الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعلموا من الأمريكان!

خالد صبيح

2024 / 4 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


في عام 2010 استطاع حزب اليسار السويدي أن يحشد خلال ساعات قليلة آلاف المتظاهرين في العاصمة ستوكهولم للاحتجاج على اعتداء القوات "الإسرائيلية"، على أسطول الحرية التركي المتضامن مع غزة وهو يبحر في المياه الدولية.

لاحظوا معي أن "إسرائيل" لا تقيم وزنا للقوانين الدولية وتتعالى عليها.

يبدو هذا الحدث بسيطا، بل وبسيطا جدا إزاء المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" اليوم في غزة، ورغم ذلك لم يقم لاحزب اليسار ولا غيره بفعالية شبيهة بفعالية عام 2010.

والسؤال لماذا استطاعوا بالأمس وعجزوا اليوم؟

بين الزمنين جرت مياه عكرة كثيرة في نهر المجتمع السويدي والغربي عموما غيرت كثيرا من متبنيات الوعي الجماعي للمجتمع السياسي فيهما، أهمها وأولها صعود اليمين المحافظ والمتطرف واكتسابه طابعا عالميا ووصوله إلى السلطة في كثير من تلك البلدان. والفارق بين الزمنين أن في الأولى كان ما يزال هناك في المجتمع السويدي بقايا اتجاه عام يحترم فكرة التضامن ولا يستنكف من الأغيار البعيدين، أبناء جنوب العالم وقضاياهم، لكن مع صعود اليمين وتغول اليمين العنصري والنازيين الجدد ممثلين بحزب ديمقراطيو السويد وتأثيرهم المتصاعد على الحكومة وانجرار بعض فئات المجتمع لتوجهاته (ربما تعود بعض أسباب هذه الانعطافة اجتماعيا إلى الأزمة الاقتصادية وإلى هيمنة اتجاهات الليبرالية الجديدة وأطروحاتها في السياسة السويدية)، ولد مزاج أو اتجاه عام مغاير للذي بنيت عليه أمثولة النموذج السويدي المبني في كثير من جوانبه على حس إنساني تضامني، وصار الانغلاق على الهموم الفردية "الأنانية" الضيقة بديلا عن الانفتاح على الآخرين، واقتصرت روحية التضامن مؤخرا في حدود الهم الأوربي" الأبيض" وجغرافيته وحدهما، فانت لك الحق بالتضامن، إن أردت، لكن مع أوكرانيا وحدها،(هؤلاء يشبهوننا) أما الآخرون، فليغرقوا في بحار العالم البعيدة، فهذا قدرهم وليس شأننا.

ما أريد قوله هو أن هناك اتجاه عام في أي مجتمع يشجع ويتيح لأفراده وجماعاته أن يعبروا عن توجهاتهم بأريحية وتلقائية دون خوف أو خجل أو شعور بالذنب، ذلك لأن المجتمع وأعرافه لا يعيبان تلك الآراء ولا الممارسات التي تنتج عنها، وإن العوامل والمؤثرات المحبطة أو التي تخيف وتمنع قول الفرد والجماعة لآرائه في أي مجتمع كان، هي مزاج عام، لا ينظمه قانون، يولد في لحظة ما ويتحول إلى أعراف وعادات وصور ذهنية وبنى نفسية تنغرس في اللاوعي الثقافي الجمعي وتطبع سلوك وعقلية الفرد والجماعات على السواء. ولكي يستطيع الواحد أن يواجه اتجاها عاما، مضللا وسلبي، في مجتمع ما، ينبغي أن يتحلى بقدرات خاصة من الجرأة والشجاعة والاستعداد لتحمل العواقب، وقبل ذلك بالوعي الكافي بطبيعة هذا الاتجاه ومحركاته، وهذه ليست خيارات متاحة، على الأقل بسهولة، للجميع.


وإذا كانت الصورة في السويد، البلد الأكثر تجذرا في احترام قيم الحرية والعدالة، بهذا القدر من الصعوبة، إن لم أقل البؤس، فكيف الحال في بلد ومجتمع مثل المجتمع الأمريكي شديد الاستقطاب والنزعات الخفية للمنع ومصادرة حق الفهم وليس التعبير عن الموقف فقط، مجتمع ومنظومة مركب بطريقة تتيح للأقوياء التأثير في مصائر الآخرين بطرق مؤسساتية، وبأدوات ضغط مختلفة، مادية مباشرة أو خفية وناعمة.

وأكرر هنا أن ممارسات إلغاء الرأي الآخر ليست بالضرورة مستندة إلى مدونات رسمية بقدر ماهي أعراف وتوجهات وقيم (مزيفة غالبا) تكرسها، في الحالة الأمريكية خصوصا، مؤسسات الإعلام وهوليود ونيتفليكس وقادة الرأي والمؤثرين بالإضافة إلى لوبيات الضغط خصوصا اللوبي اليهودي إذا كانت الحالة تخص"إسرائيل".

ومع كل هذا فقد كان المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات احتجاجا على المذابح في غزة وأكثرهم جرأة وتضحية في التعبير عن رأيه وقناعاته، مع الانتباه إلى أن الاتجاه العام في المجتمع الأمريكي كما هو معروف، منحاز، تقليديا، انحيازا أعمى "لإسرائيل" ومتبن للأفكار الصهيونية لأسباب تتعلق بالدعاية والتأثير و أخرى مرتبطة جزئيا بدواع دينية (البروتستانتية الإنجيلية) ترى أن بشائر خلاص البشرية وعودة المسيح الثانية تتحقق عند سيطرة اليهود على كامل فلسطين. وهذا يجعل مسألة مواجهة اتجاه التفكير السائد هناك صعبة جدا، فضغط الجماعة تصعب عادة مواجهته بل حتى احتماله ناهيك عن مقاومته.

وهكذا، رأينا طلبة جامعات يعرضون مستقبلهم لمخاطر جدية في سبيل مواقفهم، كأن يحرموا من فرص العمل في المستقبل،(قوائم المنبوذين)، أو خطر الإبعاد من الدراسة الذي تشكل خسارة كلفته المالية وحدها نتيجة مؤذية، أو أن تعّرض نجمة سينمائية (سوزان سارندن)، لها ثقلها في الساحة الفنية "كاريرها" للخطر، كل هذا وهم بعيدون عن الحدث ولا تمس حياتهم معاناة الفلسطينيين وغيرهم في شيء، إذن لماذا يغامرون هكذا مغامرة هي في كثير من المعايير خاسرة؟

الكلمة المفتاح في الإجابة هي :الحرية.

في فيلم أمريكي تقول إحدى شخصيات الفيلم:

لن استبدل حريتي بكل رفاهية العالم.

وهاجس الحرية هو واحد من أهم محركات موقف المحتجين الأمريكان في كل مناسبات الاحتجاج عبر تاريخ الولايات المتحدة، أي كان مضمون هذا الاحتجاج، فحرية الفرد الأمريكي هي محركه للتعبير عن موقفه واحتجاجه، ويجدر التذكير هنا أن هذه الحرية لم تقدم لهم منحة من حاكم، ولا سقطت عليهم من السماء بل هم بنوها بتضحياتهم وإصرارهم على نيلها وتجرؤهم في الدفاع عنها، وحريتهم، كما هي الحرية في كل مكان، هي رأسمال رمزي اكتسبوه وتوارثوه، والحفاظ عليه وصونه هي مهمتهم الأخلاقية والمبدئية الأولى. وتعزيز الحرية وصيانتها لا يكون إلا بممارستها وبمقاومة الكوابح والموانع التي يراد أن توضع في طريقها وتصادرها، فالحرية، في النهاية، هي ممارسة وصيرورة وليست معطى متكامل يولد مرة واحدة.

ومن يعيش الحرية ويعرف قيمتها لن يفرط بها مهما كان الثمن، لأنها جزء حيوي عضوي من شخصيته وكيانه، وتشكل لنفسها في أعماقه حدا نفسيا يمنحه التوازن وتحقيق الذات، والإحساس بقيمة الوجود، وهي قوة دافعة، محفزة، وتعمل بالآية تلقائية وبدفع داخلي، مثلها، في حدها النقيض، مثل بنية الخَنوع النفسية، التي تكبل صاحبها وتدفعه مختارا لأن لا يتنازل عن خنوعه واستسلامه حتى لو أتيح له ذلك.

وما يقوم به طلبة الجامعات الأمريكية اليوم هو في جوهره صراع من أجل تعزيز هذه الحرية وإعادة تعريفها.

صحيح أن الاحتجاجات الأمريكية هم مقتصرة حتى اليوم على الطلبة، وإن الطلبة كفئة شابة ترتبط سلوكيا بنزعة تمرد تلقائية، وإن ( مشاعر التمرد تكون أكثر توهجا في سن الثامنة عشرة)، كما يقول المؤرخ الكبير "هوبزباوم"، وصحيح أيضا أن الطلبة يعبرون عن سخطهم الاجتماعي والثقافي عبر وسائط تتعلق غالبا بسياسات وقضايا عامة تمارسها دولتهم وساستهم، لكن ذلك لا يعني أن مواقفهم تلك منفصلة عن هم حقيقي بالقضية (غزة اليوم) التي يتظاهرون من أجلها وبحساسية عالية لاقتناعهم بعدالتها وأخلاقيتها، بل إنهم رفعوا تلك القضية إلى ما يتخطاها كحدث مأساوي ومنحوها رمزية كلية ( تحرير غزة هو محور تحرير العالم)، كما قالت إحدى الطالبات المحتجات.

وصحيح أيضا أن الطلبة بحسب "هوبزباوم" مرة أخرى، (مهما ازدادت حشودهم لن يستطيعوا أن يقوموا بالتغيير، لكن فعاليتهم السياسية تستند إلى قدرتهم على العمل كإشارة أو فتيل تفجير لمجموعات أكبر وأقل قابلية للاشتعال). ولهذا فان أفق الفعالية الطلابية قد يكون أبعد من ما يدور من أجله الآن، وربما سيترك أثرًا تراكميا في أسس الوعي داخل المجتمع وبنية السياسة على المدى البعيد، بالإضافة طبعا لما يشكله من ضغط آني يضطر الساسة لكبح اندفاعتهم العمياء في مساندة "إسرائيل” أو في محاولتهم قمع الحريات كما يجري الآن في الجامعات الأمريكية.

إذن فإن فعاليات الطلبة الأمريكان هي ملهمة وطليعية أو هكذا ينبغي أن تكون (يقال أن طلبة فرنسيون بدأوا هم أيضا بالاحتجاج: ومن غير الفرنسيين سيبادر بذلك؟) لطلبة آخرين عبر العالم، فما يحدث في أمريكا غالبا ما تكون له أصداءً عالمية، ولا ادري ما إذا كان يجوز لنا هنا اعتبار أن العالم العربي، برأيه العام الخامل (الطلابي وغير الطلابي)، يدخل في دائرة العالمية هذه، المتجافي معها على طول الخط، ويمكنه أن يتعلم من الأمريكان ما يمكن تعلمه، أم لا؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتلال يمتد لعام.. تسرب أبرز ملامح الخطة الإسرائيلية لإدارة


.. «يخطط للعودة».. مقتدى الصدر يربك المشهد السياسي العراقي




.. رغم الدعوات والتحذيرات الدولية.. إسرائيل توسع نطاق هجماتها ف


.. لماذا تصر تل أبيب على تصعيد عملياتها العسكرية في قطاع غزة رغ




.. عاجل | القسام: ننفذ عملية مركبة قرب موقع المبحوح شرق جباليا