الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس ثقافية وسياسية ـ 152 ـ

آرام كربيت

2024 / 5 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


غافل
تابعت سيري على الأرض الجافة المتشققة. المملوءة بالمنحنيات والتعرجات الكثيرة. مطأطأ الرأس. وحيداً. صامتاً. الشمس تزداد قسوة كل دقيقة. السراب المخادع يأخذني على جناحيه ويعيدني, يظهر ابتسامته الكاذبة حينًا وبكاءه أحيانًا أخرى. خلعت حذائي المطاطي الذي رافق رحلتي الطويلة ورميته جانبًا على الأرض الجافة. مشيت حافياً. حرارة الأرض الملتهبة تلفح قدمي تلعب بهما، وتلسعهما, وتصطدم بالرمال المذببة وحواف الأشجار الميتة. سالت الدماء منهما. بيد أني تابعت طريقي بالشغف الحزين ذاته, موجوعاً وفي قلبي ألم دفين، أن أعرف لماذا مات هذا الجميل.
جاء وجه سمراء من ذات المكان، قالت:
ـ هل عدت يا غافل؟
ـ نعم.
ـ تأخرت كثيرًا، أما زلت تتذكر؟
ـ عندما ودعتك في فم الباب قلت لي، هل نستطيع اللقاء في دير الزور؟
ـ أين يمكننا أن نلتقي؟
ـ في حي القصور القريب من نادي الموظفين، الشارع العام، الساعة العاشرة، سأنتظرك على موقف الباص، هل يناسبك هذا الموعد؟
عندما جاءت كنت طائر صغير يحبو على ركبتيه، يريد الرفرفة في السماء، جسدي كله يرجف، أنتظر هول المفاجأة، قلبي يدق في صدري كحصان خائف.
قلت في نفسي:
ـ أنها امرأة، أنها النار والنور. وهل هناك متعة تضاهي متعة اللقاء الأول؟
ركبنا الباص وفي داخل كلينا عطش للمعرفة، للقاء، لبناء عالم جديد، تاريخ جديد، عشق في طريقه إلى الحياة.
نزلنا في السوق، سرنا مشيًا على الأقدام باتجاه كلية الزراعة في شارع مشجر هادئ وجميل، على جانبيه مفارز الأمن، أمن الدولة، الأمن السياسي والعسكري، الجنود حاملين بواريدهم على أكتافهم يراقبون المارة بنظرات ذئبية حادة.
قلت لنفسي:
ـ برفقة المرأة، يزداد الخوف من المجهول، من المفاجأت الغير سارة.
سرنا كحبيبن مجهولين، بينهما خيط يريد أن ينسج بعضه، أن يتحول إلى سماء وعصافير وهديل حمام.
وقفنا على الجسر المعلق على أطراف مدينة دير الزور، تأملنا بعضنا، وضعت سمراء يدها في يدي، ثم وضعت رأسها على كتفي، دندنت أغنية جميلة لوردة، لولا الملامة لولا الملامة، كدت أطير بها ومعها، في تلك اللحظة الجميلة أردت أن تبقى معه طوال العمر، نتلذذ ببعضنا، شعرت بأنفاسها بالقرب من رقبتي، وشعرها الحريري المنساب على ساعدي.
كانت سمراء رقيقة ناعمة خاصة أصابع يديها، فيهما إغراء غريب، قلت لنفسي:
ـ يا لجمال الحياة بوجود المرأة.
توقفنا على أحد مساند الجسر المعلق، واتكئنا عليه، تأملنا خضرة ماء نهر الفرات، بين الثانية والأخرى تقترب سمراء مني، تنحني على المسند ذاته، تقرب فمها من فمي، تسمعني صوتها همسًا، تقبلني، تتلمظ كالقطة، تشهق، تقول لي:
ـ أنت لذيذ يا غافل. تذكر يا غافل أن هذه القبل لن تعوض لذتها، أنها خالدة:
ـ على المرء، أن يأخذ هذه المنحة أو الهبة من الحياة، أن يتم قطافها في اللحظة المنبهقة من ذاتها، إذا مرت دون أن تتبلل الشفاه سترحل ولا تعود. اللذة ابنة اللحظة وتبقى مع الزمن في الذاكرة، مثل الفاكهة الناضجة في وقتها، تكون في قمة اللذة.
سرنا باتجاه الكلية، دخلنا مقصفها، وسط تدفق زملاء سمراء، ترحيبهم بها وبي، فرحهم بعودتها إلى الكلية بعد انقطاع طويل، شربنا القهوة بحضور عدد كبير من زملاءها وسط استغرب الكثير من زملاءها لوجود غافل معها، دون معرفة سابقة.
بعد أن جلسنا وحدنا، ذهبت سمراء إلى الإدارة، سجلت اسمها من أجل بدء العام الدراسي الجديد والأخير. جلبت معها سندويشتين مرتديلا مع البندورة، مع كأسين إضافيين من الشاي. جلسنا معًا نأكل بشهية والابتسامة على شفاهنا لم تنقطع.
خرجنا من الكلية بعد وداع زملاءها، اتجهنا نحو الجسر المعلق مرة ثانية في طريق العودة لعبور النهر العظيم:
ـ هل توعدني أن نبقى معًا، نلتقي دائما، نمشي، نغني في الشوارع والطرقات، نقرأ، نسافر، نزور المعارض الفنية، والأمسيات الشعرية والمحاضرات الفكرية والفلسفية، نغني حياتنا بكل ما هو جميل في حياتنا.
جاء السراب مرة ثانية، تابعت المشي دون إدرك مني أن التعب قد نال مني مناله، وأن سفري الطويل في طريق العودة زرع في رأسي الكثير من الأسئلة، رماني في الدوار والدوخة.
رأيت امرأة ريفية تمشي كالسكرانة. تقترب مني. رفعت عيني موجهًا نظري صوبها. رأيتها عارية الرأس على غير عادات النساء الريفيات التائهات في مثل وضعها، تمشي في مجرى نهر الخابور. وحافية القدمين مثلي، ترتدي ثياباً طويلة مزركشة، وفي أسفل أنفها حلقة من الفضة وتحت فمها وشم أزرق غامض، ما أن رأتني حتى اندفعت نحوي، في عينيها وعقلها قلق الأسئلة الكثيرة والمتعددة.
قالت:
ـ هل أنت غافل، الغريب؟ قلت:
ـ نعم.
ـ لماذا عدت من غربتك؟
ـ الغريب هو غريب، طائر مهاجر, ليس بإرادته أن يبقى في مكانه أو يرحل. أنها إرادة الحياة، زخهما، قدرتها على تقرير شأنه.
ـ صدقت. لكنك عدت بعد أن جف هذا الرهوان العظيم. لقد نالوا من جسده بالكامل, حتى دمائه شربوها. أعلم أنك تركته شابًا وها أنك تعود إليه ميتاً. الناس عابثه يا غافل، لا خير في أمة لا تحافظ على أنهارها.
ـ من قتل هذا الخابور؟
ـ هذا السؤال صعب يا غافل، صعب جدًا، طريقي طويل، وطريقك أطوال، لنفترق.
في الزورق الصغير شاهدنا جزر النهر، انفعالاته وفرحه، عرضه المذهل.

سجن عدرا
سجن عدرا كان حجزًا للحرية، بمعنى، لم تكن السلطة تريد تدمير سجناء الرأي، بل تعاملت معنا بالراحة، أي دون حقد أو قسوة.
لم نتعرض للتعذيب أو الضرب، أو العنف اللفظي أو بالإشارات.
أما في سجن تدمر كان الأمر مختلفًا تمامًا، كان تدميرًا ممنهجًا للنفس والعقل والجسد.
مارست السلطة علينا عنجهيتها وهمجيتها الحقيقية، مع هذا، كان التعذيب لنا، نحن سجناء الرأي أقل قسوة بكثير.
رأينا مضمون السلطة، عريها عندما تعرت تمامًا، كيف كشفت عن ذاتها، رأينا سلطة حاف دون رتوش أو تجميل.
رأينا هذا في علاقة السلطة بالأخوان المسلمين، التعذيب الممنهج للأخوان دون رحمة أو شفقة.
التعذيب الذي تعرض له الأخوان المسلمين شيء يشيب له الرأس.
بمجرد أن يفتح باب المهجع، بمنهجية دقيقة وعالية، وحركة بلوات الطعام على الأرض، وضرب الأكبال على الجدران، وحركة ابواط الجنود، نعرف أن التعذيب بدأ.
كل شيء فينا يرجف من الخوف، انقطاع النفس، التنفس ببطء شديد، عدم القدر على نطق كلمة واحدة، الأذان مشنفة، تصيخ السمع.
يخرجون الضحية إلى الخارج، يبطحونه أرضًا كما يبطحون الخروف أو النعجة، يرفعون قدميه إلى الأعلى، ويبدأ الجلد وسط صراخ الضحية، للأخوان، يمتد الجلد من مئة وخمسون كبلًا إلى أربعمائة تقريبًا أقل أو أكثر، بينما نحن، الشيوعيون كان على أكثر تقدير مئة كبل. أو أقل.

قبل الاعتقال وبعده
هناك ناس كانوا سيئين قبل الاعتقال وفي وجودهم في المعتقل، وبقوا بعده.
عندما يعتقل إنسان ما، في بلد سلطوي ما، كسوريا مثلا، عليك أن تنظر إليه بوصفه معتقل سياسي، موجود في السجن، أن لا تحاكم أخلاقه.
عندما يخرج من المعتقل، عليك أن تحاسبه بوصفه سياسيًا أو إنسان عادي، أن تجرده من صفته القديمة، كمعتقل.
إن تنظر إليه كإنسان، وليس كمعتقل سابق، ويجب أن لا تحاكمه كمعتقل سابق، سواء لأخلاقه أو لسلوكه.
عليك أن تنظر إليه كإنسان، له ما له، وعليه ما عليه، دون حمولات قديمة أو جديدة.

التحقيق
في التحقيق جميع السجناء تعرضوا للتعذيب بنسب.
لكن في السجن المدني يلتقط المعتقل السياسي أنفاسه، يعيد علاقته مع نفسه من خلال قراءة نفسه قراءة الواقع.
صديق لنا لم ينهار في التحقيق، أنما انهار عندما أعلن صدام حسين الانسحاب الكيفي للجيش العراقي، ذكره هذا بالانسحاب الكيفي للجيش السوري قبل أن يدخل الحرب.
بدأ يبان عليه المرض بوضوح، من خلال إشارات كثيرة ومتنوعة.
شكلنا لجنة من الرفاق، ومثلها المرحوم رضا حداد ومحمد سيد رصاص في العام 1993، والتقوا بالضابط رئيس المفرزة، قالوا له هذا الرجل انتهى، يجب الأفراج عنه.
إنه مريض.
رفع الضابط تقريره لمركز التحقيق المركزي للأمن السياسي السوري، الذي رفعه بدوره للمخابرات العامة.
أخذوه للمشفى في دوما، عاينه الطبيب، وحوله إلى لجنة للأفراج عنه.
رئيس اللجنة العسكرية قال له:
يا م. ح نريد الأفراج عنك مقابل تعهد أن تترك الحزب، انظر، هذا الاتحاد السوفييتي أمامك قد انهار وانتهى، ونريد منك أن تخرج وتذهب إلى بيتك، قال لهم:
ـ التجربة السوفييتية انهارت ولكن الفكر سيبقى، وسنبي بناء على الفكر عالم جديد، وأنا لن أخرج من السجن إلا إذا أفرجتم عن رياض الترك.
وسأكون أخر معتقل سياسي في حزبنا.
شتمه الضابط وقال، ما زال فيك بقية حياى، يجب أن تقضيها في السجن، ستبقى في السجن.
عاد الصديق إلى سجن عدرا وبقي معنا إلى أن رحلونا إلى تدمر، في الثالث من يناير العام 1996.
في تدمر كان التعذيب ممنهجًا للجميع، للمهجع كله، وكنا 30 فردا، 9 معتقلين من المكتب السياسي و13 معتقل من حزب العمل الشيوعي، وكان معنا ثمانية معتقلين من حزب البعث الاشتراكي التابع للعراق، كان تعذيبهم أشد قسوة بعد عزلهم عنا.
خرج م. ح، مع مجموعة معتقلين في 8 حزيران العام 1998، منهم صفوان عكاش وعزيز تبسي وبكر صدقي، والحارث النبهان وتيسير حسون ومصطفى حسين وبسام بدور وحسين السيبراني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: نظام ري قديم للمحافظة على مياه الواحات


.. مراسل أوكراني يتسبب في فضيحة مدوية على الهواء #سوشال_سكاي




.. مفوضية الانتخابات العراقية توقف الإجراءات المتعلقة بانتخابات


.. الصواريخ «الطائشة».. الفاشر على طريق «الأرض المحروقة» | #الت




.. إسرائيل.. انقسام علني في مجلس الحرب بسبب -اليوم التالي- | #ر