الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعائم الليبرالية وتمائم البطريركية (مقاربة للحالة العراقية)

ثامر عباس

2024 / 5 / 5
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


دعائم الليبرالية وتمائم البطريركية ( مقاربة للحالة العراقية)


في مقالة لنا بعنوان (عوائق الليبرالية في المجتمعات البطريركية) ، نشرت في موقع الحوار المتمدن ضمن العدد (7962) الصادر بتاريخ 29/4/2024 ، اعترض علينا أحد الأصدقاء الأكاديميين بخصوص اعتقادنا المتضمن فكرة ان مظاهر الإيديولوجية (الليبرالية) التي أدخلتها السلطات الاستعمارية على المجتمعات العربية عشية الحرب العالمية الأولى ، لم يكن الهدف منها الإسهام في توطين قيم ومبادئ تلك الإيديولوجية داخل منظومات الوعي الاجتماعي للمجتمعات المستعمرة ، ومن ثم مساعدتها على الانخراط في أتون مظاهرها الحضارية والقيمية والسلوكية . بما يتيح لها فرص الولوج الى عوالم التصنيع التكنولوجي والتحديث السويولوجي ، مثلما كانت تتمتع بمعطياتها وانجازاتها مجتمعات الغرب عموما"، بحيث يكون بمقدور تلك المجتمعات تخطي ممانعات موروثها وتجاوز ممنوعات قيمها .
نقول ، لم يكن الهدف منها توطين قيم ومبادئ الإيديولوجية الليبرالية ، بقدر ما كانت عمليات مخططة وإجراءات مقصودة لتفكيك عرى تلك المجتمعات والإطاحة بمداميكها القيمية والعرفية والرمزية ، بغية تسهيل سياسات (الاحتواء) السياسي و(التدجين) الاجتماعي التي دأبت على ممارستها تلك السلطات خلال فترات الاحتلال تلك . محاججا"(هذا الصديق) بأن ما قامت به السلطات الاستعمارية من ((خلق نظام تعليمي علماني بدل الديني وجامعات حديثة ومسارح وفنون وموسيقى وإصدار صحافة حرة وإجازة أحزاب سياسية .. كل هذا وسائل ليبرالية طبيعية وقائع قائمة لا يمكنك دحضها خلال عهد النظم الملكية تشير لحركة طبيعية لتطور مجامعاتنا ، جرى تدميرها بانقلابات ومن الذين حشدوا باسم الثورة البروليتارية الخرافية والقضاء على الرأسمالية ونحن لا نملك حتى مصنعا"حديثا")) .
ومن الواضح فان (صديقنا) المعترض ينتمي لأولئك الذين يفتنون بالمظاهر (المرئية) دون الجواهر (المخفية) ، أي بمعنى ان حكمهم على الأشياء يقف عند حدّ الأشكال المادية ، دون أن يلتفتوا الى المضامين والمحتويات الاعتبارية التي تحدد الغرض المراد من تلك الأشكال . وعلى ما يبدو فان (صديقنا) نسي واقعة ان المؤسسات البيداغوجية (المدارس والجامعات) والميديائية (المقروءة والمسموعة) ، لا تستخدم – دائما"وبالضرورة - لأغراض إنضاج وعي الإنسان وتطوير ملكاته المعرفية ، وإنما يمكن استغلالها – وهذا هو واقع الحال - لاعتبارات تتعلق (بتنميط) وعيه و(تدجين) شخصيته ، كما أوضح - في العديد من الإعمال - عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي (بيير بورديو) .
وعليه فان مبادرة بناء المدارس في المجتمع العراقي من قبل سلطات الاحتلال البريطاني ، لم يمنع هذه السلطات في سعيها لمأسسة العلاقات القبلية بين الجماعات الانثروبولوجية عبر قانون (دعاوى العشائر) سيء الصيت الذي استمر قائما"حتى قيام ثورة تموز عام 1958م . كما ان قيام تلك السلطة بشق الطرق وتحسين سبل المواصلات بين المدن والبلدات والقرى العراقية ، لم يكن بوازع من الارتقاء بالواقع الإنساني والحضاري المتهالك كما يزعم في المصادر ، بقدر ما كان الهدف منها تسهيل حركة القوات العسكرية المحتلة داخل تلك المدن والبلدات والقرى من جهة ، وإنجاح مساعي كبح جماح القوى السياسية والاجتماعية والدينية المعارضة من جهة ثانية ، وبالتالي استغلال كل ما تجود به الجغرافية العراقية من ثروات طبيعية باطنة أو ظاهرة ، سواء أكانت في الجنوب أو الوسط أو الشمال من جهة ثالثة .
وإذا ما نظرنا الى طبيعة (الدعائم) التي تقوم عليها الايديولوجيا (الليبرالية) ، فان هناك مجموعة من الدعائم والركائز الأساسية لعل أبرزها وأهمها هي ؛ دعامة (الفردية) التي من دون استحضارها كأولوية لا معنى لهذه الإيديولوجية بدونها . حيث لا قيد سياسي ولا مانع اجتماعي يقف حائلا"أمام (حريتها) المطلقة و(استقلاليتها) الكاملة ، سواء تلك التي تسنها (الدولة) بصيغة قوانين وتشريعات ، أو يضعها (المجتمع) بصيغة أعراف وتقاليد . من منطلق ان (( النزعة الفردية – كما أشار عالم الاجتماع الغربي (أنتوني جيدنز) – ترتبط بانحسار التقاليد والعادات من حياتنا ))(1) . هذا في حين أكد (أندرو فينسينيت) على أنه (( يوجد مفهوم واحد يبرز بصورة متماسكة في المناقشة الليبرالية ، يمكن أن يكون بمثابة ثيمة رئيسية مهمة ، هذا هو مفهوم الفردية . فالليبراليون كانوا وما زالوا ملتزمين شكليا"بالفردية . وهي النواة الانطولوجية للفكر الليبرالي وأساس الوجود الأخلاقي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والثقافي ))(2) .
وأما ثاني تلك الدعائم والركائز التي يشاد عليها صرح الإيديولوجية (الليبرالية) ، فهي دعامة (تقنين) سلطات الدولة وتقليص مجالات تدخلها في شؤون المجتمع ولاسيما المجال الاقتصادي ، وإلزامها ، من ثم ، في الحدّ من نطاق صلاحياتها الدستورية إزاء الحريات العامة وحقوق الإنسان ، الخ . بحيث ينبغي أن يتحدد دورها وتقتصر وظائفها على ممارسات (الإشراف) و(التنظيم) ليس إلاّ ، هذا مع مراعاة عدم اقترابها من حصن تلك (الفردية) بوازع من التطفل على حريتها والنيل من استقلاليتها .
وفي مقابل هذه الدعائم وتلك الركائز ، فقد أنتجت ورسخت مجتمعاتنا العربية بشكل عام والمجتمع العراقي بصورة خاصة ، مجموعة من الاعتقادات والعلاقات والسلوكيات التي هي – بالنسبة للوعي الجمعي - أشبه ما تكون ب(التمائم) المحرم المساس بها والمجرم التقليل من شأنها ، والتي بدورها تقوم على مجموعة من الخصائص النوعية والصفات الجوهرية التي لا يمكن الحديث عن المجتمعات العربية دون استذكارها واستحضارها كمسلمات تم اجتيافها في اللاوعي واستبطانها في السيكولوجيا . ولعل من جملة تلك (التمائم) ، هي ان (الفرد) ليس سوى ترس ضئيل الأهمية في جهاز / آلة المجتمع الذي ينتسب إليه ، وبالتالي فان قيمته الاجتماعية واعتباره الإنساني تتحددان بقيمة واعتبار الجماعة التي ينتمي إليها ويحمل هويتها ، خصوصا"وان كل جماعة في هذه المجتمعات المتشظية والمتذررة تحتكم الى أصوليات مختلفة وخلفيات متباينة ومرجعيات مغايرة .
هذا من ناحية ، أما من الناحية الثانية ، فانه ليس من باب التهويل والتضخيم القول ؛ ان الدولة في هذه المجتمعات هي أشبه ما تكون بالإله الأوحد الذي يتوجب على مكونات المجتمع كافة ، ليس فقط تقديم فروض العبادة والطاعة له على مدار الساعة فحسب ، وإنما الاستعداد للتضحية في سبيله والموت من أجله متى ما أراد ذلك أيضا". فالدولة في هذا الشطر من العالم ، هي ليست دولة (مؤسسات) دستورية تحتكم الى القوانين والتشريعات الوضعية وتراعي حقوق المواطنة ، بقدر ما هي دولة مافيات سياسية (أحزاب) عنصرية ، أو جماعات أصولية (قبائل وطوائف واثنيات) متعصبة أو شخصيات كاريزمية (ملوك وسلاطين وزعماء وأمراء) متفردة . الأمر الذي يجعل علاقتها بالمجتمع الذي تحكمه علاقة قائمة على الشك والخوف والعنف ، طالما كان – ولا يزال – ولاء المكونات الاجتماعية قائم على أ ساس ؛ الأصل العرقي / الاثني ، والانتماء المذهبي / الطائفي ، والانحدار القبلي / العشائري ، والتموقع الجهوي / المناطقي .


الاحالات
(1) – أنتوني جيدينز ؛ الطريق الثالث : تجديد الديمقراطية الاجتماعية ، ترجمة الدكتور أحمد زايد والدكتور محمد محي الدين ، ( القاهرة ، المركز القومي للترجمة ، 1999 ) ، ص70 .
(2) – أندرو فينسينت ؛ الإيديولوجيات السياسية الحديثة ، جزأين ، ترجمة خليل كلفت ، ( القاهرة ، المركز القومي للترجمة ، 2017 ) ، ج1 ، ط3 ، ص78 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام