الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس ثقافية 158

آرام كربيت

2024 / 5 / 6
الادب والفن


بيت الصفيح
ارتدى سلطان ثيابه على عجل، وضع كرة القدم تحت أبطه وهم بالخروج من البيت، مثل أي طفل بوهيمي غير مقيد بنمط محدد في الحياة.
بالكاد غسل وجهه أو سرح شعره. التفت حوله بسرعة، رأى والدته تغسل الثياب، تغني بصوتها الأنثوي العذب، وفي حالة طرب.
اطمئن قلبه، قال لنفسه، أنها في نشوة ذاتية، لهذا لن تراني خارجًا من الحوش. ألقى نظرة على فخذي والدته العاريتان، ركبتيها، ثوبها المرفوع إلى قرب عجزيها. استغرق في التأمل، عابرًا اللحظة الخاطفة كأنها دهر، حطت عيناه على الأزهار الذي زرعها والده بجانب شجرة الكينا العملاقة.
شعر أن الوقت مناسبًا للتسلل من الحوش، رأى أخواته الصغار يلعبن لعبتهن المفضلة دون اهتمام به، متأكدًا أنه سيلتقي أصدقاءه بعد قليل.
الوقت قبل أذان الظهر بقليل، كرة القدم ما زالت تحت إبطه، تذكر أنه وضع في فمه لقمة طعام صغيرة مؤلفة من قطعة خبز وجبن وبضعة حبات من الزيتون، ورشف رشفة سريعة من كأس الشاي الموضوع على الطاولة.
مشى خلسة على رؤوس أصابعه، يشده القلق إلى أمه أن تراه، بمجرد أن أصبح خارج الحوش سمع صوتها تناديه، أين أنت يا سلطان، أين ذهبت، احتاج للماء، تعال لتسحبه من البئر. م
مضى يأخذ طريقه باتجاه الملعب القريب من بيته وبيت أصدقاءه، غير مبال بأمه أو تعبها، إنه في عمر اللامبالاة والطيش، في الثالثة عشرة، بداية طوفان أزهار في الربيع، انفراشه على الخلد، مد نظره، الملعب ترابي صغير محاط بالصخور البازلتية الصلبة المتوسط الحجم، والكثير من الأحجار الصغيرة.
ألقى نظره حوله، مستغربًا، أين الأصدقاء، سامر، زهير، سعيد، عبد الأحد، بسام، محمد؟ شعر بخيبة أمل أنه لم ير أي واحد منهم. كان مشتاقًا لرؤيتهم واللعب معهم في هذا الفصل من العام.
تنشق سلطان الهواء الصباحي المنعش وغب نفسًا عميقًا منه، شهر أيلول الرطب على الأبواب. تلفت حوله، غمره شعور بالحزن العميق، أين هؤلاء، أين اختفوا عنه فجأة؟
البارحة كانوا يلعبون معًا وتواعدوا على استئناف اللعب اليوم. اعتقد أنهم سيأتون بعد قليل، وأن هناك شيء طارئ حال دون مجيئهم.
اتجه نحو صخرة كبيرة معزولة عن بقية الصخور بالقرب من زاوية الملعب، جلس هناك يتأمل الشارع الفارغ، البيوت العربية التقليدية، الأحواش القريبة والبعيدة عنه، الأشجار الوارفة الظلال، الأبواب الخشبية العتيقة المعانقة لشمس الصباح، قال موبخًا نفسه" بحق الرب لماذا تأخرتم، تعالوا أنا في شوق إليكم، للعب، أن نتمتع بحيوية هذا الصباح قبل أن ترتفع الشمس والحرارة. تعالوا"
كان هناك رف حمام أزرق اللون يرفرف في السماء فوق رأسه، ثم حط رحاله بالقرب منه مع مجموعة كبيرة من العصافير يلتقطون الديدان بين الحشائش النائمة بين الصخور.
بناية محمد علي حسن وفق الطراز المعاصر، بناية عبد الرزاق حمود، ودافيد كيراكوسيان، وبجواره حوش خجادور نيرسيسيان، فايز شلاح، منير شهرستان، وقصر محمد علي باشا.
الصمت يكتنف المكان، نسيم الصباح العليل ينثر نفسه على الصباح، الريح اللينة تهب عليه بلطفها اللطيف تذكره بنهاية الصيف وبدء الخريف. السماء صافية، والحرارة معتدلة كما هو الحال في نهاية شهر آب.
والمدارس ما زالت مغلقة.
تناهى إلى سمعه صوت أجراس عالية قريبة منه، حوافر خيل تدق الأرض وتقرعه، رفع رأسه باتجاه الصوت القادم، رأى حصانًا جميلًا أسود اللون مزدانًا بالشراشيب، مزينًا بكل أشكال الزينة كأنه في حفل عرس لأحد الأمراء مر في الشارع الرئيسي المفتوح على الفضاء المفتوح على الريح في هذا الجزء الجانبي من المدينة.
على رأس الحصان عدد كبير من الريش، ريش الطاووس، وشراشيب من الجلد تلتف حول رأسه، ملونة بألوان صفراء وحمراء وزرقاء، وعلى هذا الجلد خرز أزرق وأبيض، وصدف بيضاء ورمادية وقواقع كثيرة.
كان الحصان يجر خلفه طنبر أخضر اللون، له عجلتان من المطاط القاسي، له شكل بيضاوي متوسط الحجم مملوء بالمازوت، ورجل جالس خلف المقود، ربما هو الحودي، وكان في يده كرباج في نهايته سوط رفيع من الجلد الأملس وبوق من الستانلس في نهايته قطعة بلاستيكية يضغط عليه فيصدر صوتًا ينبه الناس لوجوده، ليخرجوا من بيوتهم ويشتروا المازوت أو تأمينه قبل حلول الشتاء.
الشارع مرشوش ببقايا مقالع، وفوقه طبقة من الزفت الرقيق لمنع الغبار في الصيف والوحل في الشتاء. احيانًا، الحودي ينادي بصوته العالي، مازوت مازوت، وأحيانا يستبدلها بالبوق.
خرجت امرأة من بيتها في ثياب النوم، أوقفته، ثم، رأى عدة نسوة خرجن من عدة أحواش، حوش دافيد يوسف، وحوش محمود الحاج علي، عبد الرزاق هادي، على ملامحهن هالات عجولة، نرفزة، توتر، وتجمع حولهن أطفالهن الصغار وبعضهن على أيدهن أطفالهن الرضع، يطلبن منه أن يملأ لهن حاجتهن من المازوت
استأنس سلطان بهذا المشهد الحي، ذهبت عنه الوحشة، وسكنه الهدوء والاسترخاء، وشعر بالألفة والراحة النفسية، تأمل الحصان والطنبر والأطفال والنساء والحودي، دبت الحياة في الشارع، سرت فيه حركة الناس وحيواتهم.
وقف على قدميه بضعة ثوان، ثم سار باتجاه الطنبر أخذًا مسافة متر أو مترين منه، راقب ما يدور حوله من أصوات وثياب وأحذية. تأتيه رائحة المازوت والكاز، الذي يتناثر في الفضاء بسرعة، ورأى على البائع ثياب غريبة، مشمع جلدي طويل أسود اللون لحمايته من المواد السامة.
نظر إلى أحواش أصدقاءه، أبواب البيوت المفتوحة، شعر بالقلق من عدم ظهورهم في الشارع، والتساءل على لسانه وذهنه، "ما سبب اختفاءهم الطويل عنه، لماذا لم يعد يراهم منذ أن أخذوا الجلاء المدرسي؟ يا لهذا الصدف الرائعة أن تتقاطر النساء إلى الشارع مع صغارهن، يبددن الوحشة والانتظار عنه إلى حين أن يراهم.
جاءت أم صديقه بسام من الشارع الجانبي الأخر، القابع على المنحدر القريب من هذا المكان الواقف عليه، حاملة في يدها وعاء فارغ من الصفيح لتضع فيه الكاز لتملئه في البابور أثناء طبخ الطعام أو الشاي أو الغسيل، البسمة على فمها، ماشية بهدوء وثقة، مرتدية ثيابها العربية التقليدية، وفوق رأسها هبرية، في قدميها حذاء جلدي قديم وعلامات السعادة بادية على وجهها الأبيض المشرق، تذكر هذا القول:
ـ ليس العود يجود.
اقترب سلطان منها، حياها بكل أدب، وبمودة:
ـ خالة، أين هو بسام. لم أره منذ البارحة، أين ذهب؟
كان سلطان يحب هذا النوع من الثياب الذي ترتديه عرنة، أم بسام اثناء خروجها من البيت، أو أثناء وقوفها بالقرب من الباب الخارجي وجوراه، وعليها الشلحة أو الرداء الخفيف من القطن تزينه نقوش صغيرة وزخارف ملونة تحت ثوبها المفصل على مقاس جسمها، دون أردان. وبجوارها أم زهير مرتدية الزبون، فوق ثوبها يغطي ظهرها إلى أقدامها، وكان مفتوحُا من الأمام له أكمام مفتوحة عند الرسغين.
ـ لقد خرج باكرًا. ظننت أنكما تلعبان معًا.
كانت النسوة تتبادلن الحديث أثناء املاء البائع المازوت قدر ما تستوعب الصفيحة، وحولهن أطفالهن يركضون ويلعبون ويصرخون ويضحكون، تحول المكان إلى مهرجان سينمائي جميل، ألوان مختلفة ووجوه نضرة وفرح غامر تحت الشمس، فيه تمازج بين الرهافة والحرية. فقد كن، هؤلاء النسوة من ذلك النوع من البشر الذي يصح القول عنهن أنهن طبيعيات منسجمات مع ذواتهن، يرون الحياة في بعد واحد، أو دون أبعاد مختلفة، بيوتهن، أزواجهن والحياة التي تمضي إلى حيث تمضي، لديهن القدرة على مواصلة الحياة على الرغم من عوالمهن البسيطة:
حمل، ولادة، إنجاب، تربية الأطفال ودفعهم إلى الحياة.
جاءت أم عبد الأحد مرتدية تنورة سوداء يصل إلى أعلى ركبتها بقليل، بان له ساقها الأبيض البض، وفوق التنورة قميص أبيض مزين بالدانتيلا، وساعداها عاريتان، رأى أبطها اللذيذ الناعم محلوقًا، بل منتوفًا بالكامل، وجسدها رشيق متناغم، ليس فيه نتوءات زائدة أو ناقصة، جسد متناسق مشدود كالرمح الواقف المستعد للانطلاق، وقامة طويلة كأنها ممثلة هوليودية، التفت النسوة جميعًا حولها، ومضين يتحدثن إليها مرحبين بقدومها. وتوقف الحودي عن عمله أثناء صب المازوت في الصفائح، راشقًا جسدها الجميل بسهام عينيه، لدرجة أن سلطان انتبه أن في عين هذا الرجل شهوة حمراء من نوع أخر، تذكر كلام مدرسه، أن الجمال سلطة تأسر العيون.
يبدو أن أم عبد الأحد قضت وقتًا أطول من المعتاد في اختيار ثيابها البسيطة، بيد أن وجهها النضر المملوء بالطاقة والفرح لم يكن يحتاج إلا للشمس للإمساك بالضياء فوق ضوء الشمس ذاتها.
ألقت أم عبد الأحد نظرة متأملة حولها، وحدقت في البعيد، كان الجانب الأخر من الحدود، مفتوحًا على حدود المكان، رأت سلطان يبتسم لها بمودة وحيرة، مستغربة من وجوده لوحده، ألقت السلام عليه، متسائلة عن سبب وجوده هنا مع كرته دون أصدقاءه، دون أبنها، أين عبد الأحد يا سلطان؟ أين اختفى صديقك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-