الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
من خواص العقل العربي المعاصر- حماس عينة
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2024 / 5 / 15مواضيع وابحاث سياسية
في السابع من أكتوبر الماضي فُتحت صفحة قديمة متجددة في كتاب التاريخ العربي الحديث والمعاصر. حفنة من الآلاف من مقاتلي كتائب القسام التابعة لحماس برفقة آخرين، مسلحين بخردة مخلفات الجيوش النظامية الحديثة، اقتحموا الدفاعات الإسرائيلية وقتلوا وأسروا في يوم واحد نحو 1500 إسرائيلي وإسرائيلية من كل الأعمار. لستُ معنياً هنا بالخوض فيما إذا كان ذلك يشكل جريمة أو مقاومة مشروعة، خيانة أو بطولة أو غير ذلك. ما يعنيني حقاً هو الحماس والنشوة وروح الانتصار والتشفي التي غمرت أغلبية الشارع العربي، الذي في سكرة الفرحة لم يرى سوى نصف الحقيقة بينما أغمض العينين عن النصف الآخر. هذه الحالة الانفعالية النشوية ليست بجديدة على التاريخ العربي الحديث. لقد بدأتها الناصرية على اليسار العربي في الخمسينات والستينات واستمرت حتى اليوم لكن تحولت شعاراتها إلى اليمين ترفعها تيارات الإسلام السياسي ممثلاً في الإخوان المسلمين والحركات الجهادية.
وفقاً لحسابات الواقع الحاضر، إذا كانت حماس تملك من المقاتلين عشرات الآلاف، إسرائيل لديها مئات الآلاف منهم؛ إذا كانت حماس تملك خردة السلاح، إسرائيل مُكدسة بأحدث الأسلحة وأكثرها ذكاءً وأشدها فتكاً على مستوى العالم؛ وإذا كانت حماس تملك الكثيرين من التنظيمات المسلحة التي تدعمها وتشاركها الغايات نفسها، إسرائيل لديها تحالفاً عالمياً يضم بعضاً من أقوى الدول وأكثرها تقدماً وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك- وفقاً لحسابات المكسب والخسارة الموضوعية المبنية على حقائق الأمر الواقع- إذا كانت حماس وحلفائها قادرة على حصد أرواح 1000 إسرائيلي في اليوم الواحد، تكون إسرائيل- قياساً بفارق الأعداد والأسلحة والتحالفات- قادرة على حصد ما لا يقل عن مئات الآلاف من الفلسطينيين بكل سهولة ودون عناء- حتى من دون أن تُحرك جندياً واحداً- في كل يوم واحد. لكن إسرائيل لم تفعل. لماذا لم تفعل؟ لأنها تفكر وتصنع قرارها بطريقة ووفق حسابات مغايرة تماماً لما فعلته حماس بالأمس وما فعلته من قبلها النظم اليسارية التي عملت من تحت شعار القومية العربية. ثمة اختلاف ضخم بين العقلية الإسرائيلية ونظيرتها العربية، من اليسار إلى اليمن، ومن الماضي حتى الحاضر. العقلية الإسرائيلية لا تعنيني هنا. أُشير فقط إلى بعض الخصائص العامة والشائعة للذهنية العربية.
الاستعلاء على الحاضر والاستغراق في مستقبل طوباوي
ربما ليس في العالم بأسره من هم أعلم بشراسة إسرائيل وقسوتها الانتقامية أكثر من الفلسطينيين. لكن هذه المعرفة اليومية الموضوعية والموثَّقة لم تُثني حماس عن التخطيط لمستقبل طوباوي والتنفيذ لأجله- تحرير الأرض المحتلة. حتى إذا كانت كل حسابات ومعطيات الحاضر لن توصل إلى هذه النتيجة المبتغاة، مجرد الوقوف عند هذه الحسابات والمعطيات هو في نظر حماس الخطيئة الكبرى. وإذا كان السعي الصادق إلى المستقبل الطوباوي لن يقدمنا خطوة واحدة إلى الأمام وسيؤخرنا آلاف الخطوات إلى الخلف، يبقى هذا المسعى بحد ذاته يمثل الشرف الأعظم والمكافأة الكبرى. النتيجة، مع كل خطوة باتجاه مستقبلنا الطوباوي نتقهقر خطوات أكثر عن حاضرنا البائس. الحاضر لا يساوي شيئاً. في المستقبل كل شيء. لكننا لا نصل أبداً إلى هذا المستقبل الموعود. ربما لأننا حين أسقطنا الحاضر من حساباتنا، شيدنا المستقبل فوق أسس واهية؟ الاستغراق العميق في المستقبل الطوباوي العظيم جعل العقل العربي يترفع عن حقائق الحاضر الصغيرة ويستخف ويستهزئ بها. وحين يُحجب الحاضر القريب عن التفكير على هذا النحو ولا يتبقى له غير المستقبل البعيد، يجنح العقل إلى تجاوز حدود المعقول والممكن والإغراق في الايمان بالمعجزات. المعجزة، لكي تتحقق، ليست بحاجة إلى حقائق الواقع وقوانينه. تكفي قوة العزيمة والإيمان. رغم ذلك لا المعجزة تتحقق، ولا الإيمان يَكِّل.
الاستعلاء على الموت والاحتفاء بالشهادة
طالما كان الحاضر وحقائقه بهذه التفاهة والمستقبل الطوباوي بهذه النورانية والقدسية في أعيننا وتفكيرنا، يصبح الموت في سبيل القضية الكبرى المرادفة للمستقبل الطوباوي عارضاً هزيلاً غير جدير حتى بالتوقف لأخذه في الحسبان. لا يهم أبداً كم يموتون منا في سبيل القضية. تبقي القضية أهم. نحن في الحقيقة لا نموت، أو هكذا أقنعنا أنفسنا. ببساطة، قتلانا يسبقوننا إلى حيث سنجتمع بهم في المستقبل الطوباوي. هم شهداء عند ربهم يرزقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وإذا كنا أصلاً لا نعترف بالواقع الحاضر ونعيشه كالمكرهين لا المختارين، كيف نحزن لمن يُسعده الحظ بالنجاة مبكراً من هذا الجحيم البائس؟! حين استعلى العقل العربي على حاضره، أصبح كأنه قد فارق الحياة الحقيقية فعلاً وبات يعيش في عالم آخر طوباوي من نسج خياله. ومن ثم انقلبت المعايير والقيم الإنسانية رأساً على عقب، حين استُجلبت قيم المستقبل الطوباوي وفرضتها الماكينات الدعائية على أرض الواقع. تم غسيل المخ العربي من شوائب الحياة الدنيئة وشهواتها، وتطهيره لكي يصبح مؤهلاً للولوج إلى المستقبل الطوباوي الموعود. عندئذٍ لا غرابة في أن يتحول الموت في هذه الدنيا من خسارة إلى مكسب، والقتيل إلى شهيد.
الرقص على دماء الأضاحي
ربما نسينا أن الأضاحي التي كانت تُقدم قرباناً للآلهة في القِدَم كانت بشراً منا ومثلنا. ثم مع تقدم التحضر ونمو القدرة على التعاطف مع الآخر البشري، توقفت هذه العادة الكريهة وتم استبدال البشر بالحيوانات. إننا لا نزال حتى اليوم نذبح الأضاحي تقرباً إلى الله. نُحيي ونحتفي بعادة قديمة ودموية قائمة على سفك الدماء، حتى لو من دون داعٍ ثأري في القِدَم حين كان ضحاياها من البشر، أو غذائي حين تحولت إلى الحيوانات. كأن الدماء تحمل رمزية، أو تصرف طاقة شريرة ما كامنة في أعماق النفس البشرية. وربما لا يزال كثيرون منا يتذكرون الشعار الثوري "بالروح، بالدم، نفديك يا...". أنا شخصياً قد رددته من وراء حناجر جهورية زاعقة في طفولتي المبكرة، من دون أن أفهم له معنى أو هدف وقتها. كأننا حين نُضحي بشيء ما، حين نسفك دمه، نَفتدي بذلك شيء آخر أعظم قيمة. لا أعلم. لكن هذا هو ما فعلته حماس بأضاحيها الإسرائيليين في اليوم الأول من الحرب. قتل أعمى بلا معنى أو هدف. قتل لمجرد القتل. تماماً مثل طقس الأضحية. هل كان تصريفاً لطاقة ما بداخلهم، أو قرباناً يقربهم من غاية أسمى؟ أو ربما الاثنين معاً؟
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون
ما من نظام أو حزب أو فرقة أو جماعة أو حركة عربية في العصر الحديث والمعاصر إلا وتطهرت على خصومها واتهمتهم بالدنس. من أعوان الاستعمار والرجعية والاقطاع والرأسمالية المتوحشة، إلى الشيوعيين والعلمانيين الملحدين، إلى السلفيين التكفيريين والشيعة الرافدة، إلى أهل الذمة النصارى واليهود أبناء القردة والخنازير، وصولاً إلى الوطنيين الشرفاء ضد الخونة المتخابرين مع الاحتلال أو جهات أجنبية حالياً. كل طرف يتطهر على الآخر ويحسبه الحائل بينه وبين تحقق المستقبل الطوباوي. لن تشهد أمتنا حداثة أو تقدماً قبل التخلص من الاستعمار وأعوانه؛ لن تسود العدالة الشيوعية قبل التخلص من جشع الرأسماليين المتآمرين مع الإمبريالية العالمية؛ لن نستعيد مجد الإسلام قبل التخلص من أعداء الإسلام، اليهود والنصارى وأعوانهما. كل فريق يرى في نفسه الحق والطهر المطلق، وفي مخالفيه الدنس والشر المقيت. حرب لا تنتهي بين من يحسبون أنفسهم آلهة من جهة وبين من يرون فيهم شياطين الإنس في المقابل. والدائرة في تبدل مستمر، ما يجعل طاهر اليوم هو نفسه نجس الغد، لكي يشرب الكل من نفس الكأس. كلٌ يحاول تصفية الآخر وإبادته من الوجود كشرط لبلوغ المستقبل الطوباوي. لا حرب الإبادة المتبادلة فيما بيننا تتوقف، ولا نبارح مكاننا إلى الأمام شبراً. ربما ننكص معاً جميعاً إلى الوراء سنوات ضوئية. هل تريد حماس حقاً دولة حرة مستقلة، أم القضاء على اليهود- ومن بعدهم أعوانهم الفلسطينيين- لكي ينفتح الطريق أمامها إلى المستقبل الطوباوي؟
دائرة جهنم
ليس فقط الجلود هي التي تتبدل بغيرها لكي تُخَلَّد في العذاب. يحدث ذلك أيضاً للأفكار في داخل العقل العربي. لقد بقيت الأفكار هي نفسها منذ عقود خلت، مجرد تُجدد جلودها الظاهرية فقط، لكن في الجوهر واحد. وظل العقل العربي يدور حول نفسه في دائرة جهنمية مغلقة. بعدما أسقط الحاضر من حساباته، ترفع عن الدنيا الدنيئة، صنع من الموت عبادة، تطهر وتعالى على المخالفين السياسيين والدينيين والطائفيين والمذهبيين، كأنه بذلك قد تخلص من الجسد الفاني وتحول إلى روح هائمة في ملكوت مستقبل طوباوي. والحال كذلك، انقطع اتصال العقل العربي بالواقع، وأصبح يفتقد لأي أرضية صلبة لكي يشيد من فوقها معاييراً للشفافية والمسائلة والمحاسبة وتحمل المسؤولية عن الأفعال. أصبح كائن طلق في الهواء، غير مقيد بعبء أو مسؤولية تجاه نفسه أو الآخرين الواقعين تحت ولايته. كل ما يشغله هو أن يجتمع شمله بمستقبله الطوباوي. وفي مثل هذا الوضع، ضاعت منه الإمكانية لمراكمة المعرفة مما يمر به من تجارب وخبرات وإشكاليات حياتية موضوعية. ولأنه لم يتعلم شيئاً من الماضي ويغض الطرف عن الحاضر، ظل يكرر الاستجابة ذاتها كلما صادف المثير أو الحدث ذاته، ولو مئة مرة. ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها المنطقة العربية طوفاناً. كل ما في الأمر أنه- مثل تفجيرات 11 سبتمبر- ضرب هذه المرة دولة تُحسب على العالم الحر والمتقدم.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - تعقيب
على سالم
(
2024 / 5 / 15 - 04:18
)
العقل العروبى جاهل وقاصر بطبعه فى كل زمان ومكان ولذلك فهو يفشل دائما ولايتعلم من اخطاؤه
2 - للأسف
عدلي جندي
(
2024 / 5 / 15 - 16:45
)
عجز ثقافة بائسة حجر زاويتها خرافات الماضي لم ولن ولا تفيدنا ولن تخرجنا من كهوف التخلف والرجعية والهزائم المتتالية فقط الإيمان بقدرة العقل المجتهد الباحث الناقد دون نقل بلا فاعلية تذكر سوى إنتظار المخلص الذي لم ولن ولا يخلص
3 - اليس درآ المفاسد مقدم على نيل المصالح؟؟؟
ابو علي آل ثائر
(
2024 / 5 / 16 - 08:13
)
يقول الام الشافعي:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا ** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ ** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
هناك قواعد ياخذها الشطار وسيلة للتحريم والتحليل كـ (الضرورات تبيح المحظورات.درا المفاسد مقدم على نيل المصالح. كل ما يقوم الواجب الا به فهو واجب). وهذا يعني ان حرام الامس هو حلال اليوم وحرام اليوم هو حرام الامس وعلى هذا فقس. وعلى هذه المبآدئ تقوم اسرآئيل بابادة الشعب الفلسطيني الاعزل والمظلوم من ممثليه ومن اعدآئه.( كل ما يقوم الواجب الا به فهو واجب ) هذه القاعدة متفق عليها في الحروب حتى عند المسلمين وهذا يعني لواختبا جندي واحد بين آلاف الابرياء ولا يمكن قتله الا يقتل الجمبع فيجوز ذالك والذنب يقع على من اجار الجندي.هل فكرت حماس وقيمت النتآئج قبل البدء بطوفان الاقصى وهي تعلم علم اليقبن انها لا تحارب دولة الصهاينة فحسب بل الذين اقاموها وفي مقدمتهم امريكا وهل كان ما جرى باتفاق اصحاب الشان من جميع المناضلين وفي المقدمة حركة فتح ام انه قرار فردي؟؟.لكم الله يا شعب عزة!
.. فولكسفاغن على خطى كوداك؟| الأخبار
.. هل ينجح الرئيس الأميركي القادم في إنهاء حروب العالم؟ | #بزنس
.. الإعلام الإسرائيلي يناقش الخسائر التي تكبدها الجيش خلال الحر
.. نافذة من أمريكا.. أيام قليلة قبل تحديد هوية الساكن الجديد لل
.. مواجهة قوية في قرعة ربع نهائي كأس الرابطة الإنكليزية