الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بُومُ مِنيرْفا…

عزالدين بوروى

2024 / 5 / 2
الادب والفن


بُومُ مِنِيرْفَا
قصة قصيرة



…لم يكن يفصلنا عن يوم الإدلاء بالصوت سوى ساعات قليلة ، كانت الأجواء جد مشحونة بين مساند لعلي ومناصر لمعاوية، مَنَاخٌ سياسي هيستيري، الكل أصبح، بين ليلة وضحاها ، مصلحًا اجتماعيا وسياسيا يملك العصا السحرية لحل مشكلة الصحة والتعليم والعطالة وغيرها من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. كثُر لغط عِلية القوم عن التغيير واستطاعوا أن يوظفوا لهذا الغرض أَقْنَانَ البلدة من مُياومين وغيرهم. الكلُّ أصبح يمتهن السياسة ولا حديث في المقاهي والمطاعم والمساجد والشوارع العامة يعلو على هذا الحديث.
كان شباب البلدة جزءًا لا يتجزأ من هذا الزخم السياسي المقيت، بعضهم رأى في الحزب الفلاني مصدر رزق غير آبه لأية دعاية سياسية أو غرضٍ بعيد المدى، والبعض الآخر وجد في الحزب العلاني ضالّته كي يكسب كرسيّا يقربه من أصحاب القرار.

-" الله يغرق لهم الشقف كاملين ، أنا كيهمني غي هاد الفلوس" . قال أحدهم.
-" هاذي فرصة نشري المعرفة مع الحاج..." قال الآخر.
ولأنني كنتُ كما بومة "منيرفا"* لا أظهر إلا حينما يسدلُ الليل خيوطه ويغط الآخرون في نومهم العميق، أخرج بعد منتصف الليل وحيداً أحاول ربط خيوط جريمة كاملة الأركان؛ جريمة سنؤدي ثمنها جميعا لخمس سنوات عجاف، أرهقتني الأفكار وعجزت عن الفهم، من أعطى الحق لهؤلاء بأن يمثلوا جمهرة من الناس لا تملك مسماراً واحداً تعلق عليه جَوَاكِطَهَا؟ من أعطى الضوء الأخضر لثلة من القوم يقرِّرون في مصير ومستقبل أُمَّة؟ حاولت فهم سيكولوجية مجمع هذه الجماهير، لكنني عجزت عن ذلك، تارة بتحميل المسؤولية لهذه الجماهير نفسها، وتارة أخرى ألصق كل هذه المصائب بناصية التاريخ؛ تاريخ طويل جدّا من العمل المتواصل لأناسٍ لا يملكون الفضيلة ولكن يملكون كل الوسائل الممكنة لشيطنة من يريد أن يصير ملاكاً، إنه تاريخ طويل من العمل على صناعة الإنسان ذي البعد الواحد: نفس الإتجاه، نفس التفكير، ونفس الغاية. إنه تاريخ طويلٌ من التجارب داخل المختبرات الخفية بنفس الهدف، وهو تشييء الإنسان وجعله شبيها ب "الفاست فود" ، سريع التحضير وسهل الهضم.
مرَّت الحملة الإنتخابية من أمام بيتنا، وأخيرا استجابت السماء لندائي بعد سنوات طوال من تكرار نفس الدعاء وهو رؤية "ممثل البلدة" مباشرة.
- هل طلبتُ المستحيل؟ . سألتُ السماء مستنكرًا .
كانت الحملةُ الانتخابية تشبه كثيرا حملة الماء في انطلاقته الأولى من المَيَازِبِ الجارفة لكل شيء يعترض سبيلها من عيدان وزرع جاف في اتجاه الوادي، هكذا كانت حملتنا الانتخابية التي جرفت كل رعاع البلدة من شباب وشياب، صغار وكبار، نساء ورجال... وكان يتزعمهم فخامة الرئيس بجلباب أبيض يشع نورا ومشية تشبه مشية الطاوس، بريش منفوش وصدر مدفوع إلى الأمام، ولَهَاتُ أولئك الذين داستهم عجلة التاريخ كانت قريبة من الزوال عن منطقة شراع الحنك وهو يصدحون بصوت جهوري :
- رئيسكم مين... ؟ يسأل أصحاب الصفوف الأمامية.
ويجيب المتواجدون بآخر الحملة:
- الحاااااااج...الحاااااج...
كانت أصداء الصوت تهزُّ أركان بيتنا ومعظم بيوت الجيران، واستفزني الأمر كثيرا، كيف والتاريخ سيسجل عن بومة "منيرفا" تخاذلها إن هي لزمت الصمت والحياد في موقف عصيب كهذا.
معلومٌ أن للبومة فأل شؤمٍ في ثقافتنا الشعبية، وهو الأمر الذي حدث بالفعل، فبعض الرعاع ما إن رأوني قادماً حتى قطبوا حواجبهم دليلاً على قدوم نذير سوء بالقريب العاجل.
تعالت الأصوات من هنا ومن هناك، لكنني وضحت لهم أنني لا أحمل ضغينة لأي أحد، وأن ما يحركني هو بؤس قديم يستوطنني وحزن عميقٌ يتلبسني دفعاني للاحتجاج أمام "سعادة الرايس".
- سِيدْ الرايس، حبذا لو رأيناك في السنوات الخمس الماضية، انظر إلينا بعين الرحمة أرجوك، اتقِ الله فينا أرجوك! اتق الله في هؤلاء المعذبين، ألا ترى أن الطرق حزينة يا سيد الرايس، والبيوت تتكئ على بعضها، والروائح الكريهة تزكم أنوفنا...نحن حزانى يا سيد الرايس، ألا يليق بنا الفرح ؟ انظر للبلدة، لشبابها، لشيابها، لأراملها، ومطلقاتها...انظر من حولك، المياه كلها بلون الغرق.
كان في جعبتي كلامٌ كثير أردت قوله، لكن صوتا في الأرجاء قاطعني وقطع كلامي إلى الأبد قائلا:
- مَامَا، مَامَا، إن جارنا الملحد أوقف الحملة الانتخابية ومنعها من إكمال المسير...
كان الصوتُ صوت إحدى بنات الجيران اللائي لم يدرسن، بل سمعن فقط أن الفلسفة أخت الإلحاد البيولوجية، وبالتالي انصرف الجميع عن الإنصات لهذا "الكلب" كما لقبني أحد شيوخ البلدة الملازمين لبيت الله ليل-نهار.
انصرف الجميع، ولزمت الصمتَ بعدما تعبتُ من الكلام، يئست ولم أقوَ على الإدراك...ارتكنت إلى زاوية من زوايا فناء المنزل وأنا أردد قصيدة من قصائد أحمد مطر كنت أحفظها عن ظهر قلب :

لم يعد لي رفيق
رغم أن البلدة مكتظة بآلاف الرفاق
لذا شكلت من نفسي حزباً
ثم إني مثل كل الناس
أعلنت على الحزب انشقاقي...

دونت المقطع على نافذة الغرفة وحملت أمتعتي ، كان صوت القطار يحدث طنينًا قويا بالأذن حينما هبت ريح خفيفة من هناك ، فعرفت حينها أن موسم الهجرة إلى الشمال قد حان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: آراء متباينة حول فيلم كوبولا الجديد وم


.. أون سيت - من نجوم شهر مايو الزعيم عادل إمام.. ومن أبرز أفلام




.. عمر عبدالحليم: نجاح «السرب» فاق توقعاتي ورأيت الجمهور يبكي ف


.. عمر عبدالحليم: كتبت لفيلم «السرب» 23 نسخة




.. أون سيت - 7 مليون جنيه إيرادات فيلم السرب في أول 3 أيام فقط