الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفكار عن التنظيم

بشير صقر

2024 / 5 / 12
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


عانى اليساريون المصريون طيلة القرن المنصرم من البحث عن أفكار ملائمة لبناء تنظيماتهم المختلفة نقابية كانت أوسياسية أوثقافية .

ولأن محاولاتهم الأولى فى هذا الصدد عاصرت أو ارتبطت بوجود جاليات أوربية تعيش فى مصر ، ولأن بعض تلك الجاليات حملت بعض الخبرات الأولية فى هذا الشأن استنادا إلى تاريخ أسبق فى العمل النقابى وربما السياسى والثقافى فى مواطنها الأصلية.. فتأثرت بها ونقلت عنها دون تمحيص أوتفكير عميق.

ولأننا نتوقع ان ثنائية (التعلم / التعليم) الحقيقية لا تتم بين شخصين ( أو طرفين ) أحدهما محدود المعرفة وآخر ضئيل أو منعدم المعرفة لأن التفاوت بينهما ضيق.. ولا يسمح بتحقق تلك الثنائية بسهولة ويسر. على غيرما يجرى بين اثنين آخرين يكون الفارق بينهما فى المعرفة والنضج والخبرة أوسع .

وذلك لأن الاقتباس عموما و اقتباس فكرة التنظيم عن الأوربيين خصوصا تكتنفها مشاكل جمة.

منها أن المجتمع المصرى كان محكوما باستبداد شرقى متعنت ، وتربط معتقداته رغبة الحاكم بإرادة الله ، ومنها ازدواجيته التى أرست قيما وحقوقا للحاكم تختلف عن عامة السكان واحتلت تلك الفكرة عقول ووجدان السواد الأعظم من الناس .. باختصار لم تكن رياح النهضة الأوربية فى مصر بنفس عنفوانها –ومن ثم آثارها- فى شمال البحر المتوسط.

ولأن المعرفة وإن أمكن نقلها ، ليس من المحتم أن يمكن تطبيقها العملى بنفس كفاءة النقل .. لسبب بسيط هو أن تلك االمعارف تخص مجتمعا آخر يختلف بالقطع عن المجتمع المصرى وربما تكون كيفية تطبيقها فى المجتمع الجديد تتطلب شروطا لا يستطيع الإلمام بها إلا شخص واسع الخبرة وعالى النضج.. وليس بشرا مبتدئين.

فمثلا تختلف الأرضية الثقافية للجمهور المصري عن مثيلتها فى فرنسا أو اليونان أو إيطاليا.وما كانت تتمتع به بعض بلدان أوربا من حريات فكرية وسياسية ونقابية غير ما هو موجود لدينا .. إلخ وشعوب الغرب الأوربى المتمتعة بحرية الإعتقاد تختلف عن شعوب الشرق المسلمة..إلخ

من هنا فإن نقل تلك المعارف إلى مصر كان محفوفا بمخاطرميكانيكية النقل وربما مثالب الترجمة الحرفية أو المُحرّفة كما حدث فعلا فى نقل الكثير من الأفكار والأديبات
الإشتراكية .. حيث الاشتراكية الفابية شئ مختلف عن الاشتراكية الراديكالية . وهكذا.

ولأن التنظيم كفكرة ليس كمهمة الدعاية أو العمل الجماهيرى فى أنه ليست له نظرية محددة بل قواعد ومبادئ يجرى تطبيقها فى كل مجتمع أو مجال بالطريقة التى تتسق مع الوسط الذى تطبق فيه.وتُبتكرعملية بنائها وتتخلق معاييرها فى معمعان الممارسة والكفاح.

وهذا يعنى ضرورة التوصل إلى تلك القواعد والمبادئ بداية ، والتيقن من ثباتها واستمرارها؛ وبعدها يجرى البحث عن الشروط المؤهلة لتطبيقها .

هذا ولا يمكن إجراء العمليتين المذكورتين ( التوصل للقواعد والمبادئ) و ( البحث عن شروط التطبيق) فى الفراغ بل يتم فى وسط اجتماعى يُتوقع العمل فيه على الدوام.

والتنظيم يختلف عن مهمة الدعاية والكفاح الجماهيرى فى بلدان العالم الثالث فى أن أشكاله السياسية تتعرض عادة للتجريم والتضييق والمطاردة من الناحية السياسية والقانونية.. كما حدث عام 1924 من حكومة الوفد إزاء ظهور الحزب الاشتراكى الأول فى مصرالذى تأسس عام 1921 .( أنظر للمؤلف- كتاب التنظيمات الفلاحية.. كمشيش نموذجا. الناشر دار المحروسة – القاهرة 1923 )

علاوة علي كونه مقولة حديثة غيرالدعاية التى هى نشاط قديم متصل بالتعليم والحوار والخطابة ، وغير العمل الجماهيرى الذى هو فى مجمله إجراءات عملية تتشابه فى كثير من الجوانب مع الواجبات والمهام العملية التى اعتاد الناس القيام بها فى أنشطتهم وأعمالهم ومنازلهم ونواديهم يوميا.

والتنظيم ليس مهمة واحدة ؛ بل مجموعة مهام متنوعة لكنها متكاملة ومترابطة ومتضافرة.. تهتم بالكيفية التى توظف بها جملة المقومات التى يتضمنها الشكل التنظيمى من بشر وميول وكفاءات وطاقات ومواهب ؛ ورصيد فكرى وسياسى وثقافى وفنى ومالى فى اتساق فعال من أجل تثبيت التنظيم فى المجتمع ولتجنيد وكسب وضم أعداد من الجمهور المستهدف ؛ فضلا عن التأثيرفى كتل جماهيرية واسعة ومتزايدة وشحذ انحيازها لتوجهات التنظيم.

كما أن التنظيم يركز عموما علي الكيف أكثر منه على الكم مع الحفاظ على تناسُب بينهما يتيح للمهام العملية إنجازها بكفاءة ويسر، ويوفرله الحماية والأمان.. ويطبعه بالمرونة والقوة والمبادرة ؛ وسرعة الاستجابة وخفة الحركة.

مع العلم بأنه لايأخذ من المعنى الضيق لكلمة التنظيم شيئا ، لذلك فهو بمثل ما يختلف عن مهمة الدعاية والكفاح الجماهيرى يبتعد بالقطع عن عملية الترتيب والتنسيق والتفنيط والرص والتستيف . لأن بناء تنظيم يختلف عن تأسيس مطبخ فى شقة للمعيشة.

والتنظيم الذى نعنيه.. هو التنظيم الإيجابى أو الثورى الذى يُعد الرافعة الأساسية للمجتمع التى يملكها الثوريون وتعمل على تطويره وتثويره وصولا لتحقيق أهدافه. بينما التنظيمات السلبية أو الرجعية فى تقديرنا فهى التى تكون وظيفتها حرمان الجمهور من حرياته وحقوقه الأساسية وفلّ نصلها ووقف تقدمها سواء تم ذلك مباشرة أو بشكل غير مباشر ، وسواء جرى ذلك بأدوات السلطة المباشرة أو بتشكيلات تم ابتداعها خارجها وسواء اتخذت ثوبا علنيا أو مموها أو مستترا تماما.

هذا ويكتسب التنظيم توصيفه ( ثورى ، إصلاحى ، رجعى ) استنادا إلى توجهاته والمصالح التى يعمل من أجل تحقيقها والنتائج التى ينجزها أو يدافع عنها ولحساب أى طبقات تحديدا (الكادحة ، المنتجة ، الشعبية ، أم المالكة ، الحاكمة ، الطفيلية).

هذا ولا يوجد ضمان ولا خاتم يمنح التنظيم الاحتفاظ بصفته ومساره على الدوام سوى العمل الجاد والممارسة والنتائج التى يحققها على الأرض والفئات الاجتماعية التى تستفيد من نشاطه ، لأن التاريخ يذخر بكثير من التنظيمات ( نقابات وأحزاب ) تنحرف عن مسارها المعلن .. وترتد عن العمل لصالح الطبقات التى تتحدث باسمها.

وكم من تنظيمات انهارت ليس فقط بسبب تغيير مسارها وشعاراتها النقابية والسياسية بل لاتباعها تاكتيكات خاطئة أولاتخاذها قرارات إدارية أو أمنية غير مدروسة أو مخالفة للبديهيات ..إلخ .

علما بأن التنظيمات ذات الطبيعة السلبية أوالرجعية لاينفرد ببنائها الأعداء أو بيروقراطيوالدولة من المسئولين والموظفين أو الإصلاحيون أوقطاع من الجمهور يتبنى قيم الخير والأعمال الاجتماعية ؛ بل يمكن أن يقوم بها عن جهل وتدنٍ فى الوعى والثقافة .. الثوريون أنفسهم .

وعموما فالمجال السياسى والنقابى الذى ينشط فيه الثوريون.. والمجال الاجتماعى الذى ينشط فيه كثير من الإصلاحيين.. وحتى المجال الرياضى الذى تسيطر عليه الدولة برجالاتها وموظفيها وبروابط الأولتراس هى المجالات التى تحظى باهتمامنا لأنها تتضمن الفضاءات الأوسع للنشاط ؛ والأكثر أهمية وخطورة فى المجتمع فى مسألة التنظيم.ولذا ننوه إلى أن الأشكال التنظيمية التى يؤسسها الإصلاحيون فى المجال الاجتماعى ويؤسسها الرسميون والحكوميون في المجال الرياضى وتشغل جانبا من الفضاءين الاجتماعى والرياضى للمجتمع تتخد مسمى إيجابى أو سلبى بناء على حجم الفوائد والآثارالتى تجنيها الجماهير المستهدفة من خدماتها أو العكس.

ولا يمكن تصور وجود فواصل مادية حدية بين أشكال التنظيمات التى تتعلق بالمجالات الثلاثة ( السياسية والنقابية ، والاجتماعية، والرياضية) أو حتى المجالات الأخرى، ولا بين الثورى منها والإصلاحى والرجعى فالعبرة ليست بالتوجهات المعلنة بل بالمسارت الفعلية والنتائج العملية المتحققة وانعكاساتها على الجمهور المستهدف.. سلبا أو إيجابا. ومن ثم فالجمعيات الأهلية لرعاية المرضى (الكلى ، السكر ، القلب، الكبد ..إلخ ) التى تغلق أبوابها فى وجه مرتاديها تمثل خصما من حجم الفضاء الاجتماعى المتاح للنشاط بينما الجمعيات التى تقدم خدماتها بكفاءة فتعد إضافة لذلك الفضاء. ومن هنا نرى أن الأولى مستخدمة استخداما سلبيا بينما الثانية مستخدمة استخداما إيجابيا.

وفى المجالين السياسى والنقابى تمثل التنظيمات السياسية والنقابية إضافة حقيقية إن كانت تلتزم بأصول البناء وقواعده ؛ وتمتلك رؤية واضحة لأهدافها ومسارها وبرامجها وتجتهد فى تحديد وسائل تحقيقها ؛ وتسعى عمليا لتمليك أعضائها تلك المعارف .. وتضرب المثل فى الممارسة والنشاط العملي ، ويلعب قادتها دور القدوة لأشبالها وينعكس ذلك كله على تطورها وسمعتها وحصادها، وهو ما يختلف قطعا عن التنظيمات التى تتأسس لأسباب حلقية أو لمجرد التواجد أوللظهور أو للبقاء فى الساحة السياسية أو النقابية أو للفوز بجزء من الغنائم التى تظهر إبان الأزمات والصراعات الاجتماعية الكبرى، او لقطع الطريق على تأسيس تنظيمات ثورية ، أو لإفساد تنظيمات قائمة أوحرمانها من عضويات بعينها ، أو لاحتكار النشاط فى مجال نوعى بعينه ، أو للحفاظ علي تواجدها فى هيئة جديدة للهروب من عضوية حزب اتخذ موقفا مناوئا لثورة 25 يناير، أو لتوزيع عضوية حزب منهار علي أحزاب مستحدثة رغبة فى التواجد المستتر.

وهناك أمثلة صريحة متعددة لهذه التنويعة من الأمثلة نذكر منها :

1-عشرات الأحزاب االسياسية وبعض النقابات التى نشأت فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011.

2-النقابة العامة للفلاحين التى أسستها الدولة ممثلة في وزير الزراعة آنذاك ( أيمن فريد أبوحديد)، الذى شارك فى عضويتها سرا هووسكرتيرته وأحد موظفى مكتبه. ومصرع رئيسها محمد عبد القادر فى حادث سير بمحافظة البحيرة واختفاء أوراقه ومن ثم تدهور النقابة وهجرة عشرات آلاف الأعضاء منها.


3-الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم بعد حله وتسلل عضويته لعدد من الأحزاب الصغيرة.

4-عضويات بحزب التجمع رفضت موقفه من الثورة واستترت بنقابة جديدة ثم عادت وانحازت فيما بعد للنظام الجديد..


ولذلك فكل الأمثلة التى ضربناها والملاحظات التى أبديناها تنتقص من الفراغات المتاحة للنشاط فى المجتمع وليس من الضرورى أن تكون صادرة من الأعداء أو الخصوم السياسيين أوالنقابيين أو من فعل الإصلاحيين الاجتماعيين أو من خبراء الرياضة الاستراتيجيين ؛ بل يمكن أن تكون من اقتراف " الثوريين " .

وبالمناسبة فالمجتمعات المنخرطة فى نشاطات سياسية ونقابية واجتماعية وثقافية دائمة هى مجتمعت صحية وعادة ما تنجو تنظيماتها من الهزات الاجتماعية المدمرة ؛على العكس من المجتمعات الراكدة التى تكون تنظيماتها فريسة سهلة لمثل تلك الهزات التى تتحول لاضطرابات مدمرة نظرا لهشاشتها وضآلة تجربتها.

10 مايو 2024








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنصار ترمب يشبهونه بنيسلون مانديلا أشهر سجين سياسي بالعالم


.. التوافق بين الإسلام السياسي واليسار.. لماذا وكيف؟ | #غرفة_ال




.. عصر النهضة الانجليزية:العلم والدين والعلمانية ويوتوبيا الوعي


.. ما الذي يجمع بين المرشد الإيراني وتنظيم القاعدة واليسار العا




.. شاهد: اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين يطالبون باستقالة رئيس وز