الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من لم يرى البصرة، فانه لم يرى العراق

سردار عبد الله

2006 / 12 / 8
الادب والفن


"من لم يرى البصرة، فانه لم يرى العراق"!
حين كنا في المرحلة المتوسطة، كنا نقرأ موضوعا مدرسياً اسمه "من لم يرى البصرة، فانه لم يرى العراق". لقد كان هذا العنوان مبعث سؤال بالنسبة لي: "لماذا ان من لم يرى البصرة كأنه لم يرى العراق اصلاً؟". ان هذا العنوان كان مبعث حزن وتفكير بالنسبة لي! لانه لم اكن في وقتها قد رأيت لا البصرة فحسب، بل العديد من الاقضية والنواحي التابعة للسليمانية! كان سبب ذلك هو الحرب وسياسة الحصار التي فرضتها الحكومة القومية البعثية على المناطق الناطقة بالكردية.
احسست دوما ان هناك سجن كبير اقبع فيه، يحد هذا السجن الشارع الستيني الذي يحيط السليمانية، وان هذا الشارع جعل من السليمانية سجن باستيل. لقد قتل الكثيرين او اودعوا دهاليز السجون لا لشيء الالعبورهم هذا الشارع. كيف لامرء ان يستطيع السفر الى البصرة. لم افهم اسرار هذه المدينة الاسطورية. كم كنت محظوظا لو كان لي اقارب او معارف هناك، وبحجتهم ازور البصرة. كم هم محظوظين اناس تلك المدينة. كيف وكم من مسرات قد امنها الخليج لهم! كنت اعلم ان اناسها يركبون امواج الخليج سياحة من اجل متعتهم وصفاء اوقاتهم، وان اجمل شمس ساطعة يمكن رؤيتها من على وجه ماءه. يشاهد اناسها مد البحر وجزره.
ماذا سيحصل لورايت البصرة ولو لمرة واحدة؛ حتى انهض بفخر عند قراءة هذا الدرس واقول لمعلمي وزملائي الطلاب الذين لم يروا البصرة مثلي: "نعم، اني رايت البصرة، نعم.... ولهذا فاني رايت العراق كله". انه لامر يبعث على الخجل ان يكون سائحاً قد راى العراق اكثر من العراقيين!"
انقضت سنوات حتى تحقق حلم رؤية البصرة بالنسبة لي ولاؤلئك الذي كتب الدرس ذنباً على جبينهم وذلك لاننا لم نرى العراق!
لقد تحقق هذا الحلم، ولكن كيف تحقق! تحقق حين اسفنا على رؤيته؛ ليس ثمة من يرغب برؤية البصرة والعراق على هذا النحو! كان سفراً قسرياً وبالبزة العسكرية، كان السفر الاخير للكثير من المسافرين، سفرة ايام العمر الاخيرة! لم يعد الكثير من المسافرين، ولم يلحقوا قص احداث وذكريات سفرهم لاصدقائهم. كان من بين المسافرين زملاء مدرستي وصفي دون شك؛ وهم مثلي كذلك عشاق سفر ورؤية الامواج البحر المتلألئة!
لقد دفعت حرب الخليج بجميع العراقيين صوب البصرة. لم تجعلنا نرى البصرة وحسب، بل رؤية تلك الحدود المترامية والكويت ايضاً! ربما ان هذه الحرب قد اعدت لتلبية رغبة قلوب زملاء صفي الدراسي من اجل رؤية البصرة، وبالتالي رؤية كل العراق!
لم تكن رؤية البصرة تعني رؤية العراق فحسب، بل كانت تعني رؤية الكويت، كانت تعني تيه الناس في العراق وتدمير بلد جار، وهو الامر الذي لم يقصه علينا مدرس الصف!
في البصرة، ان شرب الماء "الحلو" هو حق الاغنياء والمالكين، اما المالح منه فنصيب المحرومين؛ ولقد ذقت طعم هذا الماء اول مرة في عمري هناك؛ وهناك رايت اناس "حلوي الدم" قد ترعرعوا على شرب الماء المالح؛ ومن هناك علمت ان الماء المالح يقد الانسان حلو الروح!
ان ايام الزبير تلك لن تمحى من الذاكرة، وكيف ان كلاب الزبير السائبة قد اكلت حصانا جراء جوعها واملاقها؛ وذاك العامل الليلي لبدالة الزبير تعيس الحظ الذي يطلق عليه كلمة "عبد" لا لشيء الا لكون بشرته سوداء!، احتقرت في وقتها نفسي وبياض بشرتي! وذلك المعوز الذي لجأ الي في ليالي الجوع كي "ارحمه" بصمونة جيش يسد بها جوعه!
عبد الزهرة، نموذج للانسان الهاديء وطيب القلب والروح، كان انساناً محتجاً على الوضع؛ جلب لي في الكثير من الايام طعاماً من بيته.
اما ابو زينب، ورغم كونه ضابط في الجيش، الا ان بوسع المرء ان يلحظ بسهولة عمق حقده على نظام البعث؛ تراه يتحدث كثيراً عن دمار البلد على يد البعثيين، كان يزور باستمرار المقبرة القديمة من بدالة الزبير.
لم يفارقني حزن رؤية بشرى للمرة الاخيرة. اذ اتت اخر يوم من "تطبيقي" في بدالة الزبير مرتدية عباءة ومفعمة برغبة في رؤيتي؛ لم تنل مبتغاها؛ ذلك اني عدت الى الكويت!
البصرة، ومن ايام السياب، حرمها البعثيون من البسمة، تيبست النخيل الباسقة لغابات محاذية للبحر جراء الجفاف!
البصرة بحد ذاتها تنطق بقصة هم بلد وشجنه، هم تحليق حمامات ساخطة على سماء ملوثة بكاربون محروقات النفط، شجن سماك ميتة، هم الخبز واحتجاجات عمال النفط والموانيء، شجن اطفال الشوارع، لوعة الام الحزينة والمتشحة بالسواد وهم عروس فقدت زوجها، هم باعة الارصفة و...
وبسبب رؤية البصرة، مررت قسراً بالعديد من الاماكن، ورايت العديد من المناطق. وانها ترسف جميعا مثل البصرة بهم الخبز والماء والكهرباء. ان اناس جميع هذه المناطق يسعون كالبصريين نحو حياة اخرى.
منذ ذلك اليوم، ادركت ان جميع اشكال حياة الناس في العراق تتجسد من حيث جمالها وتعاستها بالبصرة. منذ ذلك اليوم ادركت معنى ان رؤية البصرة تعني رؤية العراق كله! منذئذ لم ارى زملائي في الصف، وتفارقنا عن بعض، ويبدو اننا حتى لونظرنا للبعض لن نعرف بعضنا البعض. كانت تضغط علي رغبة رؤيتهم وسؤالهم حتى اعرف كيف يفكر اؤلئك الذين رأوا البصرة وماذا يقولون؟ واخفف من وطأة حسرة اؤلئك الذين لم يروها واقول لهم:"لاتحزنوا على عدم رؤية البصرة! ان من راى السليمانية كانه راى البصرة ورأى العراق كله"!

ترجمة: فارس م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي.. ريتشارد غير، أوما ثيرمان وإيما ستون ع


.. ترامب يعود للمحكمة في قضية شراء صمت الممثلة الإباحية




.. المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان


.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير




.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام