الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية الحلقة الأولى

موقع 30 عشت

2024 / 5 / 16
القضية الفلسطينية


يقدم موقع 30 غشت الحلقة الأولى من الدراسة التي تم الإعلان عنها سابقا، والتي تحمل عنوان " القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية".

محاور الحلقة الأولى
ــــــ الجزء الأول ــــــ
القسم الأول
تقديم عام
تقديم
المسألة اليهودية
الفصل الأول
"بصدد المسألة اليهودية"، 1844 ـــــ كارل ماركس
1 ــــ في العلاقة بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني
- رأي برونو بوير
2 ــــ في العلاقة بين التحرر السياسي والإيمان الديني
3 ـــــ في نقد منهج بوير اللاهوتي في التعامل مع المسألة اليهودية
الفصل الثاني
"المفهوم المادي للمسألة اليهودية"، 1942 ـــــ أبراهام ليون
I - في أسس الدراسة العلمية للمسألة اليهودية
ꓲꓲ - مراحل تطور الوضعية الاجتماعية والتاريخية لليهود
1) المرحلة ما قبل الرأسمالية
2) مرحلة الرأسمالية الوسيطية (العصر الوسيط)
3) مرحلة الرأسمالية المانيفاكتورية والصناعية
4) المرحلة الامبريالية: الانحطاط الرأسمالي
ꓲꓲꓲ ــــ المسألة اليهودية في القرن 19
ꓲꓦ - انحطاط الرأسمالية ومأساة اليهود في القرن 20
1 ــــ اليهود في أوروبا الغربية
2- فيما يخص العنصرية
V ــــ هل هناك عرق يهودي؟
VI ـــــ الصهيونية
ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ
الحلقة الأولى
ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ ــــــــــ
القضية الفلسطينية
بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية
الجزء الأول
القسم الأول
تقديم عام
احتلت القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية وشعوب العالم العربي موقعا خاصا، وساهمت في بلورة وعي الشعوب بقضاياها التحررية، وكانت عنصرا هاما في نشوء اليسار الثوري العربي المعاصر، ويتجلى هذا بوضوح في نشأة الحركة الماركسية ــــ اللينينية في المغرب. هكذا نشأ جيل ثوري على امتداد خريطة العالم العربي وشعوبه المختلفة، فمن منا لا يتذكر كيف كان العربي والأمازيغي والكردي والأرميني وغيرهم من مكونات شعوب المنطقة العربية، كيف شاركت في دعم القضية الفلسطينية، بل وفي العديد من الأحيان انتقلت إلى مخيمات التدريب الفلسطينية في الأردن ولبنان وسوريا، وحمل السلاح دفاعا عن فلسطين، ومشاركة في مشروع تحريرها، ولم يحن الوقت بعد لنشر أسماء الشهداء العرب والأكراد والأمازيغ والمسيحيين ... اللذين سقطوا شهداء و رووا بدمائهم أرض فلسطين والمناطق المجاورة لها في سوريا ولبنان والأردن. ويتذكر جيل السبعينات والثمانينات كيف انتشر الأدب الثوري الفلسطيني في الجامعات وكيف كان الطلبة يتغنون بأناشيد الثورة الفلسطينية وأشعار أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام، وكيف كانت دواوين شعراء الأرض المحتلة تنتقل من يد إلى يد، منها دواوين محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد و فدوى طوقان ... و نفس الشيء يمكن أن يقال عن تأثير القضية الفلسطينية في وجدان اليسار الثوري العالمي، الذي التحق العديد من قادته المؤسسين بالمعسكرات الفلسطينية بالأردن و لبنان و شارك العديد منهم في العمليات التي كانت تقوم بها فصائل الثورة الفلسطينية من قبيل الجبهة الشعبية و الجبهة الديموقراطية و حركة التحرير الوطني فتح.
لقد استطاعت الإمبريالية العالمية أن تغرس كيانا مصطنعا في فلسطين في محاولة للتخلص من المسألة اليهودية في أوروبا و إجهاض حركة التحرر الوطني الفلسطينية، و ذلك عبر ربيبتها الحركة الصهيونية العالمية، التي صنعت ما يسمى بناء "الدولة اليهودية" على أرض فلسطين كحل للمسألة اليهودية و بقوة السلاح و الإرهاب و حرب إبادة لا تتوقف ضد الشعب الفلسطيني لإرغامه على القبول بهذا الكيان المسخ المسمى "إسرائيل"، لكن مقابل هذه السياسات الإجرامية النازية انصهر خط نضال فلسطيني لا يلين، و قام المثقفون العضويون الثوريون للشعب الفلسطيني، اللذين استخلصوا دروس كفاحه الطويل و مسلحين بالفكر الثوري العالمي بصياغة المشروع البديل للدولة اليهودية العنصرية و الفاشية، إنه مشروع الدولة الديموقراطية الفلسطينية، الذي سانده اليسار العربي و العالمي.
إن هذا الشعار الذي طاله النسيان وتراكم عليه الغبار بحكم تراجع الخط الثوري على الصعيد العربي والعالمي وصعود تيارات جديدة من داخل الصف الفلسطيني، التي ألقت بظلالها على الوضع الذاتي الفلسطيني خاصة منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى وانطلاق مسارات الخيانة التي جسدتها القيادة البورجوازية الفلسطينية عبر سياقات أوسلو وغيرها.
و منذ ذلك الحين أصبح شعار الدولتين يعلو و لا يعلى عليه و رافقه في الطريف مسلسل التطبيع مع الكيان الصهيوني لحد أن الأنظمة العربية أصبحت تقوم بذلك في واضحة النهار، عسكريا و اقتصاديا و ثقافيا، و أصبح الكيان شقيقا للأنظمة العربية الرجعية، لقد سقط القناع نهائيا عن وجوه أنظمة أصبحت حليفا استراتيجيا نشيطا، عسكريا و سياسيا في الدفاع عن الكيان الشقيق/ مما يحتم على الشعوب الغربية و تنظيماتها التقدمية و الثورية العمل بجد من أجل إدخال هذا المعطى في تحاليلها، فلا مجال للتفريق بين الكيان الصهيوني و هذه الأنظمة، فهما معا في خندق واحد معادي للشعوب العربية و طموحها في التحرر الوطني و الديموقراطي و الشعبي، لذلك نعتقد جازمين أن الأحداث و الوقائع السياسية و غيرها أثبتت صحة الشعار الاستراتيجي و التاريخي للثورة الفلسطينية المتمثل في "فلسطين حرة علمانية و ديموقراطية". فماذا يعني هذا الشعار؟
يعني هذا الشعار بناء دولة واحدة من البحر إلى النهر مع ضمان الحق غير المشروط لعودة كل اللاجئين الفلسطينيين الموزعين على مجموعة من الدول العربية، لبنان، سوريا، مصر و الأردن، أما فلسطين حرة فتعني خالية من الأبارتايد الاستعماري الصهيوني و من السيطرة الإمبريالية، أما علمانية فتعني التخلص من الدين باعتباره دينا للدولة، سواء تعلق الأمر بالأصولية الإسلامية أو الأصولية المسيحية، فالدين يبقى مسألة خاصة، أما ديموقراطية فتعني دولة واحدة، حيث كل الأفراد، بغض النظر عن أصولهم الدينية يمكنهم العيش جميعا في المساواة و العدالة و بأفق تحول ثوري للمجتمع نحو الاشتراكية.
منذ ثلاثين سنة حاولت اتفاقات أوسلو تأشير وجود دولتين متجاورتين، لكن منذ ذلك الوقت أظهرت التجربة أن حل الدولتين فاقد للمصداقية والتحقيق، و وحده شعار "فلسطين حرة، علمانية، ديموقراطية" بإمكانه إعطاء أفق تقدمي لكل شعوب المنطقة، و بطبيعة الحال هذا ما ترفضه الرجعية و البورجوازيات العربية و الإصلاحيون و الإمبرياليون.
إن الأفق بالنسبة للشعب الفلسطيني هو الطريق الديموقراطي الثوري وإعادة بناء القوى التقدمية، القادرة على فرض نفسها على التصورات الرجعية واليمينية التي تمثلها بعض الفصائل. إن هيمنة القوى الإسلامية الآن هو التعبير عن ضعف القوى التقدمية والثورية، وعلى اليسار العربي إسوة باليسار الثوري العالمي أن يناضل من أجل شعار: "فلسطين حرة، علمانية وديموقراطية خالية من الصهيونية والرجعية والإمبريالية".
تقديم
عانت القضية الفلسطينية و ما زالت تعاني من سوء فهم و التباسات طالت محيطها السياسي بكل مكوناته، وأثارت على المستوى النظري و الإيديولوجي العديد من الخلافات بين الفصائل الفلسطينية نفسها، و بين هاته الفصائل و المحيط الجيوسياسي لفلسطين، الذي يحاصرها أمنيا و عسكريا و استراتيجيا، و قد كان لذلك الأثر الكبير في المواقف الفلسطينية منذ الأربعينات إلى يومنا هذا، و اختلط الأمر كثيرا على الأجيال القديمة من المثقفين، و زاد الأمر سوءا مع مثقفي يومنا هذا، اللذين يعانون من غموض سياسي و إيديولوجي و ثقافي، مما جعلهم يسقطون في فخ التطبيع الفكري و الثقافي الممهد للتطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني، و ذلك تحت يافطات مختلفة و مزركشة بشعارات الهوية و الانعزالية و الشوفينية المقيتة.
إن الحديث عن القضية الفلسطينية يخفي وراءه الحديث عن المسألة اليهودية، مما أنتج ضبابية كبيرة في التفريق بين المسألتين ونتائجها على قضايا التحرر الوطني والتحرر بشكل عام.
و لمعالجة هذا الموضوع الشائك سنضطر إلى التعريج على الأساس النظري العام في البداية، ثم ربط ذلك بالواقع التاريخي الفلسطيني، سعيا إلى تحديد طبيعة التناقضات المحددة لحركة التحرر الوطني الفلسطينية و مشروعها التاريخي التحرري، و فضلنا في الجانب النظري البدء بمعالجة المسألة اليهودية و جذور نشأة الحركة الصهيونية العالمية و طبيعتها الإيديولوجية و الطبقية من أجل إزالة اللبس المحيط بالموضوع و الذي يؤثر كثيرا على عدم فهم جذور حركة التحرر الوطني الفلسطينية، و كذلك دحض شعارات و أطروحات الصهاينة العرب و من يمثلهم من أقلام و إعلام مأجور يساهم في تأجيج العداوات و التناقضات بين الشعوب من أجل تمرير المخطط الاستراتيجي الإمبريالو صهيوني. إن أمثال هؤلاء المرتزقة يجسدون نظرية "الكيس والفئران"، التي تعني أن الفئران لا يجب أن تنعم بالراحة والهدوء حتى لا تقوم بثقب الكيس لتتحرر.
المسألة اليهودية
الفصل الأول
"بصدد المسألة اليهودية"، 1844
كارل ماركس
كتاب ماركس عبارة عن ملاحظات صاغها على شكل مقال تناول فيه نصين للفيلسوف الألماني برونو بوير(فيلسوف ولاهوتي ألماني -1809 -1882)، نشرهما سنة 1843 حول مسألة تحرر الجماعة اليهودية في ألمانيا، وسيظهر هذا النقاش التناقض العميق بين الدولة باعتبارها نظاما سياسيا مكونا من مواطنين مجردين، و المجتمع المدني الذي يتشكل من أفراد واقعيين، و في هذا النقاش يعتبر تحليل ماركس أساسيا في فهم تصوره للدولة، والسياسة والدين، وسيناقش ماركس في جداله كذلك موضوع حقوق الإنسان و المواطن، التي اعتبرها مجرد "حقوق الإنسان البورجوازي"، و في الجزء الثالث من المقال ناقش ماركس بحدة مسألة الوظيفة الاجتماعية للجماعة اليهودية، التي حبسها التطور الاجتماعي و التاريخي في ممارسة مهن المالية، وهي وظيفة تؤدي في حد ذاتها إلى الاستيلاب، كما بالنسبة لأغلب أعضاء "المجتمع البورجوازي".
بالنسبة للجزء الأول قام ماركس بتلخيص المواقف المتبناة من طرف برونو بوير في كتابه "المسألة اليهودية"، وكذا في مقال آخر له في نفس الموضوع تم نشرهما سنة 1843.
أهم أطروحات ماركس
قام ماركس بمناقشة آراء برونو بوير وتقديم أطروحاته من خلال نقدها ولذلك يقوم أولا بعرض تلك الآراء ومصاحبتها بنقده:
1) في العلاقة بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني:
- رأي برونو بوير
إن مشكل تحرر اليهود في ألمانيا منتصف القرن 19 هو، حسب برونو أن الدولة تقول عن نفسها أنها مسيحية، ولذلك يقول بوير أن تحرر اليهود في هذه الدولة المسيحية هو أمر مستحيل، لأن هناك تعارض ديني لا يمكن تجاوزه، والنتيجة هي أنه يجب تجاوز الديانات حتى يسقط هذا التعارض، وعلى "اليهودي والمسيحي ألا يعترفا في ديانتهما الخاصة إلا باعتبارها مراحل متميزة في تطور العقل الإنساني، أي "جلود أفعى رمى بها التاريخ" وكذلك على الدولة نفسها أن تتحرر من الدين.
ـــــ نقد ماركس
لقد اعتبر ماركس هذه الطريقة في معالجة المسألة محدودة وغير كافية، فماركس يرى:
أن "التحرر السياسي" و "التحرر الإنساني" ليسا نفس الشيء: وبالإمكان أن نتساءل إلى أي حد يفترض التحرر التخلي عن الدين؟ "
إن مسألة العلاقة بين التحرر السياسي والدين تصبح بالنسبة لنا مسألة العلاقة بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني".
ويضيف ماركس، أن مسألة التحرر السياسي للفرد المتدين بشكل عام تبدأ مع تحرر الدولة في علاقتها بالدين بشكل عام، بمعنى، آخر حسب ماركس:
"الدولة باعتبارها كذلك، تتحرر من الدين بتحررها من دين الدولة، بمعنى، باعتبارها دولة لا تتبنى أي دين، وتعلن نفسها أنها الدولة فقط".
ويضيف ماركس أن العلاقة بالدين، الذي تمارسه الدولة ليس إلا العلاقة، التي يمارسها الناس اللذين يشكلون الدولة:
"إن الدولة هي الوسيط بين الإنسان وحرية الإنسان، بمعنى آخر أن الدولة لها القدرة على نفي، في دائرة نشاطها المعطيات البيولوجية والاجتماعية ... التي تميز الأفراد دون أن تقضي عليهم في الواقع: "فليس إلا بارتفاعها فوق العناصر الخاصة تصبح الدولة مفهوما عاما". إن الفرد يعيش "حياة مزدوجة" باعتباره عضوا في "جماعة سياسية"، وباعتباره "فردا خاصا". يقول ماركس أنه "في الدولة، حيث يعتبر ككائن نوعي (عضو في نوع ما، أو في عمومية مجردة) الإنسان هو العضو المتخيل في سيادة وهمية منزوعة من حياته الفعلية كفرد، ومملوءة بعمومية غير واقعية (فعلية)".
[إن التحرر السياسي هو الاعتراف القانوني بك كمواطن مجرد، وهذا ليس تحررا كاملا، بل مجرد مرحلة]:
"أجل إنها ليست الشكل الأخير للتحرر الإنساني داخل هذا العالم كما وجد لحد الآن". إن الدولة تنتصب فوق تناقض بين المواطنين المجردين والأفراد الملموسين، التي لا تشكل الديانة بالنسبة لهم إلا إحدى الرهانات الأكثر مرئية: "إن النزاع الذي يجد فيه نفسه متبني إحدى الديانات الخاصة، هو أنه بصفته كمواطن ليس إلا مظهرا جزئيا للتناقض العام، للنزاع العادي بين الدولة السياسية والمجتمع المدني".
2) في العلاقة بين التحرر السياسي والإيمان الديني
ينتقل ماركس هنا، إلى مناقشة أطروحة بوير التي تقول:
أن التحرر السياسي يعني الحصول على "حقوق الإنسان" شرطا لتخلي عن كل إيمان ديني.
رد ماركس ورأيه في حقوق الإنسان:
هذه الحقوق هي حقوق مدنية، وبالتالي لا تتناقض مع وجود إيمان ديني، ثم ينطلق ماركس في محاولة لتعميق رده مسجلا أن إعلانات حقوق الإنسان تفصل بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن في انسجام مع التناقض المؤسس للدولة السياسية. ويستعمل ماركس إعلانات 1791 و1793 ملاحظا أن مبدأ الحرية يتعلق ب "حرية الإنسان كوحدة مفردة منعزلة ومنكمشة على نفسها" بمعنى آخر "فعل كل شيء لا يسيء إلى الآخر".
بمعنى آخر أن هذه الحرية لا تتأسس على "اتحاد" الأفراد، بل "على فصل الإنسان عن الإنسان، إنه حق هذا الفصل، حق الفرد المحدود المنغلق على ذاته"، وإن "التطبيق العملي" لهذا الحق في الحرية الأنانية، هو "الحق" في الملكية الخاصة، إنه حق المصلحة الشخصية"، ويقول ماركس أن مبدأ الحرية هذا "يترك كل إنسان يجد في الآخر ليس تحقيق حريته بل حدود حريته الخاصة، ويتعلق الأمر نفسه بمبدأ المساواة، الذي يعود إلى اعتبار كل شخص كفرد معزول ومنغلق على نفسه".
ويقول ماركس:
"هكذا فكل حقوق الإنسان المزعومة لا تتجاوز حدود الإنسان الأناني، حدود الإنسان كعضو في المجتمع المدني، أي فرد منغلق على نفسه وعلى مصلحته الخاصة ومزاجيته الخاصة، الفرد المنفصل عن الجماعة. بعيدا عن كون الإنسان تم اعتباره في هاته الحقوق ككائن نوعي، فعلى العكس فإن الحياة النوعية نفسها، المجتمع تظهر كإطار خارجي للأفراد وعائق لاستقلاليته الأصلية. إن الرابط الوحيد الذي يوحدهم، هو الضرورة الطبيعية، الحاجة والمصلحة الخاصة، الحفاظ على ملكيتهم وشخصهم الأناني (...) فليس الإنسان كمواطن بل الإنسان كبورجوازي تم اختياره ممثلا للإنسان بشكل خاص أي الإنسان الحقيقي".
هكذا تمت عملية نسج المواطن وحقوقه بشكل رئيسي عن طريق:
احترام المصلحة الأنانية، وهذا منذ الثورة ونهاية الإقطاعية اللتان لم تفعلا سوى أن حررت المسألة الشخصية وليس المصلحة الإنسانية بشكل عام وبشكل اجتماعي، بينما على العكس،
كما يقول ماركس:
"كل تحرر يعني اختزال العالم الإنساني، العلاقات الاجتماعية في الإنسان نفسه (كفرد) (...) إنه فقط عندما يستعيد الإنسان الفردي الواقعي في حد ذاته المواطن المجرد، ويصبح هو نفسه إنسانا فرديا وكائنا نوعيا في حياته التجريبية في عمله الخاص، في علاقاته الفردية، عندما يعترف الإنسان وينظم قواه الخاصة كقوى اجتماعية ولا ينتزع من نفسه القوة الاجتماعية تحت مظهر الشكل السياسي، حينها فقط يتحقق التحرر الإنساني".
= بمعنى آخر يريد ماركس أن يقول أن كل تحرر يمر عبر تحرر كل واحد بشكل فردي و بالاعتراف بنفسه وعن طريق نفسه بواقع أننا كلنا أعضاء في نوع ما، و أن كل واحد لا يمكنه هو بذاته و لا يمكن أن يتحرر إلا إذا كان و عمل مع أعضاء آخرين من هذا النوع فوق كل حاجز مجرد و خاصة حاجز سياسي، بمعنى آخر كل حاجز منتصب بهدف تقسيم السلطة في الدول، التي تم إنشائها من طرف المجتمع البورجوازي، و الذي من نتيجته تقسيم و وضع تراتبية بين الناس.
3) في نقد منهج بوير اللاهوتي في التعامل مع المسألة اليهودية
في الجزء الثاني من المقالة ينتقد ماركس طرح بوير في مقالته الثانية، التي سقطت في نظرة لاهوتية للمسألة اليهودية في محاولة منه نقد الدوغما اليهودية.
ويرى ماركس أنه لفك لغز المسألة اليهودية
[كان يجب أن ينظر إلى الأمر من منظور اجتماعي وتاريخي، ذلك أن اليهود قد احتلوا مهنا ذات صلة بالمال و الترافيك (كل أنواع التجارة)، ففي سياقات اجتماعية مناسبة سار تحرر اليهود وتطور القوى المالية بشكل مواز دون إعطاء حقوق سياسية لليهود.]
يقول ماركس:
"أن المجتمع البورجوازي "يولد باستمرار اليهودي"، بمعنى شخص هامشي مخصص للمهن المالية التي لا يريد أي أحد أن يقوم بها لأنه كان ينظر لها نظرة سيئة".
ويضيف ماركس:
"إن الحاجة العملية، الأنانية، هذا هو مبدأ المجتمع البورجوازي، ويتمظهر باعتباره كذلك في صفائه الكامل عندما انتهى المجتمع البورجوازي من وضع الدولة السياسية. إن إلاه الحاجة العملية والمصلحة الشخصية هي المال (...) إن المال يوسخ كل آلهة البشر، يحولهم إلى بضاعة، إن المال قيمة كونية لكل الأشياء مكونة لذاتها، فلذلك، أي المال انتزع من العالم بكامله، عالم الناس وكذلك الطبيعة، قيمتهم الأصلية. إن النقد هو الجوهر المستلب للعمل ولحياة الإنسان، وإن هذا الجوهر الغريب يسيطر عليه ويعبده. إن المال والقوة المالية تحط مما هو إنساني، بل أكثر من ذلك، أولئك اللذين في هذه المرحلة يجعلون منه مهنتهم بشكل رئيسي، اليهود، فثقافتهم وطريقتهم في التفكير منحرفة بسبب ظروفهم السوسيومهنية.
"أن تتاجر، هو أن تمارس الاستيلاب. وأيضا الإنسان ما دام تحت تأثير الدين لا يعرف كيفية تحقيق ذاته إلا بخلقه كائنا غريبا ومتخيلا، وأيضا، تحت سيطرة الحاجة الأنانية، فلا يمكن أن يكون هناك نشاط عملي، إنتاج عملي للأدوات إلا بوضع هذه المنتجات، وكذلك نشاطه تحت سيطرة كائن غريب، يعطى له معنى كائن غريب: المال".
=> إن المجتمع البورجوازي بتركه القوة المالية والمال يتطور، وبترك اليهود منحصرين في هذه المهن، فإنه ترك نفسه يغزى من طرف هذا الاستيلاب، وبالتالي فإن "التحرر الاجتماعي لليهودي، هو تحرر المجتمع المحرر من اليهودية".
الفصل الثاني
"المفهوم المادي للمسألة اليهودية"، 1942
أبراهام ليون

I - في أسس الدراسة العلمية للمسألة اليهودية:
يقول أبراهام ليون في كتابه "المفهوم المادي للمسالة اليهودية، الفصل الثالث: أسس الدراسة العلمية للمسألة اليهودية:
"بينما المؤرخون الجادون، ساروا بجرأة على طريق ماركس، ظل التاريخ اليهودي ميدان الاختيار المفضل ل "باحثي الله" من كل نوع. إنه واحد من المجالات التاريخية، حيث الأفكار المسبقة المثالية استطاعت أن تفرض نفسها، وتبقى بقدر واسع".
وكم ألفت من الكتب والدراسات لتمجيد ما يسمى ب "المعجزة اليهودية"، حيث يظهر اليهود يواجهون ويتحملون الاضطهادات والتقتيل من أجل الحفاظ على "الوديعة المقدسة" لإيمانهم الديني.
هكذا إذن، كان المؤرخون المثاليون يفسرون استمرارية اليهود وبقاءهم عبر التاريخ، باعتباره نتيجة لإخلاصهم، الذي عبروا عنه تجاه دينهم وقوميتهم. وعند محاولة تحديد الهدف، الذي يقف وراء بقاء اليهود ومقاومتهم للإدماج، يتكلم المؤرخون المثاليون عن "الوديعة المقدسة لإيمانهم"، والبعض منهم يتحدث عن "ارتباطهم بالفكرة القومية، بمعنى التأكيد على القوة الروحية القومية، وفي القاعدة الأخلاقية ومبدأ الواحدية. ويرى أبراهام ليون:
أنه إذا كان بالإمكان التوفيق بين مختلف النظريات المثالية، فإنه لا يمكن التوفيق بين هذه النظريات والقواعد الأولية للعلم التاريخي، ذلك أنه يجب الرفض المنهجي للخطأ الأساسي لكل المدارس المثالية، التي تضع بقاء واستمرارية اليهودية تحت عنوان "الإرادة الحرة" (التاريخ تصنعه الأفكار)، و وحده البحث أو الدراسة للدور الاقتصادي لليهود بإمكانه تفسير ما سمي ب "المعجزة اليهودية"، وتكسير الهالة التي أحاط بها المؤرخون التاريخ اليهودي.
ويضيف أبراهام ليون، أنه:
"بدون دراسة معمقة للتاريخ اليهودي، فمن الصعب أن نفهم المسألة اليهودية في الوقت الراهن، فوضع اليهود في القرن 20 مرتبط بشكل وثيق بماضيهم التاريخي".
ويستمر أبراهام ليون قائلا:
"كل حالة اجتماعية هي مرحلة في السيرورة الاجتماعية، فالكائن ليس إلا لحظة في الصيرورة، ولكي نستطيع تحليل المسألة اليهودية في تطورها الحالي من الضروري معرفة جذورها التاريخية".
لقد استطاع ماركس بعبقرية منهجه التاريخي أن يوضح الطريق الذي يجب اتباعه لدراسة المسألة اليهودية، يقول ماركس في كتابه "المسألة اليهودية":
"علينا ألا نبحث في سر اليهودي في دينه، بل علينا البحث عن سر الدين اليهودي في الواقع".
لقد وضع ماركس المسألة اليهودية على قدميها، أي عدم البحث انطلاقا من الدين لشرح التاريخ اليهودي، بل على العكس، البحث عن بقاء الدين من خلال شرح وضع اليهودي "الواقعي"، ويعني ماركس بذلك البحث عن طريق اليهودي في دوره الاقتصادي والاجتماعي، فبقاء اليهود ليس له أي شيء من المعجزة.
ويقول ماركس قولته الشهيرة في "المسألة اليهودية":
"إن اليهودية حافظت على نفسها، ليس على الرغم من التاريخ، بل من خلال التاريخ".
إن البحث عن الوظيفة التاريخية لليهودية هو الذي يسمح بالكشف عن بقائها في التاريخ، فالنزاعات بين اليهودية والمجتمع المسيحي، التي كانت تأخذ مظهر طابع ديني، هي في حقيقتها نزاعات اجتماعية.
لو وضعت خطاطة عامة للتاريخ اليهودي كما تقدمه مختلف المدارس التاريخية المثالية، لوجدنا أن التاريخ اليهودي حسب زعمهم، و حتى حدود تحطيم أورشليم، بل و حتى إلى حدود تمرد بار كوخيبا، فإن "الأمة اليهودية" لا تتميز في شيء عن باقي الأمم المشكلة بشكل طبيعي مثل الرومان واليونان، لكن الحروب بين الرومان واليهود كان من نتائجها تشتيت الأمة اليهودية عبر مختلف مناطق العالم، وخلال هذا الشتات قدم اليهود مقاومة كبيرة تجاه محاولات الإدماج القومي والديني، ولم تجد المسيحية في طريقها خصوما أكثر شراسة، فعلى الرغم من كل مجهوداتها، لم تستطع إدخالهم إلى المسيحية. إن سقوط الامبراطورية الرومانية زاد من عزلة اليهودية، التي ستظل، بعد الانتشار الكامل للمسيحية في الغرب، العنصر الوحيد المعارض.
إن اليهود، من الشتات إلى مرحلة الغزو البربري، لم يشكلوا أبدا جماعة اجتماعية منسجمة، فقد كانت الزراعة والصناعة والتجارة حاضرة في نشاطهم الاجتماعي، وإن الاضطهادات الدينية المستمرة، هي التي ألزمتهم بالاقتصار على التجارة والربا، وساهمت الحروب الصليبية عن طريق التطرف الديني الذي جاءت به في زيادة هذا المنحى الذي سيحول اليهود إلى ربويين، وعزلتهم في الغيتوهات، وبطبيعة الحال فإن الحقد ضد اليهود كان يزوده دورهم الاقتصادي الربوي، وحسب هذه الخطاطة، فإن وضعية اليهود استمرت إلى حدود الثورة الفرنسية التي حطمت الحواجز التي وضعها الاضطهاد الديني أمام اليهود. إنها الخطاطة العامة لما يدرس ويقدم كتاريخ لليهود منذ ما يسمى بمرحلة الشتات.
- نقد هذه الخطاطة:
يقدم أبراهام ليون مجموعة من الوقائع تعارض هذه الخطاطة:
أولها، أن شتات اليهود لا يرتبط إطلاقا بسقوط أورشليم، فقرون قبل ذلك كانت قد تشتت غالبية عظمى من اليهود في المناطق الأربع للعالم، وحسب كتاب "حرب اليهود" لفلافيوس جوزيف، فإنه، كما يقول الكتاب:
"فما هو مؤكد هو أنه قبل سقوط أورشليم بكثير، فإن أكثر من ثلاث أرباع اليهود لم يعودوا يسكنون فلسطين".
إن المملكة اليهودية في فلسطين كانت تشكل بالنسبة للجماهير اليهودية الواسعة المشتتة عبر اليونان والامبراطورية الرومانية، أهمية ثانوية، ولم تكن قائمة إلا علاقات الحج من خلال الزيارات إلى أورشليم.
إذن فالشتات لم يكن نتيجة حادثة تاريخية، نتاج عنف مورس ضد اليهود، فالسبب الجوهري للهجرة اليهودية يجب البحث عنه في الظروف الجغرافية لفلسطين،
فحسب كارل كاوتسكي:
"لقد كان اليهود في فلسطين يمتلكون بلدا جبليا لم يعد بالإمكان أن يضمن لهم عيشا قابلا للتحمل كما هو الحال عند جيرانهم، فهذا الشعب كان مجبرا على الاختيار بين النهب أو الهجرة ... إن اليهود، بعد معارك كثيرة مع جيرانهم سيأخذون الطريق الثاني: الهجرة. إن الشعوب التي تعيش في مثل هذه الظروف لا تذهب إلى الخارج كمزارعين، إنهم يذهبون إلى الهجرة كمرتزقة كما كان الحال عند الأركاديين في التاريخ القديم والسويسريين في العصر الوسيط، والألبانيين في عصرنا هذا، أو كتجار كما هو الحال عند اليهود والإسكتلنديين والأرمينيين، نجد إذن وسطا مشابها يطور لدى شعوب من أعراق مختلفة، نفس المميزات".
ثانيا، إن ما لا لبس فيه هو أن الغالبية العظمى من اليهود في الشتات، كانت تشتغل في التجارة، ومن الناحية التاريخية، ففلسطين نفسها منذ أزمنة غابرة كانت تشكل معبرا للبضائع وقنطرة بين وادي الفرات و وادي النيل.
إن هذه الأطروحة تبين أن الظروف الجغرافية لفلسطين تشرح في نفس الوقت هجرة اليهود وطابعها التجاري، كما أننا نجد أنه لدى كل الأمم عند بداية تطورها يكون التجار أجانب.
وتعلمنا الماركسية، من خلال البحوث المادية التاريخية حول المجتمعات القديمة والوسيطة، أن ميزة الاقتصاد الطبيعي هي أنه كل مجال ينتج ما يستهلكه، ويستهلك ما ينتجه، فلا شيء يدعو إلى شراء الخيرات والخدمات عند الآخر، لأن في هذا الاقتصاد ينتج ما يستهلك، ولذلك سنجد أن لدى كل الشعوب، تشكل التجار الأوائل من الأجانب.
إن الوضع الاجتماعي لليهود هو الذي يعود له الفضل في الاستقلالية الواسعة التي منحهم إياه أباطرة الرومان، اللذين سمحوا لليهود وحدهم أن يشكلوا دولة داخل دولة، بينما الأجانب الآخرين كانوا خاضعين لسلطات المدينة، فقد كان اليهود إلى حد ما يحكمون أنفسهم بأنفسهم. لقد نمى القيصر مصالح اليهود في الإسكندرية وفي روما بإعطائهم امتيازات خاصة، وحمى بشكل خاص شعائرهم الخاصة ضد رجال الدين الرومانيين واليونانيين.
ثالثا، إن الحقد على اليهود لا يعود فقط إلى قيام المسيحية، فسينيك (سياسي وفيلسوف روماني كان مستشارا للإمبراطورين كاليغولا وكلود، وأصبح مدرسا خاصا لنيرون)، كان يعتبر اليهود عرقا مجرما، وكانجوفينال (شاعر روماني عاش في القرن الأول والثاني الميلادي) يؤمن بأن اليهود لا يوجدون إلا لكي يسببوا الشرور لشعوب أخرى، أما كانتليان (أحد أبلغ البلغاء في الأدب الروماني، ولد سنة 35 ميلادية وتوفي سنة 100م) فيقول أن اليهود يشكلون لعنة للشعوب الأخرى.
إن سبب اللاسامية القديمة هو نفسه اللاسامية في القرون الوسطى، وهو التعارض الذي يقوم بين كل مجتمع يعتمد على إنتاج قيم استعمالية (اقتصاد طبيعي) و وظيفة اجتماعية تعتمد على التجارة، وهي حالة اليهود (انظر كتاب "الدين و الأعمال"، هنري لورانت).
إن انتصار المسيحية خلافا للمزاعم لم يأت بجديد في هذا الأمر، لقد كانت المسيحية في بدايتها دين العبيد والمضطهدين، وتحولت بسرعة إلى إيديولوجية الطبقة المسيطرة من الملاكين العقاريين.
إن انتشار المسيحية عبر أوروبا سيرتبط بتوسع الاقتصاد الإقطاعي، ونعلم أن المسيحية التي تولدت من داخل اليهودية، حيث تشكل أعضاؤها الأوائل من اليهود، ونعلم كذلك أن المسيحية لم تجد صعوبات في استقطاب العديد من اليهود خلال قرونها الأربعة الأولى، ونعلم كذلك أن عمق العقلية المسيحية خلال العشر القرون الأولى من التقويم المسيحي فيما يخص الحياة الاقتصادية هو:
"التاجر لا يستطيع القيام بعمل جيد تجاه الإله" وأن "كل تجارة تتضمن قدرا صغيرا أو كبيرا من الغش".
= إنه لأمر طبيعي أن يعادي اليهود الكاثوليكية، وذلك في سياق كون الدين يعبر بشكل جيد عن مصالحهم الاجتماعية، ومن ثمة فليس إخلاص اليهود لإيمانهم هو الذي يشرح بقاءهم كجماعة اجتماعية متميزة، وكذلك، على العكس، فإن بقاءهم كجماعة اجتماعية متميزة هو الذي يشرح ارتباطهم بالإيمان، و كما اللاسامية القديمة تجاه اليهود، فإن اللاسامية المسيحية في القرون العشرة الأولى من التقويم المسيحي لم تذهب إلى حد المطالبة بالقضاء عليهم، فالمسيحية الرسمية كانت تضطهد بدون رحمة كل الهرطقات والشرك، كانت تتسامح مع الديانة اليهودية، وتحسنت وضعية اليهود بالتدريج منذ انحدار الامبراطورية الرومانية وحتى الانتصار الكبير للمسيحية، وهذا إلى حدود القرن 12 الميلادي، وبقدر ما يعرف الانحدار الاقتصادي ازديادا، بقدر ما كان الدور التجاري لليهود يزيد أهمية، ففي القرن العاشر كانوا يشكلون الرابط الاقتصادي الوحيد بين أوروبا و آسيا.
رابعا، ابتداء من القرن 12 الميلادي بموازاة مع التطور الاقتصادي الذي عرفته أوروبا الغربية، بالإضافة إلى نمو المدن وتشكل طبقة تجارية وصناعية محلية، بدأت أوضاع اليهود تسوء، لتؤدي في الأخير إلى تصفيتهم من مختلف البلدان الغربية، فأخذ الاضطهاد ضد اليهود أشكالا عنيفة، بينما في بلدان أوروبا الشرقية المتخلفة ظلت وضعيتهم مزدهرة إلى حدود سنوات قليلة.
وحسب الكاتب فإن اليهود قد شكلوا ما أسماه ب "الشعب الطبقة"، فمن وجهة نظره أن مفهوم الطبقة لا يناقض نهائيا مفهوم الشعب، ولأن اليهود قد حافظوا على أنفسهم كطبقة اجتماعية، وبسبب ذلك، حافظوا على بعض خصائصهم الدينية والإثنية.
إن ما يميز "الرأسمالية اليهودية" عن الرأسمالية بشكل عام، هو أنه خلافا لهذه الأخيرة فإنها لم تكن حاملة نمط إنتاج جديد، ويقول ماركس:
"الرأسمال التجاري كان له وجود خاص، وكان منفصلا بشكل واضح عن قطاعات الإنتاج، التي كان يلعب دور الوسيط بالنسبة لها".
"إن الشعوب التجارية في المجتمع القديم كانت توجد كما آلهة أبيقور في أحشاء الأرض، أو على الأصح كما اليهود في مسام المجتمع البولوني".
"الربا والتجارة تستغلان طريقة محددة للإنتاج، الذي لا يخلقانه، ويبقيان غرباء عنه". إن تراكم المال في يد اليهود لا يأتي من شكل لإنتاج خاص للإنتاج الرأسمالي، إن فائض القيمة يأتي من الاستغلال الإقطاعي، الذي يتخلى فيه الإقطاعيون عن جزء منه لليهود، ومن هنا التناقض بين اليهود والإقطاعية، وفي نفس الوقت رابط قائم بينهما لا يحطم.
وكما بالنسبة للإقطاعي، فإن الإقطاعية كانت كذلك بالنسبة له أرضه التي تطعمه، فإذا كان الإقطاعي يحتاج اليهودي فإن اليهودي أيضا كان يحتاج إلى الإقطاعي، وبسبب هذه الوضعية الاجتماعية لم يستطع اليهود أن يرتقوا إلى دور طبقة مسيطرة، ففي الاقتصاد الإقطاعي، فإن دور طبقة تجارية لا يمكن أن يكون إلا تابعا، واليهودية لا يمكن أن تكون إلا عبادة متسامح معها بهذا القدر أو ذاك.
وقد اكتسب اليهود بحكم وضعهم الاجتماعي بعض الاستقلالية في تدبير شؤونهم، أطلق عليها بعض المؤرخين اليهود "استقلالية قومية"، وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن "استقلال ذاتي قومي" في القرن 16، يشكل أمرا غير مفهوم وفظ، ذلك أن هذه الفترة كانت تجهل المسألة القومية، وفي المجتمع الإقطاعي، وحدها الطبقات تمتلك قوانينها الخاصة، ومن ثمة، فإن استقلالية اليهود يمكن شرحها بالوضع الاجتماعي والاقتصادي الخاص لليهود، وليس ب "قوميتهم".
إن التطور اللغوي نفسه يعكس الوضع الاجتماعي الخاص لليهودية. إن العبرية اختفت من زمان بعيد كلغة حية، وفي كل مكان تبنى اليهود لغة الشعوب التي يعيشون وسطها، أما التأقلم اللغوي فقد انبنى على شكل لهجة جديدة تتضمن بعض التعابير العبرية. هكذا نجد اللهجة اليهودية العربية، اللهجة اليهودية الفارسية، اللهجة اليهودية البرتغالية واللهجة اليهودية الإسبانية والألمانية، التي أصبحت تسمى "اليديش".
إن اللهجة تعبر عن الاتجاهين المتناقضين، اللذان ميزا الحياة اليهودية، وهما الاتجاه نحو الاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه، والاتجاه نحو الانعزال، الذي يأتي من الوضع الاجتماعي والاقتصادي لليهود.
ꓲꓲ مراحل تطور الوضعية الاجتماعية والتاريخية لليهود
1) المرحلة ما قبل الرأسمالية
إنها الفترة الأكثر ازدهارا بالنسبة لليهود، وجد خلالها الرأسمال التجاري والربوي إمكانيات كبيرة للتوسع في المجتمع الإقطاعي. خلال هذه الحقبة كان الملوك والأمراء يقدمون الحماية لليهود، كما كانت علاقاتهم مع الطبقات الاجتماعية الأخرى بشكل عام جيدة. استمرت هذه الوضعية في أوروبا إلى حدود القرن 11، وبينما كان الاقتصاد الإقطاعي ينهار في أوروبا الغربية كانت أوروبا الشرقية تعرف استمرارا له إلى حدود القرن 18، حيث أصبحت أوروبا الشرقية مركز حياة اليهود.
2) مرحلة الرأسمالية الوسيطية (العصر الوسيط)
دخلت أوروبا الغربية مرحلة تطور اقتصادي مكثف ابتداء من القرن 11، وخلال المرحلة الأولى من هذا التطور، عرفت الصناعة الحرفية تطورا هاما، كما ظهرت بورجوازية تجارية محلية، وخلال الفترة الثانية من هذه المرحلة بدأ الاقتصاد التجاري يتسرب إلى المجال الزراعي.
لقد كان من نتائج تطور المدن وظهور طبقة تجارية محلية، أن أزاح اليهود بشكل كامل من التجارة، وأصبحوا مجرد ربويين، حيث يشكل الملوك والنبلاء زبنائهم الرئيسيين، وساهم التحول التجاري للاقتصاد الزراعي في ضرب مواقعهم كذلك، ذلك أن الوفرة النسبية للنقد ستسمح للنبلاء بضرب نير الربا، هكذا سيطرد اليهود من بلد بعد الآخر، فاندمج بعضهم في المجتمع، ومنهم من التحق بالبورجوازية المحلية، وفي بعض المدن، خاصة في إيطاليا وألمانيا.
اهتم اليهود بالقرض المقدم للجماهير الشعبية: الفلاحون والصناع، وهكذا أصبحوا ربويين صغار يستغلون الشعب، وهذا يفسر كونهم كانوا من ضحايا الانتفاضات الدامية. وعموما مثلت مرحلة الرأسمالية الوسيطية المرحلة الأكثر عنفا في اضطهاد اليهود، لقد دخل "الرأسمال" اليهودي في صراع مع كل طبقات المجتمع إلا أن التطور غير المتساوي للتطور الاقتصادي في أوروبا الغربية كان له انعكاس على أشكال الصراع المعادي للسامية، ففي بلد ما تقود النبالة الصراع ضد اليهود، وفي بلدان أخرى تفعل البورجوازية ذلك، وفي ألمانيا، فإن الشعب هو الذي يفجر الحركة.
و نظرا للفارق التاريخي في التطور، فقد كانت أوروبا الشرقية لا تعرف الرأسمالية الوسيطية، ولذلك لم يقع انفصال بين الرأسمال التجاري والرأسمال الربوي، وعلى العكس في أوروبا الغربية، حيث أصبح اليهودي رمزا للربوي، فإن اليهود ظلوا تجارا و وسطاء، وبينما تم طردهم من أوروبا الغربية كانوا يعززون باستمرار مواقعهم في أوروبا الشرقية، ولم يتغير الوضع في أوروبا الشرقية إلا في القرن 19، حيث بدأت الرأسمالية تتسرب إلى المجتمعات الشرقية، ويتعلق الأمر بالرأسمالية الحديثة، وقد كان لهذا أثرا كبيرا في زعزعة الوضع المزدهر لليهود الروس والبولونيين، فبؤس اليهود في روسيا قد بدأ مع إلغاء الرق والنظام الإقطاعي للملكية القروية.
3) مرحلة الرأسمالية المانيفاكتورية والصناعية
لقد ابتدأت الرأسمالية بمعناها الخاص في عصر النهضة، وتمظهر ذلك في توسع كبير للعلاقات التجارية وتطور المانيفاكتورات. وإذا كان اليهود لم يختفوا بالكامل في أوروبا الغربية، فبسبب المجيء الكبير لليهود من أوروبا الشرقية.
= إن المسألة اليهودية التي ستطرح على الصعيد العالمي تنحدر بشكل أساسي من وضع اليهود في أوروبا الشرقية، بينما كان فقدان التوازن القائم بين انهيار الإقطاعية وتطور الرأسمالية يختفي من أوروبا الغربية، كان هذا الأخير يتعمق في بلدان أوروبا الشرقية المتأخرة، والحال أن تدمير الاقتصاد الإقطاعي والأشكال البدائية للرأسمالية كان يتم بسرعة أكبر من تطور الرأسمالية الحديثة.
هكذا وجدت جماهير واسعة من الفلاحين والصناع طريق خلاصها في الهجرة، وقد كان الانجليز والإيرلنديون والألمان و السكندنافيون، يشكلون بشكل رئيسي غالبية المهاجرين إلى أمريكا في بداية القرن 19، وسيشكل السلافيون في نهاية القرن 19 غالبية المهاجرين إلى أمريكا. ومنذ بداية القرن 19 بحثت الجماهير اليهودية عن طرق أخرى للهجرة، بداية توجهوا نحو الداخل الروسي وألمانيا، واستطاعوا الوصول إلى المراكز الصناعية والتجارية الكبرى، حيث لعبوا دورا هاما كتجار وصناعيين، ثم، وكعنصر جديد، ولأول مرة منذ قرون نشأت بروليتاريا يهودية، وبدأ "الشعب الطبقة" يتمايز اجتماعيا.
وتمركز العمال اليهود في الصناعات الاستهلاكية، التي كانت لا تزال حرفية، وبقدر ما كانت الصناعة الكبيرة تتوسع، كانت القطاعات الحرفية للاقتصاد تنهار. هكذا، ترك المعمل مكانه للمصنع، مما جعل اندماج اليهود في الاقتصاد الرأسمالي هشا، ولذلك لم يعد التاجر ما قبل الرأسمالي وحده ملزما بالهجرة بل كذلك العامل الحرفي اليهودي، فقامت جماهير يهودية واسعة بمغادرة أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية وأمريكا. هكذا أصبح الحل للمسألة اليهودية، الذي هو الدخول الكامل لليهود في الاقتصاد مشكلا عالميا.
4) المرحلة الامبريالية: الانحطاط الرأسمالي
إن الرأسمالية في خلقها للتمايز الاجتماعي وسط اليهود عن طريق الاندماج في الاقتصاد وعن طريق الهجرة، قد وضعت الأسس لحل المسألة اليهودية لكن لم تقم بحلها، بل على العكس، فأزمة الرأسمالية في القرن 20 فاقمت المسألة بشكل غير مسبوق، فاليهود اللذين تمت تصفيتهم في مواقعهم الاقتصادية في الإقطاعية لم يستطيعوا الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الذي كان يعيش حالة تعفن وانحطاط. هكذا تطورت، في كل مكان في أوروبا، معاداة شرسة من الطبقات الوسطى، التي كانت تعاني بدورها من تناقضات الرأسمالية.
وقام الرأسمال الكبير بالاستفادة من نزعة معاداة السامية البدائية عند البورجوازية الصغيرة لتعبئة الجماهير تحت راية العنصرية.
ꓲꓲꓲ ــــ المسألة اليهودية في القرن 19
لقد كان اليهود في غالبيتهم في القرن 19 متمركزين في البلدان المتأخرة في أوروبا الشرقية، كان عددهم في بولونيا يفوق مليون يهودي عندما تم تقسيم بولونيا، وإلى حدود 1918 تظهر الاحصائيات أن اليهود بدأوا يعرفون بعض التمايزات الاجتماعية، لكن في الخط العام، فإن بنية اليهود الشرقيين لم تعرف تغييرات هامة، فقد ظلت كما كانت عليه قرونا سابقة.
لقد بدأ وضع اليهود الذي دام قرونا يتغير ببطء تحت تأثير الاقتصاد الرأسمالي، هذا الأخير، قبل أن يأخذ مكان النظام القديم، كان يقوم بتحطيمه. وعموما فإن انحطاط الإقطاعية كان يسبق مسألة تعويضه من طرف الأشكال الجديدة للرأسمالية. وبينما كان التزايد العددي يتطلب إمكانيات جديدة للعيش، كانت الأوضاع الاقتصادية القديمة تراوح مكانها، فاليهود اللذين كانوا متأقلمين خلال قرون مع الاقتصاد الطبيعي بدأوا يحسون بأن البساط ينزع من تحت أقدامهم، لقد كانوا منذ مدة طويلة يحتكرون التبادل، والآن، فإن سيرورة الرأسملة في روسيا وبولونيا جعلت الآن الملاكين العقاريين يهتمون بأنفسهم بمختلف الأنشطة الإنتاجية، و من ثمة إبعاد اليهود عنها، فقط قلة صغيرة من اليهود الأغنياء استطاعت أن تجد وضعا جديدا يسمح لها بنشاط مناسب، بينما الغالبية العظمى من اليهود المشكلة من التجار الصغار و أصحاب الحانات والباعة المتجولين، كانوا يعانون من الوضع الجديد، فمراكز التجارة القديمة في العصر الإقطاعي بدأت تتفسخ و تقوم مكانها مدن جديدة صناعية وتجارية، كما بدأت بورجوازية محلية في التطور.
في بداية القرن 19، تشكل تيار قوي لهجرة اليهود من بولونيا القديمة إلى روسيا، وكان الوضع نفسه قائما في المناطق الملحقة من طرف بروسيا والنمسا، حيث كان اليهود يهاجرون نحو برلين وفيينا، المراكز التي تحتضن حياة اقتصادية جديدة، حيث توفر لهم الصناعة والتجارة منافذ للوصول إلى الشغل.
كانت الهجرة اليهودية تنطلق كذلك من روسيا البيضاء وليتوانيا نحو روسيا، وجزء من اليهود البولونيين نحو انجلترا وأمريكا، وهذا يثبت أن اليهود في أوروبا الشرقية كانوا يبحثون عن بلدان للهجرة منذ المنتصف الأول من القرن 19. وقد تم وضع آلاف اليهود في العديد من المستوطنات في بعض مناطق روسيا، استطاعوا في الأخير أن يتأقلموا مع وضعهم الجديد.
خلاصة القول أن هناك مساران عرفهما تطور اليهود خلال القرن 19: مسار الهجرة و مسار التمايز الاجتماعي، فانحطاط النظام الإقطاعي و القنانة بشكل مواز مع نمو الرأسمالية، خلق مصادر جديدة للعيش، لكنهما حطما، بقدر واسع، أوضاع الوسطاء الذي كان يعتاش منه الأغلبية الكبيرة من اليهود. إن هذين المسارين قد دفع الجماهير اليهودية إلى تغيير أماكن إقامتها، كما أن المسار الاجتماعي قد ألزمها بالبحث عن مكان جديد في العالم، وكذلك نشاطا جديدا داخل المجتمع.
وبشكل عام، يمكن القول أن اندماج اليهود في المجتمع الرأسمالي استمر إلى نهاية القرن 19، لكن عند نهايته، على العكس، فهناك جماهير واسعة من اليهود قد أصبحت مضطرة إلى مغادرة أوروبا الشرقية. وتظهر معدلات الهجرة بعض الإحصائيات، التي تعطي فكرة عن الهجرة اليهودية:
- من 1830 إلى 1870 من 4000 إلى 5000
- من 1871 إلى 1880 من 8000 إلى 10000
- من 1881 إلى 1900 من 50000 إلى 60000
- من 1901 إلى 1914 من 150000 إلى 160000
أما اتجاه الهجرة فيظهر أنه خلال المرحلة الأولى، أي إلى حدود 1880 كانت الهجرة داخلية وتتوجه إلى المدن الكبرى. وخلال الحقبة الممتدة من 1830 إل 1880، حيث كانت الهجرة لا تتجاوز 7000، انتقل عدد اليهود من 3281000 إلى 7763000.
وقد تم استيعاب هذا التزايد الكبير في داخل البلدان التي يسكنها اليهود، لكن حصل تغير كبير ابتداء من 1881، وخاصة ابتداء من 1901، حيث وصلت الهجرة اليهودية إلى رقم كبير أي من 150000 إلى 160000، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
لقد عرفت سيرورة رأسملة الاقتصاد الروسي تزايدا زاد منه إصلاح 1863 (إلغاء القنانة)، فقد أصبحت الزراعة تنتج أكثر فأكثر للسوق، كما تراخت روابط القنانة والإكراه الإقطاعي، وتنامى التمايز الاجتماعي بسرعة وسط القرى، وتحول جزء من الفلاحين إلى مزارعين رأسماليين أغنياء، بينما تبلتر جزء من الفلاحين، وأدت رأسملة الزراعة إلى تكون سوق داخلية لوسائل الإنتاج وللمواد الاستهلاكية.
إن الإنتاج الرأسمالي الزراعي يعني:
1- قسمة عمل داخل الزراعة نظرا لتخصص قطاعاتها.
2- طلب متزايد على المنتجات المصنعة من طرف الفلاحين الأغنياء، وكذلك الجماهير المبلترة التي لا تمتلك إلا قوة عملها من أجل العيش، وعليها أن تشتري مواد عيشها.
3- يتطلب الإنتاج الزراعي من أجل السوق استعمالا متزايدا للآلات، الشيء الذي يطور صناعة وسائل الإنتاج.
4- يؤدي نمو إنتاج وسائل الإنتاج إلى تزايد مستمر للجماهير البروليتارية في المدن، الشيء الذي يساهم في توسيع سوق وسائل الاستهلاك.
إن هذه الإمكانيات التي فتحها تطور السوق الداخلية ستوفر للجماهير اليهودية التي فقدت أدوارها الاقتصادية السابقة فرصا جديدة للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي.
في الوقت الذي أصبح فيه الحداد أو الفلاح غير اليهودي عاملا في مصنع أو في منجم، كانت الجماهير اليهودية المبلترة تتوجه إلى الصناعات الصغيرة المنتجة لمواد الاستهلاك، وهناك فرق كبير وأساسي بين تحول الفلاح والحداد إلى عامل في الصناعة التعدينية، وتحول التاجر اليهودي إلى حرفي أو عامل خياط. ومعلوم أن التطور الرأسمالي لقطاعات الصناعة الثقيلة ترافقه تغييرات في الظروف المادية للإنتاج، فالأداة البدائية تصبح الآلة الحديثة والمتقنة، ولم يكن الأمر نفسه بالنسبة لوسيلة الاستهلاك.
إن سيرورة التراكم الرأسمالي تظهر أن إنتاج وسائل الإنتاج تتم منذ البداية على شكل رأسمالي يتميز بالمؤسسة الكبيرة، بينما إنتاج وسائل الاستهلاك بإمكانه أن يستمر طويلا داخل نفس المعامل الحرفية، كما في السابق، وتدريجيا التحق قطاع وسائل الاستهلاك بالركب، وذلك عن طريق اختراع آلات جديدة.
ومع تحرير الفلاحين في روسيا اتسع سوق المواد المصنعة، وبدأ انتشار إنتاج القيم التبادلية، أصبحت روسيا خزانا لأوروبا من الحبوب، وتطورت المدن ومراكز التجارة والصناعة بسرعة، فغادر اليهود المدن الصغيرة نحو المدن الكبرى، حيث ساهموا في تطوير التجارة والصناعة الحرفية لوسائل الاستهلاك.
وفي سنة 1900، وبالنسبة ل 21 مدينة هامة في بولونيا، كانت لليهود الأغلبية المطلقة في 11 منها، وكان من آثار هجرة اليهود إلى المدن الكبرى ظهور تمايز اجتماعي ضرب في الصميم الأسس التقليدية لليهودية. و واصل التطور الرأسمالي مساره، حيث أن تطور قطاع وسائل الإنتاج سيولد مكننة الزراعة والصناعة الخفيفة وبدأت الآلات تنافس بقوة المعامل الصغيرة للحرفيين اليهود.
هكذا، ستنهار تلك الصناعات الحرفية، والتي طورها توسع السوق الداخلية، وقد كان السقوط بسبب المكننة وتحديث الصناعة. لقد كان من الصعب بمكان على الحرفي اليهودي أن ينافس الجماهير الفلاحية القادمة من البوادي، والمتأقلمة مع مستوى العيش البسيط والمتعودة على الأعمال الشاقة. وبطبيعة الحال، فلكل قاعدة استثناء حيث استطاع قسم صغير من اليهود أن يتأقلم، لكن القسم الكبير عند نهاية القرن 19 وبداية 20 قد اختار طريق الهجرة.
إن سيرورة تحول التاجر اليهودي ما قبل الرأسمالي إلى عامل حرفي تقاطعت مع سيرورة أخرى، سيرورة إقصاء العامل اليهودي بدخول الآلة الحديثة.
هكذا أصبحت الجماهير اليهودية المغادرة للمدن الصغيرة عاجزة عن التبلتر ومجبرة على الهجرة، وهذا ما يفسر لنا بشكل كبير تزايد الهجرة اليهودية نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. هكذا، إذا كان انحلال الاقتصاد الإقطاعي القديم وخلق سوق داخلية قد كان لهما التأثير نفسه على الجماهير اليهودية وغير اليهودية، فإن المكننة والتمركز الصناعي كانا لهما نتائج متعارضة.
إن انعزال الطبقة العاملة اليهودية في الصناعات الاستهلاكية، يشكل بدون منازع أحد الظواهر البارزة للبنية الاقتصادية والاجتماعية لليهود. إن واقع كون عدد قليل من العمال اليهود اشتغل كعامل في المراحل الأولى للإنتاج الصناعي، بينما أعدادهم أصبحت ضخمة في الفترات الأخيرة، يميز بطريقة صارخة ما يطلق عليه بالنشوز اليهودي. إن هذا الأساس الاقتصادي للبروليتاريا اليهودية ليس فقط ضعيف في حد ذاته، بل يتقلص كذلك وباستمرار بسبب التطور التقني.
لا يعاني العمال اليهود فقط من سلبيات الصناعة الحرفية، خاصة الضعف الاجتماعي والشغل الموسمي، ومن الاستغلال المتزايد والظروف السيئة للعمل، بل طردوا أكثر فأكثر من مواقعهم الاقتصادية.
ꓲꓦ - انحطاط الرأسمالية ومأساة اليهود في القرن 20
كان اليهود يعيشون في مسام المجتمع الإقطاعي، وعندما بدأ هذا البناء الإقطاعي يتساقط بدأ بطرد هذه العناصر، التي كانت خارجية بالنسبة له وضرورية في نفس الوقت، فقبل أن يغادر الفلاح قريته نحو المركز الصناعي، كان اليهودي قد غادر المدينة الصغيرة الوسيطية للهجرة إلى المدن الكبرى في العالم. لقد رافق تدمير الوظيفة القديمة لليهود في المجتمع الإقطاعي دخولهم السلبي إلى المجتمع الرأسمالي.
لقد وضعت حواجز قوية ضد حرية مرور البضائع والناس، فحواجز من الصعب تجاوزها أقيمت في وجه الجماهير المحرومة من العمل ومن الخبز على إثر سقوط العالم الإقطاعي التقليدي. إن تعفن الرأسمالية، زاد من انحلال المجتمع الإقطاعي مما ضاعف الآلام الناتجة عن ذلك:
فالمحضرون (بكسر الضاد) في مأزق، يقطعون الطريق على من يريد أن يتحضر. بالنسبة للشعوب، التي حطمت الرأسمالية، الأسس التقليدية لوجودها وحياتها، فإن الرأسمالية قطعت طريق المستقبل بعدما أقفلت طريق الماضي.
إن المأساة اليهودية في القرن 20 لذات صلة بهذه الظواهر العامة، فالوضع المأساوي جدا لليهود في عصرنا يمكن شرحه بالهشاشة القصوى للوضع الاجتماعي والاقتصادي، فبعد الطرد من طرف الإقطاع المنهار، كان اليهود كذلك من الأوائل اللذين تم التخلي عنهم من طرف الرأسمالية المحتضرة. لقد أصبح اليهود محاصرين بين سندان الإقطاعية المنهارة ومطرقة الرأسمالية المتعفنة.
1 ــــ اليهود في أوروبا الغربية
لقد أصبح الوضع اليهودي بدون مخرج في أوروبا الشرقية، وذلك بحكم تداخل عامل الانحطاط الإقطاعي وعامل التعفن الرأسمالي، مما خلق وضع اختناق ونشوء تناقضات حادة انعكست على العالم. لقد أصبحت أوروبا الغربية والوسطى مسرحا لصعود مخيف للنزعة المعادية للسامية.
لقد أدى تقليص الهجرة اليهودية، التي انتقل معدلها السنوي من 155000 بين سنتي 1901 و1914 إلى 43657 بين سنتي 1926 و1935 إلى زيادة معاناة اليهود بشكل رهيب في البلدان الشرقية، ذلك أن الأزمة العامة للرأسمالية جعلت هذه الهجرة أمرا لا يطاق. هكذا وصلت المسألة اليهودية درجة من الحدة غير مسبوقة، ليس فقط في بلدان المهاجر منها، بل كذلك في البلدان المهاجر إليها. لقد خلق الوصول الكثيف للمهاجرين اليهود قبل الحرب الامبريالية الأولى إلى خلق حركة قوية معادية للسامية وسط الطبقات الوسطى للعديد من دول أوروبا الوسطى والغربية، والشاهد على ذلك الانتصارات التي حققتها الأحزاب المناهضة للسامية في النمسا، وكذلك الصعود الكبير لمعاداة السامية في ألمانيا وانفجار قضية دريفوس في فرنسا، وليس الأمر غريبا بالنسبة للنمسا، ففيينا كانت أحد أكبر المراكز للهجرة اليهودية قبل الحرب الامبريالية الأولى، فقد أغاض البورجوازية الصغيرة المدمرة من طرف تطور رأسمالية الاحتكارات والتي أصبحت في طريقها إلى البلترة، الوصول الكثيف للعنصر اليهودي، المعروف تقليديا كبورجوازية صغيرة حرفية.
لقد فاقمت الكارثة الاقتصادية لسنة 1929 وضعية الجماهير البورجوازية الصغيرة. إن الازدحام في التجارة الصغيرة والصناعة الحرفية والمهن الفكرية أخذ أبعادا غير معتادة، لقد بدأ البورجوازي الصغير ينظر بعين حاقدة إلى منافسه اليهودي، الذي يتميز بحذاقته المهنية نتيحة قرون من الممارسة، كانت تسمح له بالعبور في مختلف الأزمنة الصعبة.
لقد انتشرت النزعة المعادية للسامية لحد أنها أصابت حتى بعض الفئات العمالية الحرفية، وذلك تحت تأثير البورجوازية الصغيرة.
ويرى بعض المؤرخين أنه من الخطأ اتهام الرأسمال الكبير بإنشائه للنزعة المعادية للسامية. إن الرأسمال الكبير لم يقم سوى باستغلال واستخدام النزعة المعادية للسامية البدائية للبورجوازية الصغيرة، وجعل منها عنصرا أساسيا للإيديولوجيا الفاشية عن طريق استخدام ميتولوجيا "الرأسمالية اليهودية". وبهذه الطريقة حاول الرأسمال الكبير أن يحتكر ويصرف لصالحه الحقد المعادي للرأسمالية عند الجماهير.
لقد كانت الإمكانية الواقعية للتحريض ضد الرأسماليين اليهود موجودة بسبب التناقض بين الرأسمال الاحتكاري والرأسمال المضارباتي التجاري، والذي كان يهوديا، ففضائح الرأسمال المضارباتي التجاري معروفة أكثر من طرف العموم، خاصة فضائح البورصة، وسمح هذا للرأسمال الاحتكاري ليستغل حقد الجماهير البورجوازية الصغيرة وجزءا من العمال أنفسهم ضد "الرأسمالية اليهودية".
2- فيما يخص العنصرية
يقول انجلز:
"إن الإيديولوجيا هي سيرورة ينجزها المفكر المزعوم عن طريق وعي ما، لكنه وعي زائف. إن القوى المحركة الحقيقية التي تحرك (هذه السيرورة) تظل مجهولة بالنسبة له، وإلا ما كانت سيرورة إيديولوجية. ولذلك يتصور قوى محركة زائفة أو ظاهرة" (من رسالة لانجلز إلى مهرينغ 14 يوليوز 1893).
وعلينا الآن أن ننظر إلى الدور الذي قام به الكتاب الذي فبركته الأوخرانا القيصرية (البوليس السياسي للنظام القيصري) تحت عنوان "بروتوكولات حكماء صهيون"، وذلك لندرك أهمية "القوى المحركة الزائفة أو الظاهرة" للنزعة المعادية للسامية.
لم تعد الدعاية الهتليرية تستعمل خطاب المنافسة الاقتصادية اليهودية الذي استعملته البورجوازية الصغيرة، بل أصبحت تعتمد أكثر على الدعاية المستمدة من "بروتوكولات حكماء صهيون" حول "مخططات السيطرة العالمية لليهودية الدولية"، وقد جاءت خطابات هتلر مليئة بهذه الأمور.
يشكل الدين المثال النموذجي للإيديولوجي وقواه المحركة الحقيقية يجب البحث عنها في المصالح المادية لطبقة ما، فالإله الذي أرسل ضد الأرستقراطية الانجليزية وشارل الأول أنصار كرومويل لم يكن سوى انعكاس أو رمز لمصالح الفلاحين والبورجوازية الانجليزية، فكل ثورة دينية هي في الواقع ثورة اجتماعية.
إن التطور الجامح للقوى المنتجة المصطدمة بالحدود الضيقة للاستهلاك تشكل القوى المحركة الحقيقية للإمبريالية، المرحلة العليا للرأسمالية، لكن العرق هو الذي يظهر كقوة بارزة أكثر تميزا، فالعنصرية هي أولا الاختباء الإيديولوجي للإمبريالية المعاصرة، ف "العرق الذي يناضل من أجل مجاله الحيوي" ليس في آخر المطاف إلا انعكاس للضرورة الدائمة للتوسع، الذي يميز الرأسمالية المالية أو رأسمالية الاحتكارات.
إذا كان التناقض الأساسي للرأسمالية، التناقض بين الإنتاج والاستهلاك، يولد بالنسبة للبورجوازية الكبيرة ضرورة النضال من أجل غزو الأسواق الخارجية، فإنه يفرض على البورجوازية الصغيرة النضال من أجل توسيع السوق الداخلية. إن غياب المنافذ الخارجية بالنسبة للرأسماليين الكبار يسير بشكل مواز مع غياب المنافذ الداخلية للرأسماليين الصغار. هكذا فالعنصرية الخارجية ترافقها عنصرية داخلية، وتزايد الأزمة يؤدي إلى احتداد متنامي للعنصرية الخارجية كما العنصرية الداخلية.
إن الطابع الرئيسي التجاري والحرفي لليهودية كإرث لماضي تاريخي طويل، جعل منها العدو رقم واحد للبورجوازية الصغيرة على مستوى السوق الداخلي بمعنى آخر، فإن الطابع البورجوازي الصغير لليهودية هو الذي جعل منها شيئا قبيحا للبورجوازية الصغيرة. وعموما، بالنسبة للجماهير الواسعة يظل اليهودي الممثل التقليدي "لقوى المال".
إن البورجوازي الصغير أو طبقته الاجتماعية هي طبقة رأسمالية تتوفر بشكل مصغر على كل الاتجاهات الرأسمالية، لكن في نفس الوقت هي طبقة مناهضة للرأسمالية، لديها وعي قوي، ولو كان غامضا، لقد تم تخريبها ونهبها من طرف الرأسمال الكبير، لكن طابعها الهجين، و وضعها ما بين الطبقي لا يسمح لها أن تفهم البنية الحقيقية للمجتمع، وكذلك الطابع الحقيقي للرأسمال الكبير.
إنها تريد أن تكون مناهضة للرأسمالية دون أن تتوقف عن كونها رأسمالية. إنها تريد تحطيم الطابع السيء للرأسمالية، أي الاتجاهات التي تعمل على تحطيمها، وفي نفس الوقت الحفاظ على الطابع الطيب للرأسمالية، التي تسمح لها بالعيش والاغتناء. وبما أنه لا توجد رأسمالية تمتلك الاتجاه الطيب بدون أن تتوفر على أخر سيئ، تقوم البورجوازية الصغيرة بخلقها خلقا، ومعروف أن البورجوازية الصغيرة هي التي أبدعت مصطلح "الهيبر رأسمالية"، الانحراف السيء للرأسمالية وروح الرأسمالية الشريرة.
وفي عصرنا هذا، ترفع شعارات النضال ضد "الرأسمالية السيئة المضارباتية" والدفاع عن "الرأسمالية النافعة المنتجة". لقد قام المنظرون النازيون بالتمييز بين "الرأسمال المنتج الوطني" والرأسمال الطفيلي اليهودي، فالرأسمالية اليهودية هنا يمكن أن تمثل بشكل أحسن خرافة الرأسمالية السيئة، ومفهوم الغنى اليهودي متجذر في الوعي الجماهيري الشعبي، وتقوم الدعاية النازية بإيقاظه، وتقديم صورة المرابي اليهودي، الذي سبق وأن ناضل ضده الفلاحون والبورجوازيون الصغار وحتى الإقطاعيون، ومن الناحية التاريخية، فإن انتصار العنصرية يعني أن الرأسمالية استطاعت أن تصرف الوعي المناهض للرأسمالية للجماهير، وذلك في اتجاه نوع سابق من الرأسمالية، لم يبق لها وجود إلا كبقايا أثر.
هكذا نجد أن العنصرية تتشكل من عناصر متنافرة، فهي تعكس الإرادة التوسعية للرأسمال الكبير، وتعبر عن حقد البورجوازية الصغيرة ضد العناصر الأجنبية في السوق الداخلية، وكذلك التعبير عن اتجاهاتها المناهضة للرأسمالية، فالبورجوازية الصغيرة، باعتبارها عنصرا رأسماليا تكافح ضد المنافس اليهودي، وباعتبارها عنصرا مناهضا للرأسمالية تناضل ضد الرأسمال اليهودي، فالرأسمالية تحرف النضال المناهض للرأسمالية لدى الجماهير نحو نضال ضد شكل سابق للرأسمالية.
وتقوم العنصرية بدمج كل الطبقات في قالب جماعة عرقية تعارض جماعات عرقية أخرى. إن العنصرية الخارجية الستار الإيديولوجي للإمبريالية لا يجب أن يظهر بطابع معاد للسامية، لكن بسبب التلفيقية، فإن هذا الطابع هو الذي يأخذه بشكل عام، كما أن الطابع المناهض للرأسمالية لدى الجماهير الذي تم صرفه اتجاه اليهودية يتم إسقاطه بعد ذلك ضد عدو خارجي، الذي تم تصنيفه وتحديد هويته، فمن واجب "العرق الجرماني" مكافحة اليهودي، عدوه الرئيسي بكل الأشكال التي يختبئ تحتها هذا العدو، الشكل البلشفي (الشيوعيين الألمان) والشكل الليبرالي الداخلي، وحكومة الأغنياء الانجلوسكسوني (البلوتوكراسيا)، والبلشفية الخارجية (الاتحاد السوفياتي). يقول هتلر في كتابه "كفاحي" أنه يجب تقديم مختلف الأعداء تحت مظهر مشترك، وإلا فهناك خطر أن تبدأ الجماهير التفكير في الفوارق الموجودة بين هؤلاء الأعداء. ولذلك تعتبر العنصرية خرافة وليست مذهبا، إنها تتطلب الإيمان وتخشى التحليل العقلي، والنزعة المناهضة للسامية ساهمت في لحم مختلف عناصر العنصرية، وبما أنه يجب تذويب مختلف الطبقات في عرق واحد، يجب كذلك ألا يكون لهذا العرق إلا عدو واحد: إنه اليهودي العالمي. إن خرافة العرق تكون مصاحبة بمقابلها السلبي، أي اليهودي.
من سخرية التاريخ أن الإيديولوجيا المناهضة للسامية الأكثر راديكالية في التاريخ ستنتصر في مرحلة دخلت فيها اليهودية طريق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي. وككل سخريات التاريخ، فهذه المفارقة مفهومة، فحينما كان اليهودي غير قابل للاندماج وكان يمثل الرأسمال حقيقة كان ضروريا للمجتمع، ومن ثمة لم تطرح مسألة تدميره، وعندما أصبح المجتمع الرأسمالي على شفى حفرة وآيل للانهيار، سيحاول إنقاذ نفسه عن طريق إعادة إحياء اليهودي والحقد على اليهودي. وبما أن الرأسمالية اليهودية هي وهم فمن السهل هزيمتها، ولكن بهزمها لنقيضها، فإن العنصرية تحطم في نفس الوقت أسس وجودها الخاص.
وبالرغم من الانسجام الظاهر، فتطور العنصرية يظهر التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يخبئها، ففي البداية، ومن أجل توفير سلاح النضال لمجاله الحيوي للحرب الامبريالية، كان على الرأسمال الكبير أن يهزم عدوه الداخلي، البروليتاريا، فالبورجوازية الصغيرة والعناصر غير المصنفة للبروليتاريا سيشكلون عناصر مجموعات الصدام القادرة على تحطيم التنظيمات الاقتصادية والسياسية للبروليتاريا، ففي البداية ظهرت العنصرية كإيديولوجيا للبورجوازية الصغيرة، فبرنامجها كان يعكس مصالح وأوهام هذه الطبقة، أي وعد النضال ضد الهيبر رأسمالية و التروستات والبورصة والمتاجر الكبرى.
وبعدما حقق الرأسمال الكبير انتصاره على البروليتاريا بدعم من البورجوازية الصغيرة، أصبحت هذه الأخيرة بالنسبة له ثقلا لا يحتمل، ذلك أن برنامج الإعداد للحرب كان يفرض التصفية بدون شفقة للمقاولات الصغيرة وتطورا كبيرا للتروستات و لبلترة المجتمع.
هكذا، قام الرأسمال الكبير بخنق البورجوازية الصغيرة، وبدأت العنصرية بعد ذلك تغازل البروليتاريا بمحاولة ظهورها كحركة اشتراكية، وهنا لعب انتزاع الملكية من الرأسماليين اليهود دور ضمانة النضال وإرادة النضال المناهض للعنصرية.
إن الطابع المجهول لرأسمالية الاحتكارات، خلافا للطابع الشخصي للرأسمال المضارباتي وللمقاولات اليهودية، ساعد على إنجاح عملية الغش الروحي. ذلك أن الإنسان الشعبي يلاحظ بسهولة طبيعة الرأسمالية "الواقعية" أي التاجر، الصانع والمضارب مقارنة ب "المدير المحترم للشركة المجهولة"، الذي يتم تقديمه ك "عامل إنتاج ضروري". بهكذا مصطلحات، توصلت الإيديولوجيا العنصرية إلى تحديد الهويات التالية:
اليهودية = الرأسمالية، العنصرية = الاشتراكية، الاقتصاد الموجه من أجل الحرب = الاقتصاد الموجه الاشتراكي.
ꓦ - هل هناك عرق يهودي؟
يشكل اليهود في واقع الأمر خليطا من الأعراق الأكثر تنافرا، ويعود هذا الأمر إلى واقع الشتات الذي عاشه اليهود، وحتى في فلسطين لم يشكل اليهود "عرقا صافيا، فحسب التوراة نفسها فقد نقل الإسرائيليون عند خروجهم من مصر جماهير واسعة من المصريين إلى حد أن المؤرخ سترابون اعتبرهم سليلي المصريين، وعلينا أن نذكر بالأعراق المختلفة التي استقرت بفلسطين منهم الحيثيون والكنعانيون والفلستينيون والمصريون والفينيقيون والإغريق والعرب، فحسب سترابون فإن يهودا كان يسكنها الفينيقيون والمصريون والعرب، وبانتشار الديانة اليهودية خلال الحقبة اليونانية والإغريقية ازداد طابع الاختلاط هذا، فقد تم إدخال العديد من اليهود بالقوة إلى اليهودية، ثم دخول الخزر وأعراق أخرى خلال مرحلة الشتات جعل من اليهودية خليطا من الأعراق، وحاليا ليس هناك أي تجانس عرقي بين اليهود اليمنيين ويهود داغستان، فالأوائل من نوع شرقي بينما آخرون ينتمون إلى العرق المنغولي، هناك يهود سود في الهند وفي إثيوبيا يوجد الفلاشا، ويهود يسكنون الكهوف في إفريقيا، واليوم تسعة أعشار اليهود يسكنون أوروبا الشرقية (المقصود أربعينات القرن العشرين)، ويتشكلون من يهود روسيا وبولونيا وغاليسيا وهنغاريا والنمسا وألمانيا، إضافة إلى غالبية يهود أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية.
حسب بعض الإحصاءات أن 14،25% من اليهود و 12،70% من اليهوديات يمتلكون أنفا يهوديا، الذي ليس إلا أنفا مشتركا بين شعوب آسيا الصغرى، خاصة لدى الأرمينيين، و هو أنف منتشر بشكل كبير لدى شعوب البحر المتوسط وبين البافاريين.
مما سبق، نستخلص عدم صحة مفهوم العرق اليهودي، والعرق اليهودي هو خرافة، والصحيح هو القول أن اليهود يشكلون خليطا عرقيا مختلفا عن الخلائط الأخرى لدى أغلبية الشعوب الأوروبية، خاصة السلافيين و الجرمانيين.
ويعود الأمر في آخر المطاف إلى الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية لليهود عبر التاريخ فهي التي تفسر هذه الظاهرة، فخلال قرون كان اليهود يسكنون المدن ويتعاطون التجارة، والنموذج اليهودي يمكن اعتباره أكثر، نتيجة لهذه الوظيفة التي استمرت طويلا ولا يعود إلى أسباب عرقية، فقد اندمجت في اليهودية عناصر عرقية متنافرة، ستخضع جميعها للظروف الخاصة التي كان يعيش فيها اليهود، الشيء الذي تولد عنه ما يسمى ب "النوع اليهودي"، إنه نوع من الانتقاء الاقتصادي والاجتماعي تولد عنه الضعف الجسدي وكثرة انتشار بعض الأمراض كمرض السكري والعصبية، وهذه ليست مميزات عرقية، بل ناتجة عن وضع اجتماعي خاص، فمن الخطأ تفسير اتجاههم نحو التجارة أو نحو التجريد بعرقهم، وبقدر ما يندمج اليهود اقتصاديا، ولم يعودوا يشكلون طبقة يفقدون بسرعة هذه المميزات، وكل هذا يبين خطأ المنظرين العنصريين حول ما يسمى بالعرق اليهودي.
VI ــــ الصهيونية
لقد ولدت الصهيونية عند مفترق الطرق، الذي أنتجته مذابح البوغروم الروسية في سنة 1882، ونتيجة للاضطرابات الناتجة عن قضية ما يسمى ب دريفوس، الشيء الذي يثبت البعد الحاد الذي أخذته المسألة اليهودية في أواخر القرن 19، وهناك عدة عوامل يجب استحضارها، وهي:
- الرأسملة السريعة التي أخذها الاقتصاد الروسي بعد إصلاح 1863، الشيء الذي جعل وضعية الجماهير اليهودية في المدن الصغيرة لا تطاق.
-انقلاب الطبقات الوسطى في أوروبا الغربية والتي سحقها التمركز الرأسمالي، على اليهود، حيث كانت منافستهم تعمق هذا الوضع.
- تشكلت في روسيا جمعية "عشاق صهيون"، وكتب ليوبنسكر كتابه "التحرير الذاتي"، حيث تبنى في هذا الكتاب فكرة العودة إلى فلسطين كحل وحيد ممكن للمسألة اليهودية.
- في باريس، وككل ملوك المال اليهود، لم يكن روتشيلد متحمسا لمجيء اليهود إلى البلدان الغربية، فبدأ يهتم بالاستيطان اليهودي في فلسطين، بمعنى في مكان بعيد، الشيء الذي أعجب البورجوازية في الغرب خوفا من تصاعد النزعة المعادية للسامية.
- بعد كتاب ليو بنسكر، قام صحافي يهودي من بودابست ويدعى تيودور هرتزل بتأليف كتابه الشهير "الدولة اليهودية" الذي سيصبح إنجيل الحركة الصهيونية العالمية، ومنذ بدايتها بدت الصهيونية كرد فعل من البورجوازية الصغيرة اليهودية ضد الموجة المتصاعدة المعادية للسامية، وبدأت تحاول الوصول إلى "الأرض الموعودة" بعيدا عن العواصف التي تضرب أوروبا الغربية.
- رغم أن الصهيونية قدمت نفسها كحركة قومية لليهود حديثة، إلا أنها زعمت أن شرعيتها قديمة وتعود إلى مئات السنين، علما أن الصهيونية هي نتاج الفترة الأخيرة من الرأسمالية، مرحلة انحطاطها، وهي كحركة، تشكل رد فعل ضد الوضع الذي نتج بالنسبة لليهود، نتيجة عامل انهيار الإقطاعية وانحطاط الرأسمالية، وبطبيعة الحال تقدم الصهيونية نفسها على أنها رد فعل على وضع قام منذ سقوط أورشليم سنة 70 ميلادية، وإن نشأتها الحديثة جدا هي أحسن جواب على هذه المزاعم، فكيف يمكن أن نؤمن أن العلاج هو علاج لداء موجود منذ ألفين سنة، ولم يتم إيجاده إلا في نهاية القرن 19؟
وفي واقع الأمر، فإن الإيديولوجيا الصهيونية ليست إلا انعكاسا مشوها لمصالح طبقة، إنها إيديولوجية البورجوازية الصغيرة اليهودية، التي كانت تختنق بين إقطاعية منهارة ورأسمالية في حالة انحطاط. إن النزعة المعادية للسامية الحديثة، وليس اللاسامية الخرافية الأبدية هي خير محرض لصالح الصهيونية، والسؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه، وهو:
إلى أي حد تستطيع الصهيونية حل المسألة اليهودية في مرحلة انحطاط الرأسمالية؟
هناك خلاف قوي بين الحركة الصهيونية والحركات القومية الأخرى، فالحركة القومية للبورجوازية الأوروبية هي نتيجة تطور الرأسمالية، وتعكس إرادة البورجوازية في خلق الأسس القومية للإنتاج والقضاء على بقايا الإقطاعية. إن الحركة القومية للبورجوازية الأوروبية مرتبطة بالفترة الصاعدة للرأسمالية، وفي القرن19، وفي ظل ازدهار الحركات القومية الأوروبية لم تكن البورجوازية اليهودية صهيونية، بل كانت متشبثة بالاندماج.
إن السيرورة الاقتصادية التي انبثقت منها الأمم الحديثة تضع أسس اندماج البورجوازية اليهودية في الأمة البورجوازية، ولم تظهر سيرورة طرد اليهود من المجتمع الرأسمالي إلا عندما بدأت سيرورة تشكل الأمم تصل إلى نهايتها، عندما وجدت القوى المنتجة نفسها تعاني من ضيق في الحدود القومية. إن تصفية اليهود كان مرافقا لانحطاط الرأسمالية، ولم تكن الصهيونية نتاجا لتطور القوى المنتجة، بل على العكس، نتيجة لتوقف هذا التطور. وبقدر ما كانت الحركة القومية هي نتاج المرحلة الصاعدة للرأسمالية، فإن الصهيونية هي نتاج المرحلة الامبريالية. إن التراجيديا اليهودية في القرن 20 هي نتيجة مباشرة لانحطاط الرأسمالية.
"وهنا يكمن العائق الرئيسي لتحقيق مشروع الصهيونية. فالانحطاط الرأسمالي، الذي شكل اساس نمو الصهيونية، هو في نفس الوقت استحالة تحقيقه. إن البورجوازية اليهودية ملزمة بخلق بشكل مصطنع دولة قومية، وتتأكد من الأطر الموضوعية لتطور قواها المنتجة، خاصة في المرحلة، التي أصبحت فيها ظروف مثل هذا التطور غائبة. إن ظروف انحطاط الرأسمالية، التي وضعت بحدة المسألة اليهودية، تجعل في نفس الوقت، مستحيل حلها على الطريقة الصهيونية، ليس هناك أي أمر غريب هنا، فلا نستطيع القضاء على شر بدون القضاء على أسبابه، والحال أن الصهيونية تريد حل المسألة اليهودية بدون تحطيم الرأسمالية، التي هي المصدر الرئيسي لآلام اليهود" (ص، 134، 135). "المفهوم المادي للمسألة اليهودية" أبراهام ليون، دجنبر 1942.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع بحلقة ثانية

توجد هذه الحلقة بصيغة بدف على موقع 30 غشت
http://www.30aout.info








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختتام مناورات الأسد الإفريقي بسيناريو افتراضي استخدمت فيه م


.. بعد ضربات أمريكية على اليمن.. يمني يعبر عن دعمه لفلسطين




.. فرق الإنقاذ تنتشل جثمانين لمقاومين استشهدوا في جباليا


.. واشنطن: بلينكن دعا نظراءه في السعودية وتركيا والأردن للضغط ع




.. فرق الإسعاف تنتشل جثامين مقاتلين فوق سطح منزل بمخيم جباليا