الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصوفية والاغتراب في ديوان -الهدي- أمين طاهر الربيع

رائد الحواري

2024 / 5 / 10
الادب والفن


هناك أعمال تشدنا إليها، لما فيها من جمالية، ـ رغم عدم معرفتنا بالكاتب ـ وهنا يكون النص هو الرسول الذي يوصل لنا الأفكار/المضمون الذين يراد تقديمه في الكتاب، وأيضا يوصل التقنية الأدبية التي تميز النص عن غيره، وتميز الكاتب/الشاعر وتفرده فيما يقدمه من أدب.
نتوقف عند كلمة الشاعر، ليس لأن الشاعر الأكثر قدرة على التعبير عما نشعر به، ما نريد طرحه، ما نحتاجه فحسب، بل لأنه يقدم كل ذلك بطريقة ممتعة، فرغم الألم الكامن في المضمون/الفكرة، إلا أن اللغة، طريقة التقديم، الأسلوب، الألفاظ المستخدمة كلها تمتع المتلقي، مما يخرجه من حالة الاغتراب، القسوة التي يعيشها إلى عالم الشعر والجمال.
اللافت في هذا الديوان اللغة الصوفية التي جاء بها، فرغم أن الشاعر يتحدث عن الخمر في أكثر من موضع، إلا أن هناك صوفية، وهذا (التناقض) مثير للقارئ حيث يدفعه ليتوقف متأملا، متفكرا أمام هذه (الازدواجية)، كما أن الثقافة الدينية، المسيحية والإسلامية، وطريقة تقديمها في الديوان، تؤكد للقارئ أنه أمام شاعر مثقف، يستطيع أن يوظف الموروث الديني ـ المسيحي والإسلامي ـ بطريقة مبهرة، مثيرة، وهذا يحسب لشاعر الذي ألغى الطائفية الدينية، موكدا وحدة المجتمع، ووحدة العقائد الدينية، كما أن الشكل الأدبي وما فيه من أصالة وحداثة تمثل تفرد الشاعر الذي جمع بين مدرستين مختلفين، كل هذا يجعلنا نقول إننا أمام ديوان متميز على مستوى المضمون، ومبهر بالشكل الذي قدم به.
الخمر
بداية ننوه إلى أن عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ الشعراء تتمثل في: المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، وبما أن فاتحة الديوان جاءت متمردة ـ الحديث عن الخمر ـ فإن هذا له علاقة بتكوين/بناء الديوان والأفكار التي يطرحها.
من هنا سنحاول التوقف عند ما جاء في الديوان، ونبدأ من الخمر وكيف قدمها الشاعر، يقول في قصيدة "نواسية":
"بدت لك الخمر بيضاء
تتيه في شيبها دلا وإغراء"
عنها يقال، مرور الدهر أفقدها
كل الأحبة حتى ترتضي الماء!
كأنها صمتت عمرا تجاوزها
فأترعت من جنون القوت أصداء
فيها من الحب ما في الحب من خطر
ودومة الحب كان الطيب والداء
أظنها من جنان الخلد كرمتها
تفتضها وتعود الحال عذراء
خلاصة من دموع الضوء قطرها
جرح المدى فتتالت بعد عنقاء
"دارات على فتية دان الزمان لهم"
خلوا النعال وراحوا صوب سيناء
"قفل لمن يدعي في العالم فلسفة"
ما ضرك الآن لو ضيعت أشياء
هي الحقيقة مع أضدادها مزجت
جهلتها بعدما علمت أسماء
دع السكارى فقد شفوا بألفتهم
والناس في الصحو يزرقون ضغناء
على عماها وهذي الكأس مبصرة
فابدأ عرجك راح الليل إسراء" ص13و14.
رغم أن القصيدة متعلقة بما هو محرم دينيا، ومستهجن اجتماعيا، إلا أن الشاعر من خلال الصور الشعرية استطاع أن يمرر فكرته، ويجعلها مقبولة للمتلقي الذي ذهل بصورة الخمر، فالشاعر افتتح القصيدة بلغة بيضاء:
"بدت لك الخمر بيضاء
تتيه في شيبها دلا وإغراء" ص13.
مما يعطي الخمر صفة النقاء/الوقار/الاحترام ، وبما أنه استخدم صيغة المؤنث: "بيضاء، شيبها" وأعطاها صفة النساء: "دلا وإغراء" وهذا يثير المتلقي غريزيا، مما يجعل فكرة الجمع بين الاحترام/الوقار "شيبها" وفكرة الاشتهاء/دلا وإغراء (متناقضة/متباينة)، بهذه التركيبة الثنائية استطاع الشاعر أن يجذب القارئ للقصيدة، لمعرفة المزيد عن هذه الخمرة التي تحمل الشيء ونقيضه.
الخمر تحتاج إلى وقت، إلى زمن، وكلما طال زمنها زادت لذتها، من هنا نجد الشاعر يركز على الوقت/الزمن من خلال:
"عنها يقال، مرور الدهر أفقدها
كل الأحبة حتى ترتضي الماء!
كأنها صمتت عمرا تجاوزها
فأترعت من جنون الوقت أصداء" ص13.
هناك ألفاظ تشير إلى الزمن: "الدهر، عمرا، الوقت" كما أن هناك ألفاظ متعلقة بحركة الزمن: "مرور، تجاوزها، أصداء" وبما أنها مشروب، فكان لا بد من وجود ما يشير إلى هذا الأمر: "الماء، فأترعت" وهذا الطرح/التقديم منطقي، فالشاعر يعطي حقيقة، معلومة عن الخمر، لكن المثير هو وجود ألفاظ متعلقة بالكلام/ بالصوت: "يقال، أصداء" وهذا يأخذنا إلى الفكرة التي يريد تقديمها، فالشاعر لا يتحدث عن شيء عادي/عابر، بل عن شيء مهم وضروري، لهذا يطرح ما يقال عن الخمر، ويعطي وجهة نظره/رؤيته لها:
" فيها من الحب ما في الحب من خطر
ودومة الحب كان الطيب والداء
أظنها من جنان الخلد كرمتها
تفتضها وتعود الحال عذراء
خلاصة من دموع الضوء قطرها
جرح المدى فتتالت بعد عنقاء" ص13و14.
نلاحظ أن الشاعر يطرح فكرة التناقض، الفائدة والمضرة: "الحب/خطر، الطيب/الداء، تفضها/عذراء" وهذا يشير إلى الطرح (العقلي/المنطقي) في القصيدة، فمن خلال حديثه عن الفوائد والأضرار، أراد الشاعر من المتلقي أن يفكر، يتوقف عند ما يُطرح عليه، ومن ثم يتخذ القرار، الفكرة التي يريدها.
لكننا نجد انحياز الشاعر للخمر من خلال كثرة الألفاظ البيضاء/الناعمة التي تتفوق على السوداء/القاسية، ومن خلال جعل الغلبة للخمر:
"تفتضها وتعود الحال عذراء"
في هذه الصورة أبحر بنا الشاعر إلى عالم الخصب والجمال "عشتار" التي تعود في كل مرة حاملة معها خصب وجمال جديد.
كما أن وجود بيت مطلق البياض، تجتمع فيه الفكرة مع الألفاظ:
"أظنها من جنان الخلد كرمتها"
يؤكد انحياز الشاعر لخمر وعدم الحيادية، فهو يظهر (شكلا) أنه عادل/محايد في تقديم فكرته:
" هي الحقيقة مع أضدادها مزجت
جهلتها بعدما علمت أسماء" ص14.
لكن الألفاظ، والصور تشير إلى انحيازه لها، وها هو يعترف بهذا الانحياز من خلال الدعوة الصريحة والواضحة:
" دع السكارى فقد شفوا بألفتهم
والناس في الصحو يزرقون ضغناء
على عماها وهذي الكأس مبصرة
فابدأ عرجك راح الليل إسراء" ص14.
نلاحظ أن هناك تخلي (مفاجئ/سريع) عن التوازن الذي استخدمه الشاعر في القصيدة، وهذا يقودنا إلى نفاذ صبره على المخاطبة بلغة (العاقل/الحوار) فبدا من خلال هذا الاندفاع وكأنه يمثل دعوة غير مباشرة للقارئ ليفعل ما فعله الشاعر، والتقدم من الخمر وما فيها من لذة.

الاغتراب
الشعراء أكثر الناس تأثرا بما يجري، فهم يمتلكون أحاسيس مرهفة، ويؤثر فيهم أي فعل/حدث/ كلمة/شيء، وبما أن الواقع في المنطقة العربية بائس وقاس ومؤلم، لهذا هم بحاجة إلى شيء/مادة تساعدهم على التخلص مما هم فيه، من هنا نجدهم يستحضرون المرأة، الكتابة، الطبيعة، التمرد، وبما أن الشاعر افتتح الديوان بحالة تمرد على الواقع من خلال حديثه عن الخمر ودعوته لشربها: "دع السكارى" فهو (يبرر) هذا الفعل من خلال قصيدة "سأم" التي يتحدث فيها عن ألمه كشاعر يعيش واقع بائس:
" قلبا مليئا بالخطايا أعطني
شفة تطاوعني إلى الفلتان
في العمر ما يكفي من الملل الشديد
وفيه ما يكفي من الخذلان" ص15.
نلاحظ حالة (الاختناق) التي يمر بها الشاعر من خلال تركيزه على عدم حرية الكلام: "شفة/فلتان" فهو يجد/يرى الواقع في غاية البؤس: "بالخطايا، الملل، الخذلان" وهو بهذه الثلاثية السوداء يؤكد عدم وجود أي بصيص أمل، وعندما تحدث عن تجربته في الحياة، يجدها:
"اللاهثون إلى الحقيقة أثبتوا
أن الحقيقة أوجه البهتان!" ص16.
ما يميز هذه المقطع الإشارة إلى من يبذلون الجهد والوقت لمعرفة "الحقيقة" من خلال لفظ واحد: "اللاهثون"، كما أن تكرار لفظ "الحقيقة" يشير إلى أهمية الفعل الذي يقومون به، فهناك شيء مهم ويجب العمل من أجله ولأجله، لكن عندما استخدم لفظ "البهتان" الذي يحمل معنى الكذب/الافتراء والذي يتماثل ـ شكلا ـ مع صيغة المثنى (حليفان، مئتان، رجلان) أكد محو/إزالة "الحقيقة" المكررة، فبدا لفظ "البهتان" مضمونا وشكلا يتغلب وينتصر على الحقيقة.
لكن بما أنا هناك شاعر، فلا بد له أن يبتعد عما هو خارجي، ليحدثنا عن نفسه، ما يشعر به ويراه، يختم القصيدة:
"ريح تقيم الليل
أمطار على الشباك تلقي نفسها بهوان
شمع يسيل على أساه
وشعلة عمياء تأكل ذاتها لتراني
سأم الشتاء لعلة، ولعله
سأم الشتاء برفقتي ويعاني" ص16.
اللافت في الخاتمة كثرة الألفاظ التي تتكون من حرفي السين والشين: "الشباك، شمع، شعلة، الشتاء، نفسها، يسيل، سأم (مكرر)، وإذا علمنا أن حرفي السين والشين من الألفاظ المشاكسة/المحيرة، التي تحمل معنى الحث على الكلام من خلال صيغة السؤال "س"، وحرف الشين يحمل معنى الصمت وعدم التكلم "إش" التي نقولها للآخرين عندما نريدهم أن يصمتوا، نصل إلى المعاناة/الصراع الذي يمر به الشاعر، فهو يريد الكلام لكن هناك موانع/عوائق تحول دون ذلك، من هنا نجده يقدم هذا الصراع من خلال:
"وشعلة عمياء تأكل ذاتها لتراني"
وعندما كرر "سأم الشتاء، لعلة" أكد حالة الاغتراب التي يمر بها، وبهذا تكون فكرة القسوة/الصراع قد وصلت من خلال مضمون القصيدة، ومن خلال الألفاظ التي تحملها، مما (يسهل) على القارئ الوصول إلى الفكرة.
وفي قصيدة "من صفحات ضياع عمرو" يقول:
"المدى أوسع من ذمة "نصاب"
ونفس الحر مرة
وتناهى الدرب كالحلم إلى القيصر
وكل الطرق اليوم إلى الغربة تفضي
دون هجرة
وتتالت أكوس الخمر
وتتالت،
سكرة أودت بسكرة
كم غريب لغريب مال،
كم نجم تدلى من عناقيد المجرة
وغاب ساء من مر به
ثم لأمر في إخلاس الدهر سره
ربما من صفعة الخسران تأتيك المسرة" ص33و34.
إذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة سنجد أنها متعلقة بالمكان: "الدرب، الطرق، هجرة" وبالزمن: "تتالت (مكررة)، الدهر" وبالإنسان: "نصاب، الحر، قيصر، غريب/لغريب، مر به، سره، تأتيك" وهذا يقودنا إلى حالة الشاعر الذي يعاني من ضيق المكان، وقسوة الزمان، وفساد الإنسان، فهو محاصر في كل شيء ومن كل شيء، ومتضايق ممن هم حوله، حتى أنه جعل ما هو كبير وواسع وشاسع ـ إن كان ملموس/مشاهد/محسوس أم متخيل ـ ضيق وأسود: "المدى، الدرب، الطريق، كالحلم، سكرة، نجم، المجرة، الدهر"
والجميل في هذه القصيدة (تغريب) فكرة "كل الطرق تأدي إلى روما" بحيث حول الشاعر روما إلى قيصر، بمعنى استبدال المكان بالإنسان، وهذا يقودنا إلى حالة اغترابه مع الناس، عمن هم حوله، لهذه بدأ الحديث عن سوء الناس "النصاب" مما جعل المكان/الدرب/الطريق سوداء وقاسية: "الغربة، هجرة" فالمشكلة الأساسية ليس مع المكان، بل مع من هم فيه وعليه، فهم من يجعلونه جميلا أو قبيحا.
التناص الديني
والتغريب الثاني جاء مع الإنجيل: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" فالشاعر (سود وألغى) كل ما جاء في الآية: "الله، الأرض، الناس" واستبدلهم ب"الخسران" وهذه له علاقة بنظره الواقع الأسود ومن هم فيه.
ونلاحظ البعد الديني المسيحي حاضرا من خلال "نجم تدلى" فهو يأخذنا إلى القصة المجوس وتتبعهم النجم الذي شاهدوه، وهذا ما يجعل ألم الشاعر أكبر وأشد وقعا عليه، فبعد المسيرة الطويلة، وتتبعه الطريق إلى (النجم/المخلص) وجده يُسرق منه/"إخلاس" وهكذا يُوصل لنا فكرة ضياع وفقدان الوقت، والمكان، والإنسان والفكرة.
الصوفية
في قصيدة "مكاشفات" يجمع الشاعر كل ما في الديوان، إن كان على صعيد الفكرة، أم الفنية والجمالية، يفتتحها الشاعر بحديث نبوي:
"لا تسموا العنب الكرم، فإنما الكرم قلب المؤمن" ص48.
ثم يدخلنا إلى فضاء القصيدة:
"بينا (بينما) أعبر نعماء الصمت
أقلب ما في السهو من الحيوات جهار
دار الثلج بقلي الكأس
ودار
قلبي دوره صوفي
ناداه عزف الأسرار
هل يتبعها، هل يتركها رهوا، حار..
لن يدخلها أحد غيري هذي النار" ص48.
بداية نشير إلى أن فكرة الحلول/التماهي/التوحد تكمن في ذاتين/شخصين/حالتين، من هنا أي صيغة للمثنى تخدم هذه الفكرة، إن كانت من خلال التكرار: "دار/ودار، بقلب/بقلبي/ هل" أو من خلال تقارب المعنى: "أعبر/يدخلها، حار/نار" وأيضا من خلال استخدام ألفاظ مرتبطة بالمضمون/ بالصوفية: "أعبر، أقلب، دورة، صوفي، ناداه، الأسرار، يتبعها، يتركها".
وما يستوقفنا في الفاتحة وجود ثلاثة ألفاظ متقاربة/متشابه: "دار، ودار دورة" فالرقم ثلاثة له علاقة بالقدسية، بالاستمرار والديمومة، وهذا ما يجعل فعل" دار" متواصل ومستمر دون انقطاع.
إذن هناك دورة مستمرة ومتواصلة يقوم بها الشاعر مما جعله يستخلص مجموعة أفكار علمها/وجدها أثناء دورانه وحركته:
"حدثني قلبي عن ربي"
ستظل الريح تؤلف شعلتها
من قدح الغيمة بالغيمة
ستظل الزهرة أجمل دورق" ص 49.
اللافت في هذا المقطع وجود فكرة الضياء/النور "شعلتها" ووجود الجمال "قدح، غيمة، زهرة، دورق" ولم يقتصر الجمال على ما هو مادي/مُشاهد ومرئي فحسب، بل طال أيضا التخيل/الكتابة/الفن: "تؤلف، أجمل" ووجود الحركة المستمر "ستظل" (مكررة)، وهذا ما يجعل الحركة/(الدوران) مستمر ودائم.
ونلاحظ أن الشاعر افتتح المقطع بحديثه: "عن ربي" ولم يقل (عن الله) مما يعطي/يجعل هذه العلاقة أكثر خصوصية وتفرد عن بقية العلاقات.
"حدثني قلبي عن ربي"
شغف الحب فهما في الحب غموضا
كان الحب على الإنسان نصيبا مفروضا" ص49.
نلاحظ تكرار لفظ "الحب" ثلاثة مرات، وهذا يشير إلى حالة الحلول/القدسية التي وصلها الشاعر، وما التناص مع الآية القرآنية في سورة النساء: "للرجال نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7)" فتكرار لفظ "حب" مع "نصيبا" ثلاثة مرات، يخدم فكرة التقارب بين النساء اللواتي خصهن الله بحصتهن في كتابه، وبين فكرة "الحب" التي طرحتها القصيدة.
"حدثني قلبي عن ربي
نبع الحب الدافق في آلاء الطير
مشاع..
علمنا المنطق
والعالم هبة المنطق..!" ص50.
رغم أن قصية سليمان مع بلقيس جاءت من منظور ديني توحيدي، إلا أن هناك شيء آخر تحمله القصة، علاقة الحب التي نشأت بين سليمان وبقليس، من هنا جاء القرآن الكريم في سورة النمل ليشير حالة (الارتباك) التي أصابت "بلقيس" عندما كشفت عن ساقها: "قيل لها أدخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44)" فكان إيمانها بسليمان يحمل شيء من ارتباكها، حين شاهد ساقها وما عليهما من شعر، مما جعل قولها "ظلمت نفسي" يأخذ أكثر من مدلول، مدول متعلق بما هو إيماني توحيدي، ومدلول جمالي متعلق بها شخصيا، حيث كانت تهمل الاعتناء بجسدها: "ظلمت نفسي"
"حدثني قلبي..
العالم ليس عيونك،
ليس أنين المضطهدين،
وليس سباق المحمومين إلى ..
العالم شيء آخر
ليس ظنوني عنه، وليس أنا أفكار بائسة
ورد، بارود، جنس،
ما لا يفهم،
أو يفهم ثم يعود ولا يفهم
شرعي من وقع زنا..
ـ هذا ظني ـ
لا لا العالم شيء أخر،
ليس "أنا من أهوى، ومن أهوى (ليس) أنا" ص 50 و51.
نلاحظ وجود حالة الألم/القسوة من خلال "أنين المضطهدين/المحرومين" ونجد التكرار الذي يقودنا إلى صوفية الشاعر: "ما لا يفهم، ظنوني/ ظني، العالم" ومن خلال الطرح الصريح المنقول عن الحلاج: "أنا من أهوى، ومن أهوى أنا" بحيث لا يلتبس الأمر على المتلقي، وإذا علمنا أن منطق وكلام الحلاج يتجاوز معناه المجرد، ويجب على السماع/القارئ لأفكاره التوقف عندها والتأمل بها، مما جعل مخاطبة العقل: "أفكار، ورد، بارود، جنس، يفهم، لا يفهم" غاية أساسية لوصول الإنسان/المتلقي إلى الحقيقة، حقيقة الواقع البائس والمرير.
في قصيدة "حيرة المهاة"
نجد أكمل صورة للقصيدة الصوفية:
"في معانيك أهتدي فأضل
جل معناك ليس عندي حل!
سقمي "فيك" مثل عافيتي "فيك"
فروحي بجمرها تبتل
وحدك الحب، لا سواك بذاتي
أنت ذاتي، وأنت أنت، الكل
لست معناك أعرف الآن
جهلي كوجودي بكونه يضمحل
....
يا معيناك وجهك الحق مرآتي
وفي الحب حل ما لا يحل" ص53و54.
نلاحظ أن هناك تناص/تشابه/تماثل مع ما كتبه الحلاج من خلال وجود صيغة أنا المتكلم: "اهتدي، فأضل، عندي، سقمي، عافيتي، فروحي، بذاتي/ذاتي، جهلي، كوجودي" ومن خلال وجود عبارات تشير إلى الحلول والتوحد والتماهي: "في معانيك، لا سواك ذاتي، أنت ذاتي" ومن خلال تمجيد الله وتفرده "فيك، أنت" ومن خلال طرح الفكرة ونقيضها: "أهتدي/فأضل، سقمي/عافيتي، لا سواك ذاتي، عرف/جهلي" فهذه القصيدة تمثل دعوة للقارئ ليتقدم مما كتبه الحلاج والتوقف عنده، لهذا كان التقارب/التماثل بين الحلاج وبين أمين الربيع.

الحكم
حجم القسوة/المرارة التي يمر بها الشاعر تجعله يختزل/يكثف الفكرة التي يريد تقديمها بأقل الكلمات، مما يجعل كلامه حكم عابرة للزمن، في قصيدة "الضليل" يقدم الشاعر رؤيته للحياة/للواقع من خلال مقطع مكثفة ومختزلة:
"قد تكون النهاية الآن بدءا
وتكون البداية الأمس وهما" ص20.
هذا التمازج/التداخل بين فكرة البداية والنهاية، له ارتباط بحالة الشاعر، فيبدو شكلا أنه في حيرة، لكنه في حقيقة الأمر يعمل على تحريك عقل المتلقي وأخذه إلى مكان يستطيع فيه رؤية الأحداث/الواقع بمنظور أبعد وأعمق مما يظهر على السطح.
"كل هذا الضياع وصف ضلالي
وضلالي بوصفه لا يسمى" ص21.
نلاحظ الفكرة ونقيضها يكمن في عين اللفظ "ضلالي/وضلالي، وصف/بوصفه" وأيضا من خلال "الضياع" فالعلاقة بين ضلالي والضياع تأخذنا إلى حجم الألم/القسوة التي يمر بها الشاعر.
"جسد الغيب يستثير الأدلاء
ولا ضوء يشرح الآن نجما" ص21.
المثير في هذه البيت، الفكرة والألفاظ التي جاء بها، فهو يأخذنا إلى العقل العربي الذي يرى/يجد نفسه في الماضي/الغائب، في التاريخ القديم، بينما واقعه الآن في الحضيض، وهذا الأمر ينطبق على الأدباء/الكتاب/الشعراء فهناك من يهتم بمن رحلوا وغابوا، فقط، ويهمل ـ الآن ـ الحاضرين، معتبرا أنهم ليسوا بذي قيمة.
هذا على صعيد الفكرة، أما على صعيد الألفاظ فنجد كثرة الألفاظ البيضاء: "الأدلاء، ضوء، يشرح، نجما" ورغم هذه الكثرة إلا أن السواد/القسوة تطغى وتهيمن من خلال الغيب، ولا" وهذا يوصل فكرة الجمال المفقود/المهمل/الضائع رغم كثيرته والذي تحتاج إلى إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع الماضي/الغائب والحاضر.
التجديد والحداثة
الديوان جاء من خلال خمسة أقسام: شك، ظلال، ذوات، تجريد، يقين" وبمجملها متعلقة بالطرح الصوفي والفلسفة، لكن في "تجريد" كان الطرح الفلسفي أكثر حضورا من غيره، يقول في "مطلق":
"الأمر ينساب انسياب السمكة.
هل كل شيء هالك في الكون
إلا الحركة؟" ص66.
هذا المقطع يقودنا إلى الفلسفة الماركسية ونظرتها للحركة التي تعتبرها من أسباب وجود الكون وما فيه من حياة، وبما أن هناك تغريب للآية القرآنية: "و تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)" سورة القصص، فهذا يمثل ذروة الحث على التفكير والبحث في المتناقضات، ما هو ديني وما هو مادي.
خاتمة الديوان
في القسم الأخير "يقين" يختم الشاعر رؤيته للحياة التي يراها بهذا الشكل، يقول في قصيدة "يجيء الحب":
"سريعا مثل إيقاع الزبائن
في مساءات المقاهي
يجيء الحب
من عينين حالمتين دوما لا تطيقان
المزج وتشهقان الآن شعرا" ص73و74.
اللافت في هذه المقطع وجود صيغة المثنى: "عينين، حالمتين، تطيقان، تشهقان" وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى ما يحمله العقل الباطن للشاعر الذي يرغب بالتقرب من الحبيبة، من هنا جاءت ألفاظ متعلقة بالسرعة وبالحركة: "سريعا، يجيء، دوما" للوصول إلى حالة الذروة من خلال التوحد/"شعرا" فهنا جمع الشاعر بين عنصرين من عناصر الفرح، المرأة/الحبيبة والكتابة/الشعر.
ويقول في قصيدة "يقين أعمى":
"يبدأ العمر كثيفا ومليئا بالنوايا
ومع الوقت سوى عينيك
لا يبقى يقين" ص77.
نلاحظ اهتمام الشاعر بالمرأة، فهي الملاذ الذي يلجأ له، لهذا غيب الزمن والأحداث وأبقى "عينيك" اللتان ستخرجانه من الظلامات إلى النور.
الديوان من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2022.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: -أكفان كروننبرغ- على البساط الأحمر


.. فنان أمريكي يُصدر أغنية بصوته من جديد بعد أن فقد صوته بسبب س




.. -الكل يحب تودا- فيلم لنبيل عيوش يعالج معاناة الشيخات في المغ


.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل




.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة