الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم أتغيّر .. وقفت على الرصيف!

سليمان جبران

2024 / 5 / 16
الادب والفن



التقيتُ بصديق قديم، من أيّام زمان، فعاتبني قائلا ما معناه: لماذا أقلعتَ عن كتابة النقد السياسي والاجتماعي؟هل خذلك العمر فصرت تخاف من البيئة حولك، أم هي الأحداث جرت بغير ما رجوت وتوقّعت، فضربك يأس شلّك عن النقد السياسي والاجتماعي؟
إلى "الصديق القديم" لائحة دفاعي، وموجز دواعيّ وتبريراتي. وأرجو أن يقرأ فيحاول التفكير، والاقتناع طبعا. دعني أسألك أنا أوّلا، على طريقة بعضهم في الردّ على السؤال بسؤال: لماذا رجوتني الامتناع عن ذكر اسمك، حتى بالأحرف الأولى منه؟ لماذا تخاف تعريف المحيطين بك آراءك ومواقفك في السياسة والاجتماع؟ أعرف مبرّراتك، لا حاجة إلى ذكرها لي. بل يمكنني فهمها وقبولها. لسْت مصابا بمرض اليساريّة الطفولي. والآن دعني أبسط لك، وللقرّاء طبعا، موقفي واعتباراتي.
لم أغيّر مواقفي السياسية والاجتماعية قيد أنملة. لكنّي وجدتُ بالممارسة أنّ الكتابة في هذه الأيّام لا تُجدي، ولا تغيّر، لا في المحيط القريب حولنا ولا في البعيد. هل كانت التغييرات الكبرى في العالم اسستجابة لمقالات الفلاسفة والمفكذرين، أم استشرف هؤلاء التغيير القادم في مسار التاريخ لا أكثر؟ مقالاتي في السياسة والاجتماع تستنزف جهدي ووقتي لا اكثر. كثيرون جدّا من أمّتنا بحمده تعالى لا يقرءون، وكثيرون يقرءون فلا تحرّك فيهم القراءة ساكنا. ما تكتبه المواقع من موادّ جادّة، في السياسة والفكر، يمضي في سبيله، لا يكاد يقرؤه أحد. أمّا أنباء الممثّلين والممثّلات، والمطربين والمطربات، ؛ من تزوّجت ومن تطلقت، ومِن أين اشترت المطربة فستانها الأخير – هذه تملأ المواقع كلّها طبعا. والمحرّر يهمّه قبل كلّ شيء ، كما نعرف، دوام صدور موقعه أو صحيفته، فُيُضطرّ إلى حذف الموادّ الجادّة طبعا. ماذا يفضّل قرّاؤه فعلا: الموادّ الجادّة أم المسلسلات العربيّة الخاوية، والتركيّة المدبلجة؟ المحرّر يهمّه إرضاء قرّائه قبل كلّ شيء، وعلينا أن نعذره . إذا عرفنا السبب بطل العجب.
والسياسة، يا عيني على السياسة والكتابة السياسيّة . لا أعرف : هل يضحك القارئ على رجال السياسة، فيقرأ السطور وما بينها ساخرا، أم رجال السياسة يضحكون على قرّائهم بالصياح أمام الكاميرات، والتمثيل المصطنع، وقد صدّقوا هم ما يروّجون ! معظم الناس، في ظنّي، يعرفون رجال السياسة كما أعرفهم. تمثيليّة يعرف الجميع دوافعها وفصولها ونهايتها أيضا. لكنّهم يواصلونها للتسلية والترفيه.
ثمّ إنني لم أصبْ في الكتابة السياسيّة ، وحياتك، بخيبة أمل كبرى تشلّ فكري وقلمي، كما زعمتَ. لكي أكون صادقا أقول إنّي لم أكنْ أتوقّع للمدّ الأصولي هذا الطغيان، فيزوي معظم معارضيه مشدوهين، حتى يشلّهم عن التصريح بما يؤمنون. عرف شرقنا الملوك فخذلوه، والجمهوريّين فاضطهدوه، و"الإشتراكيّين" فوسّعوا سجونه، وزادوا من فقره وجوعه. والآن جاء دجور الداعشيّين، القتلة المتخّلفين. لن تدحرهم الأنظمة العربيّة الفاسدة. ولا أميركا وإسرائيل وقد خرجوا عن المرسوم لهم. يريدون العودة بمجتمعاتنا إلى القرون الوسطى، والتجربة فقط ستثبت زيف دعاواهم، وتكشف لتابعيهم المغفّلين زيف شعاراتهم وبطلان مقولاتهم.
حتى النقد الأدبي غدا في هذه الأيّام دونما عيار. وبالمجّان. كلّ مَن يكتب خرابيش يسمّونه شاعرا أو أديبا، ومن يجترّ أباطيل ردّدوها قبل عشرات السنين هو ناقد رصين! لم يعدِ القارىْ يعرف نقّادا صادقين، فيقرؤهم ويثق بهم. وماذا يمكن لناقد أن يقول في أمسية غايتها التكريم، ولا شيء غير التكريم والمجاملات. وإذا ارتفع صوت صادق، يقول للأعور أعور في عينه، عدّوا الصوت ذاك نشازا مبعثه الغايات الشخصيّة، أو الخلافات العقائديّة.
في هذا المناخ الهجين، رأيت أنّ انصرافي إلى كتابة موادّ كثيرة في السياسة لا يفيدني ولا يفيد مَن حولي. لا تنفع المقالات، ولا هي تغيّر شيئا في بحر الغباء المتلاطم حولنا. يبدو أنّ التاريخ لا تغيّر مساره المقالات، ولا يسير قدما بفعل الأفكار والفلسفات. كثيرون تظنّهم عقلانيّين واعين، فتكتشف أنّهم عطّلوا المنطق، وسلّموا مقاليدهم للغيبيّات والغيبيّين. خائب الأمل مُحبط أنا؟ ربّما. متشائم فاقد الأمل؟ لا وألف لا! واقف على الرصيف أنا أراقب، مُنصرف إلى كتابة أخرى أجدى نفعا مِن الآنيّة المباشرة.
تذكّرْ أنّ مهمّات كثيرة أخرى دفنتُها في جواريري، فلم أعدْ أحتمل تذكّرها، وتذكّر تقاعسي إزاءها. هل تصدّق أنّ مقالة في شعر جدرويش نامتْ أصولها بين مسوّداتي أكثر من سنة كاملة، فصرت أحسّ لذعة في ضميري كلّما فتحت الجارور عرضا، فرأيتها تستغيث هناك، وأنّ فصولا كثيرة من الماضي البعيد، في السياسة والفكر والاجتماع، ما زالت أصولها تنتظرني مستغيثة بين أوراقي ودفاتري؟
كثيرون حولي لاموني في السابق. ما لك وللكتابة السياسيّة، سألوني مؤنّبين. لن تغيّر ما في قوم حتى يكتشفوا بأنفسم سواء السبيل. أنظر حولك ترى كثيرين لا تنزاح أعينهم عن مصلحهم الذاتيّة، وكلّ ما يعلنون ويكتبون كذب في كذب. بل وسيلة لخدمة مصالهم الضيّقة. الحميع اليوم مخلصون وطنيّون، لأنّ "وطنيّتهم" تخدم مصالهم الذاتيّة، وتظلّ في نظرهم ماحية يمسحون بها مباذل ماضيهم، أفرادا وبيوتات. وأنت مالك يا أستاذ، هل تظنّ أنّنا يمكننا تغيير البيئة حولنا بالكلمة المكتوبة؟!
العمر قصير، كما تعرف، ولا أحد منّا يعرف متى تنتهي فرصته. فأيّ طريق تّريدني أن أسلك: كتابة مقالات في نقد بحر الجهالة والزيف المتلاطم حولنا، أم إنهاء ما بدأتُ مِن نقد في الأدب واللغة والحياة. أنا اخترت الطريق الثاني عامدا، وأظنّه أسمى وأجدى أيضا. صدّقْني!


[ "كتاب الشذرات" 2020، ص. 75 – 78.]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف