الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الخراب

بديع الآلوسي

2024 / 5 / 11
الادب والفن


ذات يوم ، كنا نتجول في منتزه عباد الشمس ، كانت الريح تعبث بأوراق أشجار الجوز الصفراء ، صديقتي الشقراء ذات النمش المنتشر على وجهها الطفولي ، كانت تقفز وترقص . حينها لم نكترث ، ووجدنا خلاصنا في غرام ٍ أنسانا هموم الناس ، وما اعتراهم من غربة و لوعة . حينئذ احسسنا أن الزمن لا يتكرر ، معتقدين بأن المتعة الحسية هي وحدها ما يجب ان تعاش .
عند احد المنعطفات ، توقفنا وشربنا عصير الليمون المنعش من ذلك الكشك الأصفر ، وبقينا نثرثر ، دون ان نلتفت إلى إننا أخدنا بعض طباع الأصدقاء الحمقى ، الذين يمارسون بمهارة أساليب الغيبة والنميمة للتسلق على أكتاف ألآخرين . سألتني صديقتي الشقراء قبل ان نفترق :
ـ لماذا اللون الأصفر صار يضايق السلطة ؟
سؤالها علق في ذهني ، مع ذلك لا اعرف لماذا تجاوزناه بغباء . منذ شهور ما عدنا نعير الأمور الصغيرة الاهتمام اللازم ، كنا نخشى العواقب ، كمن لا يريد ان يرى وجهه القبيح في المرآة .
لذا لم اطل التفكير في تساؤلها ،لا بل حاولت ان أتناساه تماما ً ، لكي لا يؤثر على مزاجي الشخصي ، ويسبب لي انزعاج أنا في غنى عنه .
معتقدا ً ان الدولة تعرف اكثر منا بسطوة الألوان وتأثيرها السلبي على مواطنيها ، لذلك عَزمت ْعلى منع الكتب والجرائد الصفراء التي ولى زمانها . وأخذنا بالرأي الجديد ،و قلنا من الأفضل و الواجب قبول المتغيرات ، خاصة ً ونحن نعيش في أجواء يعتريها الغموض .
قبل أيام ، استفسرتْ صديقتي باستغراب :
ـ هل تصدق ، ان كتاب الأطفال ( الذئب الأصفر ) منع من التداول !؟.
طأطأة راسها ثم أردفت ببرود : المشكلة ليست بالذئب ، المشكلة .
وصمتت كانها أرادت ان تنعم برفقتي دون أثارة قلقي .
فتحفزت قائلا ً :
ـ المشكلة إذن باللون الأصفر .
ـ نعم ، لأن الرقابة منعت جريدة ( الشعلة الصفراء ) أيضا ً .
انتابتني قشعريرة ، فقلت بمرارة :
ـ يا له من خبر مفجع ، هل سنغامر في كل ما نحب فقط لأنه .. ؟ .
لا اعرف لماذا تغير لون وجهها قبل ان تقول :
ـ نعم ، ومن الآن فصاعدا ً علينا ان نحاذر .
بعدها ، عرفت من صديقي الحلاق ان الكتاب الذي تحبه النساء ( اعترافات اليقطين ) قد تم مصادرته من المكتبات بلمح البصر .
كنت متفهما ً وموافقا ً على أسباب منعه ، فالكتاب يدق الإسفين بين الرجل و المرأة ، فضلا ً لاحتواءه أفكا ر ٍغير لائقة .
أتفق معي صديقي الحلاق ، وهو يشرب الشاي الأخضر بدلا ً عن الشاي الأصفر الذي اعتاد على احتسائه ، قال :
ـ ما ضرورة ان نحتفظ بكتاب يتسبب في تهديد حياتنا .
حينئذ بدأت أتلمس المتغيرات ، وتدريجيا ً حاولت الابتعاد عن ما يثير عدم الراحة و الخوف ، حتى صرت أتحاشى ركوب سيارات الأجرة الصفراء .
ثمة شيء آخر أثار حيرة صديقتي ، حين رفضت الاعتراف بأني على خطأ ، و قلت لها بحماس  : قادة العالم من حقهم التصريح في شبكات التواصل والمحافل الكبرى من ان َّ اللون الأصفر مهيجا ً جنسيا ً يسهم في مضاعفة عدد السكان ويكثر الجوعى ويقلل من الذكاء .
مع مرور الوقت ، تفاصيل كثيره جعلتني استجيب غريزيا ً للواقع الجديد ، فالكتب والأشجار والملابس والسيارات الخضراء قد صارت تجلب لي السعادة ، وتجعلني اكثر انسجاما ً مع نفسي ، غير مبال ٍ بالآخرين الذين ربما يحتاجون قليلا ًمن توابل ألكركم في حياتهم الرتيبة .
ويوما ً بعد آخر ، لم يعد غريبا ً ان اتفق قليلا ً أو اختلف كثيرا ً مع صديقتي الشقراء ، حتى اصبحنا دون وعي منا نصدق ُبان اللون الأصفر نذير شؤم قد يؤدي بنا إلى التهلكة .
لكنها في منصف الربيع غضبت مني وهجرتني أسبوعا ً كاملا ً ، حين طفقت اسرد لها بضرورة عدم معارضة الحملة ، التي أطلقتها الحكومة والمتعلقة بمضاعفة تسعيرة الذرة الصفراء .. .
بعد عشرة أيام ، ذهبت ُ إلى المكتبة الوطنية بحثا ً عن كتاب ( فن أللامبالاة ) وجدت العجب هنالك ، حيث أزيل كل ما يذكرنا بذلك اللون المشع .
قالت أمينة المكتبة بكلمات صارمة : ما نقوم به ليس إلا بداية التغيير ، وان جهادنا الوطني سيتصدى للون المسبب للانتحار .
في اليوم التالي زرت صديقتي ، و أدهشتني أمها التي صارت تعشق اللون الممنوع . حينها صرحت لهما بما ينتابني من أسى مبهم ، بسبب التمادي والاعتداء على اللون الأصفر بهذه القسوة المفرطة .
باغتتني و سألتني صديقتي  :
ـ هل تعرف ما حل ببائع الليمون الذي نحبه ؟
أجبتها : لا داعي للسؤال ، اختفى كاختفاء الموز من السوق .
قالت بسخرية ، كأنها عازمة على أغاضتي بأسئلتها المريبة  :
ـ لكن ما ذنب الموز إذا كان بهذا اللون ؟ .
بعدها انصرفت ْ ما دون ان تُقبلني . مع ذلك شفقت عليها وعلى نفسي وعلى الموز .
حين عدت إلى البيت ، كنت أتساءل لماذا وقعت ُ فريسة هذه أفكار المتناقصة ، صحيح ان الموز يقلل من خطر الإصابة بالسرطان ، لكنه يزيد الكآبة في الوقت نفسه ، لذا قررنا استبدال فاكهة أخرى بالموز ، ولا ادري لماذا تمادينا في استعماله ، لدرجة صار خلطه مع عصير الشمندر أمرا ًمألوفا ً .
مع مرور الوقت ، لم يعد لي الكثير مما أود قوله لصديقتي ،منذ ان سألتني بغنج مصطنع  : ألا ترغب بليلة صفراء كالنار ؟ .
لا اعرف لماذا حبها بالتدريج قد فقد بريقه وبراءته ، حتى ممارسة الجنس معها ما عاد ينتشل الموقف .
بعد شهر من ذلك البرود العاطفي ، رأيتها مصادفة ً عند الحلاق ، تشجعت لأقول لها ما بات يقلقني :
ـ أني ابحث عن وسيلة تخرجني من هذا الجحيم ، حيث إني ما عدت احتمل ..
كما في المرات السابقة ، تمالكت أعصابها كي لا تبكي وتمتمت  :
ـ حقا نحن مساكين ، حولوا حياتنا إلى سخف ومهزلة .
بعد برهة أردفت بحسرة : فظيع ما نعاني .
أؤمن منذ مراهقتي الأولى ، ان الصداقة كنز يجب ان لا نفرط به ، لذلك زرتها بعد يومين ، حال ان أخبرتني هاتفيا ً أنها تعاني من وعكة صحية ، في ذلك المساء أهديتها قلادة الكهرمان ، و تحدثنا نصف ساعة عن ما هو غريب وعجيب في هذا العالم ، لكننا كنا حذرين من السقوط في الفخاخ الصفراء . وقبل ان تودعني ، اختفت وعادت بعد لحظات ، منحتني غليونا ً ذهبيا ً ليخفف من مشاعري التي تتأجج وتخبو .
عند الباب الخارجي كانت مضطربة وهي تكشف لي :
ـ سيتم مسائلتنا عن ماضينا البعيد والقريب .
ـ أحقا ً.. ! ماذا يبتغون من وراء ذلك ! ؟
ـ يقولون لفرز عواطف الأهالي وألوانهم .
سالتها وأنا ارتجف :
ـ من أين تستقين كل هذا المعلومات ؟
هنا غيرت نبرة صوتها وردت :
ـ من الجرائد المثيرة للهلع .
صراحة صار اللقاء بصديقتي يثير في نفسي تساؤلات : لماذا لا تغلق فمها لتنجو بنفسها ، ولماذا تزعجني بشائعات تزهق الروح . لكنها وبدل ان تصمت ، هَمست ْ بتجهم  :
ـ صار الآن ، ترك البلاد يعد حماقة ..
كان ردي : لكن الهرب يمكن ان يكون حلا ً.
ـ لا اعتقد ذلك .. .
هنا تملكتني الرغبة ان أتقاسم معها آخر همومي ، و سررت لها بما أخفيه :
ـ اني حزين جدا ً ، فقد تم منعي من السفر .
لم تواسيني بأي كلمة ، لكنها عادت و قالت بحذر :
ـ يريدون إقناعنا بان الوطن بأمس الحاجة لنا .
فسألتها  بحيرة :
ـ أحقيقة ان الوطن بحاجة لنا ؟
بدات ُ أتلمس ان أعداء اللون الأصفر يتكاثرون كالقمل ، وباتوا يتلصصون على حياتنا ، دون أذن منا ، وعلى نحو غير معقول حتى لو تطلب الأمر ان يستخدمون الأكاذيب كغطاء .
واكثر ما يستفزني أثناء تجولي في المدينة ، هو مشاهدة تلك أللافتات الأرجوانية ، وهي تحث ذوي الشعر الأصفر والأبيض على صبغه باللون الفاحم . قد يبدو الأمر في حينه مضحكا ً ، لكن مع مرور الوقت تحولت رؤوس من في المدينة إلى لون اسود. .
قالت صديقتي الشقراء بعد ان فقدت الأمل و غيرت فروة راسها مكرهة ً : يا ألهي ، لماذا كل هذا الذعر من اللون الأصفر ؟
فأجبتها وبصراحة متناهية :
ـ يحب ان نتقبل الواقع كما هو ، لننجو بأنفسنا ونرتاح .
كل شيء كان يمر بسرعة وصمت ، حتى الحلاق الثرثار أصيب بالبكم ، أردت ان أتجاذب الحديث معه ، لكني خشيت ان أقول له  :( ان الأصيفر موجود ان اردنا ذلك ام لا نريد ) .
ذهبت ذات مساء إلى بيت صديقتي لأخبرها بإمكانية التخلي عن الحب لكن من الجميل المحافظة على الصداقة . في ذا الأثناء ، استدارت برأسها ، وتوجهت بسرعة نحو المنضدة ، وقامت بحركة خاطفة كي لا أراها، أخفت سروالها ، الذي بلون التفاح الأصفر . و ما ان عرفت باني اكتشفت أمرها ، حتى أنتابها احساس من الخجل ، مع ذلك أطلقت ضحكة باهته قائلة ً وهي تلوح به :
ـ انه لباس جميل ، أليس كذلك ، مع ذلك علينا ان نحترس ، لان قوى الأمن لهم عيون ليزريه .
حقا ً ، صرنا مثل الأطفال ، وجلين من أشياء كثيرة ونريد ان نبكي أحيانا ً ، مخافة ان يعاقبنا الآخرون على ذنب لم نرتكبه عن قصد ، قلت :
ـ كلنا نتألم ونحب الوطن ، أليس كذلك يا حبيبتي ؟
قالت وبجرأة لا اعهدها  :
ـ اللعنة على الوطن ، الذي سلب منا شبابنا وضمائرنا .
فجأة ً، ازداد توتري ، سألتها  :
ـ يا إلهي ، هل فقدت ِ صوابك ِ ؟
فقالت بمرارة :
ـ أرجوك ، لا تتهمني بالخيانة ..
قبل يومين ، كنت أظن أننا في مأمن ، بعد أن أزحنا الأصفر من تفاصيل حياتنا ، التي بدأت تتداعى وتتهلهل . وعلى بالرغم من كل هذا الخنوع كدت اعتَقل من قبل عناصر الشرطة السرية . عند غروب الشمس ، قال قائدهم  :
ـ لماذا وجهك اصفر دائما ً ... ؟
المفاجأة عقدت لساني ، لكني جمعت شجاعتي ، وقلت بوجل :
ـ اقسم لك ، ان هذا الأمر يفزعني أيضا ً .
حاولت التملص منهم ، لكنه عاود وسألني، محاولا ً الإساءة إلي :
ـ متى تعطنا المعلومات عن عاهرتك الصفراء ؟
أحسست أني في ورطة حقيقية ، حاولت مجارات الموقف الهش :
ـ أني رجل مطيع يا سيدي ، وسأنفذ كل ما تأمرون به .
تهامسوا بينهم وقالوا : انصرف الآن أيها الجبان ..
مشيت بخطوات مترنحة ، بعدها أعطيت ساقي للريح ، مرددا ً في خلدي : حمدا ً للرب ، انهم لم يكتشفوا أمر قصصي عن الخراب ، التي نشرتها قبل عشر سنوات في جريدة الشعلة الصفراء .
في اليوم التالي ، قادتني قدماي باتجاه بيت صديقتي ، التي كانت تصر على ان نحتسي عصير الأناناس اللذيذ نكاية بالممنوعات . لكن ما ان وصلت المكان حتى شعرت بالاستغراب ، حيث رأيت جمهرة من الأطفال والنساء والرجال أمام عمارتها ، منهم من كان يبكي ومنهم من كان يتحدث بانفعال، وفجأة ً تجرأت إحداهن وصرخت بأعلى صوتها  : كفى مهانة ً.
في تلك اللحظات ، قال لي جارها الأعور محاولا ً مواساتي  :
ـ اعتقد ان صديقتك قد أصيبت بالجزع .
صمت وبدت عليه أمارات الذهول ، ثم اردف :
ـ ان تصرفها كان محيرا ً لنا جميعا ً ..
ـ ما الذي حدث بحق السماء ؟
ـ تصور ، أنها قد خرجت بمعطف أصفر .. وصمت
ـ بمعطف أصفر ؟ وماذا جرى لها بعد ذلك ؟ !
ـ واكثر من هذا رأيتها تضرم النار بنفسها ، فنقلتها الجهات الأمنية إلى المستشفى …
ـ يا لمصيبتي .
قبل أن يغادر قال كلاما ً ما زال يرن في ذهني  :
ـ الجميع تعاطف معها ، أنها كسرت الحاجز .. .
عدت إلى بيتي غاضبا ًودموعي تنهمر ، على حين غرة اعتراني احساس هائل بالفقد ، حينها فقط تيقنت من حبي لها وكم ستكون الخسارة عظيمة إذا ما أصابها مكروه .
طوال تلك ا لليلة ، كنت أتقلب في فراشي مثل سمكة مسمومة ، شغلني أمرها ،كونها احتجت نيابة عنا جميعا ً .
وبقدر حزني عليها كنت مرتابا ً ان ينكشف أمري ، في الساعة السادسة صباحا حزمت حقيبتي وغادرت منزلي ، كان الفضاء رحبا ً و الهواء منعشا ً ، حينها رفعت رأسي إلى السماء ، فرحا ً برؤية غيمة بصبغة الزعفران وبشكل الموز ، شعرت كأنها تتحدى ساعة القهر والنحس التي حلت بنا ، في تلك اللحظة عرفت ما يتوجب علي َ فعله . كنت متفائلا ًكانني ولدت من جديد ،
قلت مبتسما ً:
ـ آه يا حبيبتي ، حتما حياتنا ستكون افضل بدون هذا ال ، و، و...


1/ آذار / 2024








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_