الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغنيات هواجس الذات المعزولة وابتكارات الخيال

علاء موفق رشيدي

2024 / 4 / 25
الادب والفن


أغنيات من جدليات المدينة إلى هلوسات الذات:
لقد تضمن الألبوم الأول للمغنية وكاتبة الكلمات (سابين سلامة)، والذي حمل عنوان (التعايش مع البقاء، 2020 ) من أربعة أغنيات: (مدينة بلا ناس)، (بهار ع الكابوس)، (علبة بلقب علبة)، (دج دج طح طح). وانطلقت فكرته على شكل حوارية سردية بتنويعات متعددة بين المغنية والمدينة، جدليات تتنوع في أسلوبيتها بين التغني الشاعري بالمدينة الخصوصية، وصولاً إلى علاقة الصراع، أو السلطة التي تملكها المدينة على المصائر، وتتركز فلسفة الأغاني على علاقة الذات المهمشة بالمدينة المركبة والتي تعيش بدورها تغيرات سياسية واجتماعية عديدة، مما يجعل سؤال الألبوم الأول راهناً في المخيلة الفنية اللبنانية. فتبدأ أغنية (بهار ع الكابوس) بعدد من الأوامر تطلقها المغنية إلى المدينة، كأن العلاقة الحميمية تسمح بهاذا النوع من الخطاب، لكن الأغنية ما تلبث أن تبين مقدار ضآلة الذات المغنية أمام الكوارث السياسية والاجتماعية التي عاشتها بيروت، فتوحي الكلمات بخيبة الأمل التي عاشتها المغنية مع الحراك الثوري في بيروت في العام 2019، وتقدم الكلمات لمحات عن أحداث تلك المرحلة، وتعاتب المدينة على الوهم الخادع بإمكانية التغيير:
"وقفي
لحظة هدّي
نفس عميق، فكري
أو نامي عليها للقصة
رجعيلها غير نهار بغير نظرة
غمضي، رجعي فتحي
لهيئة إلنا منك حصّة
يعني نزلتي فينا ضرب
نسينا كيف نهّز غير ننحني
رجعتي عملتي فينا الضرب
خليتينا شوي نحس أنه مننتمي
فينا نحتّل ساحات، نغيّر معنى مساحات".

في حين تكون قسوة المدينة في أغنية (علبة بلقب علبة) بالعزلة التي تفرضها على المغنية، والتي تجبرها على عزلة عن محيطها الاجتماعي، ولكن أيضاً بتطويق الذات:
"هيدي المدينة قاسية بطوّق ع نفسي لواجها
لو بتيجيني بأحلى عاصفة بلعوسها برجع ببذقها
هيدي المدينة قاسية بطوّق ع نفسي لواجها
برجع ع العلبة بسكّر فوق بعتّم جوا وبعلّي الصوت".

أغنيات عن الاغتراب، عن هواجس المكان والانتماء:
تبدو هذه العزلة الوجودية التي ينتهي معها الألبوم الأول، أكثر طغياناً في ألبوم المغنية الثاني بعنوان (طفو الضو لنشوف برا، 2023). وبين سؤال الألبوم الأول في العلاقة مع المدينة، ينتقل إلى سؤال عن الانتماء للمكان السائل، والمتحرك بإستمرار. فكاتبة الأغنيات تبين أن اللامكان هو المفهوم السائد في الألبوم الجديد، لقد عاشت على الصعيد الشخصي تجربة هجرة، ولكن السؤال أوسع من الحالة الذاتية، حيث تبين في نصوص الأغنيات ما يتعلق باللجوء، بالنزوح، والظواهر الإنسانية المتزايدة في العلاقة مع المكان أو الإنتماء الملتبس. جاء في النص التعريفي المرافق للألبوم: "يحتوي على 10 مسارات متنوعة تأخذ المستمع في رحلة عبر المراحل العاطفية المختلفة للهجرة. هناك تركيز على فكرة الانفصال والاغتراب، ولكن أيضًا على فكرة المضي قدمًا. يستخدم سابين في الألبوم روح الدعابة السوداء لخلق حالة فريدة من التأمل الساخر في مأساتها الخاصة التي تميز أسلوبها. كما أنها تحقق انتقالات فريدة ومتحررة، حيث تدمج موسيقى الراب مع الكلمة المنطوقة والغناء اللحني".

وقبل الإنطلاق في هذه الرحلة الموعودة في المقدمة، لابد من التذكير بالجانب الأداءي الغنائي الذي اعتمد على السخرية أحياناً في الأداء، وفي أحيان أخرى على الأصوات النفسية أو الهذيانية. تعتبر المؤلفة هذا الأسلوب خياراً أساسياً في فكرة الألبوم، وهذا ما يتضح من عنوانه، وعناوين بعض الأغنيات. تقول المغنية في لقاء مع صحيفة SceneNoise : "لقد كانت الفكاهة دائمًا هي آلية دفاعي ضد العالم، ولكن أيضًا ضد القلق. لا أرى بالضرورة أن هذا وسيلة للتعبير عن المرونة، ففي بعض الحالات وضعني هذا في مواقف صعبة في الحياة الحقيقية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالموسيقى، أعتقد أن هذا يمكن أن يساعد الآخرين على التعامل مع مشكلاتهم بشكل أسهل، عندما نمنح أنفسنا الإذن بالضحك على أنفسنا، تصبح الأمور أخف، وعندما يكون العالم مظلمًا جدًا من حولنا، عندها نحتاج ليضحك أكثر".

تذكر العوالم التي يبنيها الألبوم، بالعوالم الهامشية في مسرحيات الأديب الإيرلندي صامويل وبيكيت، وخصوصأ في بعض ألعابه اللغوية في السرد الروائي في ثلاثيته (مولي، مالون يموت، واللامسمى). تبدأ الأغنية بوصف العالم السفلي، القبو البعيد عن الشمس، يحضر الهلع والمرض، ثم تتداخل الجهات ويفقد السارد القدرة على التمييز، ثم تصل الأغنية إلى إدانة الإنسان المتناوب بين حالتي الندم والقرف:"
"برا شمس جوا قبو
نوبة هلع ولا ربو؟
برا شمس جوا قبو
نوبة هلع ولا ربو؟
مش شايفة الفرق بين شرق وغرب
وين ما كان قرفان
يا إنسان، شو ما كان ندمان
جسمي كمش الألم وانتكس
كمش القلم وفأس"
وتظهر مباشرة من الفقرة التالية الموضوعة التي حددتها مؤلفة الكلمات، اللجوء، المكان المؤقت، الشتلة التي يكتب عنها (بريخت) والتي يوصي المنفي أن يسقيها، مهما كان راغباً بالعبور المؤقت. في الأغنية هنا، تصبح العلاقة مع الشتلة سؤال عن المكان والحنين، وتربطه المغنية ببراعة مع سؤالها الفني، بسؤال عن الأسلوب الغنائي الأفضل تأثيراً في نطق الأفكار:
" أولك يلي اكتشف الشتلة بتكبر نطرها أو راح ورجع لقاها كبيرة؟
أولك لازم رتّب الجمل وانطقها أو بتركها عالقلب ثقيلة؟".

أغنيات في تجربة الرحيل، الهجرة، وعدم الوصول:
يركز الألبوم على الأغنية الثانية بعنوان (شنطة) باعتبارها حاملة لرمزية الموضوعة التي يريد التعبير عنها، الانتقال، الرحيل، اللامكان، في السيلان الدائم، في الحقيبة. ذلك ما يوصفه (إدوارد سعيد) ليس بالإنتماء لأكثر من مكان، بل بالانتماء إلى المكان. تتراكب في الأغنية التعقيدات النفسية، والذاتية مع حالة الانتقال المستمر، أحداث مثل الوقوع، فقدان الأعصاب، الحيرة والضياع، متلاحقة في العبارات الافتتاحية للأغنية، وتتداخل على المستمع العوالم بين المنام والكابوس والحدث الحقيقي:
" بضب الشنطة ع العميانة
بغمّض وبهرب بمنامي.

حملت حياتي تحت باطي
وهالمرة ع المظبوط عم بفقد أعصابي
ضليت فكر وين ممكن روح
لحد ما اتدركبت ع أرض مسطحة
أنا حيوانة بسفينة نوح
دبحت الحمامة ونطرت الغرقة
فتت باب الهجرة يلي ع شطنا مفتوح
وما من حسّ بالأمان غير بس يقلنا".

وتتطرق الأغنية إلى ظاهرة تشجيع الأهالي في بلداننا العربية لأبناءهم/ن على الهجرة. فتروي مشهد حوار بين أب يشجع ابنه على مستقبل الهجرة دون توعية على المصائر المحتملة، لكنها تنتقل بحيوية انفعالية إلى توصيف الذات في مراقبة نفسها، كأنها تشاهد ذاتها على التلفاز، فتتداخل مجدداً عوالم الهلوسات البصرية، مع الهلوسات الجوانية والفكرية، ولكن مع الحفاظ على نقد الإنعزالية في الحضارة الإنسانية، وصعوبة التواصل، خصوصاً حيث كتبت أغنيات الألبوم في فترة الحجر الصحي ضمن وباء كوفيد-19:
" هجوم مجنون ع نفسي كاني برا حالي
مش عارفة مين أنا أو كيف
في مطرح تمّي مضيف برامج
مستضيف ضيوف ع الهوا معالج تافه
عبينا كل زواية الكوكب وبعدنا كل واحد لحالو
يا ناسي يا استسلم يا غارق
ما عنا منا نتعلّم منن غير كيف نهرب كل الوقت
كل جيل بيخرق صدى الصوت بس بطيارة".

الأغنية الثالثة بعنوان (بسيطة) أغاني الألبوم ذاتية، وترتبط بتجربة الموسيقية في تحقيق مشروعها الفني كمغنية راب، ونسمع من خلال كلمات الأغنية آراء المحيط الاجتماعي بنقده أو سخريته من طموح امرأة، حيث تنهال النصائح التي توجه موهبتها بما يتماشى مع الواقع المفروض:
"حاسي وقتي مرق وبرضو وصلت بكير
مش مستعجلة محشورة وساحبة بلا تسكير تمي
بعدو عنّي فيني خطر انزلاق
عندي لعنة أفتراض
بوصل عند الافتراق

ضيعانك ما تكتبي مقالات
ليش ما بتعملي جلسات
علم نفس أو أعشاب
فتحي مطعم لا بالبيت
عملي لبنة أو محشي
بيعي شغلة بس أمشي
خلي الموسيقى ع جنب مش عيشة ما بتشتري عنقود عنب ".

إن كاتبة الأغنية تنقل الصعوبات التي تواجهها في تحقيق مشروعها ضمن المحيط الإجتماعي، وخصوصاً في مجال موسيقي يسم في العالم العربي بطغيان الموسيقي الرجل. هذه الموضوعة تتطرق إليها الفنانة باعتبارها غاية أساسية من كتابة وتأليف الأعمال الموسيقية: "أعتقد أن هذا الألبوم مهم جدًا ليس فقط فيما يتعلق بموضوع الهجرة، ولكن بشكل عام كونه أحد الألبومات الكاملة الأولى التي تأتي من مغنية راب عربية. آمل أن يكون مرجعًا للناس ليتمكنوا من التعامل مع هذه المواضيع بشكل أفضل في المستقبل، ولكنني آمل أيضًا أن يكون مصدر إلهام للنساء للتعبير بصوت أعلى وإعادة إنشاء رواياتهن داخل العالم العربي، وآمل أن يكون ذلك بمثابة سيعلم الرجال في المشهد أن يفكروا أيضًا في مشاعرهم ويسمحوا لأنفسهم باستكشافها والتعبير عنها.

أغنيات تعبر الجسور، وتصل العوالم الواقعية بالفانتازية:
تحمل أغنية (حكي فاضي) عالماً شعرياً وغنائياً نادراً في أعمال أغاني الراب، وهي تلك المتعلقة بالتغني بالطبيعة، بالليل. تبدأ الأغنية حين تشارك المغنية المستمع كيفية تأليفها للأغنيات، العلاقة مع الفكرة التي تحوم وتغيب، إنه تفكير بعملية التأليف:
" أجبر حالي أكتب ما عم تظبط أعرف
بركي جرب أحرك شو ما كان أقعد ألّف
مش ضروري أحسم ح أفصم لتطلع معي الكلمة
أو فكر ليش ما بتيجي دغري بالهّين
أرجع قول معليش الأشيا وحدها بتبيّن"

وتالياً ترسم لنا الأغنية لوحة دادائية حيث تتجاور عناصر كثيفة من الطبيعة من مفرق البلدة من أوتار آلة الغيتار، وتنتشر رائحة ورود بلا حدود، بمعنى التواصل. وتعترف المغنية بأنها تحمل في كلمات هذه الأغنيات ميلاً للسعادة:
"شو هي أصلا ولوين بدك تاخديا؟
طب روحي فيا
شوي نتسلى شوي نرخيا
بين كل هالتوتر شوي ضياع
في هبطة ع المفرق حد سردة غيتار
في دايما لعب ع الأوتار
بلحظة هدوء في ملتقى خدود
مش ريحة ورود هي ريحة قلوب مفتوحة ع بعضها من دون حدود"

أما الفقرة الأخيرة من الأغنية فهي المقصودة بالشعرية القادمة من عوالم الليل، الموال، السكوت، والقلب المحتال، بما يذكر بشعرية أغاني الرعويات، حيث تتداخل العناصر الطبيعية والإنسانية بشكل مستمر. لكن أيضاً، يحضر عنصر الموت بشكل فانتازي في النهاية، ويخطف الحكايات في ليل الوجود:
"في ليل بالصوت…
في ليل بالصوت حامل معو موال
يقول للخير سكوت انا قلبي محتال
حاضر دور حافظ كذب الأقوال
ناطر موت يخطف منو الأمثال".

تميز الأغنيات الأخيرة في الألبوم أفكار في الفاعلية، وفي المتعة، وفي إمكانية النضال المستمر. أغنية (عصفور) دعوة إلى الفاعلية، وإلى محاولة مد الجسور بالفنون، بالغناء، لتستعيد صورة العصفور والغناء شعريتها المرتبطة بالنضال والحرية:

"خلصني بقا من ليش عايشين
ركزلي لحظة ع وين واصلين
وين وصلة شو تعلمنا وكيف نبني قاعدة لأملنا؟
تعا مد جسور
تعا مدّ جسور بين هالبحور
بكتب سردية حور ودور
رح كون عصفور وغني رح كون عصفور
رح كون عصفور وغني رح كون عصفور".

لتصل الأغنية التاسعة بعنوان (بس لعب) إلى بناء عالم لعبي تخييلي، يماثل خيالات أدب الأطفال. لكن أولاً تنطلق من حوار قاسي بين الذات وانفصاماتها، وصراعاتها. فبينما يبين تسلسل الأفكار آثار العزلة القاسية، يدعو أيضاً إلى الاقتناع بإمكانية تجاوزها، دعوة التواصل تتكرر في أغاني الألبوم:
" شوف ولا مرة بعرف حدود الكلام
ببلش استكشف بخلص فلتان
مرات ببرنويا مقامرات وعدوان
ع مين ما كان و ع حالي
بغصّ بالثقل حاملتو ع الفاضي
خلي حالي عن حالها مش راضية
أهين شي بالعالم ضلني خانق حالي
بدنا نعرف نتخطيها
نقضي عليها مش نقضيها اعديين مفكرين حالنا لحالنا
ونحن بالحب محاطين".

وتقدم الأغنية حلاً واضحاً لمشكلات العلاقة بين الذات والجماعة، فالبداية بأن تتحمل الذات مسؤولياتها فتحرر من القيود الاجتماعية، وتعود إلى معاييرها المستقلة، تلك التي تلهو فيها، تستمتع، وربما تسقط وتتلخبط، لكنها مسؤولة عوالم مغامرتها، ويضيف الأداء الغنائي إلى كلمات هذه الأغنية عوالماً فانتازية:
" مانو عارنا نكون بشر
مش انا يلي قتل وهجر
انا يلي هاجر بس دقّ زمور الخطر
بحمل عاري بخصري وبرقص مقطع من فيلم مصري
هيدا العتب عليي حصري
بطجطج بالأرض من مطرح لمطرح
بنبطح بتسطح بتلخبط بتشقلب بتخبط
بيوقع كوكب عليي وبوقف على اجريي
ما حدا اله شي عليي".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري