الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بمناسبة خصخصة التعليم والاعتماد والجودة

هدى حسين

2006 / 12 / 8
الادب والفن


لو كنا كلنا العم "باولا"

في إطار الملتقى الثاني لشعراء العالم ، في شيلي بأمريكا اللاتينية، حيث تجمع شعراء من أنحاء العالم كله، وكنت ضمنهم أمثل مصر شعرا، كانت لنا ندوة مدبرة يوم 14 أكتوبر أمام مدرسة أولاد لها من التاريخ مثلما للمدرسة السعيدية عندنا من تاريخ في النضال. أقول إن الندوة كانت مدبرة، صباح ذلك اليوم بالتحديد لأنه (صادف) يوم اعتصام طلبة وطالبات مدارس شيلي كلهم ضد الخصخصة الجزئية للمدارس الحكومية. أقول مدبرة أيضاً لأن منظم الملتقى شاعر شيلي هو ليوس أرياس مانثو، حاصل من دائرة سفراء العالم للسلام بجينيف على لقب سفير عالمي للسلام، ولقد كان ضمن من دعى من شعراء ، آخرين حاصلين على اللقب ذاته من هذه الدائرة التي تعمل تحت اليونسكو، ومنهم على سبيل المثال لورا هيرنانديز من المكسيك وأنا من مصر. كان شكل الندوة بريئاً جدا إذ أنها "مجرد ندوة شعرية". لكنها في الحقيقة جاءت مساندة لهؤلاء الطلبة المعتصمين داخل الحوش. كيف أبدأ؟ لا أعرف. أريد أ أتحدث عن باولا.

حسناً. كانت القراءات اختيارية. وكنت أنشغل عنها بمحاولة لا جدوى منها، لقراءة اللافتات المعلقة على سور المدرسة، إلى أن جاءت فجأة طفلة هزيلة خمرية بشعر أسود ناعم وعيون واهنة لترتمي على المقعد الملاصق لمقعدي في آخر صف. أخرجت علبة "بلمونت" شيلي، وسألتني بالأسبانية التي لا أعرفها عن "ولاعة" قالت كلاما لم أفهم منه سوى "فويار" لأنها تشبه "فاير" الانجليزية التي تعني نار. أشعلت سيجارتها وأخرجت لنفسي سيجارة وأشعلتها بينما أخذت تكلمني بالاسبانية غير ملتفتة للكارنيه المعلق على قميصي وفيه اسمي واسم البلد التي أتيت منها. أريتها الكارنيه فلم تصدق أن هناك أحد من مصر هنا. لحسن حظي، كانت باولا تتحدث الانجليزية.

سألتها عما يحدث، فقالت لي إنه اعتصام لطلبة شيلي كلهم ضد خصخصة 50 بالمائة من التعليم الحكومي. هم أيضا يطالبون بتبديل موقع مادتين في الدستور الشيلي، يريدون وضع مادة الحق في التعليم قبل مادة حرية التعليم، وليس العكس الموجود الآن. كانت باولا تذهب وتعود. لم تكن تتوقف عن العمل مع زملائها. كانوا يسمونها العم باولا، لأنها تعمل أكثر منهم جميعا، عملا عقليا وبدنيا على حد سواء. قالت لي باولا، التي لا يمكن أن يزيد عمرها عن خمسة عشر عام، إن قضيتها الآن هي التعليم لأنها ببساطة "طالبة"، وينبغي أن تكون هذه هي قضية كل الطلبة والطالبات. سألتها أن تترجم لي المكتوب في اللافتات المعلقة من الطلبة، فترجمتها لي، هان أكثر ما علق منها في ذهني هذه: "لو كان المسيح مولودا في شيلي و في هذا العصر لكان أصبح أمياً، وطفل شارع، وعاطل، لأنه ببساطة، أبوه نجار".

كان هذا هو مستوى اللافتات التي كتبها الطلبة وكتبتها معهم باولا. يشرح ببساطة كيف يمكن أن يتم إهدار بل وتخريب مجتمع كامل بسبب خصخصة التعليم. أو كما أسمته باولا، بسبب نشر التعليم الاستثماري. التعليم بفلوس. وعلى الفقير أن يضم إلى فقره، الجهل والبطالة. مصير الفقير هو الحنق على مجتمع لا يضعه في الاعتبار. مصيره أن يتحول في نظر هذا المجتمع الملعون إلى إرهابي، لأن من لا مال له، لا حق له.

شرحت لي باولا أيضا تقسيم العمل الذي قام به الطلبة من أجل إنجاح هذا الاعتصام. قالت، الطلبة الكبار، بجهزون الكلمات التي ستقال في الميكروفون، وبين الطلبة الآخرين. وكلها كلمات تشرح خطورة خصخصة التعليم على الفرد والأسرة والمجتمع، بل وعلى الدولة والحكومة نفسها. سيقولون هذه الكلمات أمام المدرسة محتشدين بين بقية الطلبة من نفس المرحلة العمرية والذين جزء منهم أيضا تعاقد على الميكروفونات وجهاز هندسة الصوت وكل ما له علاقة بوسائل الإسماع. والجزء الثالث كتب اللافتات وعلقها. الطلبة المتوسطون، يعتصمون الآن داخل المدرسة وقد جلبوا كل الطاولات والكراسي من كل الفصول ووضعوها في الحوش يجلسون عليها وأمامهم كتاب وقلم وكراس منتظرين المدرسة التي ستعلمهم جاناً! هم أيضا الذين نظموا للحملة عبر الانترنيت حتى يتاح لنا اليوم أن يكون معنا كل الطلبة الشيليين، كلهم من جميع أنحاء البلد. وهم أصحاب اقتراح أن يأتي كل منا بزي مدرسته ويعتصم أو يخطب أو يلعب مرتدياً هذا الزي.
سألتها "يلعب يا باولا؟"

قالت نعم. وهذا دور مهم جدا. إنه دور الطلبة الأصغر سنا، ما بين السادسة والتاسعة من العمر. إنهم الآن داخل المدرسة يختبئون ويجهزون من أوراق كراريس السنين الماضية كوراً. إنهم بالنسبة للاعتصام الدرع الحامي الوحيد. سترين عندما يأتي البوليس. البوليس شرس جدا لكنهم لا يستطيعون شيئا للأطفال، ولو تعرض أحدهم لطفل ويل له. أما معنا نحن الكبار فهم يسحلوننا ويديروا فينا الضرب ويستخدمون العصا المكهربة والمسيلات الدموع والطلقات المطاطية. لي صديقة (مازالت باولا تحكي) كانت تقف إلى جواري ملاصقة لي في المظاهرة السالفة، وكانت مظاهرة نظمها الطلبة لرفع أجر المعلم حتى لا يضطرنا بسبب إهمال الدولة لمستوى معيشته أن ندفع مبالغ للدروس الخصوصية لا يستطيع أهلنا تحملها. هذه الصديقة لوى الشرطي ذراعها وسحلها إلى البوكس. حدث كل هذا أمامي. ولما زرتها في المستشفى كان ذراعها يتماسل للشفاء لكنها كانت نائمة على السرير. عندما خرجت كانت على كرسي بعجل. كانت مشلولة.
وأين هي الآن؟
إنها بالداخل مع المعتصمين.

لم أكن أتخيل أبدا أمرا كهذا. فعندنا عندما يذهب شاب أو شابة للمشاركة في مظاهرة أو اعتصام يحاول ألا يصل لأهله خبر بذلك. لأنه لو وصل، سيوبخونه ويثيرون فيه كل أشكال الترهيب، وأحيانا يحبسونة حتى لا يتوقف عن "المشي جنب الحيط" بدعوى إنه لا فائدة من شيء، وأنه سيلفت عيون الشرطة عليهم. لكن باولا قالت لي إن أهلهم يعرفون ما يحدث، ويتكتمون تدابيره، ويشجعونهم عليه رغم إنهم يعرفون مدى خطورته "الوقتية" على أبنائهم. إنهم يسخرون ممن لا يريد أن يشارك في اعتصام يخص قضية من قضايا، وبما إنهم طلبة يسخر الأهل من ابنهم الذي لا يريد أن يشارك في قضية تخص الطلبة، ويعتبرونه غير جدير بالتعليم "فيزجونه زجاً، أو يتركوه لتنضيف المرحاض في البيت" (تقول باولا.)

ذهبت باولا وعادت لتقول لي إن البوليس اتصل على هاتف المدرسة لينذرهم إن لم يخلوها "سيدير فيهم الضرب." قلت لنفسي هذا بوليس أعرفه. ثم قلت لها: "أظنهم سيؤجلون الضرب لو بقينا كلنا من جميع بلدان العالم، معلقين كارنيهاتنا على صدورنا، ومتخالطين بكم في الاعتصام. خوفا على صورة البلد والعلاقات بين الدول الخ..." أجابتني باولا بأن هذا صحيح. أدرجت ورقة إذا لمنظم الملتقى تفيد بذلك فخيًّر الشعراء بين الانتظار أو الذهاب فقرروا الانتظار، والبقاء مع الطلبة. وتحولت الندوة من ندوة شعرية إلى ندوة حماسية، حتى الشعر الذي يقال فيها خطابي إلى حد ما، وطالت الندوة حتى جاءت سيارات البوليس فعلا واتخذت أماكنها باحتراف واستقرت فيها، ونزل منها جنود يشبهون الأمن المركزي عندنا. وحاصروا المكان كله ، المدرسة والندوة. وكان على كل من يريد أن يمشي في الشارع أن يتحرك خارج هذا ال"كردون.". عمدا حاول الشعراء إطالة الندوة قدر المستطاع حتى لا يتدخل البوليس. لكنهم بهذا كانوا أيضا يحتكرون الميكروفون الوحيد الذي يمكن أن يمتلكه طلبة ثانوي ليقولوا فيه كلماتهم ضد التعليم الاستثماري. جاءت باولا وجلست بجانبي. نظرت لي متملمة وقالت "ماذا بعد؟".. لم أكن أعرف ماذا بعد ذلك. فاقترحت عليها أن يبدأوا ربما يجعل هذا الندوة تنتهي. بالفعل بدأوا.

أولا، خرج الأطفال من المدرسة بالكورالورقية في أيديهم. وأخذوا يصنعون سدا بأجسامهم بين الطلبة الكبار وبين البوليس. ثم بدأوا في اللعب. كل اثنين أو ثلاثة معهم كورة ورقية يقذفونها إلى بعضهم البعض. يقذف طفل الكرة لزميله ويقول: علوم، فيقذفها الثاني للثالث قائلا: رياضيات، ثم يأتي رابع ليسألهم: ممكن أذاكر معكم؟ فيدخلونه معهم في اللعبة. وهكذا كانت تتشكل مجموعات من الأطفال تزيد وتقل بحسب كثافة البوليس في هذا الركن أو ذاك، يتبادلون في اللعب كرة تحمل أسماء كل مواد المنهج. ولما اعطوا للكبار شارة الأمان بدأ الكبار يحملون واحدا منهم ليلقي خطبته، ثم ينزل ثم يطلع آخر.. لكن الميكروفون مع الأسف كان ما يزال في يد الشعراء، مما غطي في نظري على صوت المعتصمين. أخذتني باولا من بين المعتصمين خارج المدرسة وجلسنا للحظة. نظرت لي ولم تقل شيئا. وبينما كل هذا يحدث خارجا، كان طلبة "إعدادي" يجلبون ما تبقى من مقاعد وطاولات ويحشدوها على سور المدرسة الحديدي من كل جانب كمتاريس تدافع عن تواجدهم داخل المدرسة بعدما يرحل الشعراء.

طلبتُ الكلمة من منظم الملتقى. بدلا من أن ألقي شعرا أو خطبة حماسية بدأت لعبة "لا و نعم". وفيها أقول كلمة فيرد الجمهور شعراء وطلبة بلا، ثم أقول كلمة فيقولوا نعم. وهلم جرا، من الموت إلى الحياة، من الحرب إلى السلام، من التعذيب إلى المطالبة بالحقوق، من الحبس إلى الحرية، من التعليم الاستثماري إلى التعليم المجاني، من التضحية بأولادنا إلى مستقبل أولادنا، والغريب أنه هنا كان البوليس أيضا يرد!.. أنهيت اللعبة بذلك والندة أيضا وأعطيت الميكروفون لباولا، العمة باولا، التي مشت على أثر اللعبة بكلمات أخرى والكل يرد لا ونعم، ثم أعطت الميكروفون لطالب آخر، وثالث.. وهكذا انتهت الندوة وبدأ الاعتصام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو