الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر ومعاهدة السلام: بين الالتزام الدولي والرؤية الاستراتيجية المُبَادِرَة

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2024 / 5 / 14
السياسة والعلاقات الدولية


إذا كان الجميع يتحدث في الآونة الأخيرة عن الضوابط والفلسفة السياسية العامة للدولة المصرية، في ظل التحديات القائمة والتي وصلت ذروتها في حرب غزة وما يجري بالقرب من الحدود المصرية، وفي منفذ رفح من الجهة الفلسطينية ومحور صلاح الدين/ فيلادلفيا الخاضع لاتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية وملاحقها، فإن هناك حاجة ضرورية لإعادة تعريف مجموعة من البديهيات التي أصبح يتم الخلط بينها، في إطار الاستقطابات السياسية التي ضربت المشهد المصري ولم يخرج منها بعد.
بداية علينا أن نفرق بين شيئين؛ أولا الالتزامات الدولية والمعاهدات التي تُوقع عليها وتبرمها الدول، بصفتها أحد العوامل أو المحددات التي يتم وضعها في الاعتبار عند وضع السياسات العامة للدولة داخليا أو خارجيا، وتؤثر فيها بدرحة ما زادت أو قلت، ثانيا المحددات العامة للثوابت التي تلتزم بها الدولة عند نظرتها لنفسها ووضعها للفلسفة السياسية العامة التي تحكم وجودها وتحركها في محيطها السياسي الداخلي والإقليمي والدولي، أو ما يمكن أن نطلق عليه عموما الفضاء الجيوثقافي بدرجاته والذي يعني القيم الثقافية الأساسية الحاكمة للدولة في علاقتها بممارسة دورها داخليا وإقليميا ودوليا (حيث يختلف الفضاء الجيوثقافي عن الفضاء الجيوسياسي التقليدي في أنه أكثر تجذرا، وقدرة على الضبط من المستوى السياسي أو الأيديولوجي الذي قد ينكسر، فينهض الجيوثقافي بوصفه أقوى الأبنية الإنسانية وأعمقها للجماعات البشرية).
فعلى سبيل المثال تعتبر معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" إحدى الالتزامات الدولية، التي تنضبط بالقطع وفق الفلسفة الجيوثقافية العامة الحاكمة لمصر ومحدداتها الهوياتية بمستودعها التاريخي المتراكم والمتجاور والمتناغم، فهو جزء من كل، هامش ضمن هوامش متعددة تدور في متن ومركز حاكم وعام، فالاتفاقية ليست مركز الفلسفة الجيوثقافية الوجودية لمصر بل هي مجرد التزام دولي ضمن نطاق عام، وحزمة من السياسات التي يحكمها مستودع الهوية المصري بأبعاده ومكوناته، ومستوياته المتعددة والمتناغمة داخليا وعربيا وإسلاميا وأفريقيا وعالميا.
إن الخيار الاستراتيجي العام والشامل لمصر؛ لا يعني حصرا سوى فلسفتها الوجودية العامة والعمل المستمر في سبيلها ولا خيار استراتيجي غيره، بينما معاهدة السلام هي مجرد التزام دولي، يجب أن يتم وضعه في خدمة الفلسفة الوجودية الجيوثقافية العامة لمصر وليس العكس، مثلها مثل أي التزام دولي آخر، أي ببساطة لو أن هناك من لديه ارتباك في تعريف الأشياء والبديهيات بسبب الاستقطابات السياسية التاريخية القائمة وإرثها المتداخل، فإنه علينا الآن أن نضع الأشياء في موضعها ونتجاوز فكرة الاحتراب الصفري الذي لا طائل منه.
نعم معاهدة السلام هي التزام دولي، لكن خيارنا الاستراتيجي هو الدفاع عن فلسفة مصر الجيوثقافية العامة ومشروعها السياسي في كافة السياسات الداخلية والخارجية، ولا مانع أبدا -بل هو الأصل- أن يتم ضبط الالتزامات الدولية وفق السياسة العامة لبسط الحضور المصري في فضائه الجيوثقافي العام، ببعده الداخلي والإقليمي والدولي، العربي والإسلامي والإفريقي والعالمي.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا يمنع خيارنا الاستراتيجي بممارسة سياسات خارجية معبرة عنا في الاتحاد الأفريقي، إذا وجدنا "إسرائيل" تروج لثقافة المركزية العنصرية السوداء والعداء للشمال الأفريقي وللهوية العربية الإسلامية ولمصر داخل القارة، فلا مانع أبدا من الحفاظ على الالتزام الدولي وفي الوقت نفسه وضع سياسة خارجية فاعلة في مسار الاتحاد الأفريقي وأفريقيا عموما.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا يعني قبولنا الاستراتيجي بالهيمنة الإسرائيلية لفرض نفوذها على الشرق الأوسط، وتفجير التناقضات العربية/ الأفريقية، أو السنية/ الشيعية، أو العربية/ التركية، ولا يمنع أبدا من أن نطور سياسة خارجية شرق أوسطية تعتمد على المبادرة، واقتحام تلك التناقضات وفق سياسة فاعلة لإدارة التناقضات وتفكيكها لصالح "مشترك جيوثقافي" جامع مصري/ عربي/ إسلامي/ أفريقي.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا يعني قبولنا الاستراتيجي بانفراد إيران بتمثيل خطاب دعم المقاومة الفلسطينية والدفاع عن المقدسات الإسلامية في فلسطين، ولا يمنع تطويرنا سياسة خارجية تحافظ على التزامنا الدولي وتحافظ على ثوابتنا في أحقية الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ودولته المستقلة، ورفض سياسات العنصرية والإبادة وإرهاب الدولة الذي تمارسه "إسرائيل"، على أن يكون ذلك كله وفق الأعراف والبروتكولات الدبلوماسية المعمول بها، فلا تنفرد إيران بتمثيل الحق الفلسطيني ودعم مقاومته في الفضاء الجيوثقافي الإسلامي وسرديته، بما قد يكسر الفلسفة الجيوثقافية المصرية ويمنع بسط حضورها في الفضاء الذي تنتمي له وتعبر عنه.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا يعني الانكماش الجيواستراتيجي الدولي في المحافل العالمية، وغياب سردية مصرية جيوثقافية عامة تتمايز عن سرديات "الأوراس الجدد" الروس ولا دعاة "الحزام والطريق" الصينيين، ولا دعاة الصدام الحضاري والهيمنة الثقافية الأمريكان، الالتزام الدولي لا يمنع أبدا أن تطرح مصر فضائها الجيوثقافي بوصفه سردية جديدة ممكنة تضبط خرافة المركزية الأوربية القديمة/ الجديدة، ومتلازماتها الثقافية التي أصبحت ثقلا على تحرير البشرية وبحثها عن آفاق جديدة، لإعادة تجديد الوجود الإنساني برمته الذي أصابته تلك المتلازمات/ العقد الثقافية بالاختناق والثبات والدوران في دوائر مصمتة عبثية لا فكاك منها.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا ينعي التسليم بهيمنة وجهة نظر "إسرائيل" وسياساتها العنصرية في المنظمات الدولية الأممية السياسية والثقافية والاقتصادية والدبلوماسية، ولا يتعارض مع تبني حزمة سياسات جديدة تبني استقطابا عالميا حول وجهة نظر مصر وفضائها الجيوثقافي.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، لا يعني أبدا امتناعنا عن تطوير خطابات وتصورات سياسية جديدة لا تسلم بهيمنة خطاب المركزية الأوربية القديمة/ الجديدة، باعتبار "إسرائيل" هي الممثل لتلك الهيمنة في صورتها الماركسية القديمة (تيار الصهيونية الماركسية الذي قدمه بيير دوف بيرخوف واشتراطات لينين لقبوله في الجمعية الشيوعية الأممية العالمية المسماة الكومينترن)، أو الوجودية (فكرة الصهيونية الوجودية التي طرحها جان بول سارتر باعتبار الصهيونية هي التحرر الوجودي الأعلى ليهود أوربا)، أو الليبرالية الدينية (بمعنى الصهيونية بتداخلها مع نموذج المسيحية البروتساتنتية الأمريكية والإنجليزية، واعتبارها إسرائيل ممثلا لليبرالية الغربية السياسية وامتدادا للشكل التجديدى للمذهب البروتستانتي وتصوراته الوجودية والدينية وعلاقته بالتوارة وتصوراتها)، هذا الالتزام لا يعني أبدا أننا توابع خاضعين لأفكار الهيمنة الثقافية والتفوق الحضاري والصدام ونهاية التاريخ الغربية، بجذورها المثالية الدينية عند هيجل أو بجذورها المادية العلمانية عند ماركس، أو تمثلها الراهن في شكل نظريات الصدام الحضاري عند فوكوياما وبرنارد لويس وهينتنجتون.
التزامنا الدولي بمعاهدة السلام، هو مجرد التزام ينضبط وفق فلسفة سياسية عامة هدفها الحضور المصري في الفضاء الجيوثقافي العام له، وتفعيل مكونات مستودع الهوية الخاص بهذا الفضاء ومكوناته، وطبقاته المتراكمة والمتناغمة والمتعايشة والمتجاورة.
بديهة كل البديهيات وأم كل الفلسفات السياسية هو التصور الجيوثقافي العام لمصر وفضائه، والذي يضبط كافة الالتزامات والسياسات الفرعية الداخلية والخارجية التي يجب أن تصب في صالحه، وفي حالة وجود أي سياسة فرعية لا تصب في خدمة الفضاء الجيوثقافي العام، يجب ضبطها وإعادة تعريفها وتعريف علاقتها بحزمة السياسات العامة المدمجة للدولة.

ويبقى الأمل واسعا لا يضيق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يصوت الناخبون يوما لذكاء اصطناعي؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ما تداعيات إلغاء إسرائيل -المحتمل- للإعفاءات المقدمة للمصارف




.. الانتخابات الأوروبية.. صعود اليمين | #الظهيرة


.. مارين لوبان تعلن استعداد حزبها لتولي السلطة إذا منحه الفرنسي




.. استقالة غانتس.. مطالبه وشروطه | #الظهيرة