الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الواقع وأثره على الشاعر في ديوان -بارقات تومض في المرايا- منذر يحيى عيسى

رائد الحواري

2024 / 4 / 25
الادب والفن


الواقع وأثره على الشاعر في ديوان
"بارقات تومض في المرايا"
منذر يحيى عيسى
بعض النقاد يتحدثون عن ضرورة وجود وحدة لموضوع المنجز أدبيا، لكن، اعتقد في المنطقة العربية، يصعب أخذ هذا المبدئ والاعتماد عليه لتحديد جودة العمل، أو لفتح الباب لأخذ موضوع/فكرة واحدة عما جاء به، فهناك تشعبات متعددة يتناولها الأديب/الشاعر في عمله.
وهذا يأخذنا إلى الحالة، إلى الواقع الذي تمر به المنطقة العربية، فهناك دولة مغتصبة لأرض عربية وتستبيح شعبها وتفعل به ما لم يفعله هتلر بهم، كما أن احتلال العراق من قبل العدو الأمريكي عام 2003، وما جرى في ليبيا بعد تدخل الغرب فيه مباشرة، وتعاونه من الأنظمة النفطية العربية التي ساهمت ليس بالمال فحسب، بل من خلال المشاركة في العدوان أيضا، مما جعلها دولة قبائل وعشائر، وما أحدثوه من قسمة للشعب اليمني الذي تعرض للعدوان من قبل أنظمة النفط الخليجي، والخرب الذي أحدثه الغرب في سورية من خلال الجماعات الإرهابية المدعومة من دولة الاحتلال والأنظمة الرجعية العربية، والتدخل المباشر واحتلال أجزاء من سورية من قبل الأمريكان والأتراك، واستمرار هذا العدوان الذي تجاوز عشرة سنوات ونيف، أنعكس على الأدباء وعلى إنتاجهم، بحيث جعل إنتاجهم الأدبي يختلط فيه الألم مع الفرح، الحرب مع السلم، الطبيعة والمرأة والكتابة مع الفساد والقتل، من هنا سنجد كل المشاعر الإنسانية والوطنية في ديوان: "بارقات تومض في المرايا".
إذا ما توقفنا عند الديوان بعمومية، سنجد السواد يغلب عليه، وهذا أمر طبيعي لشاعر يعيش حالة الحرب الخارجية والحرب الداخلية، لكن "منذر يحيى عيسى" كشاعر لا يقبل أن يقدم الواقع كمرآة، من هنا كانت "بارقات تومض" لتكون جمالية أدبية على واقع قاسي ومؤلم.
دور الشاعر
قبل الدخول إلى الديوان نتوقف عند رؤية الشاعر لدوره كشاعر منتمي لشعبه/لأمته/لوطنه، يقول في قصيدة "رغبات الشاعر":
"الشاعر يحمل مصباحه
ليضيف إلى العتمة داخله
عتمة...
ليقول ما يتمنى قوله..
وليرى
ما يرغُبُ أن يُرى
خلف حجب
من الكلمات المتنكرة..." ص28.
نلاحظ أن الشاعر يستخدم الفعل المضارع: "يحمل، ليضيف، ليقول، وليرى" كإشارة إلى استمرار فاعلية وأثر الشاعر في المجتمع، فعله وأثره مستقبلي وليس آني، ونجده يجلد ذاته في سبيل الآخرين: "ليضيف إلى عتمة داخله عتمة" مما يجعل دوره كدور الأنبياء، يفعلون الخير لإصلاح الأمة، ولا يريدون منها لا جزاءً ولا شكور، فهم يعطون لأنهم جبلوا على العطاء وخدمة الآخرين.
وبما أننا نتحدث عن شاعر/نبي فستكون أداته في التغيير ومواجهة الفساد هي الكلمة، من هنا تكرر "ليقول/قوله/الكلمات" وبما أنه لا يتكلم بحديث عادي، بل بحديث/بقول مهم، وناتج عن الوحي/الرؤيا والتوقف عند الأحداث، والخروج باستنتاجات فكرية تمس الواقع وحياة الناس، فجاء "ليرى ما يرغب أن يرى" وهذا ما يجعل بصير بما هو آت، وما سيكون عليه الحال.
من خلال هذا الإطار يمكننا الدخول إلى الديوان وفهم ما جاء فيه.
الصور الشعرية
الصورة الشعرية حاضرة وبقوة في الديوان، كما أن طريقة تقديم الفكرة/لحالة/الموضوع واللغة المستخدم تجعله الديوان استثنائي لما يحدثه من متعة ودهشة في المتلقي، وهنا يكمن دور الأدب وأهميته، تقديم واقع قاسي، بلغة، وشكل، وطريقة ناعمة، تُحدث المتعة وتبث الفرح/الأمل.
سنحاول التوقف عند بعض ما جاء في الديوان ونبدأ من الصورة الشعرية التي تمثل الوعاء الحامل للأفكار/للمشاعر المطرحة، يقول في "رموز الراية":
"الراية
ترتفع متغاوية
برموز ألوانها الغنية
وبقصص ومآثر القامات التي حملتها
وتردد أغاني
وتهب من أفئدة الماجل
وخصب البيادر..." ص57.
اللافت في هذه الومضة أنها لا تعظم الراية فحسب، بل تعظم حامليها أيضا، وهذا ما يجعلها تتحاوز فكرة أنها مجرد راية، أي راية، فبعد أن حملتها/رفعتها "القامات" أصبحت تحمل صفة اجتماعية/ وطنية/قومية.
ونلاحظ عدم وجود أي لفظ أسود/قاسي في الومضة، وهذا يعكس نظرة الشاعر للراية، فهي مصدر لفرح/للسعادة من هنا نجد هذه الألفاظ التي تشع بالفرح: "الراية، ألوانها، متغاوية، الغنية، قصص، مآثر، القامات، أغاني، تهب، أفئدة، وخصب، البيادر" وإذا ما توقفنا عند الألفاظ سنجد منها ما هو متعلق بالسماء، العلو والارتفاع: "الراية، ترتفع، القامات،" ومنها ما هو متعلق بالخصب/بالأرض "المناجل، خصب، البيادر" من هنا كان الفرح الر وحي حاضرا: "ألوانها، بقصص، أغاني" وهكذا نصل إلى تواصل دورة الفرح، فهناك أرض، وهناك سماء، وهناك ناس يتفاعلون معهما، وفيما بينهم، فينتجون ما هو مادي/أرضي "المناجل، البيادر" وما هو روحي/سماوي الغناء/"الأغاني" الرسم/"ألوانها" الكتابة/"القصص" وبهذا يكون الشاعر قد جمع بين الإنتاج الحضاري والثقافي لمجتمعه/لشعبه/لأمته.
وقبل أن نغادر هذه الومضة نشير إلى أنها أخذتنا إلى طقوس الفرح التي مارسها السوري القديم، عندما كان يحتفل بعودة البعل، مغنيا أمام ينعان الحقول وما فيها من سنابل.
عناصر الفرح/التخفيف
وقت الشدة هناك مخففات يلجأ إليها الشعراء، تتمثل في المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، في قصيدة "هروب القصيدة" نجد نموذج لهذا الأمر:
"في الصباح
أدخل حضرتك المقدسة
حاملا:
قصيدتي
ومشطا خرافيا لأسرح شعرك الطويل...
لكني أرتبك
وتتجمد يداي...
عندما تفر القصيدة بأجنحة بهية
إلى سماء بعيدة المنال
تبارك طقوسها كما تشاء
فأغرق بواقع الندم..." ص43.
في هذه القصيدة نجد كل عناصر الفرح، فهناك امرأة يخاطبها الشاعر: "حضرنك المقدسة" وهناك الكتابة: "قصيدتي/القصيدة" وهناك الطبيعة: "بأجنحة، سماء، بهية" وهناك التمرد: "تفر، تبارك" وهذا ما يجعلها قصيدة ناعمة، ممتعة.
لكن هناك مسألة تستوقف المتلقي، فالبياض/الفرح حاضر في كل شيء "القصيدة/المرأة الطبيعية، والتمرد، في الألفاظ المستخدمة: "الصباح، حضرتك، المقدسة، قصيدتي/القصيدة، لأسرح، شعرك، الطويل، بأجنحة، بهية، سماء، تبارك طقوسها" لكن ما هو متعلق بالشاعر جاء بألفاظ قاسية: "ارتبك، تتجمد، فأغرق، الندم" وهذا ما يثير المتلقي ليتساءل عن السبب وراء هذا الارتباك، التجمد، الندم،.
يكمن السبب لهذه الشدة في أن من يقوم بالثورة/التمرد هي أنثى/القصيدة ـ يفترض، لضعفها، أن تكون طيعة ـ لكنها تتمرد وتثور على واقعها محلقة في السماء، بينما الذكر/الرجل/الشاعر يقوم بأعمال أرضية (رتيبة): "أدخل، حاملا" فالفرق بين من يصبو إلى السماء هو وضيف، وبين من يقبل البقاء على الأرض هو قوي تجعل هذا القوي بصاب بالندم.
الكتابة ليست مجرد فعل/عمل يمارسه الشاعر، بل هي الأداة/الوسيلة التي يحقق بها ذاته كشاعر، ودونها يمسى شخصا عاديا كباقي الناس، هذه حقيقة الكتابة بالنسبة للشاعر، في قصيدة "الطبيعة الشاعرة" يعطينا صورة عن رؤيته للكتابة:
"كتابة القصيدة
تشبه فعل ظاهر الطبيعية
فعندما تهب العاصفة
تهب دون قرار..
ولا مخطط لعصفها
ولا يمكن تحديد البداية...
مع عجز أكيد
عن معرفة النهاية...
وأماكن العبور
وأين سيكون: القرار؟!..." ص148.
اللافت في هذه القصيدة قوة حضور الأنثى/القصيدة: " كتابة، القصيدة، تشبه، الطبيعية، تهب (مكررة)، العاصفة، لعصفها، البداية، معرفة، النهاية" وهذا يقودنا إلى حالة التماهي بين الشاعر والقصيدة التي تكونه، ونلاحظ أن المساحة التي تتحرك فيها القصيدة/الأنثى شاسعة:
"ولا يمكن تحديد البداية/ عجز أكيد عن معرفة النهاية" فما دام هناك بداية ونهاية، إذن هناك زمن، وبما أنه لا يمكن تحديد البداية والنهاية فهذا يجعلها عابرة للزمان، وإذا علمنا أن الزمن لا يمكن أن يلمس ماديا، نصل إلى أن حركتها متعلقة بالسماء بعيدة عما هو مرئي/مادي، من هنا جاءت خاتمة القصيدة تتحدث عما هو غير محدد/معروف/معلوم: "أماكن العبور، وأين القرار"
وفي قصيدة "وللقلب ومض ونبض" يؤكد الشاعر بقاء وجود الكتابة ككائن حي، بينما هو راحل/مُنتهي:
"أيتها الأوراق البيضاء
وقد تعمدت بألوان الكلمات
ورقصت على سطحك
آهات شاهقة..
أيتها الأوراق
إنني سأرحل وأنت الباقية" ص192 و193.
نلاحظ قوة حضور الأنثى وبصورة مطلقة: "أيتها، الأوراق (مكررة)، البيضاء، تعمدت، الكلمات، ورقصت، آهات، شاهقة، وأنت، الباقية" وهذا يقودنا إلى حجم المساحة التي تحتلها القصيدة في الشاعر، وإلى ما تحدثه فيه من فرح، من هنا جاءت الألفاظ بيضاء تشع بالفرح، وما أنست القصيدة: "تعمدت، ورقصت" إلا من باب الأثر الذي تحدثه في الشاعر.
وإذا ما توقفنا عند أفعال القصيدة: "تعمدت، رقصت" سنجدها متعلقة بالطهارة الجسدية والروحية، فالتعميد يتجاوز الاغتسال العادي، ويمتد ليصل إلى الروح/العقيدة، كما أن المُعمد أبقى وأكثر أهمية من المُعِمد، من هنا كان السيد المسيح أهم وأبقى من يحيى الذي عمده، وما رحيل الشاعر وبقاء القصيدة، إلا تكرار/تماثل للحدث الديني القديم، فالأهم يبقى والأقل أهمية يذهب.

المرأة
المرأة لها مكانتها عند الشاعر، فهي من تمنحه الهدوء والسكينة، لهذا استعان بها في أكثر من موضع، جاء في ومضة "لغم كامن":
"القبلة الأولى
أدخلت إلى دمي البكر
باقة قرنفل بكامل عطرها
استقرت في القلب
كأنها نشوة الدماء
وهي مال تزال تشعل نراها
حين تشاء.." ص42.
(يفترض) أن ينعكس حضور المرأة على الألفاظ بحيث تكون مطلقة البياض، لكننا نجد أن هناك قسوة/شدة في: "دمي/الدماء، تشعل، نارها" وهذا له علاقة بالشكل الذي قدمت به المرأة، فقد جاء حضورها من خلال الحس المادي "القبلة" فرغم أن "القبلة" ناعمة: "قرنفل، عطرها" إلا أن أحدث ثورة/نارها، وهذا يعود لأنها القبلة/المرة الأولى.
هذا على صعيد الفكرة، أما على صعيد الألفاظ فنجد أن هناك مجموعة ألفاظ لها علاقة بأثر تلك "القبلة": "باقة، قرنفل" اللذان يتماثل فيهما حروف القاف مع قاف القبلة، ونجد أثر تلك "القبلة" يبدأ ب: "نشوة" ويمد إلى: "تشعل" وينتهي عند: "تشاء" فأثر النشوة امتد وتواصل من خلال المعنى، ومن خلال حرف الشين الذي تكونه تلك الألفاظ، وهذا يأخذنا إلى أن الشاعر لا يكتب بحالة وعي، بل من خلال العقل الباطن ما يختزنه من أثر لتلك القبلة التي ما زالت حاضرة ومشتعلة.


السواد
الواقع يؤثر على الأديب/الشاعر، وعلى ما يقدمه الشاعر من قصائد، وبما أن هناك عدوان رباعي على سورية، دولة الاحتلال، الأمريكان، الأتراك، عربان الرمال، فقد انعكس هذا الأمر عليه، وعلى ما يقدمه من قصائد، يقول في قصيدة "حانة فارغة":
"المدينة
التي تفرد قدميها
في زرقة البحر
وتتكئ على خضرة الجبال
وتظللها غيوم سخية
ترسم شوارعها بحبر جراحها
كما تشاء..
كم هي موحشة
عندما تخلو
حاناتها من النبيذ
ونوافذها من النساء
وحدائقها
من الأزهار والعصافير
أو....
عندما يقلُّ الأصدقاء
ويزحف الخراب الرجيم
إلى فسحة الحلم..." ص145.
إذا ما توقفنا عند طريقة تقديم القصيدة سنجد أن الشاعر افتتحها بفكرة بيضاء/طبيعية: "زرقة البحر، تتكئ، خضرة الجبال، وتظللها غيوم" وبما أنه لا يتحدث عن مجرد مدينة جميلة، بل عن مدينته هو، المدينة التي أوجدت "منذر يحيى عيسى" فكان لا بد من الحديث عن الألم الذي تمر به، وبما أن "منذر" شاعر فكان عليه تمرير هذا الألم بصورة ناعمة من هنا استخدم:
"ترسم شوارعها بحبر جراحها"
فمن خلال "ترسم" نصل إلى حرص الشاعر على عدم إيذاء المتلقي بما تمر به المدينة من قسوة، وهنا تتحول القصيدة من البياض وبهاء الطبيعة إلى السواد، لكن هذا السواد رغم أنه يتناول كافة جوانب المدينة/الحياة فيها، إلا أنه جاء بطريقة لا تحدث ضررا نفسيا في القارئ، بل تقدم الفكرة وتوصلها لكن دون أية أضرار، فنجده يختزل القسوة/السواد بلفظ "موحشة، تخلو، يقلُّ" ما إبقائه/محافظته على بهاء المدينة:
" حاناتها من النبيذ
ونوافذها من النساء
وحدائقها
من الأزهار والعصافير
أو....
عندما يقلُّ الأصدقاء"
فجمال الطبيعة حاضر من خلال: "حدائقها، الأزهار والعصافير" وكذلك الجمال الاجتماعي/"حاناتها، نوافذها من النساء" وهذا انعكس إيجابيا على الشاعر/"الأصدقاء"
لكن عندما فقد الشاعر كل هذا الجمال "الطبيعي، الاجتماعي، الشخصي" ساءت حالته مما جعله (يخرج) عن هدوئه واتزانه، ومكثفا من استخدام السواد: "ويزحف، الخراب، الرجيم"
تستوقفنا هذه الألفاظ لأنها متعلقة بالشر/بالجذب الطبيعي/"يزحف" وبالجذب/الخراب الاجتماعي والعمراني/"خراب" وبالنفسي والشخصي/ "الرجيم" فهذا التوازن بين ألفاظ الخير والشر، له علاقة بطريقة تفكير السوري الذي ينظر إلى الخراب/الجذب على أنه حالة طبيعية، ناتج عن تابع الفصول ودورتها، ولأنه سيتبعه الفرح لاحقا، من هنا ختم القصيدة بألفاظ بيضاء: "فسحة الحلم" كإشارة غير مباشر على الأمل/الفرح المتمسك به والمُخزن في العقل الباطن للشاعر.
الأمل
الأمل بالخير/بالخصب القادم حالة لازمت السوري منذ أن نشأ على هذه الأرض، وما وجود البعل وعشتار إلا صورة عن هذا الأمل الكامن فيه وفي طريقة تفكيره وتعامله مع الأحداث، الشاعر في ومضة "ألم النهاية" يعطينا صورة عن هذا الأمل:
"تؤلمني النهايات
وتفتت أوصالي
حتى نهاية الألم.. فأنزوي قنفذا
يحتمي بأشواكه
ويشتعل الحنين إلى البداية.." ص172.
نلاحظ أن الشاعر يستخدم صيغة أنا المتكلم: تؤلمني، أوصالي، فأنزوي، بأشواكه" وهذا له علاقة بالحالة (الشخصية/النفسية) التي أراد تقديمها، فهو يتحدث عن السوري "منذر يحيى عيسى" الذي يحمل في عقله الباطن تتابع وتواصل (المعركة) بين الخير والشر، فرغم أن الخريف فيه من قسوة/الخراب الشيء الكثير، إلا أنه ممهد لقدوم الشتاء والربيع، من هنا نجد الشاعر لا ينظر إلى الخراب/القحط/المرض بشكله الآني/المجرد، بل كمُمهد ومُقدم للخير القادم من هنا جاء "الحنين" إلى "البداية"
اللافت في هذه الومضة أن القسوة جاءت بأكثر من لفظ: "تؤلمني، النهايات/نهاية، تفتت، الألم، فأنزوي، بأشواكه" بينما نجد الفرح/الخير في "الحنين، البداية" وكأن الشاعر يقول أن الخير/الفرح قادم وحاضر، رغم شح الإمكانيات، فلا نبتئس بكثر الشر/الجذب في الواقع، ولننظر إلى الأمام والخير القادم لنا.
وجاء في ومضة "وللقلب ومض ونبض":
"حاولي أن تكوني
رذاذا غامضا، أو ندى
يعيد متى شاء
لأوراق العمر الاخضرار" ص193.
الاستعانة بالمرأة يأخذنا إلى استعانة السوري ب"عشتار" فهي من تجلب الخير الكامن في الماء: "رذاذا/ندى" وهي من تخصب الأرض "بالاخضرار" فعندما قدم الشاعر الماء: رذاذا/ندى" على "الاخضرار" أعطانا صورة عن الطبيعة وتسلسلها.
وبما انه يتناول الفرح، فقد جمع/زاوج بين فرح الطبيعة "رذاذا، ندى، أوراق، اخضرار" وبين الفرح الإنساني/المرأة "العمر، كوني" وهذا جعل الومضة مطلقة البياض تجتمع فيها الفكرة البياض مع الألفاظ.
السياسي
قلنا إن الشاعر لا يقدم ما تعكسه المرايا كصور مجردة، بل يقدمه كما يراه هو، يتناول الواقع الرسمي العربي بومضة "زيف الأوسمة":
"الأوسمة على صدر القائد
المفعم غرورا
ها تساءلنا يوما
من أين جاءت هذه الأوسمة؟
أو أننا نتجاهل...؟!
أنها ملونة بدماء الجنود..." ص157.
طرح موضوع سياسي يحتاج إلى حوار، وإلى استخدام العقل/المنطق، من هنا تكون الأسئلة أحدى الوسائل التي تحث على التفكير والبحث عن الحقيقة، الشاعر يستخدم ثلاثة صيغ للسؤال: "أين، كيف، أو" وهي كافية لإيصال فكرة (التخاذل/التجاهل) التي نمارسها بحق أنفسنا، وحق شعبنا/امتنا، فعندما أستخدم الشاعر صيغة نحن: "تساءلنا، نتجاهل" أراد إشراكنا بتناول الشأن السياسي وكيف أننا نقف مع "القائد المفعم غرورا" ولا نقف مع أنفسنا، وعندما طرح موضوع "الجنود" حفزنا نحن التلقين على الفعل/العمل للتخلص من هذا "القائد" لأن دمائنا ستكون أوسمته لاحقا.
وإذا ما توقفنا عن الألفاظ المجردة سنجد فكرة الثورة/التمرد حاضرة، فالشاعر يستخدم صيغة المفرد متعلقة بالقائد: "صدر، القائد" بينما صيغة الجمع جاءت بأكثر من حالة: "الأوسمة (مكررة)، تساءلنا، نتجاهل، بدماء، الجنود" وكأنه من خلال الكثرة الحاضرة في الجمع، يريد أن يقول إن غرور القائد ناتج عنا نحن الجمع، من هنا علينا التخلص من هذا المفرد المغرور الملوث بالدم.
الثقافة الدينية
في أي عمل أدبي نجد شيئا من ثقافة الشاعر، فهو يكتب بلغته هو، وبما أن الثقافة الدينية جزءا أساسيا من تكويننا الاجتماعي والثقافي، فقد أصبحت اللغة الدينية مكون أساسي من لغتنا وخطابنا، الشاعر يستخدم هذه الثقافة في أكثر من قصيدة، فنجد أما أحاديث نبوية، أو تناص قرآني في أكثر من قصيدة، جاء في قصيدة "عجائب الزمن"
في الزمن
الذي يصبح فيه:
ـ الأبلة سيد المفكرين
ـ اللص نقيب الأشراف
ـ العاهرة
مؤرخة للعفة في دفاتر الفضيلة
وتبيع أختام المحصنين
ـ المنافقون
نخبة الصفوف الأولى
ـ الشعراء
مثار السخرية..
أعلموا:
أن الساعة
لا ريب آتية
"وتزودوا فإن خير الزاد":
النفور كأيل في الصحراء" ص153.
كلنا يعلم الحديث النبوي عن آخر الزمن: سيأتي على الناس سنوات خادعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قبل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمور العامة" تكاد تكون فكرة القصيدة صورة أخرى للحديث النبوي، فهناك فساد اجتماعي، سياسي، أخلاقي، ديني، بحيث لا يعود هناك مكان للصادق/ للمنتمي/للمبدئي.
اللافت في طريقة تقديم الواقع، أن الشاعر يركز على الفساد والفاسدين بحيث أعطاهم المساحة الأكبر في القصيدة، بينما جعل المنتمين مساحة ضيقة (ثلاث كلمات) فقط: "والشعراء مثار السخرية" وهذا يخدم فكرة القصيدة التي يسود فيها الفاسدين من التافهين والمنافقين واللصوص والعاهرات، بينما هناك أقلية من الأنقياء.
ونلاحظ أن الشاعر يختم القصيدة معتمدا على التناص مع القرآن الكريم، بحيث استحضر آيتين: "إن الساعة أتية لا ريب فيها، وتزدوا فإن خير زاد التقوى" ليعلل/ليوضح لماذا اتخذ هذا القرار/الفكرة:
"النفور كأيل في الصحراء" وهو بهذا القرار (الهجرة) مدعوم دينيا من خلال الآية القرآنية التي تدعو المؤمنين للهجرة وترك أرض/بلاد الكفر والفسوق: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" وبهذا تكون الفكرة (زمن الرويبضة) التي قدمها متناسقة مع الشكل الأدبي الذي ساعد وساهم في إيصالها للمتلقي المؤمن/المنتمي.
وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة سنجدها خالية من الجمال/الفرح إذا ما استثنينا "الشعراء" فالخير في الأشراف" سرقه اللص، وأهمية الفكر استحوذ عليه الأبلة، والفضيلة أصبحت تحت رحمة العاهرة، والوجاهة للمنافقين، مما يدفع النبلاء للهجرة وترك هذا الواقع وهذا البلاد لمن فيها.
بهذه الطرح المتشعب والمتعدد أستطاع الشاعر "منذر يحيى عيسى" أن يعطي نموذجا أدبيا عن الواقع الذي يمر به سورية والمنطقة العربية، وانعكاس هذا الأثر على إنتاجهم الأدبي، بحيث أصبح المُنتج الأدبي عربيا متميزا بعدم تخصصه بموضوع/بفكرة محددة.
الديوان من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري