الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرعية الحكم والأمر الواقع

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 5 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


تقريباً كل حكم مهما يكن هو حكم شرعي. بمجرد أن يتمكن النظام من اعتلاء سدة الحكم بعد التخلص من مزاحميه، وفرض أمره بقوة السلاح على محكوميه وتوفير المتطلبات الأساسية لبقائهم، يصبح حكماً شرعياً بالأمر الواقع. هذا كان واقع حال العالم كله منذ القدم، ولا يزال في معظم أنحائه حتى الآن. هنا الشرعية مرادف الغلبة والبقاء؛ أو، بمعنى آخر، القوة. ولما كان النظام الحاكم واقع لا محالة في محيط محكوميه، مقيداً بظروف واقعهم ومقدراتهم الجيوستراتيجية والمادية والبشرية وطاقاتهم الجماعية، كان لزاماً أن تكون عناصر قوته تلك واستمراريتها مستمدة من هذه البيئة الطبيعية والديموغرافية لمحكوميه. لا الحاكم الضعيف يصنع أمة قوية؛ ولا الأمة الضعيفة قادرة على أن تصنع حاكماً قوياً. البقاء للأقوى والأصلح للتعمير والديمومة هو مبدأ شرعية هذه النوعية من الحكم وأساسه المتين.

لكن هذه القوة وإن كانت مبدأ الشرعية إلا أنها غير كافية وحدها لبقاء واستمرارية هذه الأخيرة. إذا كان الحاكم بالأمر الواقع يستطيع استخدام قوته المسلحة للقضاء على خصومه السياسيين من الخارج والداخل، لا يمكنه ببساطة أن يفعل ذلك مع محكوميه. لأنه إذا قضى عليهم، من يتبقى له إذن لكي يمارس فيهم حكمه، ويجدد منهم قوته وبقائه؟! كذلك، إذا أضعفهم عبر الاسراف في استعمال القوة والقمع ضدهم، هو بذلك يُضعف نفسه معهم أيضاً. حتى في الحكم بالأمر الواقع، ورغم نشأته في القوة التي سيتخذ منها ضامناً لبقائه، عندما يسرف الحاكم في استعمال القوة ضد محكوميه يصبح عندئذٍ كمن يطلق النار على قدميه، ويُضعف نفسه بالضرورة. هكذا تصبح القوة وحدها لازمة- لكن غير كافيه- لاستتباب شرعية الحكم وبقائه.

لكي يتفادى النظام الحاكم الاضطرار إلى الاسراف في استعمال القوة ضد محكوميه بما يؤدي إلى إضعافهم وتهديد دعائم استقراره، لابد أن يُبدي هؤلاء في معظمهم استكانة وإذعاناً للنظام، أو ما قد نُسميه رضاهم بالنظام وعدم تحديهم له بشكل مباشر. وهذا لا يتحقق إلا إذا كان النظام يلبي لهم الحد الأدنى من متطلبات بقائهم الجمعي. هذه المتطلبات الأساسية تتضمن ألا يحاربهم النظام بشكل مباشر في سلامة أبدانهم وذويهم أو لقمة عيشهم، أو مُثُلهم العليا الدينية والثقافية. إذا حدث، سيكون بذلك قد حشرهم في زاوية "يا روح ما بعدك روح"؛ وعندئذٍ ستتعاظم وتتسع المعارضة للحكم القائم، ما يضطر النظام إلى الاسراف في استعمال القوة للقضاء على المعارضين، الذي بدوره يضعف ويزعزع استقرار النظام حتى لو نجح في قمع المعارضة هذه المرة.

في النظم السياسية القائمة على مبادئ الحكم بالأمر الواقع، المحكومون هم مجرد رعية ساكنة لا شأن ولا هَمُ لهم في مسائل الحكم وإدارة الشأن العام، غير مشاركين ولا حتى واعين أو عابئين باللاعبين هناك، طالما لم يمسهم في مجموعهم سوء مباشر. لا يهمهم إذا تغلب محمد على أبي سفيان، معاوية بن أبي سفيان على عليّ بن أبي طالب، أولاد العباس على بني أُمية، المغول والتتار على العباسيين، أو العثمانيين على المماليك، أو الأوربيين على جميع هؤلاء. طالما لم يُشكل أي من هؤلاء تهديداً مباشراً لأبدانهم وأقواتهم ومُثُلهم العليا، هم يواصلون حياتهم في لا مبالاة تامة. يأتي من يأتي، ويذهب من يذهب طالما بعيدون عنا، أو هكذا كانوا يظنون. هم أشبه بالجماهير في لعبة كرة القدم. كل فريق له جمهور من الأنصار المتحمسين. مع كل مباراة يقفون متفرجين بعيداً عن ساحة اللعب في المدرجات أو من وراء الشاشات، يصرخ من يصرح ويهلل من يهلل، هذا يفرح وهذا يحزن. في النهاية، يفوز من يفوز ثم ينصرفون جميعاً إلى ديارهم وفراشهم. لا هم ساهموا بأي دور مباشر في فوز من فاز ولا هزيمة من هُزم. هم لا يملكون أكثر من الفُرجة من بعيد والزعيق بالهتاف والعويل، وهي رفاهية حتى غير مُتاحة لهم في دنيا السياسة.

عبر التاريخ السياسي المصري الذي هو ربما الأطول في العالم على الإطلاق، قد شهدت الحقبة الحديثة منه مفارقات لافتة. كان المماليك هم حكام مصر الشرعيين بالأمر الواقع، بينما كان هؤلاء الحكام في الوقت نفسه يخضعون لسلطة حكام آخرون شرعيون أيضاً بحكم الأمر الواقع- العثمانيون. هكذا كان المصريون يخضعون لحكمين شرعيين بالأمر الواقع في الوقت ذاته. ثم جاء محمد علي من ألبانيا ليطيح بحكم المماليك ويحول نظام الحكم من إمارة عثمانية يحكمها المماليك إلى مملكة مصرية خاضعة اسمياً للسلطة العثمانية أيضاً. ثم أتى الدور على الإنجليز، الذين في عهدهم أصبحت مصر خاضعة لثلاثة أنظمة حكم شرعية بالأمر الواقع في وقت واحد- العثمانيين، أسرة محمد علي، والإنجليز. وأخيراً، لأول مرة منذ عهد الفراعنة قبل آلاف السنين، خرج الضباط الأحرار بقيادة اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر من قلب الجيش المصري، وأطاحوا بهذه الأنظمة الثلاثة وانفردوا وحدهم بالحكم الشرعي بالأمر الواقع في بر مصر، التي أصبحت جمهورية- لأول مرة في تاريخها السياسي المديد أيضاً.

الشيء المشترك بين الأنظمة أعلاه أنها جميعاً كانت تُزيح بعضها بعضاً بالقوة، ثم تفرض نفسها على المصريين أيضاً بقوة الأمر الواقع، الذي تستمد منه شرعيتها. لابد أن المصريين خلال هذا التاريخ السحيق قد فاض بهم الكيل في مرات عديدة، وهاجوا وماجوا وأحدثوا الاضطرابات والفوضى التي أضعفت نظام الحكم القائم وأسهمت في وقوع الدولة فريسة سهلة لطامع جديد. هذا لا شك قد حدث. لكنهم أبداً لم يسقطوا أي نظام بأيديهم بشكل مباشر. وأبداً لم ينشئوا آخر جديد بأيديهم بشكل مباشر. حتى لم يفعلوا مع أول نظام وطني يقوم فيهم-الجمهورية. كما هو الحال مع كل الأنظمة السابقة، الجمهورية فرضت نفسها ولا تزال بقوة الأمر الواقع وتستمد منه شرعيتها. ولم يكن للمصريين أي دور مباشر لا في نشأتها، ولا في استمرارها إلى الآن. لا هم أعطوها شرعية، ولا هم يستطيعون سحب هذه الشرعية منها. بل شرعية الجمهورية من نفسها- من قوة فرضها وبقائها بالأمر الواقع.

المرة الأولى والوحيدة التي يُسقط فيها المصريون نظاماً ويقيمون آخر بأيديهم بشكل مباشر كانت في 2011، فيما يسمى الربيع العربي. لكن هذا النظام الشعبي الأول من نوعه قد وُلد مُبْتَسراً ولم يَعش لأكثر من عدة أشهر. كان طبيعياً ومتوقعاً ألا يُعمر لأطول من ذلك، ويعود المصريون أدراجهم إلى شرعية الأمر الواقع القائمة فيهم منذ آلاف السنين. في النهاية، ماذا تتوقعون الحصاد من تجربة أولية لا يتعدى عمرها بضعة أشهر في مقابل خبرة راسخة ومستقرة منذ آلاف السنين المتواصلة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -غادرنا القطاع بالدموع-.. طبيب أمريكي يروي لشبكتنا تجربته في


.. مكتب نتنياهو: الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء على قدرات حماس ع




.. وزير الخارجية السعودي يتلقى اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأميرك


.. حرب غزة: بنود الخطة الإسرائيلية




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا صاروخين ومسيّرات من اليمن |