الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن نقص عليك أحسن القصص...

أمين بن سعيد

2024 / 5 / 9
كتابات ساخرة


أصف لك الإطار الذي سيحصل فيه كل شيء، تخيل معي أنك جالس أمامي الآن وأنا واقف، أتكلم وأحكي حكاية، أمشي أمامك أتقدم منك وأبتعد، أدور حولك، أقف وراءك، أهمس في أذنك بصوت خافت، ثم أبتعد وأعود أمامك، صوتي يرتفع مرة وأخرى يخفت، أسكت وقتا ثم أعود للكلام ماشيا في كل الاتجاهات حولك، أغلب الوقت لا أنظر إليك وكأني معتوه يكلم نفسه، من حين لآخر أنظر إليك مواصلا كلامي، ترى في عيني تارة أني أنتظر منك مساندة، وفي أخرى ترى أني لا آبه بكل ما يصدر منك... عندما أكمل كلامي أخرج دون غلق الباب، دون وداع، دون حتى أن أنظر إليك، فتتساءل هل كل ما قلته كان حقا موجها إليك؟ أم أنك كنت مجرد شيء من أشياء تلك الغرفة والقاص لم يعنك أصلا بكلامه؟
بعد قراءة الفقرة التي مضت، ولأكون أمينا وجب علي تحذيرك مما ستقرأ، وبصدق أفعل. قد تقول هذا من أساليب الدعاية الرخيصة التي يعلمها الجميع، والجواب على تخمينك: دعاية لماذا؟ لست كاتبا أعيش من كتاباتي لتكون وغيرك مصدر عيشي، وكما تعلم الكتابة هنا مجانية وحتى لو كانت بمقابل فلم أكن لأتقاضاه لأني لست في حاجة إليه، ثم، من دفع لك قطع لسانك وشل حركتك ولست منهم. لست "مفكرا" "مثقفا" أحمل هم تغيير شعبي وتطوير وطني، فقد تجاوزت هذا الوهم وشفيت نفسي من هذا المرض منذ سنين طوال. التحذير من ماذا؟ من ألا تفهم أي شيء ومن أن تقول بعد أن تقرأ: قد أضعت وقتي فيما لا يعني. أكيد لا أتهمك بقلة الفهم، وأكيد لا أزعم أن ما سأكتب سيكون عصيا على الفهم ويلزمه شهادات وخبرات، ليس هذا القصد، لكن ما سيغلب على الحكاية أنه لا يوجد أي ترابط بين ما سيقال وكأنك أمام سكران يأتيك بوردة من كل بستان، وكثيرا ما تكون الروائح كريهة فتجزم أنها ليست هدايا تطلب ودك لكنك ستسأل ولماذا السعي المجاني لإغضابي واستفزازي؟ أعذر من أنذر، فلتجلس أمامي الآن، إن أردت، ولتسمع الحكاية، لا أحد سيستجديك البقاء إذا قررت المغادرة فالراوي سيتكلم دون أن يسكت حتى يكمل ثم يغادر دون وداع تاركا الباب مفتوحا وراءه، ربما ستفهم أنها دعوة للحاق به، فلتعلم منذ البدء أن لا أحد يدعوك ولا أحد سينتظرك، لكن لا أحد سيمنعك من الالتحاق والمسير إن قررت ذلك.
لنبدأ الآن، توكل على من تريد وبلغه سلامي، أما أنا فأتوكل على الرغبة التي تصارع صوتا يعاد في أذني: أنت تضيع وقتك، أنت تضيع وقتك، أنت تضيع وقتك...
عامل بسيط يقول إنه أحسن من أغنى أغنياء الأرض، وحجته أنه يعمل عملا شريفا ثم يعود إلى منزله في المساء، يأكل ما كتب له مع زوجته وأبنائه، يسهر قليلا مع أبنائه، ثم عندما ينامون يختلي بزوجته، حلاله، فيأكل منها وتأكل منه ما كتب، ثم ينام هنيئا، وهكذا اليوم الذي يليه. يقوي العامل حجته بالقول إنه تقريبا يوميا يأكل من زوجته ما كتب حتى أيام طمثها، سامحه الله، فيغير رحله ولا يمنعه منها ولا يمنعها منه شيء. يقول قلي بربك هل الملياردير يجامع كل يوم؟ يهنأ بزوجته وأطفاله كل يوم؟ أم أنه ربما رآهم مرة في أشهر؟ وعندما سألته عن الأكل الحرام من زوجته، أجاب بكل عفوية أنه لا يتصور أن الله ليس عنده شاغل إلا مراقبته هو ماذا فعل في ليلة في فراشه ولم يضر أحدا بشيء والتراضي من الطرفين موجود، وأضاف أن "الشيء" يشبه الأكل عنده، لو بات جائعا لم يستطع العمل في الغد وإن لم يعمل جاعت زوجته وأولاده، ومن منطقه خلص إلى أنه حتى وإن اقترف محظورا فإن الله رحيم ويعذر، بما أنه يعول عائلة ستنتج رجالا شرفاء للوطن، ومهما كانت أعمالهم فإنهم لن يعتدوا على غيرهم وسيفيدون ولن يضروا. أما شيؤه وزوجته فهو شريف وهي أشرف، لا هو ينظر إلى غيرها ولا هي تفعل.
النقاش حدث في مقبرة، العامل كان يبني على قبر وحده، كنت المسؤول عن مراقبة ذلك العمل، وكان صباحا.. عندما وصلت، وجدته يعمل وحده ومن المفروض أن يكون معه مساعدا، لكنه طرده وقال لي أن السبب لتكاسله. فاضطررت لأخذ مكانه، وعملت تحت امرأته، فسنحت لي الفرصة لأن أسمع من حكمته. بعد أن أتم عمله، قال لي أن كل هذا الرخام مغالاة ولا يجوز، فأجبته أن الفكرة ليست مني ولست إلا منفذا، وطالبته بأجري فضحك وظن أني أمزح، لكني أصررت فأعطاني أجر مساعده. عندما وضع تلك الأوراق في يدي، وبملاحظة تورمها، سخر مني وقال لي "هل هذه يد رجل؟" لكنه اعتذر عن قوله مباشرة وقال إنه لا يقصد لكن "الكلمة خرجت من فمه الملعون دون أن يشعر".. المهم، أرجعت له ما أعطاني وزدته عليه، وطلبت منه أن يشتري شيئا لزوجته كهدية، فقال مباشرة "اللحم" أي ذهب قراره إلى الجزار، إلى بطنه.. تورم يدي بقي أياما، كنت كل يوم أتذكر ذلك العامل، وأقارن بينه وبين كل من أعرف، لم أتمنى لي النعيم الذي يحياه لكني لم أستطع إنكار أو دحض كل الحقائق والدروس التي قالها، هل الجهل والبساطة نعمة؟ هل المعرفة والثقافة نقمة؟ لا يستطيع تحويل الأسئلة إلى معادلة رياضية إلا الأغبياء وأصحاب الشعارات الجوفاء، غباء الجهلاء والعوام شنيع لكن قد يكون غباء المثقفين والنخب أشنع.. والفيصل، إن هي إلا حياة واحدة، وكل وكيف يحياها، رسالة المثقف لا يفترض بها أن تبحث عن مقابل من قبيل مال أو منصب أو شهرة ذاتية، من المفروض أنه يذوب في رسالته، أن يغيب هو وتظهر وتعيش فكرته. لكن، إذا لم تعش ولم تنجح فكرته، هل يمكن أن تكون حياة صديقي العامل أحسن وأرقى من المثقف وثقافته ورسالته التي أخذت منه حياته الوحيدة؟
أقطع هنا ولا أتمادى، وأعود إلى تحويل الرحل، طبعا العامل البسيط يحمل من الدين ثقافته الشعبية ولا يعرف حقيقة نصوصه، ما رأيك في قصة التحويل هذه؟ وأنت سيدتي؟ اسمعا أولا لهذه الشذرات من واقع ليس غريبا ولا عزيزا: الأولى تقول أنها تريد أن تشعر بحبيبها في كل نقطة من جسدها ولو استطاعت لأدخلته في كل أعضائها. الثانية وبما أنها "عذراء" بحثت عن اللذة هناك، ومضت على ذلك أعواما، وعندما تزوجت اكتشفت أن لذتها القديمة أعظم من الجديدة، وبما أنها لا تستطيع طلب ذلك من زوجها خرجت خارج إطار الزوجية للبحث عن تلك اللذة، الثالث مهووس بذلك المكان وفي نفس الوقت يراه هتكا وحطا من كرامة زوجته ولا يمكن له فعل ذلك إلا مع "العاهرات" "القذرات"، وأكيد وفي أمكنة وأزمنة عديدة قد شاءت الصدف أن يكون الثالث هذا زوجا للثانية. الرابعة والرابع، لا يرغبان ولا يريدان ذلك، هكذا وبدون خلفيات ولا فلسفات، كمن لا يحب ذلك النوع من المأكولات أو لا تريد ذلك النوع من الملابس. الخامس والخامسة يقولان، الجو حار وسيارتنا فيها موسيقى ومكيف، أي غباء هذا ألا نستعمل الخيارات التي توفرها لنا سيارتنا؟ السادس والسادسة يقولان المكيف ممنوع لأنه لو استعملناه انفجرت بنا السيارة ولا تناقش ولا تجادل.. المهم، الأمثلة كثيرة، والخلفيات معلومة، لكن اللبيب هو الذي لا يحكم على غيره بأحكام جاهزة ويقول بذكاء "لكم دينكم ولي دين"، أما من يمر إلى التسفيه والهجوم و"قاتلوهم" و"اقتلوهم"، فليحذر من أن يكتشف أنه لا يعلم شيئا عما يتكلم وربما أمضى حياته معتقدا بأوهام يسفهها اليوم بسهولة مراهقون على النات.
عن المراهقين، سؤال سريع عن خلفيات تجريم البيدوفيليا، نسبة كبيرة من المثقفين يتحرجون من الفارق العمري، ويصل بكثير منهم أن يروا من عمرها في العشرينات طفلة صغيرة، ثقافتهم هنا تحرمهم من تجارب وفرص قد لا تعوض، وربما لو ناقشت منطقهم ظهر كنور الشمس غلطهم، أقول: تحت الثقافة السائدة في هذه المجتمعات، والمثقف المذكور من المفروض تجاوز الثقافة السائدة، ما الفرق بين من عمرها عشرون أو ثلاثون أو أربعون؟ أليست الأحلام والأوهام نفسها؟ ما الفرق بين الطالبة الجامعية وبين أستاذتها؟ ابحث وابحثي، لن تجدا الفروق إلا في القشور أما الأصل فهو نفسه وذاته. عندما كنت طالبا في العشرينات، عرفت من عمرها قارب الأربعين، شرطي الوحيد كان ألا تكون متزوجة، وشرطها الوحيد ألا يكون معها أخرى، وسارت الأمور سمنا وعسلا مدة، ثم انتهت على خير، هل كانت بيدوفايل؟ هل كنت ناقص حنان وعندي مشاكل مع أمي؟ أم أن الأمر بسيط، فالمرأة كانت جميلة وعندها احتياجات أرادت تلبيتها دون مشاكل، والطالب الشاب نفس الشيء.
هل القول بأن التجارب البشرية مجرد كتاب كل يأخذ فيه صفحته أو صفحاته، عدم احترام وهتك لكرامة البشر الذين عرفنا ونعرف؟ ما الفرق بين أن تقول مثلا فلان صديق جامعة أمضينا معا سنوات ثم انتهى كل شيء، وبين أخوك الذي توفي منذ سنوات وعشت معه لنقل ثلاثين سنة؟ ما الفرق بين أخواتك وبين كل النساء اللاتي نمت معهن؟ تريث، لا تثر.. كل يأخذ وقته وكل والقيمة والقداسة التي تعطيها له، أختك أو أمك أو زوجتك أو رفيقتك كلهن نساء، تختلف علاقتك بهن نعم، لكن في النهاية أنت من قررت وسمحت بتقديس أو إعلاء شأن هذه على تلك، وما قررته قد تكون فيه مخطئا لأنه نتيجة ما وصلت إليه من تجارب ومعارف ومدارك. هناك من أمه لا ترحمه بشربة ماء وهناك من أخواته عاهرات فهل هذا -وإن كانت نسبة وجوده قليلة- ستكون زوجته أقل درجة منهن وإن عرفها منذ سنتين؟ ألن تكون كذلك الفيل الذي في لحظة يحصل ما عمله آلاف النمل في سنين؟ ثم ما الفرق بين أخت تراها مرة في السنة أو في المناسبات وبين خمس فتيات مع كل أمضيت شهورا وانتهت علاقتك بهن؟ في أرشيفك، سيدون فلانة بقينا معا مثلا ستة أشهر، كنت يوميا معها، في تلك الأشهر الستة رأيت أختي.. كم مرة؟؟ ولا مرة، فقط تكلمنا بالهاتف مرة في الشهر أو الشهرين. بعد الستة أشهر الأولى، جاءت فلانة وبقينا معا لنقل سنة... وهكذا. قارن إذن وتساءل، هل تستطيع أن تضع الجميع في نفس الأرشيف؟ وما الذي يمنعك؟ الجواب سيكون لا شيء غير قليل من الأوهام والقداسات التي لا يسندها دليل.. متى لا تستطيع؟ لو كنت أخا حقا وكانت أختا حقا، تلك العلاقة الرائعة التي لا يعرفها كثيرون كالمثال التي ذكرت، مع ذلك الأخ حقا والأخت حقا والأم والأب يمكن أن تقول نعم هناك فرق، لكن لماذا هؤلاء سجلهم لا يختلط بغيرهم من البشر؟ تراجع قليلا إلى الخلف وانظر نظرة بانورامية، ستكتشف أنك أمام رقعة شطرنج وكل من أمامك بيادق وإن اختلفت قيمتهم، في نهاية المطاف المقرر أنت، ومعطي الأوسمة أنت، ألا يشبه "أصحاب الأوسمة" دراسة جامعية قد تدوم سنتين أو ثلاثة لهذا وأكثر بكثير لغيره؟ ألا تشبه ما ستراه مدينة وتخيل أنها ملكك، فيها أمكنة ومرافق أحسن من غيرها؟ لكنها في النهاية تبقى مجرد مدينة ومجرد مرافق وقيمتها ومكانتها تأتي من حكمك أنت لا من ذواتها؟ ذلك المطار مثلا أرقى بكثير وكلفك أكثر من محطة القطارات، لكنك لو رأيت أن السارق سارق سرق دولارا أو مليار دولار، سترى أن كل تلك المرافق والمنشآت في مدينة لا فرق بينها في ذواتها وماهيتها بل الفرق نابع فقط من نظرتك لها وحكمك لها أو عليها.
قصص كثيرة عشناها وشاهدناها وسمعنا عنها، تقول بدمار شامل يحل على زوج بعد فقدان زوجته وعلى أم فقدت ابنها أو أخ فقد أخيه أو صديق عمره، تسوق لنا هذه القصص كنماذج يحتذى بها ولا يشك أحد في صلاحيتها لتأسيس المجتمعات وتلاحمها. تعطى هذه القصص كل المشروعية إنسانيا وأخلاقيا وفلسفيا وعلميا واجتماعيا. قد يقبل كل ذلك وغيره لكن أليس من حق العاقل أن يسأل فقط بعقله سؤالا قد يظهر غريبا لكن مشروعيته لا يمكن أن تدفع: كيف نحب شخصا ما ونسمح لأنفسنا أن نعطيه مكانة عظيمة إلى درجة أن حياتنا تتوقف لو غاب عنا؟ هل يعقل أن تحب امرأة رجلا أو العكس إلى درجة الانتحار مباشرة لو حصلت خيانة؟ هل يعقل لو توفيت أمي أن تتوقف حياتي وأعمالي وكل علاقاتي لسنين؟ هل يعقل ألا ألمس امرأة بعد وفاة زوجتي؟ أليس الذي يسمح بهذا يشبه من يعطي عدوه كيف يقضي عليه؟ رئيس أمريكا يعطي الشفرة النووية لرؤساء روسيا والصين؟
عندما يعيش المثقف في بيئة تقدس أسباب تخلفها وانحطاطها، يسعى بكل قوة إلى تحطيم الرموز المقدسة في مجتمعه، لكنه لن يستطيع الإفلات من حقيقة الواقع الذي سيفرض عليه إنشاء مقدسات جديدة لينجح تياره وفكره. ولو حكمنا بموضوعية عليه لرأينا أن القصة ليست مبادئ كما يظن ويعتقد لأنه لو كان كذلك لما أنشأ مقدسات جديدة. لا يوجد شيء كامل على سطح الأرض منذ أن بدأت الحياة عليها وإلى أن تنتهي إن وقع ذلك وانتهت، وعليه أي فكر -مهما كان مصدره- يزعم أنه وحده الحل، يكون قطعا ويقينا ولا محالة كاذبا والواقع سيكذبه مهما حاول تزييفه وتحريف حقيقته. إذا وصلنا إلى هذه الحقيقة، نستطيع أن نقلل من صراخنا وشعاراتنا، ونستطيع بذلك القبول بغيرنا ممن يختلفون عنا. التقديس مرض لا يمكن للبشر الحياة بدونه، كلما تعاظم كلما ساد العنف ورفض الآخر المختلف. ولو راجع المثقفون أنفسهم، ومهما كانت تياراتهم، وفي أبسط أمورهم الشخصية كمثال "تحويل الرحل" وقداسة أقرب الناس إليهم، لفهموا أكثر أصول أفكارهم وفلسفاتهم، لهذبوا من تعصبهم، ولأخفتوا أصواتهم، فيقبلون التنازل والعمل مع المختلفين عنهم ويقبلون أكثر في مجتمعاتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل


.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة




.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ