الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمومة والسينما: من الإبستيمولوجيا إلى الاستيتيقا

خالد كلبوسي

2024 / 5 / 13
الادب والفن


تتحدد مميزات المقاربة الدولوزية للديمومة والسينما في نظرنا، في ثلاث :
أولى هذه المميزات، تجذير دولوز لمفهوم الديمومة البرغسوني في الأنطولوجيا و تخليصه من الدلالة العلمية النفسية التي تضمنتها المؤلفات الأولى مثل "بحث في المعطيات المباشرة للوعي". وهذا الأمر يعبر عنه دولوز من خلال إبداعه لمفهوم الذاكرة الأنطولوجية أو الذاكرة اللاذاكرية.
وثانيهما اعتبار السينما فنا مستجدا يتطلب مقاربة جمالية وليس مقاربة ابستيمولوجية كما يفعل برغسون عندما يعتبر السينما مجرد آلية تعيد الحركة إلى السكون، والديمومة إلى الكرونولوجيا.
أخيرا، تعيين مهمة النظرية الفلسفية الخاصة بالسينما في إبداع مفاهيم السينما اعتمادا على تمييز برغسون بين الإدراك والتعرف من جهة والتمييز في التعرف نفسه بين التعرف الآلي والتعرف اليقظ، الأمر الذي يجعل المقاربة الفلسفية مقاربة مختلفة عن المقاربة النقدية السينمائية.
وأما حدود المقاربة الدولوزية، فتبدو عند دولوز نفسه عندما يحلل علاقة السينما بالفكر.
من علم النفس إلى الأنطولوجيا :
يرفض دولوز اختزال الديمومة البرغسونية في الدلالة العلمية النفسية، رغم أن برغسون كان مضطرا في البداية ،كما يشير إلى ذلك دولوز، إلى التعبير عن الديمومة بعبارات تحيل على علم النفس، لكنه سيتخلص في مؤلفاته المتأخرة من هذه النزعة النفسية في التعبير عن الديمومة ليعتبر أن الديمومة ليست مجرد حدس داخليّ بل الكل الذي يشمل كل شيء المادة والوعي نفسه. وهو ما يذهب إليه عادل حدجامي مثلا في مؤلفه عن " فلسفة جيل دولوز" عندما يقول: " تكمن ماهية الديمومة عند دولوز في كونها تغير changement غير أن هذا التغير ليس جزئيا مكانيا أو تحول في الوعي، بل هو تحول أنطولوجي، لأنه تغير يلحق بـ "الكل" le tout ." (1)
يكمن خطأ علم النفس التجريبيّ، كما بين برغسون في " المعطيات" و"مادة و ذاكرة"، في اعتبار أن الذكريات تخزن في الدماغ مما يجعل علماء النفس يفسرون أمراض الذاكرة بما يصيب الدماغ من خلل عضويّ. وهو الأمر الذي يرفضه برغسون لأنه يختزل الوعي في الدّماغ، والروح في الجسد، في حين أن نظام المادة يختلف عن نظام الروح في نظر برغسون، دون أن يعني ذلك فصلا بين المادة والروح كما تفعل الديكارتية. إن الذاكرة والدماغ، الروح و المادة من طبيعتين مختلفتين لكنهما غير منفصلين.
سيعتمد دولوز على نظرية الذاكرة هذه عند برغسون ليبين أن الماضي يوجد في ذاته سواء تذكرناه أم لم نتذكره، مميزا بين صورة الذاكرة الخالصة و الصورة-الذكرى المتحققة فعلا، بين الافتراضيّ و الفعليّ أو المتحقق. فللماضي وجود افتراضيّ يمكن أن يتحقق في صورة-ذكرى. هكذا يتحدث دولوز عن ذاكرة لاذاكرية أو ذاكرة أنطولوجية هي التي تخزن فيها جميع صور الذاكرة الخالصة. ولا يمكن استعادة هذه الصور إلا بالقفز داخل هذه الذاكرة ذات الحلقات المتعددة والتي يعبر عنها برغسون في صورة المخروط الذي تعبر قمته عن علاقة الذاكرة بالحاضر فيما تعبر قاعدته عن تمدد الماضي، إن التعرف الآني على الموضوعات في العالم الخارجيّ يستدعي صور من الذاكرة، هذه الصور نفسها مرتبطة بصور أخرى شبيهة بها، و هذه الأخيرة مرتبطة بصور أخرى في شكل حلقات ما تنفك تتسع كل ما توغلنا في الماضي. من هنا يأتي اعتماد برغسون على ترسيمة المخروط ليعبر عن عمل الذاكرة. وعملية التذكر، استعادة الماضي لا تتم في الحقيقة بتحول صور الذاكرة الخالصة تلقائيا من الماضي إلى الحاضر، بل بتحول الوعي نفسه إلى الماضي ما يسميه دولوز القفز في الأنطولوجيا من حلقة إلى أخرى أو من مستوى إلى آخر من مستويات الذاكرة. ويتصور برغسون عملية فهم معاني الجمل بنفس الطريقة أي أننا لا نفهم لغة ما بمجيء المعنى إلينا بل بانتقالنا نحن إليه. إن المعنى هو ما تفترضه اللغة تماما مثلما أن الماضي الافتراضي هو ما تفترضه صور الذاكرة المتحققة. وكما يقول دولوز في مؤلفه "البرغسونية" إن الذاكرة والوعي هما الديمومة. إنّ الماضي ليس ما لم يعد موجودا بل هو موجود دائما ومعاصر للحاضر دائما. وعملية التذكر لا تستعيد ما لم يعد موجودا، بل تعود إلى ماهو موجود في ذاته، تنتقل إليه في شكل قفزات من حلقة إلى أخرى. وهي، أي عملية التذكر، تفترض أن الماضي موجود أو يتواجد مع الحاضر إذ كيف يمكن أن نعود إلى ما لم يعد موجودا؟ الماضي والحاضر وجهان من الزمان لا ينفصلان أبدا. وهو الأمر الذي تعبر عنه السينما في الصورة-البلورة كما بينا سابقا. مما يمكننا من رؤية الزمان في شخصه و ليس الحدس به حدسا باطنياّ. إن السينما ليست حيلة أو وهما كما تهيأ أمرها لبرغسون لأنه رأى فيها مجرد تقنية لتحريك الصور بشكل متتابع. إنها ليست كرونوغرافيا. بل هي فن يعرض الديمومة أمام أبصارنا وربما الديمومة هي التي تعرض علينا نفسها في السينما، تخرج من الوعي الباطني إلى الوعي الخارجي. إن السينما تكشف للأنظار الديمومة التي يحجبها عنا العلم والميتافيزيقا التقليدية. وهكذا يمكن القول: إن الزمان في السينما غير الزمان، وأن كرونوس ليس خرونوس.

من الإبستيمولوجيا إلى الاستيتيقا :
يذهب برغسون مبدع مفهوم الديمومة إلى أن السينما لا تجعلنا ندرك طبيعة الحركة ولا طبيعة الديمومة، بينما يذهب دولوز على النقيض من ذلك أن السينما قادرة على إدراك طبيعة كل من الحركة والزمان. بمعنى آخر إن دولوز يأخذ بقول برغسون حول الديمومة ولكنه يرفض موقف برغسون من السينما. كيف يمكن أن نفسر هذه المفارقة في قراءة دولوز للديمومة البرغسونية وعلاقتها بالسينما ؟
ذكر برغسون في مؤلّفه "التطور المبدع" مثالا عن فشل السينما في إدراك الحركة الحقيقية لكتيبة من الجيش بما أنها تعيد تركيب حركة الكتيبة اصطناعيا باعتماد الجهاز السينمائي. و يسميّ برغسون هذه العملية بـ" حيلة الجهاز السينمائي " وهي نفسها " حيلة معرفتنا " كما يقول في نفس المصدر. يبدو واضحا أن برغسون يقيم تماثلا بين آلية الجهاز السينمائي وآلية معرفتنا للظواهر. فهو يقيمّ السينما تقييما معرفيا أي تقييما ابستيمولوجيّا. فمثلما يعيد الجهاز السينمائيّ تأليف الحركة من خلال الصور المثبتة على الشريط السينمائي، كذلك تعمل آلية معرفتنا للحركة من خلال تقسيمها إلى وحدات ساكنة. أي أننا في المعرفة ندرس الحركة من خلال السكون. وبالمثل يمكن القول: إن آلية العمل السينمائي لا تعكس حقيقة الديمومة، ذلك أن الديمومة نفسها حركة وتغير متصل. لقد تعرض أحد المختصين المعاصرين في فلسفة برغسون هو ألان بانيرو Alain Panero إلى هذه المسألة في مقال بعنوان " دولوز مع برغسون نمذجتان من صناعة الواقعيّ Deleuze avec Bergson : Deux modélisation de la fabrique du réel. "(2) مستحضرا العديد من الشواهد من مؤلفات برغسون و حتى من رسائله تبين أن برغسون كان يتعامل مع السينما من منظور معرفي ابستيمولوجيّ.
سيعمد دولوز في " سينما 1" و"سينما 2" إلى تجاوز المقاربة الإبستيمولوجية للسينما التي قام بها برغسون. مع دولوز، ننتقل إلى مقاربة فلسفية جمالية تتعامل مع السينما كفن وليس كتقنية تسجيل وتحريك للصور. ونحن نعلم أن الفن يحظى عند برغسون بقيمة عليا في علاقة بإدراك حقيقة الوجود مقارنة بالمعرفة المرتبطة بإكراهات الفعل و الأهداف النفعية. إن التعامل مع السينما كفن وليس كتقنية هو ما يفسر اختلاف موقف دولوز عن موقف برغسون . وإذا كان من بين مهام الفن أن يكشف حقيقة الوجود، فإنّ السينما باعتبارها فنّ (3) قادرة أن تجعلنا ندرك حقيقة الحركة والزمان كما بين دولوز في " سينما 1" و" سينما 2" . وما يبرر الاختلاف بين برغسون ودولوز في التعامل مع السينما أمران أساسيان في تقديرنا. الأول تاريخي يتعلق بنشأة السينما مع الإخوة لوميار أواخر 1895 والثاني يتعلق بالتطور الذاتي للسينما.
إن اختراع الإخوة لوميار لجهاز السينما، ترافق مع دراسة العلماء حركة الإنسان والحيوانات مثل الحصان باستعمال الصور الفوتوغرافية، وقد تعامل برغسون مع بداية اختراع جهاز السينما على أساس أنه جهاز لتحريك الصور هي في الأصل صور ساكنة مثل الصور الفوتوغرافية. بينما تعامل دولوز مع السينما بعد أن استقرت كفن لإبداع الصور يحيط بها عالم من الأفكار والقيم. إضافة إلى ذلك فإن أي نشاط يحتاج في تشكله لمدة معينة من الوقت حتى تظهر ملامحه المستقرة، والسينما لم تظهر ملامحها الفنية منذ البداية بل بعد مدة معينة الأمر الذي لم يساعد برغسون على تبين البعد الفنيّ للسينما، ومكن دولوز من إدراك هذا الأمر لاحقا. يمكن القول: إن دولوز يقيم السينما بمقاييس جمالية برغسونية. وهكذا يعيد للسينما قيمة داخل الفلسفة البرغسونية نفسها. إن المقاربة الدولوزية لعلاقة السينما بالحركة وبالديمومة، ليست مقاربة مؤرخ الفلسفة الذي يكتفي بالوقوف عند الأطروحات المعلنة للفيلسوف مخضعا النص إلى براديغم الحقيقة الواحدة والمعنى الواحد المفترض وجوده مسبقا. إنها مقاربة الفيلسوف الساعي إلى بناء النظرية الفلسفية الخاصة بفن السينما وما اقتضاه ذلك الأمر من إبداع لمفاهيم فلسفية جديدة تخص السينما، وتخليص المقاربة البرغسونية للسينما من المنظور الابستيمولوجي بإرساء مقاربة فلسفية جمالية له. يقول دولوز في خاتمة " سينما2 ": "إن نظرية فلسفية للسينما ليست نظرية حول السينما، إنما حول المفاهيم التي تتطلبها السينما، مفاهيم تدخل في علاقات بمفاهيم أخرى تخصّ ممارسات أخرى. وممارسة المفاهيم بصفة عامة ليس لها أي أفضلية على بقية الممارسات الأخرى، تماما مثلما لا توجد أفضلية موضوع عن موضوع آخر." (4)
إن عودة دولوز إلى برغسون في "سينما 1" و"سينما2"، عودة اقتضتها رهانات دولوز في بناء النظرية الفلسفية للسينما وإبداع مفاهيمها و ليست عودة مؤرخ الفلسفة للمصادر من أجل أن يعيد أو يكرر ما يقوله المصدر .كما أن المقاربة الدولوزية للسينما والديمومة ليست مقاربة نقدية سينمائية، لأنها مقاربة تبدع مفاهيم السينما التي هي مهمة الفيلسوف وليست مهمة الناقد السينمائي.

النظرية الفلسفية الخاصة بالسينما :
قد يرى المختصون أن إبداع مفاهيم السينما أمر يخص أهل السينما، لكن دولوز يعلن جازما ، خاصة في مؤلفه الأخير "ما الفلسفة؟"، أنّ هذه المهمة تعود للفلسفة حصرا. الفن معني بإبداع الصور والعلم معني بإبداع الدوال، وحدها الفلسفة معنية بإبداع مفاهيم أي نشاط إنسانيّ. يبدع السينمائيون صورا، يبدع الفلاسفة مثل دولوز مفاهيم الصورة السينمائية. وهذا الأمر لا يبخس أهل السينما قيمة ما يبدعونه. كما لا يفاضل دولوز بين العلم والفن والفلسفة، معتبرا أن لكل منها مهمة خاصة به. ومثلما تفكر الفلسفة في أي ممارسة إنسانية مثل الأخلاق والسياسة والعلم، تفكر كذلك في الفن. إنها تقيم صروحها النظرية في التخوم، في أرض اللقاء بالأغيار. وقد عمل دولوز على إبداع مفاهيم فن السينما مثل الصورة-الحركة والصورة-الزمان والصورة-البلورة بالعودة إلى الفلسفة البرغسونية سيما مفهومها للديمومة والذاكرة والتعرف. لقد وفرت فلسفة برغسون لدولوز إمكانية تأسيس نظرية فلسفية للسينما مختلفة عن نظرية برغسون نفسه. كان برغسون ينظر إلى السينما باعتبارها تقنية لتحريك الصور تقوم على تصور كميّ للزمان، بينما ينظر دولوز إلى السينما باعتبارها فنا يمكننا من رؤية الديمومة نفسها. من أجل ذلك كان على دولوز أن ينشئ تصورا جديدا للسينما يخلصها من كونها مجرد تقنية ليعتبرها فنا قادرا على إبداع صور تنفذ إلى حقيقة الزمان أي الديمومة. إن روح البرغسونية تكمن أساسا في كونها فلسفة للتطور المبدع. فالديمومة ليست تكرارا لذات الشيء، إنما إبداع دائم لكيفيات مختلفة. وقد ميز برغسون في "الاختلاف و التكرار" بين المنظور الميتافيزيقي والمنظور ما بعد الميتافيزيقي للاختلاف، الأول يخضع الاختلاف للتطابق والهوية، أما الثاني فيحرره منهما. بهذا المعنى، عندما تحرر البرغسونية الديمومة من التعددية الكمية المتجانسة، فإنها تحرر الاختلاف أو التعددية الكيفية غير المتجانسة من ميتافيزيقا الهوية.
ما تتميز به نظرية دولوز الخاصة بالسينما هو النظر إلى السينما من حيث هي فن قادر على النفاذ إلى حقيقة الزمان. السينما فن لأنها تبدع صورا ومشاهد ضمن عالم يعبر عن رؤية ما. يقول دولوز في "سينما2": "لا تعرض السينما صورا فحسب، إنما تحيطها بعالم."(5) وبرغسون الذي يعتبر أن الفن هو الذي يمكننا من إدراك فرادة الكائنات أو وجودها المميز لها، لأنه يخلصنا من إكراهات الفعل الذي تخضع له المعرفة، أتاح لدولوز أن يكشف عن قدرة السينما، من حيث هي فن، على النفاذ لحقيقة الزمان.
حدود المقاربة الدولوزية :
يعاب على دولوز أنه يقرأ فلسفة غيره من الفلاسفة قراءة خاصة جداّ تعبر عن أفكاره الخاصة أكثر مما تعبر عن أفكار الفيلسوف موضوع القراءة. إن قراءة دولوز لبرغسون ليست قراءة مؤرخ الفلسفة لنسق فلسفيّ ما، بل هي قراءة تستعيد فكر الفيلسوف من أجل النظر في إشكاليته هو وليست إشكالية برغسون. قراءة تعبر عن مشاغله هو ولا تعبر عما يشغل الفيلسوف المقروء. لا ينكر دولوز ذلك في "محادثات" عندما يعتبر أنه يتوسل بقراءة فيلسوف ما من أجل نحت أفكار ومفاهيم جديدة تخصه وتحمل اسمه وإمضاءه. وهو في الحقيقة لا يختلف في ذلك عن معظم الفلاسفة منذ أفلاطون وصولا إلى دولوز نفسه. فعودة الفلاسفة لتاريخ الفلسفة، عودة مشروطة باهتماماتهم الفكرية الخاصة بهم وليس من أجل شرح فلسفة فيلسوف ما. بهذا المعنى يبرر الفلاسفة ومنهم دولوز صنيعهم هذا فيشرّعون لأنفسهم بناء تصوراتهم بالاعتماد على الفلسفات المقروءة. ويصبح تاريخ الفلسفة تاريخ التقويض والبناء الدائمين الذي وصفه أفلاطون بصراع العمالقة. مما يمكن أن يعزز موقف الشك والريبة في ما يقوله الفلاسفة. ولكن دولوز يشرع لمثل هذه القراءات، سيما قراءته هو لتاريخ الفلسفة، بتصور جديد للقراءة. فإذا كان المنطق التقليديّ للقراءة يفترض أن لكل نص معنى نحن مدعوون كقراء للكشف عنه، فإن دولوز يعتبر أن هذا التصور للقراءة مجرد عود على بدء لا ينتهي، شيئا فشيئا تتحول فيه القراءة إلى قراءة عبثية لا تنتهي. يشبه دولوز الكتاب المقروء بهذه الطريقة بصندوق نفتحه لنرى ما يحتويه من دلالات داخله نعمل على تفسيرها و تأويلها، أما القراءة التي يدعو لها فلا تفترض وجود معنى قبل فعل القراءة نفسه،إنه يشبه النص بآلة فاقدة للدلالة والقارئ مدعو للنظر إذا كانت هذه الآلة ما تزال صالحة للاستعمال أم لا، وكيف تشتغل. يقول دولوز في "محادثات": "هناك طريقتان لقراءة كتاب: إما أن نعتبره صندوقا يحيل على داخل، وبالتالي نبحث عن دلالاته، ثم نبحث عن دواله إذا كنا أكثر انحرافا وفسادا. والكتاب الموالي، نتعامل معه هو الآخر كصندوق يحتويه الصندوق السابق أو أنه هو نفسه يحتوي هذا الأخير. هكذا نقوم بالشرح أو بالتأويل أو نبحث عن تفسيرات ونكتب كتاب الكتاب إلى ما لانهاية. وإما، وهي الطريقة الأخرى، أن نعتبر كتابا ما بمثابة آلة صغيرة خلوا من الدلالة. والمشكل الأساسي الذي يطرح حينئذ: هل تشتغل الآلة بالنسبة إليك؟ فإذا لم تشتغل أو لم يحدث شيء يذكر، خذ كتابا آخر. هذه القراءة المغايرة قراءة محكومة بالشدة: شيء ما بصدد الحدوث أو عدم الحدوث، لا شيء يستدعي التفسير أو الفهم أو التأويل. إنها من قبيل الوصل الكهربائيّ."(6) ليس للنص المكتوب، في نظر دولوز، أهمية إذا لم يؤثر في القارئ و يجبره على التفكير أي على إبداع معنى جديد. للكتاب قوة ثورية لا توجد بداخله بقدرما توجد في الطريقة التي نقرأه بها كما يشير إلى ذلك لورنس أوليفييه في المؤلف الجماعي " باتجاه دولوز Vers Deleuze "(7).هذا يعني بالنسبة لموضوعنا أن دولوز لا يعتقد أن أهمية برغسون تكمن في تكرار ما قاله برغسون عن الديمومة والسينما بل المهم ماذا يمكن أن ينتج من أفكار خاصة عن الديمومة والسينما لا توجد في نصوص الفيلسوف المكتوبة. علينا ألا ننتظر من الفيلسوف أن يعيد إنتاج أفكار فيلسوف آخر أن يسايره حذو النعل بالنعل. هكذا كان حال سقراط مع الفيزيوقراطيين و حال أرسطو مع أفلاطون، وهذا حال دولوز مع برغسون وغير من الفلاسفة الذين اهتم بهم مثل سبينوزا ونيتشه وهيوم ولايبنيتز. بهذه الكيفية في القراءة استطاع دولوز أن يقدم لنا تصورا جديدا للسينما ولعلاقة الديمومة بالسينما خاص به ويحمل بصمته المميزة ويختلف عن تصور برغسون نفسه وبالاعتماد عليه. لسان حال الفيلسوف حينئذ قول القائل: علمته الرماية فلما اشتد عوده رماني.
إذا كان دولوز قد رأى في الديمومة البرغسونية تأسيسا للإبداع والاختلاف في التطور الحيوي، فـباشلار يرى في مؤلفه "حدس اللحظة" أن الديمومة كاتصال واندماج بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يمكن أن تكون أرضية نؤسس عليها الإبداع. إذ أن الإبداع قطيعة وانفصال لذلك ينحاز إلى حدس اللحظة. فاللحظة المنفصلة عن سابقاتها هي فقط ما يمكن أن يؤسس لزمنية الإبداع في أي مجال من مجالات الفكر، في العلم والفلسفة والفن. كي يكون الزمان، زمان إبداع يجب عليه أن يحيا ويموت من لحظة إلى أخرى، يجب عليه أن لا يكرر نفسه في كل لحظة. فاللحظة ، في نظر باشلار، ليست لحظة علمية مصطنعة كما يذهب إلى ذلك برغسون. يقول باشلار: " ولكننا إذا انتقلنا إلى مجال التحولات المفاجئة حيث يبرز الفعل الخلاّق فجأة، كيف لا نفهم أن عهدا جديدا بدأ دائما بمطلق؟ ذلك أن كلّ تصوّر في حدود النسبة التي يكون فيها حاسما يتجزأ إلى لحظات خلاقة."(8)
لكن دولوز لا يتفق مع باشلار فيما ذهب إليه في قراءته للديمومة البرغسونية.لأن الموقف الباشلاردي من الديمومة البرغسونية لا يأخذ في الاعتبار التمييز الذي يقيمه برغسون بين صنفين من التعددية: تعددية متجانسة و تعددية متنافرة. و هو تمييز برغسونيّ خالص في نظر دولوز. لقد أقامت الميتافيزيقا التقليدية تقابلا بين الواحد والمتعدد بينما يقيم برغسون تقابلا بين تعدديتين: التعددية المتجانسة تتصور الزمان جملة من اللحظات المتجانسة والمتعاقبة، وهو التصور العلمي والميتافيزيقي للزمان، وتعددية متنافرة تتصور الزمان كيفيات متصلة ومختلفة عن بعضها البعض، أي الديمومة بالمعنى البرغسوني. بالتالي يمكن تأسيس التطور المبدع أو الخلاق على أساس التعددية المتنافرة. ويمكن الذهاب كذلك إلى أن موقف ألان باديو من فلسفة دولوز يجانب الصواب بالنظر إلى نفس السبب فالواحديةL’univocité الدولوزية ليست من الواحد البارمنيدي بل هي واحدية متعددة أو تعددية غير متجانسة تتيح للإبداع والاختلاف أن ينتشر على بساط المحايثة، وهو ما يسميه فيليب مانغ Philippe Mengueنسق المتعدد عند جيل دولوز. ولمزيد توضيح الفكرة نذكّر بأن برغسون يشبه الديمومة بالمقطوعة الموسيقية. فهذه الأخيرة، كما هو معلوم تتكون من عدة نوتات كل نوتة تختلف عن الأخرى، لكن المقطوعة الموسيقية هي كل تندمج فيه النوتات مع بعضها البعض أي أن المقطوعة الموسيقية، مثل الديمومة، تعددية غير متجانسة متصلة فيما بينها مثلما لا تنفصل مكونات الديمومة عن بعضها البعض. إن الديمومة باعتبارها تعددية غير متجانسة، تتيح إمكانية التأسيس للتطور الحيوي المبدع في الطبيعة والوعي الذي هو أرقى تجليات التطور الحيوي المبدع عند برغسون.
وعندما اعتبر برغسون أن السينما تفترض تصورا كميا للزمن وليس في استطاعتها إدراك الحركة باعتبارها مقطعا متحركا في الديمومة بعبارة دولوز، بالتالي السينما لا يمكن أن تنتج سوى وهم بالحركة. في نفس الاتجاه يمكن أن نضيف: لا تنتج السينما وهم الحركة فحسب بل يمكن أن تنتج أوهاما عدة في مجالات مختلفة من الحياة. إن مثل هذا التصور ليس اعتباطيا. فالسينما من حيث هي فن جماهيري، تعمل في كثير من الأحيان كوسيلة لنشر الأوهام الدعائية وهو ما يجعل منها محل تنازع القوى الارتكاسية المتصارعة في العالم، سيما عالمنا المعاصر.
يحذر دولوز من هكذا أوهام في الفصول الأخيرة من "سينما2". وبناء عليه يمكن أن نستنتج أن السينما لا تحفز الآلة الروحية L’automate spirituel على التفكير في طبيعة الزمان أو غيره. فقد انتظر كبار السينمائيين من السينما من حيث هي فن الصورة ذاتية الحركة l’auto-mouvement أن تحدث صدمة في الآلات الروحية يعني المشاهدين، فتدفعهم إلى التفكير، لكن ما يحدث في الأفلام السيئة على الأقل هو العكس إذ تجعل فكر المشاهد فريسة للأوهام التي ينشرها الأوغاد عبر الشاشة. يقول دولوز في "سينما2": "كلنا نعلم بأن فنا من الفنون لو فرض الصدمة أو الرعشة، لكان العالم قد تغير منذ زمن طويل، ولراح البشر يفكرون منذ أمد سحيق. إن مثل هذا الزعم للسينما، على الأقل عند روادها الكبار يدفع اليوم إلى الابتسام."(9) لقد غرقت السينما في الدعاية الرخيصة التجارية منها والسياسية، وفي الجنس والدم. رغم ذلك يعتقد دولوز أن الصورة السينمائية ذاتية الحركة الجيدة قادرة أن تحدث الصدمة والرعشة التي تدفع الفكر إلى الوعي بالديمومة المحضة وحدود هذا الوعي في نفس الوقت، قادرة على أن تفتح الطريق نحو الوعي بـالجليل أو الساميle sublime(10) بالمعنى الكانطي، نحو الكل Le tout أو المطلق ،بعبارة دولوز، الذي يتجاوز قدرة الخيال على التخيل، الكل الذي هو الزمان بالمعنى البرغسوني أي الديمومة الخالصة. فالديمومة جليلة لا يمكن أن يمسك بها إمساكا تاما لا الخيال ولا الفكر، ومطلقة لا يحيط بها شيء.
إنّ ما يميز المقاربة الدولوزية كما بينا سابقا هو إبداع تصور جديد لعلاقة السينما بالديمومة مختلف عن تصور برغسون بالاستناد إلى برغسون نفسه. بهذه الطريقة يجذر دولوز الديمومة البرغسونية في الأنطولوجيا، ويخلص السينما من المقاربة التقنية الابستيمولوجية عند برغسون باتجاه مقاربة فلسفية جمالية مكنته من أن ينشئ نظرية فلسفية عن السينما تختلف عن السينمائيين ونقاد السينما التي لا تتمثل مهمتهم في إبداع مفاهيم السينما مثل الصورة-الحركة والصورة-الزمن التي تفترض تصورات فلسفية عن الحركة والزمان يأخذها دولوز عن برغسون بطريقته الخاصة حيث يجعل دولوز برغسون يتحدث باسم دولوز نفسه. ولكن للمقاربة الدولوزية حدودها كذلك نلمسها لدى القلق الذي يعبر عنه دولوز من استيلاء الدعاية النازية مثلا على فن السينما الذي أصبح وسيلة دعائية جماهيرية خطيرة تهدد الفكر نفسه وتحول المشاهدين أو الآلات الروحية بعبارة دولوز إلى آلات automates شبه نائمة أو منومة. بمعنى أن برغسون قد استشعر منذ بداية صنع الجهاز السينمائي مع الإخوة لوميار خطورة الوهم الذي يمكن للسينما أن تنشره مركزا اهتمامه على الوهم الذي تنتجه حول الحركة التي تستند إلى تصور كمي للزمان يغيب عنا حدس الديمومة التي تشكل نسيج الوجود.


المصادر والمراجع:
1- عادل حدجامي، " فلسفة جيل دولوز" دار توبقال المغرب 2012 ص 22.
2- PHILOSOPHIQUES 45/1 , --print--emps 2018,P. 143-157
3- ستطلق تسمية الفن السابع على السينما من قبل الناقد السينمائي Ricciotto Canudo سنة 1920.
4- G.Deleuze « Cinéma 2 :L’image-temps »,les éditions de minuit Paris 1985, P. 365
5- Même référence, P.92
6- G.Deleuze « Pourparlers », les éditions de minuit Paris 2003, P.17
7- Yves Coture et Lawrence Olivier« Vers Deleuze », édition P.U Laval 2018,P.175
8- غاستون باشلار، "حدس اللحظة" الدار التونسية للنشر 1986 تعريب رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، ص 24.
9- G.Deleuze « Cinéma 2 :L’image-temps », les éditions de minuit Paris 1985 P.204
10- جاء في موسوعة لالاند الفلسفية الجزء الثالث منشورات عويدات بيروت باريس الطبعة الثانية 2001 ص 1354 في تعريف الجليل Le sublime ما يلي: " يسلم كانط بأن الجميل والجليل ( الجمال والجلال) هما صنفان متناسقان من نوع واحد: فالجميل يتميز بميزته المتناهية والكاملة، والجليل بأنه يحرك فكرة اللامتناهي سواء في صورة العظمة (الجلال الرياضي) أم في صورة القوة (الجلال الديناميكي). فالجمال يكشف عن تناغم، والجلال يكشف عن صراع بين العقل والخيال.".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال