الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرام في المقهى

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2024 / 5 / 10
الادب والفن


من كتاب بعنوان: غرام في المقهى _ حكايات

الحكاية الرابعة

أصبحت تستيقظ كل صباح بمزاج غريب. كنت تقضي الليل في التفكير، أفكار، أفكار، بحر هائج من الأفكار تتلاطم أمواجه بصخب في داخلك. وحتى تهرب من جحيم تلك الأفكار أخذت تذهب إلى مقهى البحر مع الفجر. يريحك شحوب الصباح، وشارع البحر المهجور، وتلك الطيور التي تحلق في الفضاء الشاحب، كما تريحك أمواج البحر التي تصخب مثل أفكارك.
كنت تحب أن تمشي على رمال الشاطئ، تلاعب بعينيك الأمواج الصاخبة وطيور البحر، ولمحت وأنت تلاعب طائر بحر زجاجة، وأدهشك أن في داخلها رسالة. كنت قد قرأت كثيراً في القصص والحكايات عن العشاق الذين يرسلون رسائل في زجاجات عبر أمواج البحر، لكنك لم تتوقع أبداً أن تجد رسالة في زجاجة على شاطئ مدينتك الساحلية الصغيرة. تحمل الزجاجة وتتابع طريقك صوب مقهى البحر. في المقهى تخرج الرسالة من الزجاجة، يعجبك شكل الزجاجة على شكل حورية بحر. تطلب فنجان قهوة، وتشعل سيكارة، وتقرأ:
في المتاهة عرفتك وكان الوقت قد تأخر. وحين التقيت بك ذلك المساء الخريفي الغريب كان الوقت مبكراً جداً. في متاهتي، عرفت أن ذلك الشاب الغريب بوجهه الشاحب من صقيع الرياح العاصفة، والذي كان يرتدي معطفاً أعتق من الدهر بلونه الرمادي، وما زلت أتذكر وقت تقدمت مني بارتباك وقلت، وكأنك كنت تنتظرني: لم يبق أماكن فارغة في صالة المسرح. هل كنت تعرف أن صالة المسرح سوف تحترق، أو أنك قرأت الخبر مثلي في جرائد الصباح. حين علمت بحريق الصالة عرفت إنك لم تكن تبحث عن مغامرة عابرة، ولكنك كنت تبعدني عن كارثة. هل كان القدر هو الذي وضعك في طريقي، لماذا لم يضعك في طريقي مرة أخرى وقت وقعت في متاهتي، فأنا أيضاً وجدت نفسي في غابة كثيفة مظلمة في منتصف حياتي. لقد فكرت بك كثيراً في تلك المتاهة، لقد أخفتني ذلك المساء، في عينيك شيء ما أخافني، لا أعرف ما هو، ولطالما فكرت فيه دون أن أعرف. لقد سألت نفسي حتى التلاشي لماذا تخليت عنك. ثم وجدت أنني ربما كنت بحاجة إلى هذه المتاهة حتى أعرف قيمتك، لقد عرتني المتاهة أمام نفسي، ولقد عرفتك وقت عرفت نفسي، لكن يبدو أن الوقت تأخر، ولكن هل تأخر الوقت حقاً، لا أعرف وما اعرفه هو إنني في المتاهة، وأرسل هذه الرسالة حتى تنقذني من متاهتي، كما أنقذتني من حريق الصالة. أنت تعرف أين تجدني، وفي أعماقي أعرف أنك لن تتأخر لأنك سوف تدرك أن محنتي أصبحت محنتك، وإذا ما ظل في قلبك شيء من نفسي يمكنك أن تنقذ نفسك أيضاً.
تبتسم بحزن، لقد اخترت أن تعيش وحيداً كرصيف مهجور، تحلم بامرأة تمشي إلى جانبك، وتشعرك لمسة يديها بالسعادة. لكن حياتك كانت موحشة، موحشة، وتتمنى، وأنت تشعر بالأسى على نفسك، لو أنك كنت ذلك الرجل الموجهة إليه رسالة زجاجة البحر، وأن تلك الرسالة كانت مرسلة حتى تنقذك من توحش حياتك الكئيبة. وتقول لنفسك بأسى: لا جدوى، لا جدوى. تعيد الرسالة إلى الزجاجة التي تشبه حورية البحر. تغلق الزجاجة بإحكام وتنهض، والزجاجة في يدك، وتتجه صوب البحر.







الحكاية العاشرة

لقد حدث شيء غريب. تخيلت أنها ستدخل من باب مقهى البحر، ثم سوف تتوجه إلى طاولتك وتقول: إنني في خطر. وهذا ما حصل تماماً، فقد دخلت تلك المرأة الشابة من باب المقهى، دخلت وكأنها تدخل إلى ملجأ، كان واضحاً من الرعب الذي يرتسم على وجهها أنها تهرب من كارثة. اتجهت المرأة الشابة إلى طاولتك وجلست. كانت تتنفس بألم، وتنهدت بحرقة ونظرت صوبك بنظرة يائسة. أشعلت سيكارة وراحت تدخن بعصبية، ثم مع الوقت بدأ تنهدها يهدأ، وقالت: إنني في خطر.
قلت: خطر؟!
قالت: إنه يطاردني.
قلت: يطاردك؟!
قالت: أنت تردد ما أقول، عليك حمايتي.
قلت: حمايتك؟!
وانفجرت في وجهك وتقول: سوف يقتلني.
قلت: يقتلك؟!
قالت بيأس: أنا خائفة.
وعدت إلى نفسك، وفكرت في نفسك أنك لا تعرف كيف تساعدها، ففي محنتك لم تقدر أن تساعد نفسك، ولا تعرف لماذا قلت: لا تخافي.
قالت: ألا يمكن أن نبتعد عن النافذة؟
قلت: لن يراك.
قالت: هل شعرت بالخوف يوماً؟
قلت: أنا الخوف ذاته.
وابتسمت المرأة الشابة بحزن عميق، وأردفت: سوف تعرفين كيف تتعاملي مع الخوف.
قالت: لهذا أرسلني القدر إليك، لأنك تتعرف كيف تتعامل مع الخوف.
قلت: زهورات؟
قالت: أريد قهوة.
قلت: من أجل أعصابك.
قالت: آه، لم يعد هناك أعصاب.
قلت: ماذا يريد؟
قالت: الانتقام.
قلت: لماذا؟
قالت: هربت منه في ليلة العرس.
قلت: هل تهرب عروس في ليلة عرسها؟
تنهدت بألم، ثم قالت: لم أجد معه حلمي، وفي ليلة العرس قلبت حياتي، وعرفت أن حياتي لن تكون معه، وقلت أنقذ نفسي. أعرف إنني تأخرت، ولكن كان يجب أن أفعل ما فعلت.
صمت، وحدقت بوجه المرأة الشابة. لا تعرف ماذا رأت المرأة الشابة في عينيك، ولكنها أردفت: سوف تحميني؟
ولا تعرف لماذا قلت: سوف أحميك.
قالت: ولكنني خائفة، كيف يمكن أن أهرب منه؟
قلت: بأن لا تهربي.
قالت: أنت تمزح؟
قلت: لست أمزح.
قالت: وماذا يمكنني أن أفعل؟
قلت: لا تفعلي أي شيء.
رأيت رجلاً، وكأنه قرد هائج، من الجدار الزجاجي، ثم وجدته يدخل إلى المقهى. ولقد عرفت المرأة الشابة بغريزة الأنثى أنه الذي يريدها. وتوتر جسدها، وغامت عيناها السوداوين. أمسكت يد المرأة الشابة الناعمة بيدك الجافة، وارتعش جسدها. لقد تورد وجهها رغم خوفها. كانت عيني الرجل تدوران في المقهى، توقفت عليكما طويلاً، كان وجهك في وجهه، وكان وجه المرأة الشابة في وجهك، كانت في متاهة من الرعب، وكان في حيرة قاتلة، لا بد أنها بدت له غريبة، وكأنها من عالم آخر. رأيت الخيبة في وجهه، رأيته يتقدم منك، ويقف خلف المرأة الشابة التي دفنت وجهها في الطاولة، ويصرخ في وجهك بغضب: لماذا تحدق بي؟
قلت: لست أحدق بك.
وانفجر غاضباً مرة أخرى: أنت لا تعرف ماذا يمكن أن أفعل إذا غضبت.
قلت: لقد عرفت.
قال: لا، لم تعرف. لكنك في برج سعدك، فلدي عمل أهم من عملي معك، ولكني سوف أعود مرة أخرى من أجلك.
ابتلعت الشجاعة وقلت: سوف تجدني في المقهى.
ثم أدار ظهره وغادر المقهى. رفعت المرأة الشابة وجهها الذي دفنته في الطاولة، ورأيت الرعب في عينيها الرماديتين الصغيرتين، وقلت: إنه يرحل.
قالت: كانت يده على كتفي، ولم يرني.
قلت: إنه الغضب.
ثم أردفت: في يوم ما سوف يقتله غضبه.
ونظرت المرأة الشابة صوبك، كان الخوف ما يزال في عينيها الرماديتين الصغيرتين. كانت امرأة شابة مسكونة بالألم والحزن، ابتسمت بأسى وقالت: كأنه لم يعرفني.
قالت: رغم أن محنتك ليست محنتي فقد ورطك في محنتي.
قلت: محنة الإنسان الحياة.
قالت المرأة: يبدو إنه يطلبني بجنون.
قلت: إنني مزدحم بأشباح تطاردني بجنون أيضاً، ولكن ما يزعجني أن تلك الأشباح أصبحت داخلي.
ثم أردفت: لا تحطمي نفسك.
قالت: غريب، كأنه لم يعرفني.
قلت: إنه مقهى مسحور.
ضحكت المرأة الشابة وقالت: أنت الساحر.
قلت: انتهى الخوف، فقد غادر المقهى.
قالت: الخوف لا ينتهي، يذهب ويعود ودائماً يترك ألماً عميقاً.
شعرت أنها تريد أن تتكلم عن حياتها، ربما حتى تشعرك بالثقة صوبها. لم تردها أن تتكلم عن حياتها، فأنت كنت تنزعج من نفسك كلما تكلمت عن حياتك. وقلت: الحياة لم تنصف أحداً.
ثم أردفت: إليك نصيحة رجل عجوز، لا تتكلمي عن حياتك أبداً وخاصة قدام غريب.
قالت: أشعر أنك لست غريباً.
قلت: كلنا غرباء.
قالت: عن ماذا أتكلم؟
قلت: عن الصمت.
وضحكت المرأة الشابة، كانت ضحكتها صافية، فقد زال الرعب من داخلها وقت غاب الرجل، وقالت: الصمت.
قلت: دائماً كنت أنزعج بعد الكلام عن حياتي.
ثم أردفت: لا أقدر أن أصمت، أريد أن أتكلم.
قلت: تكلمي عن الحب.
تنهدت المرأة الشابة وقالت: الحب.
قلت: ماذا تحبين؟
قالت: أحب نفسي، لكنني لا أكره الآخرين.
ابتسمت بحزن، لم تحب نفسك أبداً ولكنك أيضاً لم تكره الآخرين. حياتك كانت دائماً موحشة لأنك لم تحب نفسك، ولأنك لا تحب نفسك أصبحت لا شيء، وآه كم هو مزعج أن يكون الإنسان لا شيء، تصبح الحياة لا شيء، البحر لا شيء، الرياح لا شيء، الأشجار لا شيء، الشوارع لا شيء، المدن لا شيء، كل شيء يصبح لا شيء. والجحيم هو أن يعيش الإنسان في اللاشيء. قالت المرأة الشابة، وكانت يدها ما تزال في يدك: أنت لست لا شيء.
قلت: لقد خفت، والخوف رعشة إنسانية.
قالت: لقد خفت على حياتي، ولكنك لم تخف على حياتك. هل تعرف، وقت جلست على الكرسي في مواجهتك رأيت في عينيك الهاوية، وقلت لنفسي هذا قريني.
قلت: أنت رأيت الهاوية التي في داخلي، وأريدك أن تعرفي إنني لا أخاف تلك الهاوية التي أحملها في داخلي لأنني تعودت عليها.
أحضر عامل المقهى فنجان القهوة للمرأة الشابة. طلبت فنجان قهوة آخر لنفسك. تركت يدها، ونظرت صوب البحر. لقد هربت من نفسك كما هربت من الآخرين. فكرت أيضاً أنك ربما لم تعرف الحياة لأنك لم تعرف الحب. لقد هربت من الحياة كما هربت من تلك الأشباح التي تطاردك، ثم هربت من الحب أو هرب الحب منك، إن في داخلك خراباً ووحشة، وأنك لم تعد تقدر أن تبتعد عن الوحدة. ووجدت نفسك تقول: التقينا غريبين، ونفترق غريبين.
قالت: يزعجني أن يكون في داخلك كل ذلك الحزن، ولن نكون غريبين أبداً.
قلت: لن تكون هناك مرة أخرى.
قالت: لماذا أنت في هذا اليأس، وكأنك تريد أن تحطم نفسك؟
ثم حدقت المرأة الشابة في وجهك، وفجأة أردفت: أنت تحبني.
قلت: لا أقدر أن أحب أحداً.
قالت: أنت تحبني، أنت تحبني. كثير من الرجال أمطروني بكلمات الحب ولكنهم كانوا يرغبون بمتعة عابرة، لكنني أعرف أنك تحبني، هذا كلام الصمت الذي في داخلك.
قلت: جسدي لن يفرحك.
قالت المرأة الشابة: ليس فرح الجسد ما أسعى إليه، أسعى إلى فرح الروح.
قلت: روحي خراب أيضاً.
قالت: أنت لا تعرف ما بداخلك، من يلمسك يمتلئ بالخلود.
قلت: لا يأتي الخلود مع الخوف.
ابتسمت المرأة وقالت: الخلود أن نصنع حياة، مع الخوف.
ابتسمت أيضاً، لكن بحزن، كنت تعرف أنه لم يكتب لك أن تصنع سوى اللاشيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ