الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول حكم ذاتي لمواجهة النعرة القبلية في الدولة الاسلامية

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2024 / 5 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


تبني ميثاق الأمم المتحدة لخيار الاستفتاء ، كان خيارا تقدمي ، نظرا لما مرت به الشعوب التي خضعت للاستعمار من ويلات ومن مظالم يدينها القانون الدولي ، ويدينها ميثاق الأمم المتحدة ، كما تدينها القوانين التي جاءت من بعد الميثاق . لكن هل حل تقرير المصير هو الحل الوحيد للقضاء على الاستعمار ، وتمكين الشعوب من حريتها ومن استقلالها ؟ وهنا وعلى جانب حل الاستفتاء وتقرير المصير ، كان هناك حل الحكم الذاتي باستثناء بعض الإجراءات والممارسات المرتبطة بالسيادة ، فيكاد يكون حل الحكم الذاتي شبيها بالديمقراطية التي يمنحها الاستفتاء وتقرير مصير الشعوب الخاضعة للاستعمار المباشر او غير المباشر ، كتحرير الثقافة ، وتحرير التراث ، من كل الهيمنة الأيديولوجية للدول المستعمرة ، التي تسمح للاستعمار من الدخول من النافدة بعد ان خرج من الباب . طبعا فان حل الاستفتاء وتقرير المصير ، وحل الحكم الذاتي ، يبقى من اختيار الشعوب المستعمرة ، المعنية وحدها دون غيرها في التقرير لمصيرها دون غيرها ، لان نتائج الحكم الذاتي ونتائج الاستفتاء وتقرير المصير ، تتحملها الشعوب المُستعمرة دون غيرها . لكن سنثير ملاحظة في غاية الدقة . لماذا تتجاوب الدول الديمقراطية المتقدمة ، مع حل الحكم الذاتي للشعوب ذات الاثنية الخاصة ، لكنها ترفض حل الاستفتاء وتقرير المصير للشعوب ، حتى ولو اكدت اختيارها السياسي ، بالاستفتاء وتقرير المصير ، كما شاهدنا في مشروع انفصال منطقة " الكتلان " La Catalogne الذي حسم دستوريا الملك شخصيا في ابطال نتائج الاستفتاء الشعبي ، الذي كان مع الاستقلال وتكوين الدولة " الكتلانية " L’Etat Catalogne ؟ . لكن لماذا يفشل مشروع حل الحكم الذاتي في الدول النامية ، او الدول الضعيفة ، وينتصر فقط حل الاستفتاء وتقرير المصير ؟ . الاستفتاء ممنوع في اوربة وفي أمريكا ، ومباح في الدول المتخلفة ، التي تخضع للمشاريع الغربية التي توظف قوانين الأمم المتحدة ، في خلق أوضاع جديدة ، تنتهي ببتر أجزاء الدولة . لكن الاستفتاء وتقرير المصير ممنوع في الدول الديمقراطية ، مما يجعل الديمقراطية الغربية عانس ؟
ان اول تطبيق للحكم الذاتي في التاريخ الإسلامي حفاظا على الوحدة ، كان منذ نظام الخلافة ، بغية الحفاظ على وحدة الدولة ، وعدم تجزئها وتفتيتها
فتمصير الامصار ، وتطبيق الأنظمة الإدارية الديمقراطية الجديدة ، خلقا مراكز سياسية جديدة ، لا تقل وزنا عن عاصمة الدولة الإسلامية في الحجاز . ونتيجة لذلك برزت مخاطر الصدام بمركز الدولة ، وتطور الى صراع متنامٍ بين المدينة في الحجاز ، واهل الكوفة .
وقد حاول الخليفة عمر تسكين الأمور ، بمداراة الكوفيين ، وتلبية اكثر مطالبهم ، ولكن الوضع السياسي الجديد ، كان من الخطورة بمكان ، ممّا حمل الخليفة على اتخاذ إجراءات تنظيمية لتحقيق توازن سياسي جديد ، يعزز من مكانة العاصمة الإسلامية في الحجاز ، وهيمنتها على الامصار .
تتلخص هذه الإجراءات ، بإعادة تنظيم الدولة الإسلامية كلها ، وفق نظام ديمقراطي جديد للأمصار ، منح لكل منها استقلالاً ذاتيا فيما يتعلق بأمور الإدارة ، والاقتصاد المحلّيين ، على ان يُراجع مركز الخلافة في القضايا السياسية العليا ، و كان نظام الحكم الذاتي هذا اشبه بالاتحاد الفدرالي ان صح التعبير ، مركزه المدينة .
قسم الخليفة عمر الدولة الإسلامية الى سبعة اقسام ، وفق نظام ( الأسباع ) ، وهو نظام قديم يرجع الى أصول بابلية ، يُصور العالم المعمور على هيئة سبعة أقاليم ، مُرتبة على شكل سبع دوائر ، ست منها بدائرة مركزية تمثل أقاليم بابل . يقول اليعقوبي ( 142: 2 ) ان عمر بن الخطاب ، هو الذي اوجد هذا النظام . فقال ان عمر : " مُصّر الامصار في هذه السنة ( 17 هجرية " . وقال الامصار سبعة . فالمدينة مصر ، والشام مصر ، والجزيرة مصر ، والكوفة مصر ، والبصرة مصر ....لخ " ..
كان المقصود بهذا التنظيم ، منح الامصار قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتي ، وخصص لها أربعة اخماس الغنائم العسكرية ، ودفع الخمس المتبقي لمركز الدولة الإسلامية ، إضافة الى نسبة معينة من إيرادات الخراج . ونتيجة لهذه الإجراءات الديمقراطية التقدمية ، اصبح في حوزة الامصار موارد اقتصادية ، وقوة عسكرية كبيرة ، فعمل الخليفة عمر على خلق توازنات مُعينة بينها ، لئلا تتمرد على مركز الخلافة .
كان تأسيس مدينة البصرة وتمصيرها ، يستهدف خلق قوة موازنة للكوفة ، وكانت البصرة اول الامر معسكرا صغيرا ، وقد سارعت الخلافة بمدها بالمهاجرين من مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ثم الحقت بها بعض الأقاليم التي غزاها اهل الكوفة لسد نفقات المقاتلين ، والمهاجرين الجدد . ( انظر الطبري 4 : 160 ) .
اثار هذا الاجراء الأخير اهل الكوفة ، فطلبوا من اميرهم عمّار بن ياسر ، رفع شكواهم الى الخليفة . لكن امام رفض الأمير طلبهم ، وساند قرار الخليفة بدعم اهل البصرة ، شغبوا ( شغب ) عليه وطالبو الخليفة بعزله ، فاضطر عمر لتلبية طلبهم وهو كارها ، فقال : " أعضل بيّ " أهل الكوفة " . وكان يقول : " أي نائب اعظم من مائة الف لا يرضون غير الأمير ، ولا يرضى عنهم امير ".
ان هذا الصراع بين اهل الكوفة والخلافة ، قد تطور فيما بعد عبر سلسلة من الثورات والحروب الاهلية ، مع اهل البصرة واهل الشام ليتخذ صورة مذهبية . وفي أرضية هذا الصراع بذرت البدرات الأولى للانقسام القبائلي والمذهبي في الإسلام . ثم ان ما جرى على نطاق الدولة الإسلامية ، انعكس أيضا داخل كل مصر من الامصار بصورة متفاوتة .
لم يقتصر تطبيق نظام ( الاسباع ) على إدارة الدولة الإسلامية ، بل شمل تنظيم بعض الامصار الإسلامية نفسها . وقد أُعيد تخطيط مدينة الكوفة وفق النظام المذكور ، لضمان هيمنة المركز الإداري على الاحياء القبلية المحيطة . فكان من مزايا التخطيط الجديد ، توفير سيطرة مركز المدينة على الأطراف ، وضمان عزل الاحياء القبلية عن بعضها البعض عند الضرورة ، وكذلك سد منافذ المدينة الى الخارج إذا اقتضى الحال .
وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط الذي استقرت عليه الكوفة ، في تسهيل ضرب الحركات الثورية فيما بعد ، ولا سيما ثورة الحسين ، وثورة زيد بن علي ، حيث استطاعت الكوفة المدينة ، حصر الناس في معسكر النخيلة ، او في المسجد الجامع ، وعزلهم عن الثوار .
وكما حدث في الصراع بين الكوفة ، والبصرة ، والشام ، فقد جرى ذلك بين احياء الكوفة نفسها ، فانحازت قبائل اليمن الى الشيعة ، في حين انحازت ثقيف وغيرها من القبائل العدنانية الى الامويين .
لكن التنظيمات الديمقراطية التي نفّدها عمر بن الخطاب ، باحترامها للاستقلال الذاتي للأمصار ، حافظت على وحدة المقاتلة الإسلامية ، واضعفت عوامل الانقسام المذهبي ، والصدام السياسي . غير ان هذا الوضع سرعان ما تغير بعد وفاة عمر ، وانتقال الخلافة الى عثمان بن عفان ، الذي سيطر بالكامل لوحده ، وعائلته ، وأصدقائه ، والمقربين منه على بيت المال ، شرارة مقتله ، وشرارة ثورات الامصار الثورية ، وعلى رأسهم ثوار مصر .
كان الخليفة الجديد ، ينتمي الى الاسرة الاموية التي فقدت مكانتها السياسية المهيمنة بعد الإسلام . وقد تولى عثمان الخلافة في وقت أنجزت اكثر الغزوات ، وتزايدت ثروات المقاتلة ، وتراكمت الأموال في الامصار ، فأدى هذا الى تزايد هجرة الناس للبلدان المغْزُوّة ، وخلق مشاكل خطيرة حاول الخليفة مواجهتها بإحداث إجراءات لم تعهدها الجماعة الإسلامية ، إذ لم يمر وقت طويل ، حتى شرع عثمان بن عفان بانتهاج سياسة تخالف سيرة من سبقه .
فقد حاول تعزيز المركزية في الدولة الإسلامية ، وتحويلها من ديمقراطية الى دكتاتورية ، وتقوية مؤسسة الخلافة ، الدولة انا / انا الدولة ، وجعلها اشبه بالمُلْك . فاقدم على الغاء نظام الامصار ( الحكم الذاتي ) الديمقراطي التقدمي ، وحولها الى إدارات محلية مرتبطة مباشرة بالخلافة ، وعيّن أبناء عشيرته ، وأصدقائه من الامويين امراء على الأقاليم والامصار ، وخول لهم الاستئثار بأموال الدولة الإسلامية .
وكان من إجراءات عثمان ، تعزيز هيبة الخلافة أمام العامة ، ونبذ حياة البساطة التي سار عليها النبي ، وأبو بكر ، وعمر . فقد بنى لنفسه قصرا كبيرا في منطقة الزوراء بالمدينة ، وحاول نقل مركز الخلافة الى مكة كصلاة المقيم فيها . وهذا امر اخذه عليه خصومه ، واعتبروه من احداثه المبتدعة . ثم عمل عثمان على احاطة نفسه بجند مماليك ، اختارهم من العبيد الذين كانوا يرسلون الى الحجاز ، ضمن الخمس المخصص للخلافة من الغنائم العربية ، فكانوا يسمون " عبيد الخمس " ، أي الخماسة .
ثم شرع عثمان بتدوين القرآن ، وحصره ذلك بالخلافة وحدها ، فامر بتوحيد المصاحف ، واحراق القديمة منها التي كتبت في عهد النبي والخلفاء من بعده . والغى نظام الامصار، واحل محله نظام ( الاجناد ) ، لذلك ابدل اسم الكوفة ، فأصبحت " كوفة الجند " ، كما تذكر العديد من المصادر .
ورغم انه بعث للأمصار سبعة مصاحف ، الاّ انه اسقط مصاحفها الخاصة بها ، سيما مصحف ابن سعود ، الذي ظل موضع اجلال من اهل الكوفة والشيعة عامة . وسمح عثمان لأشراف الحجاز الانتقال الى الأقاليم بعد ان كان عمر منعهم من ذلك . وسوغ لهم استثمار أموالهم ، وشراء العقارات في الامصار ، وبناء دور التجارة فيها ، أي الجمع بين الحكم ، والتجارة ، والثروة .
وبمثل هذا التنظيم الاستبدادي شبه الملكي للدولة غير المعهود من المسلمين ، قاد الى تدمر واسع بين الناس ، واثار روح التمرد في الامصار التي حُرمت من استقلالها الذاتي ، كالكوفة ، والفسطاط ، والبصرة . وقد كانت ثورة اهل مصر شديدة على عثمان لأسباب عديدة ، منها انه اسقط الفسطاط كليا من بين الامصار، ولم يخصّها كما فعل مع الامصار الأخرى .
انفجر التذمر الشعبي بثورة سياسية كبرى ، حُوصر فيها الخليفة في داره في عاصمة الدولة الإسلامية ، ثم قتل دون ان ينصره احد غير بعض أبناء عمومته من الامويين .
وبعد مقتل عثمان بايع اهل المدينة علي بن ابي طالب بالخلافة ، فهرب الامويون من المدينة ، وتجمعوا في الشام استجارة بأميرها معاوية بن ابي سفيان . بعد ذلك انحاز بعض اشراف قريش الى البصرة في محاولة للانفراد بالعراق ، وعزل الحجاز عن اهم أقاليم الدولة الإسلامية ، الامر الذي دفع بالخليفة علي بن ابي طالب الإسراع الى ترك الحجاز ، واتخاذه الكوفة مركزا للخلافة ، والشروع بحروب طويلة ضد البصرة والشام كما هو معروف .
هكذا نرى ان محاولات عثمان بن عفان فرض نظام دكتاتوري مركزي مطلق ، وحرمان الامصار من استقلالها الذاتي الديمقراطي ، وتركّز الملكيات الخاصة بيده ، ويد عائلته ، وأبناء عمومته ، وتعمق التمايز الطبقي ، والعنصري ، كانت العوامل التي قادت الى صراع سياسي حاد ، مهّد الطريق لظهور القبلية والمذهبية في الإسلام . فما اشبه الامس باليوم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: مزارعون في الهند مصممون على إلحاق الهزيمة بالحزب ا


.. السباق إلى البيت الأبيض: حظوظ ترامب | #الظهيرة




.. ماهو التوسع الذي تتطلع إليه إسرائيل حالياً؟ وهل يتخطى حدود ا


.. ترامب: لم يتعرض أي مرشح للرئاسة لما أواجهه الآن | #الظهيرة




.. -كهرباء أوكرانيا- في مرمى روسيا.. هجوم ضخم بالصواريخ | #الظه