ» آخَرَ على سوريا المَصِيرِ؛ ومنوِّهًا تنويهًا أشدَّ إلْحَاحًا، ثانيًا، إلى اختلاقِ «جمال عبد الناصر» آخَرَ من هذا الطاغيةِ الفاشيِّ الأخيرِ.

عِلَاوَةً على ذلك، فإنَّ هكذا تقاربًا ذهنيًّا لافتًا بينَ كُنْهِ الطاغيةِ الفاشيِّ «الإنسانِ» وبينَ كُنْهِ الكلبِ اللافاشيِّ «الحيوانِ» في ماهيةِ الخوفِ المترسِّخِ ذاك، وعلى الرَّغْمَ من وجودِ ذلك الفارقِ النفسيِّ (السُّلوكيِّ) بينَهُمَا في طبيعةِ كلٍّ من الاستجاباتِ الهَرَعيةِ والاستجاباتِ الفَزَعيةِ مثلمَا ذُكِرَتْ قبلَ قليلٍ، إنَّمَا يدُلُّ دلالةً لا يرقى إليها أيُّ شَكٍّ على اقترانِ مَا يَبْتَنِيهِ هذا الخوفُ المُتَرَسِّخُ، في سَريرَةِ الطاغيةِ الفاشيِّ المعنيِّ، من مكنونِ تَعَاسَةٍ أو عُبُودِيَّةٍ أو رِيبَةِ نفسٍ أو حتى وَهَانَةِ جأشٍ ليسَ لَهَا، في عَيْنِ الواقعِ، إلاَّ أن تُجَسِّدَ منهُ طاغيةً فاشيًّا «وُهَامِيًّا» Paranoiac مُنْطَوِيًا أَيَّمَا انْطِوَاءٍ على نفسِهِ الباخِعِ ومُنْفَصِلاً كلَّ الانْفِصَالِ عن عَيْنِ هذا الواقعِ، سَوَاءً كَانَ مُنْفَصِلاً عن واقعِهِ الداخليِّ الذاتيِّ، أمَامَ «الأَنَا»، أَمْ كَانَ مُنْفَصِلاً عن واقعِهِ الخارجيِّ المَوْضُوعِيِّ، أمَامَ «الآخَرِ» – على النقيضِ الكاملِ، فيمَا يبدو، من أيِّمَا مبثُوثِ «سَعادةٍ» أو «حُرِّيَّةٍ» أو حتى «ثِقَةٍ بِنَفْسٍ» أو حتى «رَبَاطَةِ جَأْشٍ» يُمْكِنُ اسْتِشْفَافُهَا بشيءٍ من اليَسَارِ من أيَّةٍ من صُوَرِهِ وجداريَّاتِهِ الكامِخَةِ حِينًا في كلِّ فَضَاءٍ، أو من أيٍّ من تماثيلِهِ وأصنامِهِ الشامخةِ حِينًا آخَرَ في كلِّ عَرَاءٍ. فَشَتَّانَ شَتَّانَ بينَ مَا يُبْدِيهِ وَجْهُ الطاغيةِ الفاشيِّ «المُصَوَّرُ» و/أو «المُتَصَوَّرُ» مِنِ مَشَاعِرِ ابتهاجٍ واغتباطٍ ومِنِ نَظَائِرِ انشراحٍ وارتياحٍ ومِنِ بَصَائِرِ اسْتِبْشَارٍ واسْتِحْبَارٍ، في أَيَّةٍ من تلك الصُّوَرِ والجداريَّاتِ قبلَ أن يعتريَهَا التمزُّقُ والتهشُّمُ، وفي أَيٍّ من تلك التماثيلِ والأصنامِ قبلَ أن يعْتَوِرَهَا التصدُّعُ والتحطُّمُ، مِنْ طَرَفٍ أوَّلَ، وبينَ مَا يُخْفِيهِ وَجْهُ الطاغيةِ الفاشيِّ ذاتِهِ «المُحَقَّقُ» و/أو «المُتَحَقَّقُ» المُقَابِلُ مِنِ مَشَاعِرِ ابْتِئَاسٍ وارْتِكَاسٍ ومِنِ نَظَائِرِ انقباضٍ وامتعاضٍ ومِنِ بَصَائِرِ اسْتِطْيَارٍ واِكْفِهْرَارٍ، في قَرَارَةِ نفسِهِ أو قلبِهِ (إن كانَ يحتوي بالفعلِ، أو حتى بالقوةِ، قلبًا حقيقيًّا، في أيِّمَا وجهٍ من وُجُوهِ الحقيقةِ بالذاتِ)، مِنْ طَرَفٍ آخَرَ. وفي هذا البَوْنِ الشَّاسِعِ بينَ وَجْهِ الطاغيةِ الفاشيِّ «المُصَوَّرِ» و/أو «المُتَصَوَّرِ» وبينَ وَجْهِهِ «المُحَقَّقِ» و/أو «المُتَحَقَّقِ» المُقابلِ مَا يُبَيِّنُ بالجَلاءِ وبالانْجِلاءِ كيفَ أنَّ الطاغيةَ الفاشيَّ العَتِيَّ المُصْطَنَعَ هذا (وحتى أيًّا كَانَ كذلك) إنَّمَا هو جَانٍ نَفَّاجٌ مُتَنَفِّجٌ يحترفُ النَّفَجَانَ في أَزْرَى مَعَانِيهِ وفي أخْسَئِها وأخَسِّها، جَانٍ نَفَّاجٌ مُتَنَفِّجٌ يزدادُ سَمَاجَةً وضَرَاوَةً وشَرَاسَةَ بإزاءِ المُسْتَضْعَفِينَ والمُسْتَضْعَفَاتِ الأبرياءِ مِمَّنْ فُرِضَ عليهم طُغْيَانُهُ اللازَمَنيُّ كَرْهًا وقَسْرًا، في بقعةٍ شُؤْمٍ من بقاعِ هذا العَالَمِ العربيِّ واللاعربيِّ المُصَنَّفِ «عالَمًا ثالثًا»، كُلَّما ازدادَ رُضُوخًا وخُضُوعًا وخُنُوعًا لأسيادِهِ المُسْتَشَدِّينَ والمُسْتَشَدَّاتِ الأقوياءِ مِمَّنْ فَرَضُوا حتى أَسْوَأَ فَأَسْوَأَ من ذلك كُلِّهِ، في بقعةٍ سُمٍّ، أو حتى أكثرَ، من بقاعِ ذاك العَالَمِ الآخَرِيِّ واللاآخَرِيِّ المُصَنَّفِ «عالَمًا أولَ»، في المُقَابِلِ. وحتى لو صَادَفَ، في عَيْنِ العَالَمِ الاِفْتِرَاضِيِّ، أنْ حَصَلَتْ مُوَازَاةٌ بينَ وَجْهَي الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ هٰذينِ، وعلى الأخَصِّ من حيثُ مبثُوثُ «السَّعادةِ» أو «الحُرِّيَّةِ» أو حتى «الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ» أو حتى «رَبَاطَةِ الجَاْشِ» (تمَامًا مثلمَا نُشِرَتْ عَلَنًا جَهَارًا على غلافِ تيك المَجَلَّةِ الهِجَائِيَّةِ البريطانيةِ الشهيرةِ «العَيْنُ الخَفِيَّةُ» Private Eye، مؤخَّرًا حِينَئذٍ، تمَامًا مثلمَا نُشِرَتْ صُورَتَانِ متوازيتانِ تُرِيَانِ وَجْهَ بشار الأسد «مبتهجًا» و«مغتبطًا»، إلى آخرِهِ، قبلَ وبعدَ «إنْجَازِ مُهِمَّةِ» التَّكْلِيفِ بتلك المسرحيةِ الدمويةِ الكيميائيةِ الآنفةِ الذِّكْرِ)، فإنَّ هذا الطاغيةَ الفاشيَّ العَتِيَّ المُصْطَنَعَ بوجهَيْهِ المقصودَيْنِ هٰذينِ إنَّمَا يمثِّلُ دورَهُ المُرْتَسَمَ في المبثُوثِ ذاك تمثيلاً وَفِيًّا، على وَجْهٍ من الدِّقَّةِ والتَّفْصِيلِ وحتى الكَمَالِ كُلاًّ، وذلك بالنِّيابةِ المُثْلَى عن وُجُوهِ أسيادِهِ المُسْتَشَدِّينَ والمُسْتَشَدَّاتِ الأقوياءِ أُولئكَ الذين ازدادَ لَهُمْ رُضُوخًا وخُضُوعًا وخُنُوعًا، إذَّاكَ رغمَ أنفِهِ – وقدْ بلغَ التمثيلُ الوَفيُّ لهذا الدورِ مُرْتَسَمًا في المبثُوثِ ذاك مُنْتَهَاهُ حِينَمَا شَرَعَ إعلامُ النِّظَامِ، نظامِ الطاغيةِ الفاشيِّ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ ذاتِهِ في أعقابِ تلك المسرحيةِ الدمويةِ الكيميائيةِ بالذاتِ، حِينَمَا شَرَعَ وَقْتَهَا في الاستعراضِ التلفزيونيِّ المُفَبْرَكِ لأحدثِ وأخطرِ مَا بِـ«حَوْزَتِهِ» من أَسْلِحَةٍ روسيةٍ فَتَّاكَةٍ مُهْلِكَةٍ «لا تَهَابُ» أيَّ غريمٍ أمريكيٍّ أو بريطانيٍّ أو حتى فرنسيٍّ، كمثلِ صواريخِ «پانتسير» Pantsir وصواريخِ «بوك» Buk وصواريخِ «پيتشورا» Pechora، وغيرِهَا.

بهٰكذا مَثَابَةٍ لا تَسْتَحِقُّ حتى شيئًا وَاهِيًا أو وَاهِنًا من ذاتِ «الرِّثَاءِ المُفَاءِ»، إذن، يَعْرِضُ الطُّغَاةُ الفاشيًّونَ العُتَاةُ المُصْطَنَعُونَ في أَجْزَاءٍ شَتَّى من هذا العَالَمِ العربيِّ الرَّثِيمِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، يَعْرِضُونَ دَاءَ ذٰلِكَ الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ المُتَكَلَّمِ عَنْهُ هٰهُنَا أو هٰهُنَاك. وبهٰكذا مَثَابَةٍ مَاثِلٍ مُتَمَثِّلٍ، كذلك، يستعرضُونَ عَرَضًا أو حتى أَعْرَاضًا من هذا الدَّاءِ العُضَالِ، فِطْرَانِيًّا كَانَ أمْ خِبْرَانِيًّا (بالمعنى المُكْتَسَبِيِّ)، بكلِّ فخرٍ وبكلِّ اعتزازٍ بينَ الفَيْنَةِ والفَيْنَةِ، يستعرضُونَهُ أو يستعرضُونَهَا من جَرَّاءِ «لُهَاثِهِمِ الأبَدَيِّ المُكِلِّ والمُذِلِّ» وَرَاءَ ذينك السُّلْطَةِ والنُّفُوذِ المُطْلَقَيْنِ، إلى مَا شَاءَ مَرُّ الزَّمَانِ ومَا بَاءَ كذلك جَرُّ المَكَانِ، ومَا إلى كلِّ ذلك. بهٰكذا مَثَابَةٍ مَاثِلٍ يُبْرِزُونَ كُلَّ أَوْ جُلَّ عَضَلاتِهِمْ إِبْرَازًا مِنْ خَوْفٍ كَنِينٍ مُسْتَأْصِلٍ في أعماقِهِمْ، ومِنْ هَرَعٍ دَفِينٍ مُسْتَوْثِنٍ كذاك في أعماقِ أعماقِهِمْ، يُبْرِزُونَهَا عَضَلاتٍ جِدَّ جَوْفَاءَ جِدَّ عَجْفَاءَ، إنْ كانتْ مَحَلِّيَّةً لَامُسْتَوْرَدَةً «قُحًّا» في آنَاءِ اللَّيْلِ، ويُبْرِزُونَهَا عَضَلاتٍ «جِدَّ مَتْنَاءَ جِدَّ بَطْنَاءَ»، إنْ كانتْ لَامَحَلِّيَّةً مُسْتَوْرَدَةً «أُحًّا» في أَطْرَافِ النَّهَارِ. وبكلِّ تَعَاظُمٍ وتَطَاوُلٍ مُبْتَدَعَيْنِ هُنَا، وبكلِّ تَعَجْرُفٍ وتَعَنْجُهٍ مُفْتَرَيَيْنِ هُنَاكَ، وبكلِّ غَطْرَسَةٍ وغَطْرَفَةٍ زَائِفَتَيْنِ هُنَا هُنَاكَ، يَكْشِفُ عُصْبَةُ، لا بلْ عِصَابةُ، هؤلاءِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ عَنْ أَسْرَارِهِمْ وعَنْ خَفَايَاهُمْ على المَلأِ المَليءِ كُلِّهِ، يَكْشِفُونَ عَنْهَا وهُمْ يَعْلَمُونَ، أو لا يَعْلَمُونَ حتى، أنَّ مَا يَحْقِنُ ومَا يُوَرِّمُ تلك العَضَلاتِ «المِتَانِ جِدًّا والبِطَانِ جِدًّا»، بينَ آنٍ وآنٍ، إنَّمَا هو بالكَلامِ البَسِيطِ جِدًّا سِلاحٌ غربيٌّ «ديمقراطيٌّ» «ليبراليٌّ» «خَيِّرِيٌّ»، سلاحٌ غربيٌّ تتركَّزُ غايتُهُ الأولى والأخيرةُ بُدًّا على إِبَادَةِ أيِّمَا شَعْبٍ عربيٍّ مَغْلُوبٍ على أَمْرِهِ، حينمَا يُحَاوِلُ أن يثورَ في وَجْهِ هٰكذا طُغْيَانٍ وهٰكذا ظُلْمٍ وعُدْوَانٍ، وقَدْ طَفَحَ الكيلُ بِهِ طَفْحًا من كلِّ الجِهَاتِ، وقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى في يَوْمٍ فَائِتٍ بالمَدْعَى وفي يَوْمٍ آتٍ بالمَدْعَاةِ. غيرَ أنَّ مَا يَعْلَمُهُ عِصَابَةُ رَهْطِ هؤلاءِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ علمَ اليقينِ بَتًّا هو أَنَّهُمْ، حتى باسْتِخْدَامِ لُغَةِ الاِحْتِرَامِ الأدبيِّ الرَّفِيعِ هٰهُنَا، لا يَعْدُونَ أنْ يَكُونُوا، في هذِهِ القرينةِ بالذاتِ حَدًّا مَحْدُودًا، عِصَابَةَ رَهْطٍ من «كلابِ حِراسةٍ طَيِّعَةٍ وَفِيَّةٍ لِمَآرِبَ إمبرياليةٍ تَوَسُّعِيَّةِ لم تعُدْ خَافِيَةً على أَحَدٍ قَطُّ»، عِصَابَةَ رَهْطٍ من كلابٍ مُتَوَحِّشَةٍ مَسِيخَةٍ مَهِينَةٍ ليسَ لَهَا إِلاَّ أنْ تُعَبِّدَ الطريقَ عندَ الطَّلَبِ والإِلْزَامِ شيئًا فشيئًا تحتَ أقدامِ أسيادِهِمْ منْ عَيْنِ هذا الغربِ «الديمقراطيِّ» و«الليبراليِّ» و«الخَيِّرِيِّ»، وذلك سَعْيًا حَثيثًا وَرَاءَ احتلالِ أجزاءٍ ومناطقَ إسْتيراتيجيةٍ هامَّةٍ قدْ بَدَأَ التَّدَارُسُ فيهَا باهتمَامٍ شديدٍ منذُ بِدَايَاتِ مَا كَانَ يُسمَّى إِفْكًا آفِكًا بـ«الثورةِ العربيةِ الكبرى» عامَ 1916. فكَمَا أَنَّ عِصَابَةَ رَهْطِ أولئك الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أَيَّامَئِذِ قَدْ عَبَّدُوا الطريقَ بجُيُوشِهِمِ «عربيةً» أيَّمَا تَعْبِيدٍ لاحتلالِ بقاعِ فلسطينَ عامَ 1948، فإنَّ أشْبَاهَهُمْ من عِصَابةِ رَهْطِ هذِهِ الكلابِ المُتَوَحِّشَةِ المَسِيخَةِ المَهِينَةِ تبتغي، في هذا الآنِ وفي هذا الأوَانَ، أن تُكَرِّرَ الشيءَ ذاتَهُ من خلالِ التدخُّلِ العسكريِّ «العربيِّ» بَدَلاً بَدِيلاً من التواجُدِ العسكريِّ الغربيِّ (الأمريكيِّ) في فُرَاتِ سوريا، وذاكَ في مُقَابِلِ «لُهَاثِهِمِ الأبَدَيِّ المُكِلِّ والمُذِلِّ» وَرَاءَ ذينك السُّلْطَةِ والنُّفُوذِ المُطْلَقَيْنِ.

كُلُّ هذا التَّمَادِي المَقِيتِ الذي تَمَادَتْهُ عِصَاباتُ أَرْهَاطٍ من كلابٍ مُتَوَحِّشَةٍ مَسِيخَةٍ مَهِينَةٍ كهذِهِ لَمْ يَكُنْ لِيبلُغَ أوْجَهُ، كمَدْعًى أو كمَدْعَاةٍ لليأسِ والقلقِ الشعبيَّيْنِ على هذِهِ الشَّاكِلَةِ الشُّؤْمَى، لولا أنَّ ثمَّةَ في الداخلِ أيضًا مَنْ كَانُوا، ومَا زَالُوا، في احترافِ أشكَالِ المُدَاهَنَةِ والتَّمَلُّقِ والتَّلَهْوُقِ طُرًّا، أَسْقَطَ لا بَلْ أسْفَلَ لا بَلْ أنْذَلَ عِسَفَةٍ عَتَفَةٍ من أيِّ كلبٍ من كلابِ هذهِ العِصَابَاتِ الأَرَاهِيطِ حتى. ذلك لأنَّ «الكوائِنَ» البَشَرِيَّةَ المَقْهُورَةَ التي تُدْمِنُ على الظَّنِّ، قِيَامًا وقُعُودًا، وإلى حَدِّ اليَقِينِ بأنَّهَا عَاجِزَةٌ مُعْجَزَةٌ لا حَيْلَ لَهَا ولا حِيلَةَ لَهَا، على الإطلاقِ، في زَمَانِهَا السَّوْدَاوِيِّ العَصِيبِ، إنَّمَا هي بالتَّأْكِيدِ في سَيْرُورَةِ خَلْقِهَا الحَسْمِيِّ الأكِيدِ لِطَاغِيَتِهَا الفاشيِّ العَتِيِّ، أو لِطُغَاتِهَا الفاشيِّينَ العُتَاةِ، بنفسِهَا دُونَ غيرِهَا – تَمَامًا مثلمَا أنَّ «الكائنَ» البَشَرِيَّ الرأسماليَّ الحُوشِيَّ الهَمَجِيَّ بالتَّشْدِيدِ في تَسْيَارِ حَفْرِهِ الحَتْمِيِّ الشَّدِيدِ لِقبْرِهِ الشَّجِيِّ بنفسِهِ دونَ غيرِهِ، ولا رَيْبَ في هذا. ولَئِنْ كَانَ الطُّغَاةُ الفاشيُّونَ العُتَاةُ المُصْطَنَعُونَ، أيْنَمَا كَانُوا، يُفَضِّلونَ جُلَّ بَقَائِهِمْ «صَدَاقَةَ» الكِلابِ لِأَنَّ هذِهِ الكَائِنَاتِ الحَيَوَانِيَّةَ سَوْفَ تَبْقَى لَهُمْ خَادِمَةً وَفِيَّةً، وَطَائِعَةً مُثْلَى، حَتَّى لَوْ جِيرَ عَلَيْهَا أَشَدَّ الجَوْرِ، وَحَتَّى لَوْ أُذِلَّتْ كذاك أَشَدَّ الإِذْلالِ، كَمَا يَرْتَئِي الفيلسوفُ الاشتراكيُّ الفرنسيُّ شَارل فورْيِيرْ، فإنَّ في مُجْتَمعَاتِنَا الحَزِينَةِ والكَئِيبَةِ حَقًّا هُنَاكَ مَنْ يَسْتَحْلُونَ الأَشَدَّ الأَشَدَّ من كلِّ ذلك بالكَثِيرِ حَتَّى. فَمَا أَكْثَرَهُمْ مَنْ هُمْ خَادِمُو ثُلِّ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ الأَوْفِيَاءُ، وَمَاسِحُو أَحْذِيَتِهِمْ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ مَنْ هُمْ طَائِعُو فَلِّ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ الأَتْقِيَاءُ، وَلاحِسُو أَقْفِيَتِهِمْ. ومَنْ يُصِرَّ، بكُلِّ مَا أُوتِيَ مِنْ حَوْلٍ ومِنْ قُوَّةٍ، على أنْ يكونَ لِرَهْطِ هؤلاءِ الطُّغَاةِ الفاشيِّينَ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أكثرَ ذُلاًّ وتَذَلُّلاً مِنْ كَوْنِهِمْ هُمْ لأسْيَادِهِمْ، يُبَشَّرْ بِأَنَّهُ لا يَعْدُو أنْ يكونَ خادِمًا ذَلِيلاً مُتَذَلِّلاً لكلبٍ ولِابْنِ كلبٍ!

*** *** ***

دبلن – لندن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار