الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية عند الدكتور علي جواد الطاهر

قيس كاظم الجنابي

2024 / 5 / 3
الادب والفن


-1-
تترشح من مقالات الدكتور علي جواد الطاهر(1919-1996م)، الكثير من الاحالات والتلميحات الذاتية التي تقترب من كتابة السيرة الذاتية، من خلال علاقة الانا بالآخرين، ومن خلال طبيعة المقالة الأدبية النضاحة والمشحونة بالعاطفة والانفعالات، والتي وصفها بكتابه(الباب الضيق) الصادر عام 1990م، بانها ليست خواطر أو خطرات، ؛ذلك لان المقالة هي انفعال مسيطر عليه، فهو يبدأ هذا الكتاب بمقالة بعنوان(هموم صغيرة )واكمله بمقالة بعنوان( المتنبي .. والسلام)،ولان الكتاب هو مجموعة مقالات أسبوعية متتالية،فان تدفق الحياة وتدفق الانفعالات والعواطف يبقى مستمرا وكجزء من سيرة الكاتب ومجسات حياته، مثل اشتراكه بمجلة(المنهل) التي صدر عددها الأول عام 1937م، فكتب عنها مقالة في 15/شباط/ 1989م، حيث يقول:
" واليوم ،ونحن في عام 1989،أي بعد نحو من خمسة وأربعين عاماً من ذلك الاشتراك يبدو الامر غير طبيعي".[ص28/شركة المعرفة والنشر والتوزيع، بغداد 1990م]
أو شراؤه لكتاب(العقد المفصل) للسيد حيدر الحلي، الشاعر الكبير،مشيراً الى تجربته الذاتية مع هذا الكتاب وكيف فقده، حين يقول:
"آه! كان ذلك قد وقع لي عام 1948،واني لاتمثل المشهد كاملاً – على الرغم من بعد الزمن به،وكما هو:في القاهرة المحروسة، في مقهى بور فؤاد، على كرسيين متقابلين تفصلهما طاولة مرمرية مستديرة بيضاء أرجلها حديد أسود".[ص39]
وفي كتابه(الباب الواسع) الصادر عام 2004م، الذي تبعه بعنوان ثانوي(فصول غير ذاتية عن سيرة ذاتية) وهو مجموعة مقالات انشائية كالتي كان يكتبها في الصحافة وينشرها فيما بعد، والذي أعاد الاعتبار فيها الى المقالة الأدبية التي ظهرت ثم تلاشت او اضمحلت.يشير الى مقاله الأول(أنا .. في أيام العثمانيين) المنشور في العدد الصادر في 7/9/1995م، في جريدة الثورة، ضمن سلسلة مقالات أسبوعية يقول فيه:" وتوالت المقالات متنوعة في الموضوعات بين الانشاء والتعليم،وتوسع الباب - مع التنوع – على اكثر مما رسم له حتى دخل فيه من الحلقات ما عالجت ضروباً من السيرة الذاتية التي تؤرخ للمجتمع الثقافي أكثر مما تؤرخ لصاحبها، وتعددت هذه الحلقات بعد أيام العثمانيين الشيخ علي وشملت المدرسة الشرقية ،والمتوسطة،والثانوية، مما قد يخرج بمقالات الباب عن بابه ويدعو الى نقل هذه الحلقات لتتصدر مادة لكتاب آخر هي ادخل فيه بعنوان "فصول غير ذاتية عن سيرة".
أما مقالنا : منطق منيرة المهدية والعقاد فهما منقولان من كتاب آخر من المقالات معدة للطبع بعنوان"أمشاج" فالاولى بهما ان تعودا من حيث أتيا".[ ص6-7/ كتاب الأقلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2021م].
وفي مقدمة كتابه شبه السيري( فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية) الصادر بعد وفاته عام 2004م، ثمة مغالطة أو مناورة في العنوان، أمام القارئ، في ان كتابه هذا ليس سيرة ذاتية كما يفهما ويكتبها الادباء في الغرب، فالشرق تقترب فيه السيرة من كتابة المقالة/ المحاولة التي لها صلة بالمعنى الحقيقي للماقلة الانشائية والأدبية، في النزعة الذاتية والعاطفية؛ فهو يبدأ هذا الكتاب بمقدمة يقول فيها:
" لم يكن في نيتي يوماً ما ان أكتب سيرة ذاتية، لاني أعلم ان قرّاء السيرة الذاتية يقبلون على الكتاب وفي قصدهم ان يروا ما للكاتب من مغامرات وخوارق المواقف، وهذا وحده لديهم عامل باعث على القراءة وشرط يرونه في الكتاب. وأنا لا أملك من هذا الشرط أمراً...".[ص9/ الدار العربية للموسوعات،بيروت،1425هـ/ 2004م].
ثم يقول:
"وكثيراً ما احسن أناس الظن بي فاقترحوا أنْ أكتب سيرة ذاتية،ومنهم من الحّ على انها واجب. وكان جوابي أني لا أملك شروط النهوض بهذا الواجب..".[ص9]
فاستقر لديه العنوان في (فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية)،والسبب في ذلك ان الدكتور علي جواد الطاهر يعي تماماً المقصود بالسيرة الذاتية، فأراد أن يبعد القارئ عن السيرة، ويقربه الى الذات كما أراد هو، ولعل واحدة من الأسباب التي منعته من ذلك، هو ليس انه لا يمتلك شروط النهوض بهذا الواجب؛ وانما لان ما يحمله من أسرار ربما تسيء للآخرين،او تفتح عليه النار من الاحياء،أو من السلطة القائمة، فهو يمتلك تاريخاً سياسياً تحيد به بعض الشوائب والمنغصات السياسية، ولكن السيرة الذاتية هي تأكيد للحقائق وتثبيت للوقائع التاريخية ، كما رآها وليس كما ادعاها الآخرون.
وككاتب مقالة أدبية يرى بأن المقالة الأدبية هي محاولة/ تجربة ذاتية،وليس فيها ما يوحي بالسيرة؛ لهذا يعرج على مصطلح(التجربة) في نهاية الكتاب،وهو يصفها بالحركة المقترنة بالذاتية والانا، ثم اتسعت "حتى كادت تصير مرادفاً أو قريناً لكلمة"سيرة": سيرة حياة ذاتية. وكل ما لها من خصوصية تفرّقها عن سيرة الحياة والسيرة الذاتية ان الشاعر يتحدث فيها"مركزاً" على الجانب الشعري من حياته. وكيف أحسّه؟ وكيف غذاه؟ وما العوامل المؤثرة فيه؟ وكيف أعرب وكيف تطور الاعراب لديه حتى صار كما صار...".[ص265]
وهو يصرح بانه توجد مقدمات لذلك في "شوقيات" لاحمد شوقي ،ومقدمة الطبعة الأولى لديوان الزهاوي،وكذلك لدى الرصافي والشبيبي والبصير في "أحاديث عن تواريخهم الشخصية. ولكن هذا الشيء وما نحن فيه من "التجربة" شيء".[ص265]
لهذا أشار الى ما كتبه بلند الحيدري عام 1962م، بعنوان (خواطر في الشعر العراقي الحديث) المنشور في مجلة الاديب العراقي، في العدد الأول السنة الثاني(كانون الثاني – شباط/1962م)؛ معرجاص الى السيرة الأدبية لكولريدج ومقابلات معه، بما يحيل الى السيرة الذاتية كجنس أدبي،أو فرع من جنس أدبي هو" الترجمة الذاتية أو السيرة الذاتية" وهكذا فصّل الطاهر بين السيرة الذاتية والحديث عن التجربة الأدبية والتجربة في النقد الادبي.
ولعلنا نجد شيئاً من ذلك التسلسل الخطي في التعبير عن حلقات الدرس التي تلقاها من أولاً من الملأ في الكتاتيب الى العمل مدرساً أو استاذاً مع الإشارة الى من سبقه في ميدان المعرفة والمقالة من أمثال طه حسين والعقاد وما شابههما في رحلة العلم، والطاهر مبتهج ابتهاجاً كبيراً بالدور الذي لعبه طه حسين،من حيث التنوير والسيرة والكتابة، فهو أستاذ الأجيال العربية بلا منازع،والذي تزامن ظهوره مع عملاق عصامي يختلف عن ثقافته واتجاهاته هو الأستاذ عباس محمود العقاد الذي ما زال يثير شهية الصخب والحجاج.
-2-
قسم الكاتب كتابه الى قسمين:
الأول، مقالات من "الباب الواسع"،ويضم المقالات التي نشرت في جريدة"الثورة" البغدادية.
والثاني، فصول نشرت في مجلة "الأقلام" البغدادية وغيرها.
ومن مقالات القسم الثاني(استاذي طه حسين) وفيه إحالة واضحة الى كتابه المقالي(أساتذتي ومقالات أخرى) الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة سنة1987م ،وهو من كتب الطاهر المقالية المهمة.
وفي بداية القسم الأول ، ثمة عنوان (الباب الواسع) الذي يحيل الى كتبه آنف الذكروالى مقدمة كتاب (الباب الواسع) المؤرخة في 10/6/ 1996م، قبيل وفاته في 9/أكتوبر/ 1996م، ثم يبدأ موضوعه الأول(أنا .. في أيام العثمانيين). وتشير مقدمة كتاب (الباب الواسع) الى انه موضوعات متعددة متنوعة في شؤون المجتمع والثقافة بعيداً عن السياسة تلتقي مع كتاب(الباب الضيق) في طريقة المعالجة اللغوية على سبيل نظري قد يقل عما هو هناك لتزيد - هنا- نسبة من المعرفة في الهدف فان اجتذاب القارئ "بلعبة الفن المقالي" الذي يتقنه تماماً.
يقول الطاهر: " وقد وردت فكرة"الباب الواسع" عام 1990م، العام الذي صدر فيه "الباب الضيق"ثم أشار الى طريقة الكتابة والعنوانات والمقالات... وهكذا.
يسير القسم الأول من الكتاب سيراً خطياً، منذ ولادته حتى دراسته في الكتاتيب والمدارس الابتادئية والمتوسطة والثانوية، حتى انتقاله الى الدراسة في فرنسا، والدراسات العليا،وعلاقته بمعلميه ومدرسيه واساتذته في الجامعات ، فكانت البدايات مع ولادته، حيث يقول:
" أخبرتنا انك ولدت في صيف 1919 ونريد الآن ان تحدثنا عنك في العهد العثماني الذي كان قد انقضى قبل عام 1919. فكيف توفق بين ذلك؟
- الم نتفق على اننا نجوس خلال الباب الواسع؟
- بلى..".[ص17]
لقد حاول ان يعود أدراجه الى دكة عاكف) التي وقعت في الحلة قبيل نهاية الحكم العثماني للعراق،وحوادث الفرهود، من خلال الرواية الشفاهية للاحداث، ولم يتطرق الى ثورة العشرين لان الحلة لم تشاك فيها وكانت مذعورة من حصارها في دكة عاكف.
الأسلوب المقالي هو المهيمن على سرد الطاهر السير ذاتي،ويكاد ان يمنعه من الاسترسال، لهذا دفعه ذلك الى ان تكون بدايته نوعاً من التساؤل والبحث عن الأجوبة، فلم يفته ان يشير الى أن السبب الديني كان مانعاً لالتحاقه بالمدارس الحكومية، لان بعض رجال الدين افتوا بأن التعليم في المدارس مفسدة، ثم استخدم لاحقاً ضد تعليم البنات،وذلك لان" جهات دينية (في النجف خاصة) حذرت -أو حرمت – من الدخول في تعليل ذلك ان المدرسة الحديثة مفسدة للدين، مفسدة للاخلاق،وان راتب الدولة حرام غير شرعي".[ص31]حتى ان شيخاً كان يدير مقهى صغيراً ، ممن تعلم تعليماً جيداً، عرضت عليه وظيفة معلم فرفضها..".[ص31]
وهذا يعني ان دخول المدرسة الابتدائية ، كان رفضاً لهذه المفاهيم، حتى انه عمل معلماً فمدرساً،فاستاذاً في الجامعة وكاتباً متمكناً يدافع عن الادب والثقافة.
بالتأكيد ان الكاتب اختار ما يمكن ان يختاره من لقطات أو مواقف في حياته ما زال يتذكره لادراجها في هذه السيرة والتي اسماها سيرة تجوزاً وهي سيرة غير ذاتية، كما في اشارته الى معلمه في المدرسة الابتدائية عبدالحميد (والد الاديب باسم عبد الحميد حمودي) والذي سكن محلة الست نفيسة في بغداد وصار مختاراص لها بعد تقاعده، وصار عبد الحميد حموديمديراً لتربية الحلة مدة من الزمن؛ وهذه الاستذكارات تعبر عن مرحلة التعليم الابتدائي والمفاضلة بينهم، لكي يستطيع الولوج الى مرحلة التكوين المعرفي لديه، وبدايات القراءة، حيث تربى جيله عل مجلتي الرسالة والثقافة ، وعلى كل حال فان ما كتبه المنفلوطي والزيات واضرابهما ، ثم القى الضوء على المناهج المدرسية التي كانت في الغالب من تأليف بعض النابهين من المدرسين.
ثم ينتقل الى المدرسة المتوسطة ويدخلها في عام 1934م، وهو يرتدي الملابس الافرنجية (السترة والبنطلون)،وكان قلة من أبناء المحافظين جداً؛ ممن لهم مركز ديني" تخشى ان يعلم ذووها انهم يرتادون مدرسة مدنية حكومية وانهم يرتدون الملابس الافرنجية من السيرة والبنطلون ،ولذلك فهم يدخلون خفية ويلوذون سريعاً بأقرب غرفة الى الباب هي غرفة الفراش، ليخلعوا العبادة والعقال واليشماغ ويرتدوا السترة والبنطلون – أكرر انهم قلة لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وهم البقية الباقية ممن يتمسك آباؤهم – محافظة أو مجاملة – بتحريم المدارس الحكومية ولهذا تتركهم وشأنهم المتضائل".[ص53-54]
وهذه واحدة من اللقطات التاريخية المهمة في تاريخ التعليم بالعراق،وكيف كان ينظر المجتمع المحافظ الى التعليم بالمدارس الرسمية، والتي تعود الى سنوات الثلاثينات وحتى سنة 1934م ،وربما الى حركة مايس 1941م، التي كان الكاتب الطاهر من مناصريها؛ وسبب عدم وجود مؤثرات جاذبة ، كما حصل لاحقاً كالاذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح، والحركات السياسية والجمعيات الأدبية، كان البحث عن الكتاب والمجلة والصحيفة، هو الغالب على إحساس هذا الجيل فكانت المقالات والقصص التي تمثل الحداثة في حينها هي الأكثر اثارة، ومعها حصل التوجه نحو الكتابة والمحاولات المبكرة التي أعطت ثمارها فيما بعد.
وفي هذه السيرة نعرف بأن المكتبة العامة في الحلة تأسست عام 1938م، وكان يتردد اليها الكثير من الادباء لقراءة ما يردها من مجلات وكتب،والتي كان الفضل في إنشائها متصرف الحلة سعد صالح،ومن خلال ذلك يلج الطاهر الى بوابات القراءة والبحث؛ ففي الثانوية قرأ مجلة الرسالة وزكي مبارك والزيات والمازني والحكيم، ولكنه مع العقاد يكون على غير ذلك.
وحين يخصص مقالاً عن العقاد يتناوله بشكل واضح ومن خلاله يتناول طه حسين، لانه يعتقد ان ذكر أي منهما يحيل الى الآخر،وان الطاهر قد راق له أن يقرا العقاد وسلامة موسى والرافعي والمنفلوطي ومحمد مهدي البصير ن لهذا قال عنه:
" قد يكون العقاد مفكراً- فيلسوفاً – صح ذلك أم لم يصح.. ولكن الكينونة وحدها تدفعه عن ميدان الادب حيث الموهبة المبدعه لدى تصوير العاطفة الموشاة بالخيال،وكلها طراوة .. وإنك لواحد هذه الموهبة لدى صاحبك طه حسين ولدى أصحابك الآخرين وفيهم الزيات والمازني وزكي مبارك".[ص108]
لهذا رأى في طه حسين حين قابله، حكمة وراءها ما وراءها، من عمق نفسي وتأمل في صوغها .. وغير ذلك. ولكنه يؤجل مقاله عن طه حسين ،ولا يجعله مقترناً بالعقاد، وربما لاهداف مضمرة، منها تأثره الحميم به، وانسياقه حول مشروعه الثقافي ،وخصوصاً كتابة المقالة الأدبية، حتى توارد الخواطر واستعادة العنوانات في مقالاته وكتبه، وكان اهتمامه به من خلال ما كانت تنشره مجلة(الرسالة ) ثم مجلة(الثقافة) عام 1939م، لهذا يقول عنه:
" وعالم طه حسين لا يقف عند حدّ، وشُعَب فوائده لا تنتهي؛ وهو في إبداعه المباشر هو من هو، ولكنك لا تَعدمه ان تراه هو هو في إبداعه على إبداع الآخرين".[ص190]

-3-
في مقاله(الثانوية (2) ) الذي كتبه بتاريخ 16/5/1996م، ثمة ما يكمل مقاله(الثانوية(1) ) في سنوات دراسته بين عامي 1936-1937م، وحتى عاي 1938-1939م، حيث سيدخل دورة للتعليم الابتدائي في عامي 1939-1940م، ثم يلتحق بدار المعلمين العالية ليتخرج عام 1945م، وجامعة فؤاد بالقاهرة عام 1948م، وفي القسم الثاني الذي جعله بعنوان( فصول نشرت في مجلة الأقلام العراقية وغيرها) يبدأ مع (تجربة في تعلّم القراءة) ،وهي كانت تسمى (التكشف) والتي مارسها لدى الملأ( الكتاب) وفي الابتدائية، ثم يعدو اليها في دار المعلمين العالية وفي الابتدائية يلزم الطالب بحفظ الآيات القرآنية من دون ان يفهم معناها عل ان يتدبرها حين يكبر،وكان ولوج مجلة الرسالة الميدان الثقافي لديه منذ المتوسطة يعد تأسيساً لكثير من المواهب ثم تلتها الثقافة وله في ذلك الكثير من النوادر والمفارقات ،ومنها على صعيد التعليم ما ذكره حول الادب العباسي وغيره، حين شرع يدبج الرسائل معبراً عن خيبته بجامعة فؤاد "مرتفعاً بمجد دار المعلمين العالية ،أو محمد البصير وطه الراوي والدكتور مصطفى جواد... فما وجد في جامعة فؤاد نظير لهم... وأين هذا الذي يدرس الادب العباسي من ذلك الذي درسناه في بغداد، وأين هذا الذي يقرئنا في كتاب الادب هنا من استاذنا هناك،ومصطفى السقا محترم ولكن مصطفى جواد عالم آخر... وما هذا يدرس الادب الحديث يا أحمد أمين. ومسكين الشيخ أمين الخولي إنه يبذل أقصى الجهد ليبدو مفكراً،ويبذل جهداً أقصى ليستثير فكراً ما في تلاميذه !! أما البحث فالغلب فيه ان يكتبه الطالب ولا يقراه الأستاذ..".[ص154]
وهو مع ذلك موجود الى أيام دار المعلمين العالية، بعد ان أحالنا الى دراسته في جامعة فؤاد، والتي دخلها قريباً من حركة مايس 1941م، التي كان متناغماً معها لانها ضد الوجود البريطاني بالعراق، وهو يصف أساليب وطرق التعليم بالعراق التي كان يتمتع بها أساتذة دار المعلمين العالية من وجهة نظره بأنها تفوق ما كاتت عليه جامعة فؤاد(جامعة القاهرة) ، وخصوصاً مع وجود طه الراوي ومصطفى جواد ومحمد مهدي البصير والآخرين من الافذاذ. فهو يقول:
" والبصير دارس ناقد، وناقد أكثر منه مؤرخاً ويريك كيف تنقد الروايات التي ترد الينا في بطون الكتب، ويقف ناقداً للشعر مستريحاً جداً الى الأمثلة البارعة ، خارجة عن المنهج . قليلاً في سياحات أدبية.للحديث منها مان ملحوظ".[ص163]
ولأنه في معرض كتابة ما يشبه السيرة لابد ان نعرج معه عن علاقته بالاساتذة والادب، وبالقراءة التي جعلها شرطاً مهماً للناقد الادبي، حيث كان أحمد أمين يدرسه مادة النقد الادبي الذي بدأ تدريسه لأول مرة في تاريخ العصر الحديث عام1930م، ليقول:" ليكون المعلوم ان النقد الادبي – ونحن في عام 1942-1943 كان محود الإقامة، ناشئاً، وفي ذلك عذر - غير مباشر – لدار المعلمين العالية ببغداد حين يفقده الباحث في مواد منهجها".[ص170]
وحين نبلغ معه موضوعه (استاذي طه حسين) استغرب ان يتحدث عن العقاد، ويؤجل الحديث عن طه حسين الى هذه المرحلة وكأنه يريد ان نمنحه الفرصة المناسبة للبدء من الصفر،أي من الصف الثاني المتوسط في متوسطة الحلة، وتسلسل قراءاته له، قصة وسيرة ومقالة وكتب شتى، وتاريخاً أو ما أشبه مشيراً الى مجلة الثقافة عام 1939م، والرسالة كانت قد سبقتها، حيث يقرأ مقالا لطه حسين في الصف الخامس العلمي في ثانوية الحلة، وعنوانه (مع أدبائنا المعاصرين)، ليبلغ ما قراه في (رجعة أبي العلاء)و(قادة الفكر)وعلى(هامش السيرة)وقصة (أحلام شهرزاد)و(من بعيد)و(لحظات)و(فصول في النقد)و(في الشعر الجاهلي)،ورد محمد مهدي البصير عليه في كتابه(بعث الشعر الجاهلي)؛ فضلاً عن سيرته في كتاب(الأيام) و(خصام ونقد)و(نقد وإصلاح)و(ادبنا المعاصر)و(أحاديث)و(خواطر) و(كلمات)و(رحلة الربيع) و(فلسفة ابن خلدون) وغيرها؛ وطه حسين كاتب مقالي في نقده وتاريخه وقصصه وأغلب ما كان يكتبه، يغريه إيقاع الكلمة وموسيقاها ، لانه يؤثر السماع بحكم عاهته ومزاجه، فليس لديه وسيلة لتلقي المعارف سوى السماع، لهذا قال عنه:
" ان أسلوب طه حسين الانشائي كله في هذه القطعة، لغة سلسلة ،موسيقى تكاد تحيل النثر شعراً، موازنات ومطابقات ومترادفات، ذات "الشاعر" في ذات الآخرين، وذا الآخرين في ذاته، وخيال بعيد، مهما يبعد يبقى ندياً بالفكر والعاطفة والمعنى الإنساني؛ ومهما ينسجم ذات الشاعر يبقى لذات الآخرين مكان الصدارة،ومهما يتصرف يحفظ للتاريخ حقه، وكل ما في أمره انه صائغ ماهر يحب عمله ولا يدع في السبيكة ما يشوبها من مواد خام".[ص195-196]
وهو يرى بان نثر طه حسين هو شعر، أو نثر فوق الشعر،ولا يتحرج عن التصريح بان طه حسين هو " سيد المقالة العربية بلا منازع،وهو الذي أخرجها من العلم الى الفن ومن العابر الى الخالد ومن الكلام أيّ كلام الى الموسيقا الساحرة.."[ص202] لانه يرى بأن المقالة لديه صالحة لكل شيء وان كل شيء صالح للمقالة لديه ولدى طه حسين أيضاً ان القراءة أولى من الكتابة،وخصوصاً عندما يتعلق الامر بتوفيق الحكيم في (زهرة العمر) و(الرباط المقدس).
-4-
ولان الطاهر سيد المقالة الأدبية في العراق، بالتوازي مع طه حسين سيد المقالة الأدبية في مصر، فانه يعرج على كتاب (فنون الادب) من تأليف هـ. ب. تشارلتن الذي اقتناه عام 1945م والذي يشير فيه كاتبه الن " أدب المقالة ومنشئها في القرن السادس عشر" هو (مونتين/مونتيني) والذي يرى في المقالة الأدبية في صميمها هي "قصيدة غنائية وجدانية سبقت نثراً لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم من بعض عناصر الذات".[ص212] بينما تبلغ المقالة الأدبية الإنكليزية أوجهها في القرن الثامن عشر، الذي كان يسممى عصر المقالات الذهبي ، بحيث صارت المقالة هي التعبير العام عن النثر في مرحلة صعود الطاهر، في العراق،واستمرت معه، حتى بدأت تفقد بريقها وتهجها.
وسيرة الطاهر لا تخلو من احالات تاريخية تخص نشأة وتطور الصحافة وخصوصاً المجلات العربية والعراقية من أمثل مجلة الرابطة وعالم الغد والاديب،وبعض الصحف مثل صوت الأهالي وكل ذلك في منتصف الاربعينات (نحو 1944)و(نحو 1946) وربما قبلها بقليل.
وهذه المرحلة هي التي تنحصر بين دار المعلمين العالية وجامعة فؤاد(القاهرة 1947-1948) حيث ظهرت مجلة الكاتب المصري،والطاهر ينتقل من محاولات مونتين التي كانت اللبنة الأولى لنشأة المقالة الأدبية والتي ترجمت بعض الأحيان المحاولة بلفظ التجربة؛ لهذا يتوجه الى(التجربة الذاتية في الابداع) ليكون قريباً من المقالة والسيرة في آن واحد، وهذا ما دفع عدداً من الادباء في الستينات ومطلع السبعينات للكتابة عن تجاربهم الإبداعية في مجلتي (الاديب المعاصر)و(الكلمة).
يبقى الطاهر مديناً لطه حسين وصريحاً بالتلمذة عليه، فهو استاذه في كتابة المقالة وربما في كتابة سيرته الذاتية مع ايثار المزاج العراقي غير الميال الى الصراحة، لهذا يقول عن قلمه:
" وقلما اجتذبني قلم في"الثقافة" خارج قلم طه حسين، وحاولت مراراً ان اتقبل قلم رئيس التحرير الأستاذ أحمد أمين ولكني أبوء بالفشل لثقل في روحه،ولعقل يطرد العاطفة لديه، وعلم يحاول أن يفتح صدره للشعر هيهات".[ص283]
ولم يفته الاهتمام بالنقد وأثره وبالمسرح والقصص والشعر، في موضوعه الأخير من الكتاب (في التحصيل"النقدي")؛ حيث كانت ذائقة كاتب المقالة جزءاً من لغة كاتب السيرة التي يدبجها والتي تغترف من الذات ومن العلاقات الشخصية وكأنها حقل متنوع الافنان والزهور ةخلطة من الغالية تماشجت فيها الصور والروائح وتناغمت فيها الأصوات وتفتحت فيها الآفاق وتعددت فيها الرؤى والأفكار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان