الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل المجتمع الأردني بدوي؟!

عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث

2024 / 4 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


تُصر وسائل الإعلام والدعاية الصهيونية بين حين وآخر على دمغ مكون بعينه في مجتمعنا، ونعني الشرق أردنيين، بوصف "البدو". هذا المصطلح بدوره، يستدعي القَبَليَّةَ ومكوناتها العشائرية كبناء اجتماعي أبوي ذكوري.
إصرار غير برئ بالطبع، ذو منطلقات عنصرية ونزوع عدائي، يروم تشويه صورة مجتمعنا الأردني وإلصاق صفة عدم التجانس بتركيبته لغايات خبيثة، لا تخفى على ذوي الألباب. وهذا ليس غريبًا على العدو التاريخي لأمتنا، المحترف في اختلاق الأكاذيب وتزييف الحقائق بما يتفق مع الأساطير المكونة لكيانه اللقيط ونشأته الشاذة خلافًا لنواميس التاريخ ومنطق الجغرافيا. لكن المؤسف أن يقع في فِخاخ الدعاية الصهيونية أشقاء عرب، من دون وعي وتبصر، مع العلم أن المجتمع الأردني رغم الظروف الصعبة التي مَرَّ بها وما يزال، تجاوز بلدانهم في مختلف ميادين شؤون الاجتماع الانساني بمعايير التقدم. يلفت النظر فيما نحن بصدده، عدم ملاحظة عوار الدعاية الصهيونية البائن بينونة كبرى. فالواقع بأبعاده الاقتصادية والسياسية، لا يخص مكونًا بعينه دون غيره من مكونات المجتمع الواحد بانعكاسات هذه الأبعاد على الصُّعُد الاجتماعية والثقافية والمستوى المعيشي.
القبلية والعشائرية كبناء اجتماعي، وثيقة الصلة بأنماط الانتاج المميزة للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية، التي تعاقبت في المسار التاريخي للتطور الإنساني. بهذا المعنى، فإن المجتمعات الإنسانية كلها شهدت هذا البناء أو ما يشبهه حسب ظروفها وخصوصياتها في مراحل تاريخية معينة. ينسحب ذلك بالتأكيد على المجتمعات التي جَلَبَت الحركة الصهيونية، بمساعدة الغرب الاستعماري الأنجلوساكسوني خاصة، مكونات التجمع الصهيوني في فلسطين المحتلة منها. نعم، تجمع وليس شعبًا، لأنه يفتقر إلى سمات الشعب بمفهومه الحديث. فالأرض مسروقة، وأصحابها التاريخيون في مواجهة دائمة مع السارق حتى استردادها. أما عدم الانسجام الثقافي بين مكونات هذا التجمع الاستعماري الاستيطاني، فتفصح عن ذاتها بذاتها في تبديه كقطع فسيفساء متباينة غير قابلة للإندماج، وبشكل خاص مع تصاعد أزمات الكيان والقلق الوجودي المسيطر على تفكيره والظاهر في سلوكه العدواني المتوحش.
كي لا نبتعد عن الصدد، نشير إلى أن القبيلة من منظور علم الاجتماع، كان لها دورها الأساس على الصعيد العربي الأعم، في تشكيل الهوية والصراعات في تاريخنا السياسي. وتُعد في معظم بلداننا العربية، من المحركات الرئيسة في ميزان الحسابات الاجتماعية. وما يزال الولاء للقبيلة أو العشيرة قائمًا رُغم نمو بيروقراطية الدولة، وهناك أنظمة عربية تعتمد على الولاء العشائري لتكريس التوازن المجتمعي. وعليه، فإن مفهوم الولاء القَبَلي أو العشائري، يحيل في الواقع العربي إلى معاني سياسية واجتماعية وأخلاقية.
في الأردن، كان للقبيلة والعشيرة دورهما البارز في المجال العام للمجتمع، عند إنشاء الإمارة سنة 1921، بناءً على التقسيمات السايسبيكوية للجغرافيا العربية. ومن الطبيعي أن يُنظر لهذا الدور ضمن طبائع الأشياء، في مجتمع ذي نمط إنتاج رعوي زراعي آنذاك. في مرحلة النشأة، كان الأردن الحالي يتكون من دويلات قَبَلِيَّة الطابع وعشائريته، نظرت إلى النظام الجديد القادم رأسه من الحجاز بعين التوجس والريبة. ظلت القبائل والعشائر "المتحدة" في دويلات تتصرف في البداية باستقلالية عن السلطة المركزية، وزاد من شكوكها وراكمه وجود القوة الاستعمارية البريطانية. على هذه الأرضية من الشك وعدم الثقة، انزلقت الأمور إلى المواجهات المسلحة، كما حصل في تمرد لواء الكورة 1921. وكان في الحقيقة انتفاضة ضد الانتداب البريطاني، تحت شعار "الأردن للأردنيين". وقد انتهى بالتفاوض والعفو من قبل الملك عبدالله الأول، الأمير آنذاك. لكن المواجهات المسلحة بين النظام الجديد والانجليز من جهة، والأردنيين في الجهة المقابلة، لم تلبث أن اندلعت مجدَّدًا فيما يُعرف في تاريخ الأردن السياسي الحديث ب"الثورة الماجدية" عام 1923، نسبة إلى الشيخ ماجد العدوان. أخمد الإنجليز الثورة الماجدية بالقوة العسكرية، وتوصل النظام إلى قناعة راسخة بضرورة احتواء القبائل والعشائر الأردنية، وإلا فلن تعرف الدولة الجديدة الناشئة الاستقرار السياسي والاجتماعي. بدأت ترجمة الاحتواء على أرض الواقع وتطبيقاته بربط مصالح شيوخ العشائر والوجهاء بالنظام، من خلال الامتيازات والإغداق عليهم بالمرتبات، والإعفاء من الضرائب، وتوزيع الأراضي، بالإضافة إلى تعيين أبنائهم بمناصب في الجيش. بمرور الزمن، وحتى بعد أن اشتد عود الدولة وقويت مؤسساتها، تشكل لدى شيوخ العشائر وأبنائها استحقاق أقرب إلى العُرف بأن حصصهم في الدولة مضمونة في المجالات كافة وامتيازاتهم متوارثة. أخذت القبائل والعشائر تتحول إلى قاعدة اجتماعية سياسية للنظام، لا بديل عنها في بلد يعيش على المساعدات الخارجية والضرائب والرسوم. وبذلك، ليس بمقدوره حتى لو أراد التوفر على تراكم رأسمالي يمكنه من إحداث فارق في البناء الاقتصادي الاجتماعي ينهض على الانتاج والتصنيع، بكل ما يترتب على ذلك من تغييرات جوهرية في البنى الاجتماعية القائمة.
في أواخر ثمانينيات القرن الفارط وبداية تسعينياته، شهد الأردن حالات تململ وامتعاض واستياء نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية بعد تخفيض قيمة الدينار. وقد تصاعدت حدة الغضب الشعبي بفعل الأزمات المالية المتتالية ليبلغ ذروته في الحراك الاحتجاجي الشعبي عام 1989، وبعدها ما يُعرف ب"ثورة الخبز" 1996 ردًّا على رفع أسعار هذه المادة الغذائية الرئيسة، وأحداث معان عامي 1998 و 2002، وصولًا إلى ارتدادات "الربيع العربي" في الساحة الأردنية. بطبيعي الأمر، كان للعامل الاقتصادي وتراجع المستوى المعيشي دوره الفاعل في هذه الأحداث. ولكن الحديث في سياق ما نحن بصدده يظل مبتورًا، إذا لم يلحظ التغيرات البنائية الكبيرة التي طرأت على المجتمع الأردني، خلال العقود الأخيرة. ونعني بالدرجة الأولى، الزيادة السريعة والمتسارعة في التعليم والوعي السياسي والتأثر بتكنولوجيا الاتصال وتدفق المعلومات في عصر الفضاء المفتوح، ناهيك بالنزعة الحضرية (العيش في المدن) والتقدم التكنولوجي والانفتاح على العالم الخارجي. يُضاف إلى ذلك التحول في أنماط الانتاج، وتبدياته في التوجه إلى المهن والوظائف في مؤسسات الدولة والأعمال. ونتج عن هذه التحولات ما تسميه الدراسات الرصينة المختصة "إضعاف البنية الشكلية أو الصورية للعشيرة"، حيث تؤكد فاعليتها في "نزع الطابع القَبَلي في المجتمع الأردني، وإضعاف دور القبيلة بالمعنى الفردي للإنتساب الشخصي وأنماط المعيشة"(1). ومن الطبيعي أن تركز هذه الدراسات على دور التحول في أنماط الانتاج في التفكيك الشكلي للبناء العشائري. ففي الأعوام 1941-1961 استقر أكثر من نصف البدو الرُّحَّل . وقد أشار تعداد السكان عام 1961 إلى أن نسبتهم 3% فقط، بينما كانت في عام إنشاء الإمارة 45,7% من مجموع السكان. أما تعداد عام 1979، "فلم يُشر إلى وجود نمط البداوة في الأردن"(2). على صعيد متصل، أكدت دائرة الاحصاءات العامة في تعداد عام 2008، أن 82,7% من سكان الأردن يقيمون في المدن مقابل 17,4% في الريف. وكانت نسبة سكان الريف في نتائج تعداد 1979، قد بلغت حوالي 40% من السكان. لقد تأدت هذه التحولات الشاملة إلى تفكك نسق العلاقات القرابية العشائري القديم وتمثلاته في الأسر الممتدة، واستبدلت بها الوحدات القرابية الصغيرة نسبيًّا، المعروفة بالأسر النواة المكونة من أرباب الأسر وزوجاتهم والأبناء غير المتزوجين. ولقد أظهرت نتائج مسح الأسرة متعدد الأهداف في الأردن عام 2003، إلى "أن نسبة الأُسر النواة 85,9% بينما نسبة الأُسر الممتدة 14,1%"(دائرة الاحصاءات العامة 2003). هذه التحولات وتداعياتها، يصدق عليها وصف واحد مناسب ومطابق: تفكك النسق القرابي القديم على أرضية غياب القبيلة كنمط انتاج وحياة وكبناء اجتماعي. هذا يعني ضمن أمور عدة، أن القبيلة والعشيرة لم تعودا القاعدة السياسية والاجتماعية للنظام السياسي الحاكم، كما كان عليه الحال في العقود الأولى بعد إنشاء الإمارة وحتى نهاية ثمانينيات القرن الفارط. لكن اللافت للنظر في الأردن، أن غياب القبيلة والعشيرة بالمفهوم المومأ اليه قبل قليل لم يرافقه تحول مناسب في المنظومة القيمية والعلائقية في البناء الفوقي، وهذا ما يُحدث لبْسًا عند المراقبين والمهتمين بالشأن الأردني. مقصود القول، أن تفكك البناء القبلي العشائري على مستوى أنماط الانتاج، لم يُلغِ العلاقات العشائرية على مستوى السلوك والشعور بالولاءات الداخلية للجماعات والنسب المشترك. وإذا بحثنا عن الأسباب فإننا واجدوها فيما يُعرف بالوظيفة الاجتماعية لشبكة العلاقات العشائرية، لجهة تزويد الفرد بهوية اجتماعية من نمط خاص يكسبه القوة والهيبة والنفوذ. يقول المفكر حليم بركات بهذا الخصوص: "العائلة القوية كوسيط بين الأفراد والمجتمع تُعِين أفرادها على مواجهة صعوبات الحياة في المجتمع وتحميهم من القوى المركزية النافذة وتجد لهم الوظائف والمراكز المهمة"(3). فالعشيرة بالنسبة لأفرادها مرجعية تجانسية تعكس حالة تمثُّلٍ اجتماعي بينهم، وتوازن علائقي. ولا نغفل أيضًا دورها في توفير الحشد التضامني، في مواجهة مواقف معينة والتصدي لها. من جهتنا، نرى أن إخفاق العرب، والأردن ليس استثناءً، في بناء دولة المواطنة الحديثة لكل مواطنيها وأهم مؤشراتها التداول السلمي للسلطة السياسية في انتخابات حرة ونزيهة، عامل رئيس في تمسك الإنسان العربي بانتماءاته القَبَليَّة والعشائرية. وليس يفوتنا التذكير بدور قوانين الانتخابات البرلمانية بخاصة والتجربة الانتخابية بعامة، في إعادة انتاج العلاقات العشائرية والجهوية وغيرها من الإنتماءات العصبية. ما تزال هذه العصبيات ذات دور فاعل في الانتخابات، يتجلى عادة في العبارة المفتاح "إجماع العشيرة".
وتجد العلاقات العشائرية مُتَنَفَّسًا في بيانات الولاء بأسماء العشائر، وهي ظاهرة تضر ولا تنفع أحدًا. ونرجح أنها تُتَّخذ دليلًا، لتشويه صورة مجتمعنا ووصمه بعدم الانسجام الداخلي. وغالبًا ما يعقب صدور هذه البيانات خلافات بين أفراد العشيرة الواحدة، تبدو كما لو أن إثارتها مقصودة، حول أحقية تمثيلها.
الخلاصة: على صعيد أنماط الانتاج والمستوى المعيشي، نُزعت صفة القَبَلِيَّة والعشائرية عن المجتمع الأردني نتيجة تحولات شاملة ذكرناها، طرأت عليه في العقود الأخيرة بشكل خاص. لكنهما، أي القبلية والعشائرية، بقيتا وما تزالان على مستوى البناء الفوقي متجسدتين في السلوك والشعور بالولاء تجاههما لأسباب أضأنا عليها. إذن، من غير الجائز وصف المجتمع الأردني بأنه قَبَلِي عشائري ويستحيل قطعًا دمغه ب"البداوة"، إلا عن جهل بحقائق الأمور أو من قَبيل الدأب على معالنة الحقيقةِ الخلافَ، كما هو شأن الدعاية الصهيونية في نفث سمومها وأكاذيبها، لأهداف ليست بريئة.
(1): الحوراني، محمد عبدالكريم: دراسة العشيرة رأس مال اجتماعي(دراسة سوسيولوجية لمكونات الولاء العشائري وتحولاته في المجتمع الأردني). المجلة الأردنية للعلوم الاجتماعية، المجلد (5)، العدد (2)، 2012.
(2): المرجع نفسه.
(3): بركات، حليم: المجتمع العربي المعاصر(بحث استطلاعي، الطبعة 2، 1991، بيروت، مركز دراسات الواحدة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرق الأوكراني في قبضة روسيا.. الجيش الأوكراني يواجه وضعا -


.. رأس السنوار مقابل رفح.. هل تملك أميركا ما يحتاجه نتنياهو؟




.. مذكرة تعاون بين العراق وسوريا لأمن الحدود ومكافحة المخدرات


.. رئيس الوزراء الأردني: نرفض بشكل كامل توسيع أي عمليات عسكرية




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام تنفذ سلسلة عمليات نوعية في جبالي