الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذئب البراري 1974: وحدة الوجود

بلال سمير الصدّر

2024 / 5 / 10
الادب والفن


ذئب البراري هي أحد روايات هيرمان هسة اللامعة وهو الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1946،وبالذات عن رواية (لعبة الكريات الزجاجية)،وهي رواية موسوعية وضع فيها تفصيلا لكل أفكاره الماضية،وتفصيلا أيضا عن رؤية للحياة،وكيف صاغ كل تلك التجارب في الحياة من وجهة نظر خاصة،بل خاصة جدا،وهنا نحن امام فيلم يحاول ان يقدم رؤية سردية مصورة لأحد اصعب روايات هيرمان هسة تصويرا على الشاشة،وفي الرواية هناك تعقيد واضح للحبكة إذا قيست من ناحية نفسية أو كافكاوية أو فنتازية،ولكن كل هذه الحبكة سوف تتكسر عندما يبدأ هيرمان هسة بتوضيح ما اراد ان يقوله شيئا فشيئا،فذئب البراري هي رواية عن الوحدة وليس عن الانفصام, فالمتناقضات ليست مضادة للوحدة عند هيرمان هسة،بل التناقض هو اساس الوحدة،ولن يعيش الانسان في وئام وتصالح مع النفس أولا،ومن ثم المجتمع قبل ان يحقق التوازن والتواءم والتناغم بين كل متناقضات النفس التي هي بالاساس ليست مستقلة عن النفس،وهي ليست من قبل مؤثر خارجي بل هي من مقتضيات النفس ذاتها...
بالنسبة لهيرمان هسة،فالعالم الصوفي الذي ينادي به،ليس عالم اطفاء الرغبات أو التغلب عليه،وهو الاسلوب التقليدي لتجلية النفس وصفائها،بل الصفاء الصوفي عند هسة هو تحقيق التوازن بين كل رغبات النفس،واول هذا التوازن هو الاشباع العاطفي والغريزي للمتناقضات،مما يجعل عالم النفس متوازنا غير معرض للاقصاء،وعند الوقوف على قمة هرم التناقضات يحدث التوافق والتناغم (الموسيقي) بين كل وجوه النفس وهو الأمر الذي يحدث الصفاء في النفس.
ومشكلة ذئب البراري أنه عاش ضمن وجه واحد للنفس،ذلك الوجه الذي يمجد الفكر والفلسفة والموسيقى،مما جعل المتناقضات الاخرى تعمل على ردة فعل ضد انحسارها وهو الأمر الذي أكسب ذئب البراري السوداوية.
وعند تحقيق التوازن بين كل الرغبات نشعر بالوحدة مع الآخر،وبأن الآخر ليس سوى انعكاس لرغباتنا نحن،فالسردية الكبرى الانسانية هي متشابهة تماما إذا اقصينا عنصر الاقصاء.
والأمر يتعدى الشعور بالمواساة الى الانعكاس،بحيث ان الذات سوف تصبح ليس الا انعكاسا طبيعيا حقيقيا للآخر،وطبعا ستقود هذه المقدمة الى وحدة الوجود.
هذا الملخص،هو ملخص لأفكار هيرمان هسة،وهو تقريبا ما قاله في كل رواياته،مع تكرار واضح،في سدهارتا ودميان ولعبة الكرات الزجاجية وذئب البراري،وتتفوق عليهم ذئب البراري لتعظيمها الشكلي لمبدأ التحليل النفسي،ولكنها في المحصلة وفكريا لاتختلف عن رواياته المذكورة أعلاه.
الذي يلعب دور البطولة في الفيلم (ماكس فون سيدو)،وهو وجه غني عن التعريف،وهو من كتابة واخراج Fred Hains
لنبدأ من حيث بدأ الفيلم،حديث ذئب البراري مع ذاته:
لقد مر اليوم مثل مرور أي يوم آخر
لقد قتلته بانسجام باسلوبي البنائي والانسحابي من الحياة،قليل من الافيون والاستلقاء في حمام ساخن لمدة ساعتين،وكنت سعيدا عندما اصبح الألم على وشك الاختفاء،وعلى كل حال فهو بالتأكيد لم يكن يوما للنشوة،وعندما توقف الألم كنت راضيا،ولكن ذلك الرضى مليء بالاشمئزاز،فأنا مع اليأس أختفي من مناطق أخرى تشكل امكانية الطريق الى البهجة...
هناك حادث مميت أثناء الحلاقة.....موس الحلاقة استخدم كمقدمة واعية للانتحار
هناك طريق طبيعي( (wild) يهتاج في داخله للتدمير والاحراق
ومن معطيات ذاته،اوهامه،تخيلاته،انقساماته المألوفة يظهر المعطى الاستراتيجي أو العنصر الذي ينظر فيه الى نفسه،ونحن ننظر اليه أيضا بنفس هذه الطريقة:
مدخل:للمجانين فقط
الانقسام المألوف هو تعبير ينافي الشيزوفرينيا التي يعتقد هيد هيلر بانه يعاني منها،ولكن هيرمان هسة أراد أن يبرز هذا الانقسام الذي سيودي بصاحبه الى الجنون في حال رفض صاحبه الاعتراف بالتناقض الآخر،أو تهميش وجوه التفس الاخرى والتي يسعى كل انسان هو الآخر الى تهميشها،وفوق معضلة الدكتور جيكل والسيد هايد،من الممكن القول بتحفظ أن ذئب البراري –كنموذج وليس كحالة خاصة-يعاني شيئا من كبت فرويد.
احد انواع عصاب الاكتئاب،ولكن الحالة الابرز بأنه يعاني من الكبت الفرويدي الذي نعتقد بانه لم يكن مقصود هيرمان هسة ابرازه،بل توجيهه وتوجيه القارئ نحو تلك الاندفاعات للنفس التي بالتأكيد تعاني من التهميش...
هو يعاني من توهمات،وكان من المتوقع ان تقوده هذه التوهمات الى الجنون أكثر وأكثر كحالة طبيعية،ولكن هذه التوهمات لن تقوده سوى الى التحرر من مآسي الذات.
هناك شخص من وحي خياله يلقي بالمنشورالتالي:
مسارات ذئب البراري
ذات مرة كان هناك رجل يدعى هاري وكا كائنا بشريا،ومع ذلك كان ذئب البراري في طفولته جامحا وغير مطيع وغير منضبط،واعلن الذين اشرفوا على تنشئته حرب الانقراض على الوحش الذي في داخله،وهذا بالضبط ما اعطاه فكرة انه كان حقا وحشا مع قشرة تعيقه فقط عن الانسان.
المنشور يروي حكاية وكانها قصة مصورة قصيرة...
إذا كان لدى هاري أفكارا جميلة أو شعر بمشاعر طيبة ونبيلة ضحك ذئب البراري بازدراء مدبر...كان يعرف جيدا ما الذي يناسبه؟!
ولكن عندما تصرف هاري كذئب،كان الجزء البشري يهاجم من مكمن،واطلق عليه لقب الغاشم أو الوحش وأفسد كل المتعة...
لايمكن الانكار بأنه كان غير سعيد،وبالضبط كان قادرا على جعل من حوله غير سعيد ايضا
لأنه كان دائما يحمل شخصيته المزدوجة المنقسمة في مصائر الآخرين،ومع ذلك كان يهاجم بسرية واصرار:العالم البرجوازي
لابد من التعليق والقول:بان الفيلم والرواية ليست ابدا عن انقسام الشخصية...ليست رواية عن القرين أو ماشابه كما توحي للوهلة الأولى ومن خلال أيضا الاقتباس أعلاه،والنقطة السلبية التي لابد من ابرازها بأنه لايمكن فهم الفيلم بدون قراءة الرواية،فالفيلم هو احد انواع الافلام التي تقتبس الادب بحرفية،والذي هو مشكل جدا على المشاهد العادي،دعونا نقول غير المهتم بالأدب أصلا...
لنتابع من حيث توقفنا:مع ذلك كان يهاجم بسرية واصرار العالم البرجوازي
يرتدون ملابس محترمة ولديهم ارصدة في البنوك ويدعمون العلاقات السطحية
كان قادرا على حب المجرمين السياسيين،أو الذين يقدمون الغواية الفكرية،ولكن بالنسبة للسرقة أو للقتل أو الاغتصاب لم يكن يمتلك المعرفة:كيف يشفق عليهم؟!
والآن ما ندعوه بالبرجوازية،كمبدأ للوجود البشري فهي ليست أقل من البحث عن التوازن
أنه في وسط الطريق الذي يسعى البرجوازي الى السير عليها
دائما على استعداد للتوصل حل وسط بين الحق والباطل،بين الخير والشر
هيرمان هسة يطلق أفضل وصف على الطبقة البرجوازية:
الطبقة البرجوازية هي الطبقة التي هي دائما على استعداد للتوصل الى حل وسط بين الحق والباطل وبين الخير والشر
لنتابع:فهو لم يستسلم أبدا الى استشهاد الروح أو استشهاد الجسد
وهنا،الصورة في الكتاب المصور تقول:
هو يجلس في وسط الطريق بين الشهوانية العارمة،والرغبات التي تدعى بالمنحطة والقداسة العليا
هو يجلس بصورته ويسير في منتصف الطريق
ومع ازدرائه للبرجوازية فهو يعتبر نفسه أسير للبرجوازية ولا يمكن الهرب منها
وهنا التعليق لنا:كوصف للطبقة البرجوازية،فهو لايدل سوى على انها طبقة منافقة،ولكننا لانعرف ان كان هسة يمدح الطبقة البرجوازية،فهذا الطريق الوسط-حسب تعبيره-الذي تسير فيه البرجوازية،هو ان لم يكن حلا للمتناقضات داخل الانسان،لكن من الممكن اعتباره مقدمة لحل،او لحل وسط كافضل تشبيه وتعبير،ولكن مشكلة ذئب البراري بأنه لايقبل أبدا أي نوع من الحلول الوسط.
لنتابع الاقتباس:استخدم هيلر لفظ الخارجون عن القانون للتعبير عن البشر بالعام(العامة-الغوغاء):
البشر لديهم روحان وكينونتان،الاله والشيطان في دواخلهم
وهؤلاء البشر الذين ليس في حياتهم اي نوع من الراحة يعيشون دقائقهم النادرة من السعادة بتلك القوة والجمال اللذان لا يوصفان.
رذاذ نشوتهم اللحظية تم قذفه عاليا فوق بحر واسع من المعاناة والتي نورها واشعاعاتها تمس الآخرين بسحرها.
الصورة:انشقاق عقلي جسدي:الرأس ينقسم الى قسمين
ولكن القوة الوحيدة التي لم تعارض طريقهم في فضاء الطبقة الرجوازية هي الوصول الى الكونية
لم يكن هناك رجل ذو شغف عميق واكثر هاجسا للاستقلالية من هاري...لم يبع نفسه أبدا للمال،|او للحياة السهلة أو للنساء أو اولئك الذين في السلطة،لمئات المرات حرم نفسه من مميزات السعادة من اجل الحفاظ على حريته،ولكن في أواسط حريته أدرك هاري عرضيا بأن حريته كانت هي الموت...لذلك كان يقف وحيدا
في النهاية،في عمر السابعة والاربعين،أو العمر القريب منه فكر في السعادة لكن غير المؤذية قدمت اليه حيث كان في العادة يستمد بعضا من التسلية وهو حدد عيد ميلاده الخمسين باليوم الذي سيغادر به العالم..
هذا المونولوج،هو مونولوج تشكيلي للدخول الى عالم الرواية،وهذه الجمل كانت روائية مقتبسة لابد من الرواية نفسها حرفيا،ومع استخدام الرسم المصور وصيغة الراوي...فهل نقبل هذه الطريقة للدخول الى عالم الرواية...؟!
بالتأكيد هناك فجوة تعبيرية بين الفيلم والرواية
هناك جمل:أنت قلق من حكمة الخلود
أنت قلق من المسرح السحري للذات
وهناك انتقاد كبير للشكل المنحوت به تمثال غوته من قبل الطبقة الرجوازية(الشكل)
لا استطيع الاستمرار:الشخصيات تنبعث من داخله وتقول ما في داخله بطريقة مجنونة وضحك مجنون،وهناك خيط رفيع جدا بين الواقع والمتخيل،بين الداخلي والخارجي وكل هذا هو انبعاث مسرح الذات،ومن هذا الانتقاد الشديد الحاد لتمتثال غوته،تجري محادثة حلمية بين هاري وغوته يؤكد فيها غوته على ان الاشكال هي مجرد وحدة،فالاشكال هي مجرد انبعاث لذات واحدة او عدة ذوات في الحقيقة متطابقة من دون اي حيز أو هامش في الاختلاف.
مسرح الذات يقوده الى التعرف الى هيرمينا التي هي ليست سوى انعكاس شكلي قديم لصديقه هيرمن...هيرمن كان صديقه الوحيد في المعبد اللاهوتي الذي نشآ فيه وكرهاه معا.
وتجعله ايضا يعود الى الماضي لقبول الذات على علاتها حين كانت الحياة تضفي الجمال على العلة
روز كيسلر:حبي الأول....كنا في وقتها في 14 عاما فقط
وصورة ايريكا...حبي الغاضب الفقير
روزا وايريكا ليستا سوى كبح الذئب وقبول الأنا الحسية،لكن الحسية هنا مضفي عليها نوعا من الشاعرية التي تدعى بالحب،وهنا هيرمينا ليست جزءا كارثيا من ذاته،بل هي الجزء الذي يرغب بتحقيق التوازن...أنها تقوده الى العالم الحسي للاعتراف والقبول،وهناك يتعرف ايضا على بابلو عازف الجاز الذي هو في حقيقته ليس الا مودزارت،كما انه يحصل على ماريا التي هي هبة الجسد.
هاري هيلر ليس انقساما من سدهارتا،بل هو التطابق بين الذوات التي ينادي بها هيرمن هسة في كل مكان،فهاري في حقيقته ليس سوى سدهارتا والعكس صحيح...
الحس،الجنس،أو الوقوع في الحب،ماريا هبة الجسد،الانحطاط الاخلاقي بهدف الاعتراف لا التمرد،كل ذلك هو قضية ذاتية شخصية أو ربما اكثر من ذلك هي احد الحالات الصوفية-وليس التجلي الصوفي-للتآلف مع الذات...ولكن:
هيرمان هسة ليس من مؤيدي الدكتور جيكل،ولكنه في صف قبول السيد هايد باندفاعات الدكتور جيكل وتجربتها،لأنه بدون التجربة تبقى الأنا المعبرة عن الرغبة...أي رغبة...معلقة
التوازن،او تحقيق التوازن عند هيرمان هسة ربما قد يقود الى انهيار اخلاقي؟!
لكن،اليس هناك من تحفظ،أي تحفظ من استخراج الرغبات الدفينة غير المقبولة في الكثير من الاحيان اجتماعيا وفرديا المهمشة في اللاوعي والتي تضرب بشدة في الوعي؟
كيف نستطيع ان نوازن بين الجزء المقبول والجزء غير المقبول ...؟
بين جزء مقبول بالامكان وجزء مقبول في اللاامكان...؟
نهاية الفيلم تكون مع مسرح الذات،مع كل قوالب الذات،مع كل تلك الوجوه والمتناقضات التي هي في كل حال من الاحوال ليست إلا جزءا واحدا...
فيلم ذئب البراري 1974،يبدو باهتا جدا أمام الاقتباس الأدبي،واستحالة فهم الفيلم دون الاطلاع على النص الأديي جعل من توليفة الأدب والسينما تعود الى الواجهة من جديد...
انه شيء أقل بكثير من روعة وخلود بيرغمان،واقل حدة وتصريحا من ماركو فيري،كما ان الصياغة العامة للفيلم جعلت من المستحيل التصديق أن الفيلم صوفي،او على الأقل ذو نزعة صوفية تنادي بوحدة الذات من خلال التناغم والتآلف،وربما قد تنادي بوحدة الوجود أيضا.
9/12/2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ