الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشرنيشفسكي..و.سؤال العمل!

ماجد الشمري

2024 / 5 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


"وحده الفأس يمكنه انقاذنا،ولاشيء سوى الفأس""غيروا لهجتكم،ودعوا الاجراس تدق لاللصلوات ولكن للانذار!.أدعوا روسيا لحمل الفأس"
-تشرنيشفسكي-

على مدار القرن19تعاقبت موجات من(الانتلجنسيا)الروسية رفدت المجتمع بكتائب من المفكرين الاحرار:ليبراليون،فوضويون،شعبويون،ارهابيون،اشتراكيون ثوريون،ماركسيون،كانوا الدماء الجديدة التي سقت عروق الحراك الاجتماعي المتخشب،وكانوا العلامة الفارقة لنهوض الحركات الثورية في الامبراطورية القيصرية الروسية.كانت الازمات الاجتماعية -الاقتصادية-السياسية تتفاقم،والهبات والتمردات والانتفاضات تهز روسيا بين فترة واخرى،فمن:تمرد القوزاقيان على نهر الدون-ستيبان(ستينكا)ورازين1667-1671وتمرد ايمليان بوجاتشيف1773-1775وانتفاضة الديسمبريين عام1825التي سحقت بوحشية،و تركت تأثيرها على النخب المثقفة الراديكالية التي كانت الشريحة الاجتماعية الوحيدة المعارضة للاوتوقراطية،وكان عددها المحدود جدا لايشكل ضغطا على النظام.فلم يكن اعداد الانتلجنسيا الروسية تتجاوز العشرين او الخمسة وعشرين الف وسط بحر ال60مليون نسمة من غالبية فلاحية39مليون منهم كانوا اقنان،وهم الاكثرية الخاملة المستكينة لبؤسها وقدرها الظالم.
ومن هذه(الانتلجنسيا)نجوم عديدة لامعة سطعت متوهجة لتنير سماء روسيا المكفهرة الداكنة،والتي مزقت ليلها الدامس الطويل، منذرة بالارهاصات الثورية الوليدة،فأضاءت دروب الحركة الثورية المستيقظة من سباتها الثقيل،وانتشلت أجيال فتية من ظلمة الجهل الى نور الوعي والمعرفة والثورة.جحافل مندفعة من الراديكاليين الذين سعوا وتطلعوا لتغيير واقع الموجيك الروسي البائس،وتحرير الاقنان ،ونقل روسيا الى ركب الحداثة والمدنية والتصنيع.وتقويض الامبراطورية الروسية الغاشمة في استبدادها،وبربريتها الاوتوقراطية المتعفنة،والغارقة في وهدة الجوع والبؤس والتخلف.تلك الاعلام،امثال:هرتسن،باكونين،كروبوتكين،نيتشايف،زايشنفسكي،كاراكازوف،وواحدا من هذه المصابيح الثورية الاسطع والالمع التي انارت ظلام روسيا القاتم كان الديمقراطي الثوري البارز :نيكولاي غافريلوفتش تشيرنيشفسكي nikolay chernyshevsky
ولد :نيكولاي غافريلوفتش تشيرنيشفسكي في12تموز-يوليو عام1828في مدينة ساراتوف،وتوفي في نفس المدينة في17اكتوبر عام1889.عاش في بيئة شبه ريفية بسيطة.كان والده كاهنا،وامه فلاحة بسيطة. تربى وتعلم على يد والده اسس القيم الاخلاقية والدينية،والتي تركت أثرا في بناء شخصيته لاحقا.جذبته قراءة الكتب بشغف فأنكب يلتهم ما كان متوفرا من كتب الادب والتاريخ.التحق عام 1842وهو في 14من عمرة بمدرسة اللاهوت استجابة لرغبة والده،وفي عام1846دخل جامعة سان بطرسبورغ بقسم التاريخ وفلسفة اللغة .ومن طفولة مسيحية ارثوذكسية مؤمنة الى شباب ناضج بدأ وعيه ينمو ويتطور،واخذ في نقد التناقضات الدينية والسياسية والاجتماعية لدى النظام القيصري والقنانة،والبرجوازية النامية.وتشكلت آراءه الفكرية والادبية والسياسية المستقلة والمتمردة على الواقع الروسي الرث.وانهى دراسته الجامعية عام1850.لينخرط بعدها في العمل كمدرس للغة الروسية والادب بمدرسة في مدينته ساراتوف.لكنه وبعد زواجه من اولغا فاسيليفا لم يعد يطيق الحياة الراكدة الرتيبة. ليغادر بعدها الى العاصمة بطرسبورغ وصخبها الثقافي،بعد ان تسلح بوعيه الاجتماعي السياسي الراديكالي،وبات اشتراكيا طوباويا.فكان من الطبيعي ان ينخرط في نشاط الحلقات والتجمعات الاكاديمية و الطلابية اليسارية،فلم يعد ذلك الريفي الساذج الذي يقنع بحياة مملة في ساراتوف ليعوم في بحر العاصمة المتلاطم. ليعمل في الصحافة الى جانب اصدقاءه ورفاقه الديمقراطين التقدميين الذين ربطتهم به علاقات ادبية وسياسيية وطيدة،امثال:دوبرليوبوف ونكراسوف وتورجينيف. وفي هذه الفترة بدأ في الكتابة الجادة،وانخرط في مجال الصحافة،وخاصة في مجلة سوفر يمنيك (المعاصر)ورئيس تحريرها الشاعر الروسي نيكراسوف.وقد نشر العديد من المقالات،وسرعان ماصار رئيسا لتحرير المجلة.وواضب على الترويج للافكار الديمقراطية والثورية التقدمية من خلال كتاباته ومقالاته المرغوبة من قبل النخب الجامعية والمتعلمة.كان فيلسوفا ماديا،ومنظرا جماليا،وصحفيا وناقدا ادبيا،وسياسيا اشتراكيا ثوريا،وروائيا،كان موسوعيا ومتعدد المواهب.وشغل رئاسة العديد من المجلات الادبية،وكانت المجلة التي عمل بها تشرنشفسكي تضم بالاضافة اليه نخبة من الكتاب والصحفيين البارزين مثل:الشاعر نكراسوف،والناقد الادبي دوبروليوبوف،والروائي الكبير تورجينيف،والكاتب لوتكين،وغيرهم.وكانت اغلب كتاباتهم ذات طابع ثوري ناقد،وديمقراطي ليبرالي وتقدمي في جميع الافكار والكتابات المنشورة في تلك المجلة.وكان الامبراطور نيكولاس الاول1796-1855 قد بدأ حكمه القمعي بسحق انتفاضة الديسمبريين،واعدام قادتها عام1825وكان هذا الطاغية المستبد يخشى الانتفاضات والثورات والحركات المعارضة المناوئة لحكمه.ففرض أجراءات قمعية قاسية،وكبتا مقيدا للحريات،وخاصة حرية التعبير والنشر،ففرض رقابة صارمة شلت الصحف.وهذا مادفع الكتاب الليبراليين والديمقراطيين في مجلة سوفريمنيك(المعاصر)للتوقف عن الكتابة حرصا على بقاء مجلتهم خارج دائرة المنع.مطالبين زملائهم بالتخفيف من حدة لغة الخطاب النقدي المتطرف،والكف عن مهاجمة النظام القيصري في تلك الظروف العسيرة من الارهاب السلطوي، والاكتفاء بالكتابة الادبية والفنية بعيدا عن السياسة والنقد واستفزاز السلطة.ولكن ومع كل المناورة والتحفظ جرى اغلاق المجلة فعلا،وتم حضرها رسميا ومنعها من الصدور.وقد أثار نشاط تشرنشفسكي الصحفي والسياسي انتباه الاجهزة الامنية القيصرية،وخصوصا عندما وصلتهم الرسالة التي بعث بها تشرنشفسكي الى صديقه المنفي في لندن المفكر الروسي الكسندر هرزن العلم الاشتراكي الابرز من رواد الشعبوية الفلاحية الذي حرث البيئة الروسية من خلال كتاباته ضد القنانة واضطهاد الموجيك الروسي.تلك الرسالة التي وقعت بيد جهاز الامن السري الروسي،يقترح فيها نشر مجلة سوفريمنيك(المعاصر)في لندن.فضيقوا الخناق عليه.وفي عام1860وبعد نشره لمقالات تحرض على الثورة وتدعو لتغيير الاوضاع السياسية المتخلفة،وضع تحت المراقبة من قبل جهاز الامن السري الروسي ثم اعتقل،وحكم عليه ب7سنوات اشغال شاقةفي سجن قلعة بطرس وبولص،والنفي بعدها الى سيبيريا الى الابد!.في مايو-أيار1864جرى اعدام تشرنيشفسكي مدنيا في ساحة كونايا،وبعد ذلك ارسل الى سجن تيزشينسك التابع لسجن كاواين في سيبيريا.(والاعدام المدني لمن لايعرفه كان سائدا في روسيا القيصرية وبعض الدول الاخرى.وهو احد العقوبات المذلة المهينة لكرامة وحقوق الانسان،حيث يتم تقييد السجين،ومن ثم يكسر سيفا فوق رأسه،والقصد من هذه الرمزية في الاعدام المدني هو الحرمان الكامل للسجين المعدوم مدنيا من كافة حقوقه المدنية والسياسية،وهي عقوبة كانت تقتصر على العسكريين،ولكنها شملت حتى السياسيين المدنيين.م.ا)بعدها نقل لسجون آخرى ،وعرض عليه عام1874 اطلاق سراحه،ولكنه رفض ذلك لانهم اشترطوا عليه تقديم طلب الرحمة والعفو من القيصر!.وفي عام1883وبعد أكثر من عشرين عاما من السجن والنفي والمعاناة من الجوع والبرد السيبيري سمح له بالعودة الى استراخان.وفي عام1889توفي في مدينته ساراتوف.
تأثر تشرنيشفسكي بالفلسفة المادية الفرنسية والنظريات الطوباوية للاشتراكيين،وبفلسفة هيجل السياسية.ساهمت ثورة1848والتي عمت اجزاء واسعة من اوربا:فرنسا،المانيا،المجر،ايطاليا في نضجه الثوري السريع.نشر اطروحته الجامعية حول"العلاقة الجمالية بين الفن والواقع".ثم قام بنشر مؤلفاته بين عام1855-1856عن"بوشكين:حياته وكتاباته،وعن ليسنج وفنه وحياته واعماله،ونشر العديد من مقالاته الشهيرة،مثل:صراع الاحزاب في فرنسا في عهد لويس18وشارلس العاشروفرنسا في عهد لويس نابليون1859وملكية تموز-يوليو1860وتحليله للحركة القومية الايطالية،والحرب الاهلية الامريكية،وحول القضية الفلاحية الروسية،وترتيب حياة اصحاب الارض الفلاحين،وهل نداء الارض صعب1859والكثير الكثير من الموضوعات.فتشرنيشفسكي كان موسوعيا بلا مبالغة،وذو مواهب متعددة،فكان-كما ذكرناسابقا- في نفس الان:فيلسوفا ،ومؤرخا،وعالما،وداعية،وسياسيا،واديبا،وصحفيا.وقد شخص بنبوئية مدهشة آفاق التغيير الروسي القادم،وتعذر التوفيق الطبقي بين الملاك الكولاك والفلاحين الفقراء،وبين الرأسماليين وبين العمال،وان السلطة القيصرية هي المدافعة والحامية للاستغلال والاضطهاد والقمع لجماهير الشغيلة من فلاحين وعمال وطبقات مسحوقة،وان لاحل هناك سوى الثورة،وهي الحل الوحيد للقضاء على التمييز الطبقي والقيصرية المستبدة،واستيلاء الفلاحين على الارض.والثورة هي التي ستفتح الطريق نحو مجتمع مساواتي تشاركي حر وعادل.وكان متأثرا كذلك بفوريه وكومونات المستقبل للعمل الجماعي المشترك والنفع المتبادل.ويعتبر بحق ملهم واحد مؤسسي منظمةاو حركة"الارض والحرية"(نارودنايا فوليا)
المنظمة الثورية السرية التي انتشرت فروعها في ارجاء الامبراطورية.وكانت هذه المنظمة مدا ثوريا كاسحا شمل كل روسيا الحزينة.واستطاع تشرنيشفسكي كسب الكثير من الشباب لتنظيمه،واستعان بهم لتوزيع منشوراته السياسية المحرضة،ورغم هذا المد الراديكالي الجارف في الاوساط الجامعية:طلاب واساتذة وكتاب وصحفيين الا ان الحركة كانت معزولة عن القاع الفلاحي الشعبي،لدرجة انهم كانوا يرفضون الدعاية والتحريض الذي يقوم به متطوعون ذهبوا الى الارياف لدفع الفلاحين الى الثورة دون جدوى.واعتقد تشرنيشفسكي انه بعد اعلان تحرير الفلاحين القيصري،وخلال عدة عقود سيتم التخلي عن الزراعة الرأسمالية والتحول نحو الاشتراكية الفلاحية ذات الملكية الجماعية المشاعية،حيث دعا لانشاء كومونات فلاحية مستقبلية لتحقيق التعاون والمنفعة المشتركة .
ربطته صداقة وطيدة بنده الاشتراكي الشعبوي الطوباوي الكسندر هرزن1812-1870 الذي هاجر الى المنفى لكثرة الضغوط والكبت الفكري من قبل السلطة القيصرية،واستقر في لندن واصدر هناك جريدة بعنوانkolokal(الجرس)وكانت توزع سرا في روسيا،التي كانت صوت الاشتراكيين والديمقراطيين والثوريين الروس في اوربا،ليتلقفها الشباب الطلابي المتحمس للتغيير الثوري.واستمرت صلة التراسل بينهم،وواحدة من تلك الرسائل كانت السبب في اعتقاله.شغلته فكرة تحرير الاقنان،ومنحهم الارض دون تعويض مقابل،ومن ثم تشكيل ملكية جماعية للارض تمهيدا للنظام التشاركي،وكان هجومه ضاريا على نظام القنانة- وكانت دعوته لتحرير الاقنان سابقة لقرار القيصر و مرسومه الشكلي وغير العملي القاضي بالغاء القنانة م.ا-وانتقد العتق الظاهري للفلاحين الاقنان من العبودية قانونا ولكنها استمرت واقعبا في علاقتهم بالاسياد والارضّ.فما قيمة ان تحرر القن من العبودية بدون ارض يملكهاويعيش منها؟!.فلم يكن بأمكان الارقاء الفقراء الحصول على الارض التي لايملكون ثمنها بعد عتقهم!.وقد اقترح تشرنيشفسكي منح الارض للفلاحين الاحرار دون مقابل،ولكن ذلك لم يتحقق،فظل الفلاحين الاحرار عبيدا فعلا وواقعا بدون ارض خاصة بهم!.لذا كان مرسوم ألغاء القنانة مجرد حبر على ورق دون قيمة او أثر،فلامعنى للتحرير القانوني الشكلي دون الارض!.
في قلعة بطرس وبولص،وطيلة عام ونصف خضع للتحقيق والتعذيب النفسي،فأعلن اضرابا عن الطعام دون اهتمام او جدوى من طرف الجلادين..وخلال فترة سجنه في القلعة انجز روايته الخالدةwhat is to be done(ماالعمل؟)تلك الرواية الذائعة الصيت،والتي تأثر بها اغلب المثقفين والكتاب والطلاب والثوريين الروس،بل ليس من سياسي او مثقف او طالب روسي الا وقرأها.وكان لتشرنيشفسكي الدور الاول،والتأثير البالغ على لينين وراديكاليته المتنامية بعد اعدام اخيه الاكبر(ساشا).فقد تشرب افكاره الاشتراكية الشعبية(الطوباوية).وكان لينين يعتبر نفسه الابن الفكري لتشرنيشفسكي،وكان بالنسبة اليه وهو في بداية تشكل وعيه الثوري يعتبره قدوته الفكرية وبطله المثالي قبل اهتداءه للماركسية،وقبل ان يشرع بقراءة بليخانوف وكاوتسكي وماركس.كان شقيق لينين الاكبر ساشا معجبا برواية بتشرنيشفسكي(ماالعمل؟)وقال لينين بعد قراءته للرواية:"ان الرواية فتنت أخيه وفتنته هو ايضا،وذكر انه قبل ان يقرأ ماركس وانجلس وبليخانوف كان تشرنشيفسكي وحده من هيمن بتأثيره علي،وكل شيء بدأ ب(ماالعمل؟)".كان تشرنيشفسكي وفي المخاطبات بين أجهزة الشرطة السرية ملقبا ب"العدو رقم1 للامبراطورية الروسية"!.فهو اول من احدث القطيعة مع القيم الاخلاقية البالية السائدة،ووقف بصلابة وحزم ضد النظام القيصري الاوتوقراطي القهري الذي ينتمي لظلامية القرون الوسطى.وبالرغم من مثاليته،وروحانيته الاخلاقية احيانا،فقد توجه تشرنيشفسكي فكريا وتبنى افكار ابرز الفوضويين الانسانيين الذين لجأوا للعنف مجبريين بمواجهة عنف السلطة.هؤلاء الحالمين الذين وصفهم الفيلسوف الروسي نقولا بردائييف بانهم كانوا"يعيشون نوعا من تصوف الخلاص الاجتماعي".فقد جمعوا بين حبهم للناس وتفانيهم من اجل الفلاحين الفقراء والاقنان،وبين ضرورة تحطيم كل مايقف ضد تحقيق مثالهم الثوري الاعلى اليوتوبي-المسيحاني في الحرية والمساواة والكرامة.حتى لوتسبب هذا بضرر لاولئك الناس او لهم ايضا.
نشرت رواية(ماالعمل؟)في ثلاثة اعداد من مجلة سوفريمنيك(المعاصر)بعد ان عادت للصدور عام1863وقد اجازتها الرقابة الغبية،ولكن لاحقا وبعد ان طبعت ونشرت ككتاب انتبهت الشرطة السرية لمضمونها الثوري المحرض ومنعتها ولكن بعد فوات الاوان حيث لم يكن هناك مثقف روسي لم يقرأها!.مضامين الرواية لاتعكس دلالاتها الفكرية والايديولوجية بشكل واضح وصريح،ولكن يكفي انها كشفت عن سياسات وممارسات جيلين على الاقل من الاشتراكيين الشعبويين الطوباويين،واظهرت على السطح ما يمور في عقول ووجدان النخب الثقافية والاكاديمية في المجتمع الروسي الذي كان يفور كبركان.كان بطل الرواية(راخميتوف)-راخميتوف اسم من اصل تتري،ورخمت ذات جذر عربي واضح،ويعني الرحمة!م.ا-ثوريا رومانسيا حالما،وهو قريب الشبه من(بازاروف)بطل رواية تورجينيف"اباء وبنون"،او يشبه نيتشايف في الواقع!.وبالرغم من خيالية الاحداث والطابع الحلمي لمنامات بطلة الرواية(فيرا بافلوفنا)والعلاقات الغريبة التي ربطت شخوص الرواية،الا ان تشرنيشفسكي حاول ان يمرر (يوتيوباه)المستقبلية لجدة وحداثة العلاقات التي آمن بها،وسعى في كل كتاباته لتوطيدها وتكريسها كأنماط لغد قادم يرفل بالحرية والانفتاح والآفاق المشرعة على انسان جديد بلا استغلال او قمع او اغتراب.وقد وصف ناقد ادبي امريكي رواية (ماالعمل؟)قائلا:"ليس هناك من عمل في الادب الحديث ينافس رواية(ماالعمل؟)ربما بأستثناء(كوخ العم توم)والرواية دفعت الحراك العاطفي الذي ادى الى اندلاع الثورة الروسية،وذلك اكثر من كتاب(رأس المال)لماركس".لم يصل تشرنشيفسكي ادبيا لمستوى الكبار من الادباء الروس ك:كبوشكين،ليرمنتوف،غوغول،تولستوي،،الا انهم لم ينافسوه في كتاباته النقدية والتعليمية والادبية التربوية في اوساط الطلاب والشعبويون والارهابيون الروس.ويشكل تشرنيشفسكي ثلاثي الى جانب بيساريف ودوبريولوف،وخاصة بسبب تعرضهم للسجن.فشكلت معاناتهم تلك الهالة من الاعجاب والتبجيل،واهتمام مضاعف بكتاباتهم النقدية والجدلية في الاوساط الراديكالية والنخب السياسية المثقفة في المجتمع الروسي..اما بالنسبة للنساء الثوريات فقد انجذبن لبطلة الرواية(فيرا بافلوفنا)واعجبن بشخصيتها القوية واستقلاليتها وراديكاليتها،وكان تأثير الرواية على البلشفية الروسية الكسندرا كولونتاي عندما قرأتها وهي مراهقة قويا وايجابيا.وكانت افكار التحرر،والدعوة للمساواة الجندرية والعيش في كميون،والاتحاد الحر التي تخللت ثنايا الرواية دفعت حتى الرجال الاشتراكيين بعيدا عن التقاليد البطرياركية،والارذوكسية الدينية المهيمنة في روسيا الفلاحية المقدسة!.وقد كتبت الشعبوية الارهابية فيرا زالوسيش التي تحولت الى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي،وكانت رفيقة لينين في هيئة تحرير جريدة الايسكرا(الشرارة)،ودفاعا عن تشرنيشفسكي قائلة:"كانت الرقابة تعيقه،كان عليه ان يكتب بالاشارات والهيروغليفية،كان بأمكاننا فك شفرته،ولكن انتم،جيل بداية القرن العشرين،لاتمتلكون تلك المهارة،تجدونه كئيبا فارغا،وحتى بعد ان نفي تشرنشفسكي الى سيبريا ولم يعد قادرا على شرح مقالاته،راج نوع من المفتاح للفهم،ليس لديكم هذا المفتاح اليوم،وبدونه لن تعرفوه،لايمكنكم ان تفهموا انه لم يكن ماتتخيلوه عنه وسط جهلكم".ربما لم يحضى كاتب او اديب روسي آخر بهذا القدر من الوفاء والاخلاص والتبجيل بأستثناء تولستوي!.كان الشاعر الروسي مايكوفسكي معجبا ايضا بالرواية،وكانت اخر ماقرأه قبل انتحاره!.لقد طبعت الرواية بصمتها في الوعي السياسي والفكري على اغلب الثوريين فو روسيا وعلى رأسهم يبقى المعجب الاكبر لينين نفسه.وليس مجرد صدفة ان يكون اول انتاج ادبي سياسي للينين هو كتب(ماالعمل؟)وهو جواب سؤال تشرنيشفسكي الذي كان شبه جواب ايضا على سؤال تورجينيف في الاباء والبنون!.
وبعد..لاندعي اننا غطينا كامل سيرة، او مواقف ،او كتابات، او ومحطات حياة تشيرنيشفسكي الزاخرة بكل ابعاد المقاومة والمعاناة والصراع والتمسك بحرية الموقف والخطاب والسلوك.فمقالنا المتواضع هذا هو مجرد مرور سريع على لمحات وومضات من حياته،بأيجاز مختصر بقصد العرض والتعريف بقامة ثورية سامقة عنيدة وصلبة،سحقتها بلا رحمة سنوات من السجن والنفي،وقاست من الجوع والبرد،ومع كل ذلك لم تخنع او تنحني او تنكسر،وظلت شامخة جليلة الكرامة حتى النهاية.واذا كان عنوان العمل الادبي الاشهر لتشرنيشفسكي على شكل سؤال:"ماالعمل؟".فقد كان طرحه أكبر من سؤال وقضية.فهو سؤال مركب برؤوس متعددة:فلسفية،وفكرية،وادبية،واجتماعية،وسياسية،وانطولوجية،وبكل امتدادات الحيرة والقلق،والتسائل والرغبة بالفهم،ومن ثم العمل،والبحث عن حلول لقضية الانسان المضطهد والمحروم والمستلب في عالم غاشم وقاهر.انه ليس سؤالا عابرا ومنقطعا؟!.بل هو سؤال دائري لايتوقف او يهدأ،يطرح نفسه بأستفزاز وجدية غايته الفعل ،وحركة الفعل لارصف الكلمات واجترارها.سؤال منهجه السعي لفتح الافاق،والسعي لحل الاشكالات،والجواب على الحيرة والقلق.انه سؤال الحركة والنبض،السيرورة الحية لانسان جديد،وعالم جديد،وعلاقات انسانية لحمتها التعاون والتضامن والتكافل والمشاركة.سؤال البراكسيس الماركسي،سؤال الفعل والمارسة السياسية الاجتماعية الصائبة والايجابية في تحقيق الاهداف والغايات.ان تطرح سؤالا بهذا العمق يعني ان تضع القرميدة الاولى في اساس عمارة التغيير والثورة.والتي تلقفها لينين ليضاعف من سؤال تشرنيشفسكي بسؤاله وجوابه المزدوج-الرد الجديد،وكتابه:"ماالعمل؟".ليضع القرميدة الثانية في أساس البناء الثوري:التنظيم.الانضباط،المركزية،وزرع الوعي الطبقي،واحتراف الثورة،والممارسة التنظيمية- الدعوية، والتحريضية تحت ظل نظام داخلي ملزم،وبرنامج،والخ.والتمهيد لقلب الواقع الروسي المر والخامل والمتخلف بأنتفاضة هزت العالم.
في رسالة وبأسم مستعار كتبها تشرنيشفيسكي وارسلها الى جريدة (كولكول)الجرس،والتي كان يحررها صديقه المنفي هيرزن في لندن.طالب فيها مقترحا بتطبيق أكثر الاجراءات نجاعا وفاعلية لمعالجة امراض روسيا القيصرية المستعصية والمزمنة والكثيرة،ويفول:"وحده الفأس يمكنه انقاذنا،ولاشيء سوى الفأس""غيروا لهجتكم،ودعوا الاجراس تدق لاللصلوات ولكن للانذار!.أدعوا روسيا لحمل الفأس"..وفعلا الصلوات لاتنفع بقدر الفعل الثوري العنيف،ولكن ليس بالفأس وحده كما اقترح تشرنيشفيسكي!.وبالمطرقة البروليتارية المنظمة ايضا كما أضاف لينين في كتابه :"ماالعمل؟"بزلزال اكتوبر الذي هز العالم....

......................................................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال