الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنساق الثقافية في أقصوصة شيخ الخفر للقاص محمود تيمور

صبري فوزي أبوحسين

2024 / 5 / 11
الادب والفن


النقد الثقافي صيحة جديدة من الصيحات الوافدة إلينا والمستوردة من الغرب، في مرحلة(ما بعد الحداثة) كردة فعل للنقد الشكلي وما تلاه من مناهج، يعبّر فيه الناقد عن الأنساق الظاهرة والمضمرة في كل خطاب أدبي، وما فيه من رؤى وتحولات، وكلما كان الخطاب أو النص حمالاًّ كان أنسب لمنهج النقد الثقافي، وأقصوصة (شيخ الخفر) أنموذج سردي مصري قصير، ماتع وهادف لغويًّا وفنيًّا وفكريًّا؛ إذ إنها فريدة وبديعة في مسيرة القص القصير، فريدة في مبدعها الكاتب المؤسس للقصة القصيرة في مرحلتها الإبداعية الناضجة، وصاحب أول قصة قصيرة بمفهومها الفني الراسخ. هو المبدع المبهج محمود تيمور(١٨٩٤١٩٧٣م)، ابن العلامة أحمد تيمور شيخ العربية وعالمها الفذ، وأخو الأديب والقاص الرائد محمد تيمور، وعمته الشاعرة المحافظة عائشة التيمورية... وبقرءاة هذه القصة القصيرة قراءات ثقافية عميقة يخرج المتلقي بجملة تقنيات سردية، ودلالات ثقافية إيجابية وبانية وهادية بارزة، من أهمها:
1- (نسق الأصالة الإبداعية):
----------------
فهي أقصوصة مُودَعة في مجموعة قصصية لأديبنا محمود تيمور بعنوان(دنيا جديدة) في الصفحات[١٥٣٥] في عشر صفحات، من القطع الصغير، كل صفحة فيها ثمانية عشر سطرًا، عدا الصفحة العاشرة التي جاءت في عشرة أسطر، فهي قصة قصيرة ذات حجم كتابي محدود ومقبول، يمكن أن تقرأ في نصف ساعة أو أقل! ومن يقرؤها غير مرة يرى أنها واقعية رمزية، تتخذ من الواقع الريفي مصدرًا، وتجعل من الشخوص والأحداث واللغة رموزًا! وكأني بقاصِّنا يرمز بالضيعة فيها إلى مصرنا ومرورها بعهدين: (عهد تاريخي فطري روحي مبارك)، هادئ وادع مطمئن زمن الحكم العربي والإسلامي، ثم (عهد غشوم ظلوم متفرنج مستكبر)، مغرور بما يسمى الحضارة والمدنية ونظم الحكم المستوردة الغازية، زمن الاحتلال الغربي وزمن أذياله الخانعين!
2- (نسق التأنق في البناء):
----------------
تمثل هذا التأنق في عتبة العنوان، فالعنوان في هذه القصة القصيرة عتبة رئيسة جاذبة ومثيرة؛ إذ يدفع المتلقي بعد قراءته النص أن يتساءل: لماذا هذا العنوان؟ لماذا هذه الشخصية مع وجود شخصيتين رئيستين أخريين في النص هما (الناظر الشيخ)، و(الناظر الشاب)؟!
لعل الإجابة تكمن في أن (شيخ الخفر) هنا هو الفارق بين مرحلتين مرت بهما إدارة الضيعة: (مرحلة الإدارة الرشيدة الرحيمة الحنون الجامعة المباركة) التي لا تحتاج إلى( شيخ خفر) والتي كانت زمن إدارة (الناظر الشيخ)! والذي كان زمن أمن وحب من الجميع وبين الجميع، ومن ثم فليس فيها ما يحتاج إلى قوة أمنية عسكرية!
والمرحلة الثانية (مرحلة الإدارة المتفرنجة المتسلطة المستبدة المتعصبة) القائمة على الانتقاص والتعييب والقهر لكل ما هو قائم ومن هو موجود! والمغرورة بالحضارة الغربية المستوردة، والمعتمدة على القوة الممثلة في السوط والصوت العالي، وشيخ الخفر والخفر! ثم إن الحادث الفارق في هذا العمل السردي هو ذلك الصراع الدامي والعراك الحاد بين (شيخ الغفر السابق المعزول) بسبب غطرسته واستبداده وتغوله هو ونصراؤه و(شيخ الخفر المعين) الراغب في التسلط والتربص والتكسب هو وجنوده! وهو صراع وعراك فرق أهل الضيعة وقسَّمهم طوائف وأوقعهم في الفتنة وأولغهم في الدماء الجائعة، الحالقة التي تسقط الضيعة كلها حاكمًا وجنودَ حُكْم ومحكومين، فلم يبق من الضيعة/مصر، سليمًا إلا شيخ الجامع!
2- كما تمثل(التأنق) في اللغة العالية المحلقة والمناسبة؛ فالأقصوصة مثال للعمل القصصي المتأنق في لغته الفصيحة ذات المستوى العالي، فالكاتب هنا يرتفع بالقارئ لغويًّا، يضيف إلى معجمه مفردات جديدة، مثل:( رانية، تخوم، ذهلة، المغضن، غنية، الطوع، يحفون، يغمغم)، كما أن قارئ هذه القصة يتمتع بعبارات جميلة عالية الحُمولة المعرفية والمجازية، مثل: (تراخى بها العهد، تنتهي بها تخوم العمران، حل في قومه محل الأدب من بنيه، تلقت الضيعة نعيه في ذهلة ووجوم، فأجابه الشيخ ركين اللهجة، رانية أبصارهم، فانفتل من الحجرة كالسهم المارق، بصق بصقة هوجاء، ...)، وقد نوَّع في طرائق القص بين الوصف والحوار والسرد أو الحكي .
كما نوَّع في معجم أقصوصته بين ألفاظ معجمية، وثانية حياتية، ولم يلجأ إلى المعجم العامي إلا في أضيق الحدود، في كلمة(زعبوط) وفي عبارة(الحارس هو الله)، ولم يلجأ إلى اللغة الدخيلة إلا في لفظة وحيدة هي (السيكلوجية)!! ووضع هذه المفردات الخارجة عن رجاب الفصحى بين علامتي تنصيص صونًا للفصحى وتوقيرًا لها!
كما لجأ إلى تعبيرات حديثة مثل (تحديد المسؤولية)، (جهات الاختصاص)، (توزيع السلطات)، (تعزيز السلطة التنفيذية)... وكذا نجد التعبيرات العسكرية مثل: (انتباهًا)، (إلى اليمين دُرْ)، (إلى الخلف دُرْ)، (تعظيم سلام)، (أربعات تشكيل)، (سريعًا قِفْ)...
4- (إتقان التصوير والتوصيف) إذ تفنَّن القاص الكبير في عرض شخوصه الرئيسة كلَّ تفنُّن، فللناظر الشيخ سمات جسدية ونفسية وعقلية وسلوكية خاصة به وتناسبه، وتناسب مرحلة حكمه الضيعة، وللناظر الشاب سمات خاصة به جسديًّا وعقليًّا ولغويًّا وسلوكيًّا، وفي لبسه، تناسب عصره وثقافته، وكذا شأن شيخ الجامع، والشيخ الكاتب، وشيخا الخفر، والخفراء! وهذا دليل على مقدرة محمود تيمور السردية العميقة الدقيقة الماتعة!
5- (نسق التجريد والتعميم):
--------------------
جاءت عناصر السرد الرئيسة من الزمان والمكان والشخوص والأحداث، مُصَوَّرة بلغة معممة مجردة، فلم يذكر اسم لزمان أو اسم لمكان أو اسم لشخصية أو تأريخ لحدث؛ وذلك لأن القاص قصد بها أن تكون نصًّا مفتوحًا، وأن تكون رمزية صالحة للاستدعاء والتأويل كلما قرئت في أي زمان ومكان وسياق قادم بعد إبداعها ونشرها لتدل على مغاز ومرام عديدة، ومتنوعة عند كل قارئ ومتلق.
6- المكان الرئيس- وهو الضيعة- موصوف بكل دقة في تفاصيل جغرافية ومناخية ومجتمعية ونباتية، وكذا مكان حجرة الإدارة؛ لأنهما محور أحداث العمل وفضاؤه . أما بقية الأماكن فاكتفى القاص بالإشارة إليها مثل العاصمة والدوار وبيت شيخ الخفر! لأنها أماكن هامشية غير فاعلة.
7-(نسق المنطقية والتركيز):
--------------------
عرض الأحداث جاء مُحكمًا، محبوكًا، مرتَّبًا منطقيًّا، ومُكثَّفًا في مطلع وصفي للمكان الرئيس، ثم عرض لحالة الضيعة زمن الناظر الشيخ الحكيم، ثم عرض لوفاته وتقديم ناظر شاب وتصوير لشخصيته ورؤيته وسلوكه وطريقة تفكيره، ثم عرض للصراع المحتدم بين شيخي الخفر الذين عيَّنهما هذا الناظر الشاب بطريقة عشوائية، وما حدث من انقسام بين أهل الضيعة ومواجهة عنيفة دموية انتهت لم يستطع الناظر الشاب إيقافها بل وقع ضحية فيها مثخنًا بالجراح، مغشيًّا عليه .
ويأتي ختام القصة بتجول شيخ الضيعة في أرجائها يداوي الجرحى، ويواسي أهل الموتى، وأدى به المطاف إلى حجرة الضيعة حيث يرى الشيخ الذي كان يتولى الكاتبة زمن الناظر الشيخ، والذي يسلمه مفاتيح المخازن، ويقول له: أبقها معك يا مولانا حتى يتم تعيين الناظر الجديد.
وهذا البناء الفكري يسهم- بلا ريب- في تقديم دلالات يريدها المبدع، ويستنبطها المتلقي! إنها تجربة تشير إلى الفارق بين الحياة الريفية البسيطة الهانئة الآمنة الوادعة، القائمة على إيمان وتماسك روحي جميل، وهذا نراه مطلع القصة حيث مرحلة إدارة الناظر الشيخ الحكيم الحنون الذي شعاره: (كل شيء يجري بالبركة) والبركة هنا الإيمان، والصلة الروحية والنفسية الموجودة بين الناظر الشيخ وأهل الضيعة، وبين أهل الضيعة أجمعين!
8-( نسق تمجيد الدين):
----------------
فالدين حاضر بقوة كعنصر نجاح، وعنصر ثبات، وعنصر فاعل وقت الأزمات الكبرى؛ فشيخ الجامع هو من يختص بحفظ مفاتيح مخازن الضيعة، والشيخ هو المختص بالكتابة والحساب، يلجأ إليه الناظر الشيخ عند الحاجة. وعندما يتغير نظام الحكم في الضيعة، وعندما يأتي هذا الناظر الشاب المتفرنج المتغطرس الأهوج نجد سخرية من شيخ الجامع، وسخرية من الشيخ الكاتب، وهذا كان سبب سقوط الضيعة، ويصر القاص على جعل رجل الدين حاضرًا حتى في مشهد، حيث يتسلم شيخ الجامع مفاتيح المخازن مرة ثانية بعد فشل الناظر الشاب ووقوعه فريسة الصراع بين شيخي الخفر المعزول والمعين ونصرائهما! يتسلم المفاتيح انتظارًا لناظر جديد ثالث.
9-(نسق رفض التفرنج الشكلي والسلبي:
-------------------
هذه القصة القصيرة تبرز المفارقة القائمة في عالمنا العربي بين الحضارة العربية الصافية والوافية والهادية والآمن، ويمثلها الناظر الشيخ وطريقته في الإدارة والسياسة! وبين الحضارة الغربية الغازية والمادية والشكلية والخطيرة والمزعجة والمفرقة! ويمثلها الناظر الشاب وشيخا خفره!
10- هذه القصة القصيرة الماتعة تدعونا إلى أن نرجع إلى مجتمعنا النبيل المتماسك، الجميل في شكله ونظامه وأسلوبه العربي الريفي الأصيل البسيط اليسير العملي غير المتعب أو المكلف! العذري الطاهر! حيث يكون الحافظ هو الله والسِّتِّير هو الله، تعالى، وكل شيء يجري بالبركة والإيمان! وأن الأمن والأمان لا يمكن أن يتحقق في المجتمع عن طريق القوة العسكرية النظامية فقط، بل لابد قبلها من حالة روحية مجتمعية مطمئنة بالإيمان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_