الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفاهيم الإقتصاد السياسي: شروط التنمية المُستدامة ومحاولة توضيح مسألة الدّيْن العام

الطاهر المعز

2024 / 5 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


ما التنمية المُستدامة؟
ما هي أقرب السبل لإنجاز التنمية ( وليس النّمو) في الدول الفقيرة؟ كيف يمكن أن تستمر عملية التنمية على مدى متوسّط وبعيد؟
تتطلب التنمية المستدامة استقلالية القرار "السيادي" ومُشاركة المواطنين في كافة عمليات التنمية، من الإعداد إلى التقويم مرورًا بالتنفيذ، وتتمثل خيارات البلدان الفقيرة ( أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية) في إقامة مشاريع كبيرة، تتطلب إنفاقًا ضخما وآلات وتكنولوجيا وبُنية تحتية ومرافق وخدمات، وما إلى ذلك، أو إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة تتطلب كذلك بنية تحتية ومرافق وخدمات غير إن الإستثمار يكون أقل حجمًا، وفي كل الحالات وجب التفكير في مصْدَر التّمويل (الإبتعاد عن القُروض الخارجية والمَشْرُوطة قَدْرَ الإمكان)، ولا يمكن لأحد تجاهل الظّرف العالمي فنحن نعيش عَصْر الهيمنة الإمبريالية والنيوليبرالية المُعَوْلَمَة، حيث تُسَرِّع الشركات العابرة للقارات عملية نَهْب ثروات بلدان إفريقيا وآسيا (ومن ضمنها الوطن العربي) وأمريكا الجنوبية، وتُطبّق الدول الإمبريالية نظام الحماية الجمركية وعرقلة أو حَظْر دخول السّلع الأجنبية إلى أسواقها، وتحاول الإمبريالية الأعظم (الولايات المتحدة وحلفاؤها ) خنق أي اقتصاد مُنافس، بما في ذلك اقتصاد الصّين...
تتطلّب التنمية المُستدامة في البلدان الفقيرة تخطيطًا مختلفا عن الدّول الصناعية الكبرى، واستراتيجية تقوم على القَطْع مع الرأسمالية، لأنه يستحيل على البلدان النامية "اللّحاق" بالدّول الرأسمالية المتطورة في ظل المنظومة الرأسمالية القائمة على التبادل غير المتكافئ بين الدّول الغنية (التي تُصدّر رأس المال والتكنولوجيا والسلع المُصنّعة من آلات وتجهيزات) والدّول الفقيرة التي تُصدّر المعادن والمواد الخام والسّلع التي تُلَبِّي حاجة الأسواق والمواطنين (المُستهلكين) في الدّول "الغربية"، ولذا لن تتم عملية التنمية بالإعتماد على صندوق النقد الدولى، والبنك العالمى أو نادي باريس وغيرها، بل بتعبئة الموارد المادية والذهنية والبشرية المحلية أو في إطار تعاون "جنوب/جنوب"، والإنطلاق من الإنتاج الفلاحي لتلبية حاجيات المواطنين (السوق المحلية) وتحويل وتصنيع ما زاد عن الحاجة، وعدم تصدير السلع الخام، بل إضافة "قيمة زائدة" لها في إطار عملية تثمين الموارد المحلية وتوفير الحاجيات الأساسية وتصنيع وتطوير الأرياف، واستغلال الطاقات المحلية في مجالات البحث العلمي والإبتكار والتطوير، بدل هجرة العُقول واستغلال طاقات شبابنا من قِبَل الشركات العابرة للقارات، بعدما أنْفَقَ المجتمع على تعليم وتأهيل الشباب، وبذلك يتم رَبْط عملية التّنمية الإقتصادية بالتنمية الإجتماعية وربط تلبية الإحتياجات الأساسية للمواطنين بتطوير التكنولوجيا المُلائمة أو المُناسِبَة للمجتمع وللوضع، وربطها كذلك – بل وخصوصًا - بالقضاء على البطالة والفقر...
تَفْرِضُ علينا النظرة الواقعية للمناخ الدّولي الإنتباه إلى العراقيل التي يمكن أن يخلقها الدّائنون (صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي) والدّول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات التي تستغل ثرواتنا، فهذه القوى ترفض نهج التنمية المستدامة (المُستقلّة) الهادفة الإعتماد على القوى المحلية لإشباع حاجيات المواطنين من غذاء ودواء ومسكن وملبس وما إلى ذلك، لذا فإن اختيار التنمية المُستدامة المُستقلة يتطلب مناقشة مثل هذه المشاريع مع المواطنين مباشرة وعبر المنظمات الأهلية والنقابات والجمعيات، والتفاف المواطنين حول هذه المشاريع وتَملُّكَهم لأدوات التنمية ولأدوات الإشراف على تنفيذ ومتابعة وتقويم المشاريع...

الدّيْن العمومي
غالبًا ما يكون خطاب "الخبراء" مثيرًا للقلق، سواء كان الدين يمثل 60% أو 110% من الناتج المحلي الإجمالي، وهم يستخدمون دائمًا نفس الحجج التي تنتهي عمومًا بالدّعوة إلى انتهاج سياسة تقشُّف صارمة وإلى مزيد من "الانضباط" و"ترشيد" الإنفاق العام ، وخفض ميزانيات الإنفاق الإجتماعي.
لقد بدّدت معظم الحكومات المال العام، وأنفقت حكومات البلدان الإمبريالية وكذلك البلدان الفقيرة الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية بسخاء على الشركات الخاصة، خاصة منذ أزمة 2008/2009، وأدّى هذا التمويل للقطاع الخاص إلى زيادة الدين العام، في سياق ضعف النمو وانخفاض الإيرادات الحكومية بفعل خفض الضرائب على أرباح الشركات وأرباح رأس المال.
يشمل الدين العام إجمالي الديون الخامة لمختلف الإدارات والمؤسسات والمنظمات الاجتماعية، ولا يمثل صافي الدين الاجتماعي سوى نسبة ضئيلة من صافي الدين العام، لكن مؤسسات بريتن وودز ( البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي) تفرض خفض الدُّيُون كأولوية في برامج خفض الإنفاق، وفرضت نفس هذه المؤسسات ما أسمته "استقلالية البنوك المركزية"، وتترجم هذه "الاستقلالية" إلى حظر لجوء الحكومات للإقتراض من المصرف المركزي لتمويل المشاريع الإنتاجية التي لم تنل مباركة صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي أو غيرهما من الدائنين، كما تحظر هذه المؤسسات المالية الدّولية تدخّل الحكومات في سعر صرف العملات المحلية، وتلجأ حكومات البلدان الفقيرة (حكومات "العالم الثالث") إلى الإقتراض من المصارف الخاصة بأسعار فائدة مرتفعة للغاية، ما يُؤدّي إلى نمو أرباح القطاع المصرفي الخاص بشكل مفرط في البلدان المثقلة بالديون مثل لبنان أو تونس، حيث كانت المصارف الخاصة هي الوحيدة التي حققت أرباحًا فاقت 13% في تونس بينما كانت القطاعات الأخرى والميزانية العمومية والميزان التجاري في حالة عجز...
ارتفعت ديون الدّول، منذ سنة 2008، من خلال استخدام الأسواق المالية التي كانت لها حرية تحديد سعر الفائدة، وبالتالي استحالة قيام بعض البلدان بالإقتراض من الأسواق المالية الدولية، وأدّى هذا الوضع إلى بلوغ عدد من الدّول حافة الانهيار: سريلانكا وباكستان ولبنان ومصر وتونس وغانا والأرجنتين وغيرها.
في أوروبا، وفي منطقة اليورو بالذّات، أَقَرّ المصرف المركزي الأوروبي، بين سَنَتَيْ 2015 و2019 (قبل كوفيد)، برنامج "التيسير الكمي" الذي يتكون من شراء سندات الدين العام والشركات الكبيرة، ويتضمن هذا البرنامج ضخ السيولة لخفض أسعار الفائدة وزيادة نسبة سندات الدين التي تستحوذ عليها الجهات (المؤسسات) العامة أو المستثمرين المؤسسيين المحليين (شركات التأمين والبنوك ومديري الصناديق وما إلى ذلك)، وهو نفس البرنامج –مع بعض الإختلافات- الذي أقرّه الإحتياطي الإتحادي الأمريكي، مما قد يسهل المفاوضات لإعادة هيكلة أو إلغاء الدين العام...
تتمثل الإدارة النقدية للعجز العام في إلغاء جزء من الدين المستحق على المصرف المركزي؛ وهذا يعني طباعة أموال لا قيمة حقيقية لها، أي لا يُقابلها إنتاج سلع وخدمات ولا تتوافق مع مستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، وأعادت جميع الدّول تقريبا توزيع المال العام على الشركات الكبرى والقطاع الخاص، سنة 2020، عند تفَشِّي جائحة كوفيد -19، ممًّا أدى إلى زيادة الديون، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة والفقر، خاصة في الدول الفقيرة، بسبب الإغلاق وتوقف الإنتاج وحركة التجارة والنقل والإنتاج...
إن ارتفاع حجم الدين العام ليس مشكلة خطيرة بذاتها، خصوصًا إذا تم استخدام مبالغ الدّين للإستثمار في قطاعات منتجة، لكن السؤال هو: فيم يتم استخدام الدُّيُون ( عادة ما تقترض الدّول الفقيرة لتسديد ديون قديمة وفوائدها المرتفعة جدا) ومن المستفيد من الدين؟ الأمر المؤكد هو أن العمال أو العاطلين عن العمل أو الفقراء لا يستفيدون من هذه الدّيون...
إن الحديث عن الدّيون يفترض مُستفيدين، كما أسلَفنا، ويفترض بالأخص وجود دائنين، فإذا كان الدين العام محلياً، يملكه السكان المحليون، بالعملة المحلية، فهذا يعني أن معدل الادخار مرتفع، وإن الدّولة والمؤسسات العمومية تُسدّده بالعملة المحلية، وهو أقل خطورة من الديون الخارجية، المقومة بالعملات الأجنبية، أي دُيُون صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي أو غيرهما من الدائنين الخارجِيّين، وفي جميع الأحوال فإن المستفيد الأكبر من الديون هم الأغنياء ( في الدّاخل والخارج)، ومن الممكن أن يشكل الدين العام أداة لإعادة توزيع المال العام لتستفيد منه الفئات الاجتماعية الأكثر ثراء، والتي يتعين عليها ـ من حيث المبدأ ـ أن تدفع المزيد من الضرائب ولكن ليس بالقدر الكافي لتقليص العجز في الميزانية، بل تستثمر فِئَة من البرجوازية المحلية جزءا من مبالغ الاحتيال الضريبي في الدين العام (إقراض الحكومة أو شراء السندات) وتستخدم فئة أخرى الأموال المُهَرّبة إلى الخارج، من خلال إعادتها إلى البلاد في شكل استثمارات أجنبية مباشرة (مع شركاء أجانب في الغالب)، وهكذا تربح هذه الطبقة مرتين: من خلال ممارسة الاحتيال الضريبي ومن خلال إقراض الدّولة من أموال الاحتيال، وبالتالي يمكن للدين العام أن يشكل نسمة هواء نقية للبرجوازية ووسيلة لتوسيع مجال استخراج القيمة المنتجة.
إن "وصفات" صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي توصي ( تأمُرُ) دائماً بتقليص العجز العام بدلاً من زيادة الإيرادات من خلال زيادة الضرائب على المصارف وشركات التّأمين والشركات الكبرى، مما يُحَوِّلُل الدّينَ أحيانًا كثيرة إلى وسيلة "تأديب" المجتمع: يصبح الدين أفضل ذريعة لزيادة الضرائب المباشرة على الرواتب والدّخل، والضرائب غير المباشرة (على الاستهلاك والخدمات)، ولتخفيض القيمة الحقيقية للرواتب، ولخصخصة الشركات والخدمات العامة المملوكة للسكان و لخفض الإنفاق الاجتماعي، وتقوم الحكومات بتمويل الشركات الخاصة من خلال منح إعفاءات ضريبية وإعفاءات من مساهمات الضمان الاجتماعي، دون أي شُرُوط وبذلك تُصبح العملية: تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح.
لا يمكن تحقيق التنمية في البلدان الفقيرة سوى من أجل رفع مستوى عيش السكان المحليين ومن أجلهم وبمشاركتهم في كافة المراحل، من القرار إلى التنفيذ والتقييم، ولن يتم ذلك سوى بالقطيعة مع النظام الرأسمالي العالمي وأدواته وهياكله مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي أو منظمة التجارة العالمية، وتوجيه الإنتاج نحو تلبية حاجيات المواطنين المحليين والبلدان المجاورة، وإعادة توجيه التبادل والتجارة المباشرة نحو «الجنوب» و«الشرق»، أي نحو الوطن العربي وإفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة ما بعد الحرب.. ترقب لإمكانية تطبيق دعوة نشر قوات دولية ف


.. الشحنة الأولى من المساعدات الإنسانية تصل إلى غزة عبر الميناء




.. مظاهرة في العاصمة الأردنية عمان دعما للمقاومة الفلسطينية في


.. إعلام إسرائيلي: الغارة الجوية على جنين استهدفت خلية كانت تعت




.. ”كاذبون“.. متظاهرة تقاطع الوفد الإسرائيلي بالعدل الدولية في