الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عوائق الليبرالية في المجتمعات البطريركية

ثامر عباس

2024 / 4 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


قبل أن تتعرض شعوب البلدان العربية لاكتساح الظاهرة الكولونيالية ، لم تكن تفقه شيئا"عن معاني ودلالات مفاهيم من مثل ؛ الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية ، اللهم إلاّ النزر اليسير مما تنطوي عليه من أفكار مبتسرة وتصورات مبهمة ، حيث ساهمت في نشرها وتداولها جهود بعض الرحالة والمترجمين ممن استهوتهم مضامين تلك المفاهيم والمصطلحات ، بحيث ضمنوها كتبهم وأدرجوها ضمن مصنفاتهم بصورة لا تخلو من التبسيط الواضح والاختزال الفاضح .
ولكن مع مطالع القرن العشرين كان لتلك الشعوب التي أدخلت عنوة في دوامات السياسة الاستعمارية شأنا"آخر مع تلك المفاهيم والمصطلحات التي أحيطت بهالة من الإعجاب الفطري والافتتان الساذج . إذ ما أن عمدت السلطات الاستعمارية - لتسهيل ظروف احتلالها وتهيئة مستلزمات استغلالها - الى إدخال بعض ما اعتبره البعض (إصلاحات سياسية) و(تحسينات اقتصادية) و(خدمات اجتماعية) و(انجازات حضرية) ، حتى تهاوت النخب في تلك البلدان صرعى (الوهم الليبرالي) الذي برعت في تزويقه وترويجه كيانات (مدربة) ومؤسسات (محترفة) أوجدتها السلطات الاستعمارية لهذا الغرض . هذا بالإضافة الى وجود ثلة منقاة من السياسيين والمؤرخين والمستشرقين كمشاركين ومتعاونين مع تلك السلطات ؛ إما بوازع الالتزام الوظيفي – الرسمي كخبراء ومستشارين ، أو بدافع الاهتمام العنصري – الإيديولوجي كباحثين ومفكرين .
وعلى ضوء هذه المعطيات وتلك المؤشرات ، فقد اعتقدت تلك (النخب) إن تلك السياسة الممنهجة وما تمخض عنها من إجراءات ملموسة وممارسات فعلية ، وضعتنا على أعتاب عصر جديد من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، بحيث صار بمقدورنا ولوج طور الحداثة (الليبرالي) البعيد المنال ، ان لم نكن قد بلغنا أوان قطف ثماره والتمتع بمزاياه . لاسيما وان سلطات الاحتلال لم تتوانى في تغذية ذلك (الوهم - الحلم) فكريا"وتضخيمه سيكولوجيا"لدى عناصر تلك النخب التي لم تتوانى - دون تبصر وبلا تحفظ – في السعي الى توطينه اجتماعيا"، ومأسسته سياسيا"، وشرعنته إيديولوجيا" ، عبر بحوث كتابها ودراسات مفكريها الذين أخذوا بالمظاهر دون الجواهر ، واحتكموا الى الشكل دون المحتوى . لا بل ان هناك رهط من الأكاديميين التقليديين ممن حاولوا إيجاد جذور محلية للفكرة (الليبرالية) داخل بيئتنا الاجتماعية ، مثلما سعوا الى خلق أصول لها في أوساطنا الثقافية .
والحال إذا ما نظرنا الى الطبيعة السوسيولوجية لمجتمعات العالم الثالث – وبضمنها العربية طبعا"- سنلاحظ ان الغالبية العظمى منها ذات بنى اجتماعية أقرب الى (البطريركية) منها الى (الليبرالية) ، وأنماط اقتصادية أقرب الى (الإقطاعية) منها الى (الرأسمالية) ، وأنساق ثقافية أقرب الى (الفولكلورية) منها الى (العقلانية) . وهو ما جعل قسم كبير من مكوناتها شديدة الممانعة إزاء أية محاولة تستهدف انفتاحها أمام تيارات الفكر الغربي ، لاسيما الإيديولوجية (الليبرالية) وما تنطوي عليه من قيم ومبادئ . سواء جاءت هذه المؤثرات عن طريق (التدخل) الخارجي المقنن والمشروط كما فعلت القوى الاستعمارية مع مستعمراتها السابقة ، أو عن طريق (التقبل) الداخلي الممنهج والمتدرج عن طريق برامج التعليم الأهلي والرسمي من جهة ، والانخراط بالسلك الوظيفي الحكومي من جهة أخرى . بحيث تتساوق عمليات الاستقرار السياسي والاجتماعي مع عمليات التطور الثقافي والحضاري ، وهو ما ندر تحققه وتعذر حصوله إلاّ في حالات محدودة وتجارب فريدة كما نعلم ! .
وبصرف النظر عما لحق بالإيديولوجية (الليبرالية) – في بيئاتها الجغرافية والحضارية - من تشظي الى أنواع (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية) ، إضافة لما طرأ عليها من ارتدادت وتراجعات في أصل قيمها وكنه مبادئها التي تميزها عن سواها من الإيديولوجيات الأصولية والراديكالية (القومية والاشتراكية والشيوعية) التي لا تزال أطيافها ماثلة في الوعي الجمعي للكثير من المجتمعات ، إلاّ أنها لم تبرح – وهذا هو الانطباع السائد - محافظة على طبيعة خصائصها النوعية وثوابتها الأساسية من حيث كونها التعبير المباشر عن (حرية الفرد) من كل قيد و(تحرر المجتمع) من كل عائق .
وفي حين ان الإيديولوجية الليبرالية – في صيغتها الكلاسيكية - لا تقوم فقط على مأسسة السلطات وشرعنة المؤسسات ، أي ان (( الدولة المركزية – كما لاحظ بحق المفكر الاقتصادي العراقي عصام الخفاجي – لا تعني الحداثة . أنها خطوة في هذا الاتجاه ، لكنها ليست خطوة كافية بحد ذاتها )) فحسب ، وإنما ترتكز أيضا"على أنسنة العلاقات وعقلنة التصورات . فلنا أن نتصور كم هي خاطئة ومضللة تلك الدعوات والمحاولات التي يستهدف أصحابها تكوين الانطباع ان مساهمة المستعمر (الليبرالي) في تكوين (دولة) ما ووضع (دساتير) لها ورفدها ببعض (الإصلاحات) هنا أو هناك ، هي بمثابة مؤشرات كافية على اختراق الإيديولوجية (الليبرالية) لبنى المجتمعات التاريخية الراكدة وتفكيك منظوماتها القيمية والرمزية ، فضلا"عن دور تلك المؤشرات في كسر حدة الممانعات التي كانت تبديها الجماعات التقليدية إزاء كل ما يمت بصلة لمبادئ وقيم تلك الإيديولوجية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الواقع يفند ما تدعونه
د. لبيب سلطان ( 2024 / 4 / 30 - 08:33 )
الاستاذ الكاتب المحترم
تنهون مقالتكم بادعاء اعتقد ان الواقع يدحضه تماما اذ تكتبون (كم هي خاطئة ومضللة تلك الدعوات والمحاولات التي يستهدف أصحابها تكوين الانطباع ان مساهمة المستعمر (الليبرالي) في تكوين (دولة) ما ووضع (دساتير) لها ورفدها ببعض (الإصلاحات) هنا أو هناك ، هي بمثابة مؤشرات كافية على اختراق الإيديولوجية (الليبرالية) لبنى المجتمعات التاريخية الراكدة وتفكيك منظوماتها القيمية
خلال العهد الملكي في العراق وقبله في مصر وسوريا تم خلق نظام تعليمي علماني بدل الديني وجامعات حديثة ومسارح وفنون وموسيقى واصدار صحافة حرة واجازة احزاب سياسية ..كل هذه وسائل تحضر ليبرالية طبيعية وقائع قائمة لايمكنك دحضها خلال عهد النظم الملكية تشير لحركة طبيعية لتطور مجتمعاتنا...جرى تدميرها بانقلابات ومن الذين حشدوا باسم الثورة البروليتارية الخرافية والقضاء على الرأسمالية ونحن لانمتلك حتى مصنعا حديثا ..وانت تأتي لتنفي ماكان واقعا وتتهم قائليه( كم هي خاطئة ومضللة دعواتهم في تكوين انطباع) ..ماتكتبه هو الانطباع بل ودجل حقيقي بنفي الواقع بما هو قائما من انجازات بفضل الكولونيالية ودورها ادخال مفاهيم التحضر


2 - حين يستحيل الانطباع الى منظومة وعي زائف
ثامر عباس ( 2024 / 5 / 1 - 05:40 )
الأستاذ لبيب سلطان المحترم ؛ لا يسعني الا أن أثني على نزعة البحث والمتابعة التي لديك . للأسف الشديد ان قراءتك للمقال تبدو لي انتقائية وسطحية أكثر مما هي واقعية وتحليلية . فالواقع الذي تتحدث عنه يا صديقي هو الذي يؤكد كم نحن (العرب) - وعيا-وسلوكا-- بعيدين عن (قيم) الليبرالية و((أخلاقياتها) ، وليست (المؤسسات) التي تتحدث عنها بحماسة مفرطة وانبهار انفعالي . والحقيقة ان الفكرة المحورية للمقالة هي التذكير بأن من الضرورة بمكان الحيلولة دون تحول (الانطباعات) الساذجة التي نكونها عن الكيانات والمكونات الى منظومات وعي زائف ، تجعلنا لا نرى من الأمور الحساسة والقضايا الجوهرية الا ما هو ظاهر للعيان ، دون التعمق فيما وراء ذلك من أصول وخلفيات ومرجعيات ، لا زالت تلقي بظلالها على كل ما له علاقة بوعينا الجمعي ومخيالنا التاريخي . ولعل موقفك هذا هو البرهان بعينه على واقعية ما اجتهدت المقالة لاثباته واقامة الحجة عليه .

اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح