الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاءَاتُ الطفولة في “أيْلَة“

ادريس الواغيش

2024 / 4 / 28
الادب والفن


في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق الله، ثم جمال الفضاء في بيت الأسرة والجلوس حول البرّاد والصّينية بالقرب من ساقية العرصة، وظلال الصّلصال فوق الألواح المُعلقة على حيطان “المْسِيد“ في الجامع، والنظر إلى أبعد مدى مُمكنٍ من كديات تاونات في جبال الريف، ثم رسم خرائط شبكة الطرقات على مقاسات أقدامنا الحافيات، قبل أن يظهر أمامنا بياض مدرسة ابتدائية في سيدي عبد الرّحمن، وبعدها ظهر شيء مختلف في حياتنا، تجلى في قبح أعمال بعض الناس في الدّوّار والقبيلة، واعوجاج في سلوكاتهم اليومية. لم نكن نعرف ما معنى الغد، ولا نخطط له، كنا نكتفي بما نعيشه في حاضر يومنا، لا ما يخبئه لنا غدنا، وإن كنا نؤمن كما غيرنا باليوم الآخر والقدر خيره وشرّه.
في فضاءات “أيلة“انبثقت ملامح شخصيات كثيرة من جيل قريتنا الصغيرة، وفيها بدأت مرحلة التأسيس للغد، وما بعدَ الغد، قبل أن تتمدّد سلالة قريتنا من الجيل الرابع والخامس وتنتشر في أنحاء كثيرة من شرق الأرض وغربها. لم نكن ننحني برؤوسنا بحثا عن بياض الرّيال أو الدّرهم، كنا نحرص على أن تظل الرّؤوس دائما مرفوعة في كبرياء للاستمتاع بزُرقة السماء، واستنشاق الهواء أو رؤية سحب الخريف، وهي تمرّ في انتظام تباعا قادمة من جهة الغرب، لكي تمر مغمضة العينين إلى حتفها النهائي في جهة الشرق، تتلوها قطرات فصل الشتاء وزخات المطر الرّبيعي، كي تستفيق سنابل القمح من سباتها، وتنتصبُ في مزارع ربيعنا. قريتي تعرفني كما أعرفها، أعزّها بكل قبحها وجمالها، فيها كنت أبدأ روتيني اليومي صباحا بشرب نصف غلاية من الشاي، وأكتفي بأكل خبز الشعير والزيت والزيتون، قبل أن أختفي بين غابات البطم والزيتون والخروب والتين بحثا عن بيض الطيور وفراخها. كنت مُدمّرًا صغيرًا، وحشٌ آدميٌّ لا تُغتفر جرائمه، ألم أقل لكم أنه واجب عليّ اليوم أن أحجّ إلى بيت الله الحرام وأطيل في الصلوات الخمس، عسى أن يغفر الله لي ما تقدّم وتأخّر من تلك الذنوب والآثام والمعاصي.
كنت أرى جمال قريتي بكل الألوان، بُنّية في الخريف، رمادية في الشتاء، خضراء في الربيع ثم صفراء في الصيف. أربعة ألوان مختلفة تتناوب على عيوننا في كل سنة، وكنا نستمتع بجمالها وروعتها، بدءا بعملية الحرث وانتهاء بالحصاد وعملية الدّرس. كل فصل من هذه الفصول الأربعة تتبعه قصص حُبٍّ وحكايات غرام، تنتهي في الغالب بقصص حُبّ فاشلة أو أعراس في الصيف، إن نجحت ووصلت إلى آخر أطوارها، وللأعراس الصيف في قريتي طعم آخر، يختلف عن باقي طقوس أرض الله الواسعة.
في “أيلة“ قليل مني، معجون بأجزاء تتكاثر فيّ بفاس. وفي تلك القرية الصغيرة المعلقة في مقدمة جبال الريف تمتزج الأرواح بالأتربة، الأموات بالأحياء، الوقائع الحقيقية بالحكايات والأساطير، الحاضر بالماضي، قبل أن يصبح مُجرّد حنين ونوستالجيا. ولأنني مشيت حافي القدمين في طين مسالكها الضيقة، وقفزت بكل حذر، وأنا صغير كالجدي في غدران ورغة وعلى كدياتها المسنّنة في الصباحات الباكرة، كما في المساءات المتأخرة من أعراس الصيف، حتى هدّت ركبتيّ صعودا ونزولا، تمكنت من معرفة خبايا الأمكنة وأسرارها جيّدا. كنت أعرف لغات قريتي وصمتها، وعدد التواءات الطرقات والمنعرجات فيها، كما كان يعرف سيدنا سليمان منطق الطير ولغة الحيوانات. وقريتي “أيلة“ أيضا كانت تعرفني، كما كنت أنا أعرفها. أخاطبها بحميمية مفردات قاموسها الفوضوي، وأكاد أجزم أنها كانت تسمعني.
عشت فيها امتلاء خارقا بالسعادة والشقاء، كنت أترجّل حافيَ القدمين لأقطف ما أحبه من الفاكهة المشتهاة، وأتعمّد شمّ رائحة القمح أواخر فصل الرّبيع والتراب الطازج مِلءَ الرّئتين، عندما تهبُّ علينا تباشير هطول المطر الخريفي. وحين أدقق اليوم نظراتي في براري “أيلة“ ومسالكها الوعرة، أستحضر شقاوة طفولتي والمراهقة، أشعر برغبتها الكبيرة في مخاطبتي. حفظت أسماءها في كل الأمكنة، وما فوقها عن ظهر قلب: أشجار التين والكروم، ألوان الطين والحجر، تسلقت كثيرا أشجار الصفصاف والبطم والخروب فيها كسنجاب طائش، وصعدت أعالي الجبال ومنحدراتها الحادة بحرفية الماعز الجبيلي المتهوّر، ولم تسلم مني أشجار الزيتون والبلوط والدّفلى، تفنّنت في امتصاص العنب الحلو والحامض من أثداء الدالية طريًّا، حفظت أسماء الفقهاء المتعاقبين على مسجدها الطيني، وعدّدت خطوات العابرين والمغرمين في الطرقات والأمكنة: قبر الماء، المحيز، عين حمزة، السوياق، الطلاقة البيضا، أونة، الصّفّاح، مرج كايزة...إلخ.
شربت من مياه عيونها وينابيعها، سبحت في بركات أصغر وديانها، وعمت في أعمق غدران نهر ورغة العظيم، القادم إلينا في كبرياء شموخ جبال الريف. اصطدت السمك باليد والصنارة والعصا، والقميص المُمزّق والشبكة التقليدية. كنت أعود في كثير من المرّات فرحا بما حققته من إنجاز وفتح مُبين، وبين يديَّ بضع سمكات صغيرات وأخرى متوسطات، إلا أن أمي رحمها الله كانت ترفض في كل مرة أن تضعها في المقلاة، وتقول لي أنني كنت قاسيا أكثر من اللازم باصطياد تلك السمكات النحيفات. كانت تتأذّى من رؤية ذلك، وتلومني كثيرا على ما فعلت، وترى بعاطفة الأمومة الطافحة فيها أن في ذلك اغتصاب لحياتها، وأنني لم أتركها في مأمن، لكي تكمل نموّها الطبيعي في غدرانها. وها نحن اليوم قد هرمنا وتقدمنا في العُمر قليلا، كما بعض أشجار التين والزيتون هناك في “أيلة“، وازداد بياض البيوتات انتشارا، كما بياض شعر رؤوسنا وشواربنا، وازدادت الحركة في الطرقات.
كان البياض يقتصر يومها على حيطان المدرسة ودار “عبد السلام الغريب“ الكبيرة قرب الطريق المؤدية إلى طهر السوق وقنطرة الوادي “بين الويدان“ الصغير. وها قد كثر اليوم بياض المنازل في كل مكان، وكاد يغطي المساحات الفلاحية المزروعة بكاملها. هناك شيء ما أراه قادم في الأفق، يكاد يقترب منّي مع اقتراب هذا البياض، إنه قادم بخطوات متثاقلة، كما أكاد أراه بأمّ عينيّ من بعيد هناك...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي