الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيا بنا نَكْذب

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 5 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


منذ عدة عقود وعدنا المنقلبون الثوريون بتحريرنا من المستعمرين، تحديث مجتمعاتنا التقليدية، تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، وتفجير ثورة تصنيعية عملاقة تُغنينا عن منتجات الإمبرياليين عبر استغلال موادنا الأولية وثرواتنا الطبيعية المنهوبة بأبخس الأسعار. كان من أثمان هذا الوعد التحديثي التحريري الجارف والعميق أن يصمت أي صوت أو وعد آخر يزعق في نقد أو مراجعة أو دحض أو دعوة إلى وجهة مغايرة. حتى ننتصر في معركة التحرر من ربقة الاستعمار الأجنبي ويصبح قرارنا الوطني بأيدينا، ونُحَدِّث مجتمعاتنا التقليدية المتخلفة إلى مصاف سائر الدول الوطنية الحديثة حول العالم، لا مجال لكلام أو حديث أو لغط أو حراك في اتجاه حرية الأفراد والمجتمع المدني والتعددية السياسية. كل ذلك فرعيات يمكن تأجيلها لحين معالجة الأصول. وإذا ما وجبت التضحية لا محالة بالنظر إلى الظروف القائمة، فالجماعة مُقدمة دائماً على الفرد، الذي يصبح حرياً به التضحية حتى بروحه لإنقاذ ورفعة جماعته.

في الحقيقة، قبلت المجتمعات العربية آنذاك عن بكرة أبيها بالصفقة الموعودة، وجابوا صحف ومنشورات وشوارع الأقطار العربية زاعقين، مؤيدين، مكبرين، مهللين ومصفقين وراقصين تأييداً للوعود الكبرى والناعقين باسمها. لا مانع من تأجيل الحرية والتعددية والاختلاف فيما بيننا إلى حين تحقق السيادة والحداثة الوطنية. وامتلأت صدور المواطنين إلى حد الانفجار بأحلام وردية لمستقبل أفضل، لم يجبنوا عن أن يدوسوا في سبيله كل ما قد يفتن عزيمتهم أو يزعزع إيمانهم- حتى لو وصل الأمر إلى التضحية-مؤقتاً- بكرامتهم البشرية كرجال ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

سنة بعد السنة، خطة بعد الخطة، ووعد بعد الآخر ونحن نتقهقر إلى الوراء- تحديداً إلى حقبة ما قبل الاستعمار! على مقاييس التنمية الاقتصادية وصل الحال اليوم بالدول العربية بعد الاستقلال إلى أسوأ مما كانت عليه تحت الاستعمار، لتقترب من أوضاعها المحلية المزرية قبل أن يهبط عليها المستعمرون الغربيون بوسائلهم ومناهجهم ونظرياتهم العلمية الحديثة. تحت الاستعمار، كان هناك شيء من الزراعة والصناعة والتحديث في وسائل ومنهجيات التنظيم والعمل والإنتاج؛ اليوم، بعد الاستقلال، لم يتبقى من ذلك شيئاً يُذكر. بل عدنا إلى اقتصاد الريع ومداخيل بيع المواد الخام والمنح والامتيازات للشركات الغربية والعالمية. لم يتحقق لا الاكتفاء الذاتي الغذائي، ولا الثورة التصنيعية الوطنية؛ بل أصبحنا لا نُنتج ولا نُصنِّع أي شيء ونستورد كل شيء تقريباً! ولأننا هكذا أصبحنا عالة على مجهودات الآخرين، المستعمرين السابقين أنفسهم، هل يصدق أحد أننا قد تحررنا منهم حقاً؟ لم نعد نستطيع مواصلة الحياة من دون مساعداتهم وإعاناتهم لنا في كل شيء، من لقمة العيش والدواء وصولاً إلى الحماية الأمنية والأسلحة التي ندافع بها عن أوطاننا!

لقد وعدتنا أنظمتنا الثورية بتحريرنا من الاستعمار الأوروبي، لكنها في الواقع ابتلتنا اليوم ليس بالأوربيين فقط، بل زادت عليهم الإيرانيين والأتراك والروس والأمريكيين والصينيين؛ أصبحنا مستعمرين من العالم بأسره! وقد ورثت أنظمتنا الوطنية من المستعمرين الحكم على دول مركزية شبه مستقرة وموحدة؛ اليوم معظم هذه الدول، بعد عقود من الاستقلال والسيادة الوطنية، عادت أدراجها إلى نفس أوضاعها المحلية المزرية قبل أن يستعمرها الغربيون ويرسمون لها حدودها الإقليمية- مقاطعات مشرذمة غارقة في التخلف المادي والمعنوي، تعيش على شفا المجاعة، وتُمَجِّد احتراب عرقي ومذهبي بلا غاية منطقية أو عاقبة محمودة. كيف وصلنا إلى هذا المصير؟ ومن أوصلنا؟

هل كَذَب علينا ثوارنا؟ أم الموضوع أكبر؟ وفق المؤشرات العالمية، أقطارنا تتذيل القوائم الدولية في كل شيء تقريباً عدا واحد فقط تتصدرها فيه- القمع. أنظمتنا تأتي في قائمة الأعلى قوة وتسليحاً وقمعاً نسبة إلى تعداد مواطنيها ومقدرات أوطانها. من أين تراكمت لديها كل هذه القوة غير المتناسبة بينما كانت الشعوب تزداد فقراً وهشاشة سنة بعد السنة وخطة بعد الخطة؟ هل كذبوا علينا حين وعدونا بالتحرر والتنمية والتحديث والقوة، بينما هم في الحقيقة لا يقوون سوى أنفسهم فقط على حساب ضعفنا ومقدراتنا وهواننا وكرامتنا؟ حين عقدوا معنا الصفقة صدقناهم وفرحنا وهتفنا عالياً لهم. ملئنا الشوارع والأثير والكتب بالمديح والثناء لهم. وحين تعلق الأمر بمظالمنا وأوجاعنا وكرامتنا وأحلامنا الفردية الشخصية، وضعنا ألسنتنا في أفواهنا لكي نقيهم شر النقد والفتنة، ولا نُشتت الجهود عن تحقيق الوعد الأعظم.

لكن، في النهاية، لم يتحقق شيء. ما تحقق فعلاً كان لمصلحتهم، هم وحدهم فقط؛ هم زادت قوتهم بشكل لا متناسب، ونحن زاد ضعفنا بشكل لا متناسب أيضاً. انتهى بنا الحال بأنظمة بالغة القوة والتوحش والتنكيل على مجتمعات شديدة الفقر والهوان وقلة الحيلة والتخلف. هل نلومهم على كذبهم علينا والعمل لما يخدم مصالحهم؟ أم نلوم أنفسنا على سذاجتنا في تصديق وعودهم وتسليم إرادتنا وكرامتنا لهم من دون قيد أو شرط؟! لماذا لم نرد على وعودهم بوعود مغايرة من عندنا؛ وعلى كذبهم بكذب أكبر من طرفنا؟! لو كنا فعلنا، وثبت خطئنا، حتى لو خسرنا معركة التحرر والتنمية الاقتصادية اليوم كنا حافظنا على حريتنا وكرامتنا وقدرتنا على الفعل والتصحيح والمراجعة، التي بواسطتها نستطيع معاودة الكرة من جديد حتى ننجح. نحن كرجال ونساء أحرار قد نخسر معركة، لكننا نبقى قادرين على التجهيز لأخرى. بينما إذا خسرنا أنفسنا، ضاع منا كل شيء. لماذا فرطنا في شرفنا وكرامتنا وتركنا لهم الوطن مطية بلا صاحب يكذبون ويفعلون فيه ما يشاؤون؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران :ماذا بعد مقتل الرئيس ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إيران تعيد ترتيب أوراقها بعد مصرع رئيسها | #التاسعة




.. إسرائيل تستقبل سوليفان بقصف مكثف لغزة وتصر على اجتياح رفح


.. تداعيات مقتل رئيسي على الداخل الإيراني |#غرفة_الأخبار




.. مدير مكتب الجزيرة يروي تفاصيل مراسم تشييع الرئيس الإيراني وم