الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رفح: ما بين التكتيكي والاستراتيجي تصعد وتخفت الأمم

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2024 / 4 / 28
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


الحروب الجيوثقافية الحديثة التي ترتبط بنظرية "الصدام الحضاري" ومؤسسيها الثلاثة (هينتجنتون- فوكوياما- برنارد لويس) لم تعد حروبا تقليدية؛ هي حروب يرتبط ويتداخل فيها الثقافي بالجغرافي، بمعني أن السيطرة والنفوذ على منطقة جغرافية معينة تتطلب حضورا أو ربما صراعا ثقافيا، ولا يمكنك أن تحقق انتصارا جغرافيا تتمدد فيه على الأرض دون أن يكون لديك غطاء ثقافي، ومن هنا نسميها "جيوثقافية".

إرث ثقيل مكبل
والحقيقة التي يجب مواجهتها الآن بكل صراحة؛ أن المدرسة الدبلوماسية المصرية وسياساتها الخارجية تحمل إرثا من الانفصال عن الواقع لحد بعيد، منذ أن تم اعلان أن "السلام خيار استراتيجي" وتم تجاهل نظريات "الشرق الشرق الأوسط الجديد" و"الكبير"، وتجاهل سيناريوهات "تفتيت المفتت"، ونظرية "شد الأطراف"، وتفجير التناقضات وتصعيد الأقليات.

التحيط الاستراتيجي الذي كان ممكنا
ربما كانت اتفاقية كامب دافيد لها ظرفيتها التاريخية حينما شعر البعض بالخذلان؛ وعدم التنسيق العربي والدعم كما يفترض ان يكون على عدة جبهات، لكن كان يمكن إدارة التسوية السياسية بأفق استراتيجي أكثر تحيطا، وأبعد من تحويله فعلا لخيار أوحد مع خصم يتمدد في اتجاه الحاضنة المصرية والعربية (أيا كان الموقف تجاهها).
ففي نهاية تسعينيات القرن الماضي، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي واستدراج العراق لفخ إيران ثم فخ الكويت، ومباحثات "شرم الشيخ"، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن، واتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، ثم اغتيال اسحاق رابين وصعود اليمين المتطرف، وظهور نظرية الصدام الحضاري علانية مع كتابات هينتجنتون وفوكوياما وبرنارد لويس، كان الأمر أوضح من أن يتم تجاهله.

هل يُقابل الصدام الحضاري والهيمنة الثقافية
بتصور السلام بوصفه خيارا استراتيجيا!
كانت مصر في حاجة لأن تراجع تصورها عن "السلام بوصفه خيارا استراتيجيا"، خاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000م، ثم بعد تحول أمريكا للعداء الصريح واحتلال بغداد وإعدام صدام حسين.... وتوالي الأحداث في ملفات مصر الخارجية، خاصة القرن الأفريقي ومنابع النيل والاتحاد الأفريقي نفسه!
تحولت "إسرائيل" إلى خصم صريح، تصوره لاتفاقية السلام يعني سكوت مصر عن تمدده على حسابها، ولم يعد لكلمة "السلام خيار استراتيجي" من معنى سوى غياب الرؤى البديلة لمواجهة "إسرائيل"، بوصفها خصما يمثل الغرب ومفهومه للهيمنة الحضارية الجيواستراتيجية والجيوثقافية، وكشفت مرحلة ما بعد الثورات العربية عما كان يجري في الكواليس، وأن أمريكا وإسرائيل لا تعتبر مصر موضوعا للسلام الاسترتيجي، بقدر ما تعتبرها فضاء جيوثقافيا ممكنا للتمدد فيما يخصه، في كل الاتجاهات الجغرافية شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.

ما بعد 2011م
نهاية دور الدولة حارسة الناقضات
وتورطت مصر ما بعد 2011م في مواجهات وملفات متراكمة وارثة تركة ثقيلة، لمفاهيم وتصورات انتهت صلاحيتها منذ عقود، وكان البعض يتشبث بمفهوم "الدولة حارسة التناقضات" أو بمفهوهم دولة "الشراكة الاستراتيجية" مع أمريكا التي تحرص على مصالحها، وتقدم نفسها بوصفها الحارس عليها، لكن مع حدود دنيا متغيرة من المصالح العربية وفق الواقع والتناقضات الراهنة.
لكن حتى دور "الدولة حارسة التناقضات" انتهى بالنسبة لأمريكا لأنه كان يناسب مرحلة سابقة في مخططها لتفكيك المنطقة العربية، والآن هي في مرحلة أخرى من المخطط لتصعيد "إسرائيل" وفق ما عرف بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية" و"صفقة القرن"، التي لم تكن سوى الوجه الجديد لمشروع "الشرق الأوسط" الذي تقوده "إسرائيل" عسكريا من خلال "ناتو" عربي، واقتصاديا من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية والصندوق الإبراهيمي والعديد من الآليات التي ما تزال في الأدراج تنضج على نار هادئة.
مع الإشارة لحضور التصور الإبراهيمي أيضا عند برنارد لويس، فقد "لمح برنارد لويس مبكراً لفكرة الديانة الإبراهيمية من خلال كتابه: “اليهود في العالم الإسلامي” الذي علل نجاح المسلمين في الفتوحات الإسلامية في فجر الإسلام من خلال نجاحهم في استيعاب فكرة التواجد المسيحي واليهودي على الأراضي الإسلامية".

معضلة عملية 7 أكتوبر وحرب غزة
وجاءت عملية 7 أكتوبر وحرب غزة لتضع الجميع أمام مأزق صعب، المقاومة الفلسطينية وجدت نفسها قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح خارج التاريخ وخارج الحغرافيا، فقامت بعملية طوفان الأقصى وهي تعلم بأن الصدام الواسع كان لابد سيتفجر مع دولة الاحتلال عاجلا او آجلا.
وتوالت الأحداث ووقائع الحرب، وصولا للتراشق الإيراني/ الإسرائيلي، وأخيرا اقتراب إسرائيل من اجتياح مدينة رفح الحدودية مع مصر، مهددة بمأساة إنسانية ونزوح جماعي للفلسطينيين إلى مصر لتحقق أوهام التهجير القسري أو الطوعي.

محددات جيوثقافية عامة للمواجهة:
والحقيقة أن تناول الموقف المصري إزاء الأحداث القادمة؛ لابد أن يرتبط بمحددات جيوثقافية عامة ولا يرتبط بتفاصيل وإجراءات معينة بعينها:
لب القضية تكمن في أنه يجب اعتبار الأمر فرصة للصعود الجيوثقافي، واستعادة السردية المصرية وسيطرتها على الجغرافيا الثقافية الخاصة بها، مع مراجعة مفهوم "السلام كخيار استراتيجي" في وجه خصم يظهر العداء في كل مناسبة، وهذا يعني بشكل أساسي فن ممارسة الدبلوماسية الخشنة والمواجهة الباردة، والتقدم بهدوء ودأب على كافة محاور التماس الجيوثقافية والدبلوماسية والأممية.
وواقعيا إذا حدثت مواجهة وتراشق عسكري بين مصر وجيش الاحتلال فالأمر ليس نهاية الكون، لابد سيكون في نطاق الحدث وترسيم النفوذ الجيوثقافي الجديد وبراعة اختيار نقاط التماس، والأهداف المحسوبة بدقة عالية لضبط الحدود الجيوثقافية وتحديد مكانة كل طرف، وإذا لم تحدث مواجهة فلابد أن تصل الرسالة إلى "إسرائيل" بأن مصر ستغير من استرتيجيتها تماما، في كافة محاور المواجهة الجيوثقافية الأممية في أفريقيا ونطاق البحر المتوسط وأوربا والأمم المتحدة وأمريكا.

متطلبات واشتراطات أساسية:
ولذلك متطلبات معظمها يدور في مساحة إعادة توظيف الموارد الموجودة بالفعل ووضع خطوط رئيسية لسردية جيوثقافية جديدة لمصر، مع ضرورة تخطي مصر فترة الاستقطاب الداخلي نتاج مرحلة ما بعد 2013م، وتجاوز الآراء الحدية الصفرية بأن استعادة مصر لحضورها الدولي بمفهومه الجيوثقافي يعني الحرب (بمفهوم البعض الضيق)!! وهو ما ينقلنا لضرورة تغيير معايير انتقاء الأفراد التي تعبر عن سياسة مصر الجيوثقافية وسرديتها الجديدة في مواجهة العالم، وتغيير بنية التراتب الاجتماعي المصري برمته وفق معايير تتجاوز معاير الاستقطاب الصفري إرث المرحلة السابقة.

سردية الصدام الحضاري
(أوكرانيا- تايوان- فلسطين)
لأن العالم حاليا ينقسم إلى جزئين -ومصر والعرب في مقاعد المتفرجين- الجزء الأول هو مشروع "الصدام الحضاري" ونظرياته التي تتبناها أمريكا، في اتجاه روسيا وحرب أوكرانيا مع أطروحات فوكوياما، وفي اتجاه الصين وملف تايوان وأطروحات هينتجنتون، وفي اتجاه فلسطين والمسلمين والعرب وأطروحات برنارد لويس التي لم تكن بعيدة عن "الإبراهيمية".

السردية المضادة
(الأوراسية الجديدة- الجيوإيكومنيكال الصيني- الشيعية الإيرانية)
أما الجزء الثاني فيقوم على ثلاثة مشاريع رد فعل ومضادة لمشروع "الصدام الحضاري"، المشروع الأول هو "الأوراسية الجديدة" طورتها روسيا كنظرية مضادة للتمدد الأطلسي عبر التمدد البديل في القريب المتاح مثل أوكرانيا، والبعيد الجيواستراتيجي مثل سوريا، المشروع الثاني هو "الجيوإيكونيمكال الصيني" وهو مشروع للتمدد الجغرافي العالمي وفق مبدأ اقتصادي لتفعيل طرق برية وبحرية ترتبط بمشاريع اقتصادية مشتركة عبر طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق)، والمشروع الثالث هو "السردية الشيعية" التي تقوم على التمدد الجيوثقافي الديني في المنطقة العربية لمواجهة إسرائيل وباسم المقاومة مستندة إلى الجذور الشيعية في تلك الدول.

بحثا عن سردية مصرية/ عربية
وها لابد أن تكون الرؤية الجيوثقافية والجيواسترتجية واضحة أمام الجماعة المصرية والذات العربية، في ضرورة ظهور لحظة مفصلية تاريخية جديدة وسردية جيوثقافية تعيد لمصر ما لها، لأن الأمر لم يعد استقطابا أيديولوجيا بين اليمين واليسار، أو بين السلطة والمعارضة، بل الوضع الراهن يهدد الوجود الجيوثقافي الخاص بالجماعة المصرية برمتها، وليس مؤسسات الدولة وحدها أو التيارات السياسية وحدها، أو النخب الثقافية وحدها..
فإذا لم تتجاوز مصر الاستقطابات والإرث الثقيل الذي يكبلها ويجعل الجميع يمارس مراوحة في المكان باستمرار، ويتمترس الجميع حول مواقف تاريخية يذهب بعضها بعضا لتصير المحصلة صفر، فإن الجماعة المصرية برمتها ستواجه الاضمحلال الحضاري.
رفح هي فرصة لدعم أهلنا في غزة وفلسطين، وفرصة لإدارة معركة تكتيكية واستراتيجية يمكن أن تصعد معها الجماعة المصرية أو تخفت، يمكن لمصر أن تنطلق بعدها لتؤسس سردية جديدة تسعى لتأخذ مكانها في الصراع الجديد بين الشرق والغرب.
بل ربما هناك فرصة جيوثقافية لمصر لتصبح من خلال مخزونها الجيوثقافي ومستودع هويتها؛ "كتلة ثالثة" تضبط التوازن العالمي، وتطرح تنويرا وإلهاما جديدا للعالم.

وما بين هذا وذاك
تصعد أمم
وتخفت أمم

وبين هذا وذلك
يبقى للأمم اختيارها
ويبقى الأمل حاضرا قويا لا يموت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أونروا: فرار نحو 360 ألف شخص من رفح وليس هناك أمان دون وقف ل


.. نيويورك تايمز: ملفات حماس السرية تظهر كيف كانت تتجسس على الف




.. سوليفان: لا نعتقد أن ما يحدث في غزة إبادة جماعية وينبغي على


.. كيف يرى الإسرائيليون حرب غزة؟




.. فلسطينيون عالقون في العريش يبحثون عن فرص عمل