الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أين ذهب ذلك -الزمن الجميل-، ومن أين أتى؟ جوليان بارنز، باريس والرجل بالرداء الأحمر

حكمت الحاج

2024 / 5 / 9
الادب والفن


أين ذهب ذلك "الزمن الجميل"، ومن أين أتى؟ جوليان بارنز، باريس والرجل بالرداء الأحمر..
لم أحتر في كتاب ولم أضع، كما احترت وضعت مع هذا الكتاب الأخير للروائي البريطاني الشهير جوليان بارنز بعنوان "الرجل بالرداء الأحمر".
فعبر كتاب أنيق من مائتين وسبعين صفحة من القطع الكبير، يزدان بما يناهز المائة صورة، يقدم لنا الناشر السويدي باكهول 2023، وبترجمة من أندرياس فيستيرلوند، كتابا بعنوان "الرجل بالرداء الأحمر"، من تأليف جوليان بارنز، في مغامرة سردية تاريخية خارج إطار فن الرواية الذي تمرس فيه الروائي الشهير صاحب "ببغاء فلوبير".
هي ليست رواية إذن! حسب الترجمة السويدية في الأقل. وحسب مراجعات الصحف البريطانية في مجملها، بيدَ أني، ومن زاوية شخصية بحتة بوصفي قارئا بريئا، حسب توصيف "هانز روبرت ياوس"، ما زلت أنظر الى هذا الكتاب بوصفه رواية كاملة مكتملة الأركان، لا ينقصها حتى البطل الأول والشخصية الرئيسية والحبكة المشوقة، التي تميز كل رواية ناجحة.
في يونيو حزيران من عام 1885، وصل ثلاثة فرنسيين إلى لندن لقضاء بضعة أيام في السياحة والتسوق في العاصمة التي يحلو العيش فيها. كان أحدهم أميراً والآخر يحمل لقب الكونت، بينما كان الثالث خارج طبقة النبلاء، لكنه كان قد تحول قبل أربع سنوات ليصبح نموذجًا لإحدى أرقى لوحات الفنان جون سينغر سارجنت. إنه الدكتور صاموئيل بوزي، الطبيب النسائي والجراح الشهير. عالم بارز وعَلَم معروف في المجتمع الباريسي، ولكن مع حياة شخصية معقدة صاخبة كانت محط اهتمام الناس وفضولهم.
يعتبر كتاب جوليان بارنز "الرجل بالرداء الأحمر" صورة قلمية تاريخية مذهلة وروح كاملة لذلك "الزمن الجميل"، تلك الفترة الزمنية الساحرة لكن غير المسؤولة، الفترة النرجسية، الفاضحة، وحتى العنيفة، والتي ربما تكون لها مزيد من التشابه مع عصرنا، كما يرى إلى ذلك جوليان بارنز.
"الشوفينية هي شكل من أشكال الجهل." يقول المؤلف في مقدمة كتابه هذا. ويقول إنه كتب هذا الكتاب "خلال السنة الأخيرة قبل خروج بريطانيا الغبي من الإتحاد الأوروبي". وكانت عبارة الدكتور صاموئيل بوزي تتردد بين الحين والآخر عندما كانت النخبة السياسية الإنجليزية غير القادرة على فهم تفكير الأوروبيين (أو كانت غير راغبة في ذلك، أو مجرد غبية)، تتصرف مرارًا كما لو أن ما يريدونه هم شخصيًا وما سيحدث فعليًا يمكن أن يتطابقا أبدًا. فالإنكليز (بدلاً من البريطانيين)، يقول بارنز، غالبًا ما أظهروا بغرور مفرط فخورين بعزلتهم، عدم اهتمامهم الخاص بـ "الآخر"، وفضلوا النكات السخيفة والاتهامات الساذجة".
"الرجل بالرداء الأحمر" بقلم جوليان بارنز هي، بتصوري، رواية تاريخية مثيرة تستكشف عالم باريس المجيد والمحزن في أواخر القرن التاسع عشر. بارنز، المعروف بأسلوبه الرشيق وبحثه العميق، يصوّر لوحة واقعية لهذه الحقبة من خلال أحداث وشخصيات واقعية مثل صامويل بوزي، الجراح الشهير، وشخصيات أخرى بارزة من فترة "الزمن الجميل".
يشير مصطلح "الزمن الجميل" إلى فترة من تاريخ أوروبا الغربية تمتد من أواخر القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914. لقد كان وقتًا يتسم بالتفاؤل والازدهار والرخاء والديناميكية الثقافية والتقدم التكنولوجي، وخاصة في فرنسا. غالبًا ما يرتبط هذا المصطلح بالمجتمع والثقافة الباريسية خلال هذه الفترة.
وفي كتابه هذا الذي نعرض له اليوم، يعيد جوليان بارنز تذكيرنا بتلك الحقبة ومعالمها ومميزاتها التي انسحبت على العالم كله، اذ لا زلنا لليوم نستعمل في لغتنا اليومية المتداولة عبارة الزمن الجميل"، واصفين بذلك ماضيا مجيدا من الآداب والفنون والعادات الاجتماعية الراقية، مشوبة بمسحة خفيفة من مرض الحنين والاشتياق إلى تلك الفترة التي تميزت بالازدهار الثقافي حيث شهدت رواجا للفنون والثقافة والمعرفة، مع تحقيق إنجازات ملحوظة في الأدب والرسم والموسيقى والمسرح. كان فنانون وكتاب مثل كلود مونيه وأوغست رودان ومارسيل بروست شخصيات بارزة في هذا الوقت.
تميز الزمن الجميل ايضا، كما يكتب جوليان بارنز، بالتقدم التكنولوجي والطبي، إذ شهد أواخر القرن التاسع عشر تطورات كبيرة في مجال النقل والاتصالات، وساهمت الابتكارات العلمية في الشعور بالتقدم والحداثة.
كما كان للازدهار الاقتصادي دوره، فقد شهدت العديد من دول أوروبا الغربية، وخاصة فرنسا، نموًا اقتصاديًا واستقرارًا خلال هذه الفترة، مما أدى إلى ارتفاع النزعة الاستهلاكية والإقبال على السلع الفاخرة.
أما في مجال التغير الاجتماعي فلقد اتسمت حقبة الزمن الجميل بتغير الأعراف الاجتماعية. كان هناك تركيز متزايد على الترفيه والتسلية، خاصة في المراكز الحضرية مثل باريس، حيث ازدهرت ثقافة المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية. وشهدت تلك الحقبة ظهور طبقة برجوازية جديدة تتمتع بفوائد التصنيع وزيادة الثروة ووقت الفراغ.
غالبًا ما يُنظر إلى فترة "الزمن الجميل" على أنها زمن الأناقة والرقي والابتكار الفني والعطور، خاصة في سياق المجتمع الباريسي. ومع ذلك، كان لها أيضًا نصيبها من عدم المساواة والتحديات الاجتماعية، حيث زرعت بذور الصراعات والاضطرابات الاجتماعية المستقبلية بالفعل تحت السطح. ترك هذا العصر تأثيرًا دائمًا على الثقافة الغربية ويستمر الاحتفال به لإنجازاته الفنية ومساهماته الثقافية للآن. ولا شك ان كتاب "الرجل بالرداء الاحمر" لجوليان بارنز، يندرج في إعادة الاعتبار وتكرار التذكير بتلك الفترة الخلابة من عمر الثقافة الغربية الأوروبية، قبل بزوغ ليل الحروب العالمية، وظهور وحش الامبريالية العالمية على سطح الأحداث.
اذن، من خلال قصة الدكتور بوزي، يفتح بارنز نافذة على زمن من الحماس الثقافي والفكري الكبير، حيث تتلاقى العلوم والفنون والمجتمع بطرق فريدة. الكتاب يلتقط روعة وفساد باريس خلال هذه الفترة، مبرزًا جاذبيتها والتوترات الكامنة فيها.
يتحدث جوليان بارنز عن بريطانيا المتغطرسة أيضا في هذا الكتاب المشوق المغرق في الذاتية. انه يسميه "الجانب الأسود الآخر من عزلة البريطانيين الذاتية". ويسخر ممن يقول بغطرسة: "أوه، الجميع يتحدث الإنكليزية هذه الأيام". لكن كما يعلم كل طالب أو مدرس للغة، نحن، من خلال فهم لغة أجنبية، نتعلم أيضًا فهم الأشخاص الذين يتحدثون بها، وكيف ينظرون ويفهمون بدورهم إلى بلدنا وحضارتنا. لذا "نحن الآن نفهم الآخرين بشكل أسوأ، بينما يستمرون في فهمنا بشكل أفضل". ويستدرك قائلا إن "الوقت الذي قضيته في هذه الحقبة البليدة، الفاخرة، المضطربة، العنيفة، المتعصبة، والعصبية (يقصد حقبة البريكسيت والخروج من الإتحاد الأوروبي) قد شجعني على الكتابة عن حقبة الزمن الجميل". ويعلل بارنز ذلك قبل كل شيء، بسبب شخصية صاموئيل جيان بوزي، "الذي كان جده قد هاجر من إيطاليا إلى فرنسا. الذي تزوج والده امرأة إنجليزية في الزواج الثاني. الذي تزوج أخوه من امرأة إنكليزية في ليفربول. الذي كان يخيط أزياءه وستائره من قماش يرسل إليه من لندن. الذي زار بلدنا لأول مرة في عام 1876 ليقابل جوزيف ليستر ويتعلم كيفية استخدام طرقه. الذي قام بترجمة كتب داروين. الذي هبط من القطار في لندن عام 1885
لقضاء بضعة أيام في التسوق الفكري والزخرفي. الذي كان منطقيًا، علميًا، تقدميًا، عالميا، ودائمًا، مشوقًا. الذي كان يستقبل كل يوم جديد بحماسة وفضول. الذي ملأ حياته بالطب، والفن، والكتب، والسفر، والحياة الاجتماعية، والسياسة، وأكبر قدر ممكن من الجنس. ولحسن الحظ، لم يكن خاليا من الأخطاء. لكنني"، ودائما مع بارنز، "أود الإشارة إليه على أنه نوع من البطولة".
أسلوب جوليان بارنز السردي في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، أسلوب غني بالتفاصيل والسياق التاريخي، مما يجعل القارئ يشعر بالانغماس في شوارع باريس وصالونات النخبة فيها. وتبدو كتابته أنيقة وسهلة الفهم، بل وتحقق توازنًا مثاليًا ما بين الدراسة العلمية والوثائق والصور والسرد.
من خلال علاقات د. صاموئيل بوزي، يكشف لنا بارنز عن حياة شخصيات بارزة أخرى مثل الفنانين، الكتاب، والمثقفين، بما في ذلك سارة بيرنارد، أوسكار وايلد، ومارسيل بروست. تقدم هذه اللقاءات لمحات عن غرابتهم، تحدياتهم، وإسهاماتهم في نسيج الثقافة في تلك الفترة.
في جوهره، "الرجل بالرداء الأحمر" ليس مجرد سيرة ذاتية لمدينة أو تأريخا لحقبة، بل هو رسالة حب لعصر مضى، عصر من الرفاهية والثورة الفكرية يحييه جوليان بارنز بأسلوبه البليغ وبحثه الدقيق.
لقد حقق الكاتب البريطاني جوليان بارنز نجاحًا كبيرًا من خلال روايته "ببغاء فلوبير". وقد حصلت روايته القصيرة "الإحساس بالنهاية" على جائزة "مان بووكر" المرموقة. لقد كتب نحو عشرين كتابًا في أجناس مختلفة من روايات، مجموعات قصصية، مقالات وسرود حرة. له مجموعة قصص بعنوان "طاولة الليمون"، بالإضافة إلى رواياته: "ميترولاند"، "قبل أن تلتقيني"، و"إليزابيث فينش".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 20 مايو 2024




.. عوام في بحر الكلام -الأغاني المظلومة في مسيرة الشاعر إسماعيل


.. عوام في بحر الكلام - قصة حياة الشاعر الكبير إسماعيل الحبروك




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: الأسطورة الخالدة الأغ