الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرة الماء والسقا مات

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2024 / 5 / 5
الادب والفن


يرجع علم الآثار تاريخ استعمال أدوات الفخار إلى حوالي 20 الف سنة مضت. فقد كانت هذه الأدوات هامة في تقدم البشرية، حيث استعملت هذه الأواني في الطبخ وحفظ الأطعمة والماء. فيما بعد استبدلت هذه الأدوات بالنحاس والحديد والبرونز. لكن ظلت بعض دول الشرق تستعمل الفخار في الطهي من باب جودة الطعم. يلجأ الشيف المحترف إلى طهي اللحوم في جرة الفخار، حيث يدفنها تحت الأرض مع الفحم ثم يخرجها بعد 5 ساعات ليصبح اللحم بمذاق رائع ومهلوط ( أي غاية في الطراوة). هناك بعض القرى مازالت تستعمل الجرة أو - الخابية في اللهجة الشامية - حتى الآن في تبريد الماء. كانت حرفة الفواخرجي هامة في حياة أجدادنا، فهو يصنع الجرار بكل أنواعها من صحون وطاسات. وإلى وقت قريب كان بائعو الحمّص يستعملون طاسة أو فخارة لدق الحمّص وتقديمه للزبائن في المطاعم التراثية. وللإنصاف، فإن الأطعمة في الفخارة تتميز بمذاق لذيذ لاتستطيع أواني القيشاني والنحاس والميلمين والبلاستيك والزجاج أن تضاهه.
كانت توضع الجرة في كرسي خاص بها وأحيانا تلبّس ثوباً من الخيش يساعدها على زيادة التبريد. ومن درس أوعمل في إصلاح الثلاجات، يعرف طريقة التبريد البدائية التي تقوم بها هذه الجرة. فهي مليئة بالثقوب الدقيقة التي ينفذ من خلالها الماء بطريقة بطيئة جداً مما يساعد هذا البخار على امتصاص الحرارة، مثلها في ذلك مثل الثلاجة التي يعمل غاز الفيريان نفس عملية الجرة في إمتصاص الحرارة ومن ثم يحصل التبريد. والمختصين لايستعملون كلمة تبريد بل إمتصاص وخفض الحرارة. ولي مقالة ساخرة عن تبريد الجرة على النت تتحدث عن استاذ في الإبتدائي يعطي درساً للأطفال في عملية تبريد الماء. المقالة تحت عنوان – دراخيش – لأن هذا الأستاذ سأل أحد التلاميذ الكسالى: كيف تبرّد الخابية الماء، فرد التلميذ الكسلان وهو نصف نائم: تبرّدها من خلال الدراخيش – أي الثقوب - التي فيها.
حرفة السقا:
كانت هناك حرفة قائمة بذاتها يقوم بها شخص في الحارة وهي حرفة السقاية ويطلق عليه اسم السقا. يطوف على البيوت يملأ الجرار بالماء لتكون للشرب والإستحمام والغسيل والطهي. وأهل حمص القديمة يعرفون هذه الحرفة حتى أن عائلة بكاملها تكنى بالسقا، هذا لأن العثمانيين ثبتوا أسماء رعايا السلطنة نسبة إلى الحرفة أو المكان. إضافة إلى هذه الحرفة، كان هناك في حمص آبار تحفر في البيوت ويستخرج الأهالي الماء منها. وكان معظم أهالي حمص يملكون آبارا رغم أن حفر البئر مكلف في تلك الأيام ، وهذه الآبار تجف أحيانا لسبب عدم هطول الأمطار أو هروب الماء إلى مناطق أكثر انخفاضاً، فيحضر حفار الآبار ويعمق الجب. من المعروف أن مياه الصنابير لم تظهر إلا بمجيء الإستعمار الفرنسي. والصنبور هذا له قصة طويلة عريضة، إذا أنه عندما بدأ في أوروبا وحاولت الدول العربية جلبه، واجهت فتوة من رجال الأزهر بتحريمه على المساجد وعلى البيوت كونه ليس ماء جارٍ. وبعد أخذ ورد، رضخ رجال الدين للواقع وجلبوا فتوى على المذهب الحنفي تقول بتحليله، ولهذا سميّ الصنبور بالحنفية نسبة إلى فتوى الفقيه أبي حنيفة النعمان.
السقا مات:
هناك رواية رائعة كتبها الأديب المصري يوسف السباعي تحت عنوان – السقا مات – في بداية الخمسينات، وقد تحولت إلى فيلم. رصد الكاتب هذه الحرفة من خلال حي في القاهرة في بداية العشرينيات من القرن المنصرم، يتحدث فيها عن أهمية هذه الحرفة ويطرح من خلال الرواية عدة قضايا، منها قضية الموت وعلاقة الإنسان بهذ العالم، لكن لا أظن أن معظم النقاد قد انتبه إلى رمزية الرواية بعمق. فالمعلم شوشة هو سقا الحي وعنده ابن اسمه سيد، وشوشه هذا دائم التفكير في مسألة الموت، وكأن الموت يلاحقه بشكل دائم، وفي نهاية الرواية يموت المعلم شوشة، فهل كتب السباعي عن موت شوشة أم كتب عن موت لسقا بحد ذاته. فموت السقا كان رمزاً لموت هذه الحرفة في الخمسينات ودخول الحنفية إلى البيوت. لهذا السقا صديق تعرف عليه في مطعم للكوارع.، اسمه شحاته، يدخل المطعم ويطلب من الأطعمة الكثير دون أن يملك المال، ثم يبدأ يغازل المعلمة السمينة ذات الملامح القاسية، عسى أن تعفيه من الدفع، لكن تكتشف المعلمة أن الرجل لايملك من متاع الدنيا إلا ثيابه المهلهلة. فتأمر الشغيلة بخلع جاكيته وجلبابه. منظر في غاية الفكاهة والسخرية. ينقذ الموقف السقا شوشة، وهنا يصبح شحاتة صديق مقرب. شحاتة هذا يعمل في تسيير الجنائز، وهي حرفة كانت سائدة، وربما نفس حرفة العّياط في الجنائز. ذروة الرواية تأتي في موت شحاتة على حين غفلة. فيخاف السقا ويرتعب، فالموت الذي يلاحقه يتكشف أمامه في موت شحاته. نهاية الرواية يتقبل مسألة الموت حيث يذهب إلى المقابر ليؤكد لنفسه أن الموت حق على كل إنسان وسنة من سنن الكون.
أول عمل قرأته لهذا الكاتب، هو - أرض النفاق -، وهي رواية رائعة غنية بمدلولاتها الرمزية. كنت يومها في المرحلة الثانوية والرواية الثانية التي قرأت في نفس المرحلة هي – السقا مات- . فالسباعي كاتب غزير الإنتاج له عدد كبير من الروايات. ولسوء الحظ، مات هذا الكاتب في أواخر السبعينات عندما عينه السادات وزيراً للثقافة. يومها ذهب مع وفد مصري إلى قبرص لأحد المؤتمرات، وهناك اغتاله اثنان في الفندق عندما كان يطالع إحدى الصحف. يومها، جن جنون السادات متهماً شاتماً منظمة التحرير الفلسطينية وقطع علاقته مع قبرص كونها لم تحم رئيس الوفد.
أخيراً، نرى أن كلما تقدمت البشرية، تموت حرف وتولد أخرى. وقريباً، سنشهد موت كثيراً من الحرف بعد اختراع الذكاء الإصطناعي والرجل الاصطناعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فعلا السقا مات
عماد الشاطر ( 2024 / 5 / 5 - 18:29 )
مقالة جيدة أستاذ خليل وانت اكتشفت رمزا آخر في رواية يوسف السباعي بأن المهنة هي التي ماتت
تحياتي

اخر الافلام

.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي


.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-




.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر


.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب




.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند